المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
أعزائي المشاهدين والمشاهدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله مساءكم بكل خيرٍ.
يتجدد اللقاء بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي "أُسس التربية"، ومع سعادة الدكتور: خالد بن أحمد السعدي.
فأهلًا وسهلًا.
الضيف: يا مرحبًا، حيَّا الله الجميع، وحفظكم الله.
المحاور: ما زلنا نتحدث عن الطريق إلى السعادة، وبعد مُضيِّ حلقتين في هذا الموضوع الذي يُعتبر من الضروريات، ويسأل عنه كثيرٌ من الناس ويَنْشُدونه، نُواصل اليوم الحديث حول الطريق إلى السعادة.
الإنسان بين الإيجابيات والسلبيات
لعلنا ابتداءً يا دكتور نتطرق إلى حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ونجعله فاتحة هذا اللقاء، وكيف يمكن أن نستفيد منه في باب السعادة وخلق أجواء السعادة داخل حياتنا؟
فهذا رسولنا الكريم يقول: لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر[1]أخرجه مسلم (1469).، فهل هذا مدخلٌ إلى السعادة في حياتنا؟
الضيف: جزاك الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأُصلي وأُسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد: جزاك الله خيرًا، وبُورك فيك، وأسأل الله أن يجعل هذا اللقاء مُباركًا، ولعله يكون هو اللقاء الأخير حول الطريق إلى السعادة، وسنُكمل فيه المنظومة السابقة.
والحديث الذي ذكرتَه -يا أخي أبا عبدالرحمن- مهمٌّ جدًّا، وله ارتباطٌ كبيرٌ بموضوع السعادة؛ فإن الإنسان عليه أن يُوطن نفسه على أن الذي يتعامل معه -أيًّا كان هذا التعامل- يحمل عيوبًا وأخطاء، فإن هذا التوطين مهمٌّ جدًّا في العلاقات.
وأشار الحديث هنا إلى قضية العلاقة بين الزوج وزوجته، وهي أثمن وأقوى العلاقات بلا شكٍّ، لكن كما قال شُرَّاح الأحاديث -ومنهم الشيخ ابن سعدي في رسالته "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، وكذلك في رياض "بهجة قلوب الأبرار" في شرح الأحاديث التي أوردها- أن أيَّ علاقاتٍ تتعلق بالعلاقات الإنسانية فهي تحتاج إلى مثل هذا التوجيه.
أخي الكريم، التوجيه المُلاحظ هنا هو أنك ستضع في اعتبارك وذهنك أن الطرف المقابل الذي تتعامل معه ينبغي أن تتوقع منه النَّقص والعيب والخَلَل، وهذا تأكيدٌ لقول الرسول : كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون[2]أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4515).، فإن أصل النفس البشرية قائمٌ على هذه القضية بأن الأصل هو العجز والنَّقص، وجعل هذه القضية في الذهن يُخفف من وَطْأة المشاكل؛ لأنه من الطبيعي أن تُخطئ الزوجة في حقِّ الزوج، والزوج مع الزوجة، والآباء مع الأبناء، والأبناء مع الآباء، والشخص مع صديقه ... إلى آخره.
إذن فتوطين النفس على أن هناك عيوبًا في الآخرين قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
الجانب الثاني: ألا نقف عند هذا الأمر ونُسلم به فقط، وإنما نفتح المجال للآخر، ألا وهو: أن هناك إيجابياتٍ متعلقةً بهذه النفس البشرية: إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر، وهذا سيجعل هناك مجالًا لإدراك حقيقة هذا الإنسان؛ حتى تَخِفَّ وَطْأة المشكلة الموجودة الحاصلة.
والالتفات للإيجابيات هو تأكيدٌ لقضية حاجة الإنسان إلى التعامل بطريقةٍ صحيحةٍ، فإن الخطأ واردٌ، ولكن هناك فرقٌ بين خطأ يحتمل 1%، وإيجابياته 99%، أو خطأ يحتمل 20% من الموقف، وهناك 80% إيجابيات.
فالإنسان عنده إيجابياتٌ، وعندما نعقد المقارنة بين الإيجابيات والسلبيات التي أحدثت إشكاليةً في العلاقة سيظهر لي أن الذي أمامي لديه خيرٌ واضحٌ.
الأمر الثالث المُتعلق بفائدة هذا التوجيه النبوي هو: ما يرتبط بزوال الهمِّ والغمِّ، فإذا كان الخطأ مُتوقعًا من الإنسان فمُقابل هذه العيوب ستكون لديه حسناتٌ عديدةٌ تفوق هذه العيوب في الغالب الأعم، إلا مَن نَدَرَ، وهم القليل، وبذلك سيزول الهمّ والغمّ الذي عند الإنسان، والسبب في ذلك: أن التفكير سيكون في الجانب الإيجابي، والعمل على تعديل السلوك في الجانب السلبي؛ لأن حيِّزه قليلٌ.
وهذا التوجيه رائعٌ جدًّا بلا شكٍّ؛ لأن مُنتجه عدم وجود الضغط النفسي.
المحاور: ووجود الراحة النفسية.
الضيف: وعدم وجود القلق، والتوتر، والهمّ، والغمّ في قضية العلاقات، فكما أنها تُخطئ فأنا أُخطئ، والعكس، وفي نفس الوقت فمحاسِنه ومحاسِنها أكثر من المساوئ ... إلى آخره.
وهكذا الإنسان سيحتاج إلى نفس هذه الرؤية عن نفسه تجاه الآخرين، فقد يعتب الآخرون عليك، مع أن لديك إيجابياتٍ.
كذلك أنا وأنت لدينا إيجابياتٌ أيضًا في مقابل تلك السلبيات، وكل هذا يُخفف وَطْأة التركيز على السلبيات.
والنفس البشرية تُحب الذي لا يُركز على السلبيات، وتُظهر له الجانب الإيجابي.
ولا نعني بذلك الغفلة عن الأخطاء والسلبيات، وإنما فتح بابٍ ليُوطن الإنسان نفسه في العلاقات على احتمال العيوب.
الشيء الثاني: إبراز الجانب الإيجابي في مقابل السلبي عند الإنسان؛ بأن تُظهر ثِقَل الجانب الإيجابي أمام الجانب الآخر؛ حتى يذهب الهمُّ والغمُّ.
أخي الكريم، سأُعطيك مثالًا من القصص العديدة المهمة التي حصلت للنبي ، وما زلتُ أقولها باستغرابٍ شديدٍ جدًّا من موقف النبي مع الرجل الذي كان شِرِّيبًا للخمر، وعندما أُوتي به ذات مرةٍ قال أحد الصحابة: "أخزاه الله! ما أكثر ما يُؤتى به!"، وإذا بالنبي يتدخل فيقول: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم، فوالله ما علمتُ إنه يُحب الله ورسوله[3]أخرج البخاري (6781) من حديث أبي هريرة قال: أُتِيَ النبي بسكران، فأمر بضربه، فمنا مَن يضربه بيده، ومنا مَن … Continue reading، فذكر له هذا الجانب الإيجابي في مقابل السلبي الذي هو مُبْتَلًى به، وبسببه كان يُقام عليه الحدُّ، وعندها لا فائدةَ من كلمة: "ما أكثر ما يُؤتى به!"، أو: "أخزاه الله!"؛ لذلك قال الرسول : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم، ثم أبرز الجانب الإيجابي الذي نحن بأَمَسِّ الحاجة إليه، فليس هدفنا إبقاء المشكلة على ما هي عليه، فضلًا عن تضخيم المشكلة من باب أولى، بل هدفنا تقليلها أو حلّها نهائيًّا إن أمكن عن طريق تقليل المفاسد، أو دَرْأ المفاسد تمامًا، وهذا ما جاءت به الشريعة، كما جاءت بتكثير الحسنات والمصالح، أو تحقيق المصالح أو تكثيرها.
المحاور: لذلك أعتقد أن هذا الحديث يُعطينا جانبًا مُهمًّا جدًّا في قضية توقع الخطأ من الآخرين قبل حدوثه؛ لأنه لا يوجد كمالٌ بشريٌّ، وحتى لا نُعطي الإنسان مثاليةً ثم نتوقع أن كل ما سيصدر منه هو طيبٌ، بل بالعكس قد يصدر منه السَّيئ.
الضيف: وهذا المقصود بكلمة "التوطين": أن أُوطِّن نفسي على أن الآخرين ستحصل منهم عيوبٌ.
انظر لهذا الاحتمال في حديث النبي لما دخل أبو بكرة في الصفِّ راكعًا، قال له النبي : لا تعد، ولكن قال قبلها: زادك الله حرصًا ولا تعد[4]أخرج البخاري (783) عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي وهو راكعٌ، فرَكَعَ قبل أنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ، فذكر ذلك … Continue reading.
لاحظ أن النبي أثبت له الحرص، وهو السلوك الإيجابي الذي يريده أن يبقى.
فلو كان ابنك أو زوجتك أو صديقك حريصًا على خيرٍ، فأظهر لهم هذا الجانب الإيجابي، ثم عدِّل السلوك، فإن هذا أظهر وأدعى لقضية التأثير، وعدم وجود الشحناء، أو القلق والتوتر والهمّ الذي يُعكر صَفْوَ الحياة.
وقال أيضًا لعبدالله بن عمر: نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل، قال الراوي: "فما نام من الليل بعدها إلا قليلًا"[5]أخرج البخاري (1121) عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول … Continue reading.
قال: نِعْمَ الرجل عبدالله فأثنى عليه، وأظهر الجانب الإيجابي، مع أن السياق كان مُتعلقًا بنقصٍ لديه، ثم قال: لو كان يُصلي من الليل.
نحن نحتاج إلى هذا المنهج الرائع جدًّا -يا أخي أبا عبدالرحمن- ونَشُدّ على أنفسنا فيه؛ لأن هذا سيكون حقيقةً مصدر السعادة والراحة بلا شكٍّ في العلاقات.
المحاور: ممتاز، وجزاك الله خيرًا.
إذن قضية توطين النفس على تحمل العيوب أو توقع عيوب الآخرين يُساعدنا في تقبلهم على أيِّ شكلٍ كانوا، وأيضًا يُذْهِب عنَّا الهمَّ والحزن الذي هو مصدر التعاسة والشقاء دائمًا.
ماذا لدينا من الفوائد أيضًا يا دكتور؟
الضيف: أنا يهمُّني فيما سبق التركيز على أن هذا عبارةٌ عن التعامل مع النفس من باب إيجاد السعادة لها؛ حتى تستطيع أن تُعدل السلوك، وفي نفس الوقت تحفظ حقوق الآخرين.
وأنا أُنبه إلى ذلك؛ لأنه في بعض الأحيان يحصل عند البعض أن يترك وتكون عنده لا مُبالاة، فيكون الودُّ والإهمال عاليين، وعندئذٍ سيكون الدلال والدلع وما شابه ذلك، فنأتي لقضية الحزم، وأنه لا بد منه حتى تُعدل من سلوكه، ومن الحزم أن تُبين إيجابياته، دون أن تغفل عن الخطأ.
إذن المطلوب مني هو تعديل السلوك، والنُّصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعديل سلوك مَن أستطيع، أو مَن أنا مسؤولٌ عنهم، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ولكن عندما أُعدل سلوكًا وأنا مُتوترٌ فلن يتحسن سلوك الطرف الثاني كما لو كنتُ أُعدله وأنا مرتاحٌ وشاعرٌ بالطمأنينة والسعادة؛ لأن الابن أو الزوجة أو الصديق لن يتعدل سلوكه إلا حينما يكون مُتقبلًا مني.
إذن القضية التي نريد أن نقولها في الجانب النفسي المُتعلق بالشعور بالسعادة: أنها قائمةٌ على الثناء والمدح وذكر الإيجابيات، ومع ذلك عدم التَّغاضي عن الأخطاء، وتبيينها، والنُّصح، والتوجيه، وما شابه ذلك من هذه القضايا المهمة جدًّا.
لا تسترسل في الهموم والأحزان
هناك قضيةٌ مهمةٌ وهي: عدم الاسترسال وراء هذه الهموم، ونحن مُتَّفقون على أن كل النفوس البشرية بها همومٌ، والمطلوب منك هنا هو عدم التَّمادي، وألا تسترسل في هذه النقطة، فإن جلستَ على الفراش فلا تتذكر هذه الهموم والغموم، وإن جلستَ للتحدث معي فلا تستحضر هذه الهموم والغموم، فإن الاسترسال في الجوانب السلبية مشكلةٌ كبيرةٌ.
وابن القيم عندما تحدث عن درجات تكوين العادات السيئة قال: إنها تبدأ بالفكرة، ثم الخاطرة، ثم العزيمة، ثم العمل، ثم العادة.
حسنًا، كيف وصلت إلى أن تكون عادةً سيئةً؟ وكيف وصلت للتعاسة؟
عن طريق الخاطرة التي تمَّ الاسترسال فيها، ثم انتقلت إلى فكرةٍ، فإن استرسل فيها يقول: انتقلتْ إلى إرادةٍ، وإذا استرسل فيها انتقلتْ إلى عملٍ، وإذا استرسل فيها انتقلت إلى عادةٍ[6]قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الفوائد" (ص31): "دافع الخَطْرة، فإن لم تفعل صارت فكرةً، فدافع الفكرة، فإن لم … Continue reading.
نحن الآن نتحدث عن الجوانب السلبية، وأيضًا إذا كانت الجوانب الإيجابية مصدرًا للسعادة فاسترسِلْ فيها، فهذا مطلوبٌ منك؛ ولذلك -يا أخي الكريم- فإن عدم الاسترسال مهمٌّ جدًّا.
وانظر إلى قول النبي : فليتعوَّذ بالله وليَنْتَهِ[7]أخرج البخاري (3276) ومسلم (134) من حديث أبي هريرة -واللفظ للبخاري-: قال رسول الله : يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَن … Continue reading، هل لاحظتَ أين لفظ عدم الاسترسال هنا؟
المحاور: كلمة وليَنْتَهِ.
الضيف: وأيضًا قول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، والتي هي أداةٌ أو وسيلةٌ للقطع، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم ينتهي.
المحاور: ويعرف أن مصدر هذا التهويل هو الشيطان الذي يحاول زعزعة السعادة في صدر الإنسان.
الضيف: بالضبط؛ ولذلك على الإنسان ألا يسترسل، ثم عليه أن يُخرج نفسه من هذا الإطار يا أستاذي الكريم.
وخُذْ مثالًا: إذا كانت إشكالية الاسترسال تبدأ حين تكون على فراش النوم فقُمْ وغيِّر مكانك، أو كانت لديك إشكاليةٌ في علاقتك مع (س) من الناس في جوانب متعلقة بالاسترسال السلبي في الهموم فغيِّر هذا الصديق يا أخي الكريم، ولا تَبْقَ معه، خاصةً في وقت العلاج وما يرتبط بذلك.
إذن باختصارٍ شديدٍ نقول: هذه الهموم إما أن تكون من شيءٍ سابقٍ كان في الماضي وانتهى، أو شيءٍ لاحقٍ وقادمٍ هو في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، فهو بيد الله، وهو مَن سيمنعني منه، فلا شيء لدي سوى الحرص على ما ينفعني في الوقت الحاضر.
المحاور: إذن أنت ابن يومك، ولا تدري هل تعيش إلى الغد أم لا؟
الضيف: بالضبط، فالذي يسترسل لن يكون في الحاضر.
المحاور: نعم، إما في الماضي، أو المستقبل.
الضيف: نعم؛ ولذلك فليتعوَّذ بالله وليَنْتَهِ.
المحاور: الله المستعان، وعليه ألا يندم أو يقلق.
الضيف: ونحن أخذنا هذا الكلام من قضية: أشغل نفسك بالنافع المفيد، فلو قال قائلٌ: ماذا عليَّ أن أفعل؟
المحاور: يقرأ القرآن.
الضيف: نقول له: يا أخي، إذا كانت لديك قدرةٌ على أن تذهب لتتوضأ وتُصلي كما كان الرسول يفعل: كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة[8]أخرجه أحمد (23299)، وأبو داود (1319) عن حذيفة بلفظ: "كان النبي إذا حزبه أمرٌ صلَّى"، وحسنه الألباني في "صحيح … Continue reading، أو كنتَ تملك هوايةً نافعةً ومفيدةً -حتى لو لم تكن عبادةً- فقم ومارسها.
المهم أن تُغير البيئة التي أتت لك بهذا الجانب النفسي، وأن تطرد الأفكار ولا تسترسل فيها.
المحاور: جميلٌ، إشغال النفس ببعض الأعمال، والذي ذكرتَه يا دكتور، فهل حجم العمل مهمٌّ؟
الضيف: لا يهمنا هذا الكلام أبدًا، وسيأتي الكلام عنه في نهاية الوسائل، فسنجعلها في حينها بإذن الله .
المقارنة بين النِّعَم والنِّقَم
أظن أننا بلغنا الوسيلة الخامسة عشرة، وهي عن الشخص الذي ينشد السعادة، والذي لديه مشكلة وجود المكروه أو الشيء المخوف منه ... إلى آخره، وهو يريد أن يطرده؛ حتى يحلَّ مكانه الشيء الذي يُسعده، فعليه أن يعقد مقارنةً بين ما بداخله من مخاوف ومكاره وبين نِعَم الله عليه، فعقد هذه المقارنة ستكون من باب قوله : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وهي قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وفيها نفس الكلام الذي تكلمنا عنه في قضية الحسنات والسيئات عند تعاملنا مع الآخرين، فإنك ستجد أنك تتحدث عن نسبة 1- 20%، بينما هناك 80% أو أكثر من الإيجابيات.
يا أخي، أَعِدْ هذا الكلام مع نفسك الآن، وما عندك من نِعَمٍ كثيرةٍ أعطاك الله إياها، فلماذا تُركز على الجوانب المتعلقة بالمكاره والمخاوف وكأنك تعيش لها فقط؟!
أخي الكريم، عقد المُقارنات قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ ولذلك فإن الفأل الحسن والرسائل الإيجابية قضيةٌ مطلوبةٌ؛ لأن الذي سيُضْعِف هذه القضية المتعلقة بما أنت فيه من مصائب ومكروهاتٍ هي النِّعَم العظيمة التي أعطاك الله إياها.
ستجد لديك نِعَمًا دينيةً، ونِعَمًا دنيويةً، وقد يكون غيرك -يا أخي- كما أخبر الله عنهم: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، فإذا كان الله قد أعطاك الإسلام والإيمان، وكنتَ قريبًا من الله، فغيرك بعيدٌ عنه، وإذا كان غيرك لا يُصلي فأنت تُصلي ... إلى آخره.
في الأمور الدينية تعيش الكفاف في حياتك، وإذا كنتَ فقيرًا فأنت تملك -ولله الحمد والمِنَّة- جسمًا وعقلًا سلِيمين، ولا تُعاني من أمراضٍ ... إلى آخره، وكم وجدنا من غنيٍّ لا يستمتع بغناه!
فمن المهم جدًّا أن تُفكر في هذه القضايا.
انتهينا من قضية المكاره والمصائب، ولنأخذ المخاوف الآن، وهي مرتبطةٌ بالخوف والقلق في زمن المستقبل، فلماذا لا نحتمل أنه ربما يحصل غير ما توقعنا من المساوئ؟
وأنا أقصد أن الذي لا ينشد السعادة يفترض غالبًا الجوانب السلبية والمخاوف دون أن يفترض الجوانب الإيجابية: أنا بالتأكيد سأرسب، أتوقع أنني لن ...، سيُرَدُّ عليَّ بالاعتذار من التقدم للزواج.
حسنٌ، احتمل أنهم يُوافقون، أو أنك ستنجح.
المحاور: وحتى إذا رُفِضْتَ، فسيرزقك الله أفضل منها.
الضيف: بلا شكٍّ، هذا ما يحصل، أحسنتَ.
وهذا -كما ذكرنا- هو توطينٌ للنفس على احتمال الأسوأ، أي: فرض أسوأ الاحتمالات.
وسأقول لك شيئًا: لو عرض كل واحدٍ منَّا حياته في شريطٍ سيجد أن هناك مواقفًا كثيرةً وأمورًا كانت تُخيفه، ثم كانت النتيجة على غير ما كان يخاف منه، وليست واحدةً، بل سيجد الكثير.
المحاور: وأنا أتذكر بعض هذه القضايا.
الضيف: ولذلك جعل هذه القضية عبارةً عن إطارٍ للتفكير ومنهجٍ في الحياة هو شيءٌ مهمٌّ جدًّا، وسيُخفف عنك.
قد يقول لك: يا أخي، أنا أعرف نفسي، فأنا ما دخلتُ مشروعًا تجاريًّا إلا وفشلتُ فيه.
حسنٌ، هذا مشروعٌ جديدٌ، وأنت ما عملتَ فيه شيئًا حتى الآن، ولديك شخصٌ سيُساعدك ويُعينك، وستجد معه ومع الشركاء الآخرين تجربةً ناجحةً، فعليك أن تفترض الجوانب الأخرى الإيجابية.
وأنت تُلاحظ في عددٍ من هذه النقاط التي نتكلم عنها من الحلقات السابقة وحتى الآن -وأنت أستاذٌ في التوجيه والإرشاد- أن الحديث عن تعامل الإنسان مع نفسه.
المحاور: نعم؛ لذلك فإن الإنسان هو الذي يُولّد لنفسه السعادة ويُوجدها، وهو الذي يُبعدها.
الضيف: بعد توفيق الله .
المحاور: لا شكَّ، وبالإيمان.
الضيف: وقد قال الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، بل لن يُغير الله نعمةً أنعمها على قومٍ إلا بكسبهم هم: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
بين السعادة والمتعة
المحاور: معنا مداخلةٌ من الأستاذ سعد بن محمد التويم، فأهلًا وسهلًا به.
المتصل: أهلًا، حيَّاكم الله، والسلام عليكم، ومسَّاكم الله بالخير في هذا الموضوع الجميل من هذه القناة الجميلة.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مساء النور، وجمَّل الله حياتك.
المتصل: الله يرزقنا وإياكم القبول.
المحاور: آمين، وفتح الله عليك، ونريد منك بلفتاتك الكريمة المعتادة أن تتكلم معنا اليوم عن شيءٍ من السعادة في الأسرة.
المتصل: موضوع السعادة شيِّقٌ جدًّا، فأهل الأرض كلهم تقريبًا -إنسهم وجنّهم- من أول ما يُصبحون وحتى يُمسون يبحثون عن السعادة في المقام الأول، فهذا أول هدفٍ، بل هو الوحيد.
وطبعًا القليل جدًّا مَن يفهم ذلك، فأكثر الناس يعتقد أن المتعة هي السعادة، وهذه مشكلةٌ؛ فإن السعادة شيءٌ، والمتعة شيءٌ آخر.
والإنسان لا يُمكنه أن يكون سعيدًا إلا إذا بدأت السعادة من داخله هو، ثم من بيته، ثم مجتمعه، ثم مدينته، حتى تعمَّ الأكثر.
والسعادة تبدأ من قلب الإنسان: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فإذا اطمأنت القلوب اطمأنت البيوت التي يُذْكَر فيها اسم الله، خاصةً من أذكارٍ في الصباح والمساء، أو بصفةٍ عامَّةٍ، فسبحان الله! أنك تجد أمورهم مُرتبةً، وأصواتهم هادئةً، وليست عندهم المشاكل.
وقد تجد آخرين -سبحان الله العظيم!- عندهم فوضى، حتى وإن كنت ترى أن البيت مُرتَّبٌ في الظاهر، فإن هذه الفوضى داخل نفوسهم، وأفهامهم، وإدراكهم، وتصرفاتهم.
فالإنسان الذي ينشد السعادة عليه أن يُرتب نفسه وبيته، وأن يجعل أول أولوياته هي الآخرة، فإذا فعل هذا رتَّب الله له أمور الدنيا.
وسبحان الله العظيم! مَن يبحث عن السعادة عليه أن يُوجدها بنفسه، فهي ليست بعيدةً، إنما هي رزقٌ: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، فاستَمْطِروا الرزق بالدعاء، والذكر، والإقبال على الله.
ونحن لو تأملنا القرآن كله ما وجدنا إلا كلمةً واحدةً عن السعادة؛ لأنها قليلةٌ، والسعداء قليلون: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا [هود:108]، وردت مرةً واحدةً فقط في القرآن.
وأكثر الناس يستمتع ويعتقد أن هذه هي السعادة القلبية التي يحملها الإنسان أينما كان: في المستشفى، أو السفر، أو الروحة، أو الغدوة، بينما المتعة هي مَن تحمله في الطريق كما الدابة، وأنت لا تحمل السعادة، بل هي مُستمرةٌ لا تنفك عنك.
المتعة وقتيةٌ ثم تنتهي، مثل: الكهرباء نُغلقها بعد أن ننتهي منها، أو كسيارةٍ استهلكناها ثم رميناها.
يبحث الناس عن المتعة، بينما السعادة هي التي تبحث عنك.
سبحان الله العظيم!
وهذه من الأشياء التي لا يفهمها أكثر الناس، فالإنسان السعيد بطبيعته لا يبحث عن الشُّهرة؛ لأنه يرى أنه لا يحتاجها، بل هو سعيدٌ بدونها، بينما المُستمتع يبحث عن الشُّهرة من باب أنه يعتقد أنها تُعوض له شيئًا مما يحتاجه من السعادة.
السعادة تُغْنيك عن كل شيءٍ، فلا تُشعرك بأنك مُحتاجٌ إلى قصرٍ، أو سيارةٍ فاخرةٍ، أو أن تأكل على مائدةٍ كبيرةٍ، بل تأكل ما أمامك، وتلبس المتاح من الثياب، فأنت في سعادةٍ تُغْنيك عن الحاجة.
يروح الناس ويجيئون بحثًا عن السعادة، والحقيقة أنهم يعيشون المتعة، فالسعيد عادةً لا يُبذر ماله، ولا يُنفقه في أيِّ شيءٍ؛ لأن الله لما ذكرهم في سورة الفرقان قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا [الفرقان:67]، فهذه من صفاتهم.
والسعيد -سبحان الله العظيم!- لا تكون الدنيا شيئًا كبيرًا في عينه، وقد ذكرتُ أنه في حالةٍ تُغْنيه عن هذه النظرة، وهو يعتقد أنه ليس بحاجةٍ لها؛ فلذلك يرى الإنسان المتعة بالنظر، بينما السعادة -سبحان الله!- تكون في القلب.
المحاور: أنت أعطيتنا قاعدةً جميلةً يا أستاذ سعد -جزاك الله خيرًا- وهي: أن المتعة تحملنا، والسعادة نحن نحملها، فإذا كنا نحملها ستكون في قلوبنا بالتأكيد.
المتصل: نعم؛ ولذلك عوَّض الله مَن يذهب إلى مكة -هذا الوادي غير ذي الزرع- بجعل الصلاة فيه بمئة ألف صلاةٍ؛ حتى تكون سعادتهم في قلوبهم يحملونها معهم في ذهابهم، بينما مَن ذهب إلى أوروبا وعاد لم يحمل سعادته معه، ولا إلى ما نظر إليه هناك.
المحاور: الله المستعان.
المتصل: أسأل الله لنا ولكم القبول، قولوا: آمين.
المحاور: آمين، وجزاك الله خيرًا يا أستاذ سعد على هذه المُداخلة الرائعة والجميلة، ورفع الله قَدْرك، ونفع بك، وزادك سعادةً وإيمانًا وهدًى وتُقًى لنا ولك ولسائر الإخوة المتابعين والأخوات، ولأستاذنا الفاضل ودكتورنا الكريم.
الضيف: جزاه الله خيرًا، وكتب أجره.
فعلًا نحن الذين نُوجد أو نبحث عن هذه السعادة، وهي قضيةٌ مهمةٌ جدًّا حقيقةً؛ ولذلك أنا أقول: إنني قد ذكرتُ طرفًا من آيةٍ، ولم أذكرها بنصِّها، وهي قول الله : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
فالتركيز على قضية النفس وأنها مسؤولةٌ عن هذا الموضوع قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهذا أصل الابتلاء وحقيقته -يا شيخ-، وفيه إشارةٌ إلى أن هذا فيه تنافسٌ.
وتجد الآخرين الذين يحتاجون إلى التعويض -كما أشار إليهم في قضية الشُّهرة- هؤلاء عكس ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه: "أنا جنتي وبُستاني في صدري، أنَّى رُحْتُ فهي معي، أنا سجني خلوةٌ، ونفيي سياحةٌ، وقتلي شهادةٌ"[9]قال ابن القيم في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48) عن شيخه ابن تيمية -رحمه الله-: "وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي … Continue reading، وكان في السجن، وقد سُجن مراتٍ عديدةً حتى مات في السجن رحمه الله.
كيف تُفسر هذه النفس أو الشخصية؟
حقيقةً هو سلك مسلك السعداء، وبحث عن السعادة فوجدها حتى في أَحْلَك الظروف، وتصور أنه ليس هذا فقط، بل إن ابن القيم وتلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية كانوا -كما يقول ابن القيم- إذا ادْلَهَمَّتْ بهم الأمور -ضاقت عندهم الأمور- يلجؤون إلى شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ليسمعوا منه وهو في السجن.
فلاحظ كيف أنه كان يُسَلِّي عنهم وهو في السجن؟!
وهذه القضية -حقيقةً- من القضايا التي نحن بأَمَسِّ الحاجة إليها.
لا شكَّ أن هذا فيه ثوابٌ وفضلٌ من الله ؛ لأن الإنسان عندما يبذل جُهده في تحصيل السعادة ويُجاهد في الله حقَّ جهاده؛ فإن الله يُعطيه، ومَن يصدق مع الله يصدقه، وهذه قضيةٌ مهمةٌ، والله تعالى أعلم.
المحاور: نسأل الله من فضله لنا ولكم وللسادة المشاهدين والمشاهدات، والأستاذ المُداخل أيضًا، ونسأله السعادة في الدنيا والآخرة.
كيفية التعامل مع الأذى
سعادة الدكتور، نحن تكلمنا عن جانب التعامل مع الإنسان، والنظر إلى الجانب المُشرق والإيجابي، والتَّغاضي عن السلبيات، وأن كل إنسانٍ مجبولٌ على السلبيات، حتى بالنسبة للأذى الذي يصدر من الإنسان.
الضيف: جميلٌ، وأنا أُؤكد على لفظ: التَّغاضي عن السلبيات؛ لأن البعض قد يفهمها بشكلٍ آخر، فأُؤكد على هذا المعنى الذي فيه أشياء معينة قد يُتغافل عنها، ولكن هناك أمورٌ معينةٌ لا بد لها من تقويمٍ، وهي مهمةٌ جدًّا لا بد أن يُتنبه لها.
المحاور: التعديل أو الإرشاد.
الضيف: ما يتعلق بالأذية، وأنا أقول لك الآن: عندما أُؤذيك -لا سمح الله- بقولٍ أو فعلٍ فإن هذا يكون مصدر تعاسةٍ وضيقٍ بالنسبة لك، فالآن هذا الإنسان الآخر الذي آذاك قد جعلك تحمل همًّا من هذا الموضوع، فكأنك آذيتَ نفسك بنفسك؛ ولذا قالوا: اطرح هذه القضية، وكُنْ كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: فليتعوَّذ بالله وليَنْتَهِ[10]سبق تخريجه..
المحاور: أي: لا تشغل بالك.
الضيف: واجعل أثر الأذية على المُؤذي، وليس عليك أنت؛ لأنه هو الذي يتحمل المسؤولية، وأنت لا تُحمِّل نفسك شيئًا، إنما عليك أن تحمل الحسنات وتصفح، وربما تغفل عنه أصلًا.
المحاور: لكن يا دكتور قد أُوافقك بأن هذا كلامٌ جميلٌ جدًّا، ولكن هذه جِبِلَّةٌ إنسانيةٌ، والإنسان لا يقبل بهذه المشكلة.
الضيف: هو لا يقبل بالمشكلة، لكن الكلام في التعامل مع المشكلة -القضية ذاتها-، فهنا تختلف النفوس، فالتي تنشد السعادة هي التي تطرح هذه القضية.
ولنَعُدْ إلى موضوع الاسترسال، فهو يظلُّ يقول: هذا آذاني، وفعل ... إلى آخره، ويُفكر فيها، فهكذا نحن سنعود إلى أنك أنت مَن حمل مسؤولية إيذاء الآخر لك، وآذيتَ نفسك، فكأنك أنت وهو قد آذيتما نفسك، فزدتَ الأذى عليك.
وأذى الإنسان -يا شيخ- يتحمله شرعًا ووزرًا الشخص المُؤذي نفسه، فلماذا تشغل نفسك به؟!
والنبي قد أُوذي، وما أوقفه هذا الإيذاء عن العمل ، إنما بالعكس فقد جعل إيذاء اليهودي الذي كان يضع القذارة عند بيته دافعًا كي يذهب إليه ويدعوه إلى الإسلام ... إلى آخره.
فالمقصود ألا يجعل الإنسان هذه القضية مصدر تعاسةٍ له؛ لأن المفروض أن تكون هي مصدر تعاسةٍ للمُؤذي، فدَعِ المُؤذي هو الذي يشعر بالتعاسة؛ لأنه قد آذاك وأخطأ في ذلك، وهذه ترجع إلى نفس تركيبة قضية التعامل مع الذات والنفس، وأنت فقط تحتاج إلى أن تُطبقها.
المحاور: يحتاج الإنسان إلى أن يُوطن نفسه.
الضيف: لأنك ستكون في الأخير كأنك رجلٌ آخر يُمارس إيذاء نفسه، بالإضافة إلى المُؤذي الآخر.
حياتك تبعٌ لأفكارك
من النقاط والوسائل المهمة جدًّا في قضايا السعادة هذه القاعدة: أن حياتك تبعٌ لأفكارك.
المحاور: نعم، وهناك قاعدةٌ أخرى تقول: كُنْ جميلًا ترى الحياة جميلةً.
الضيف: بالضبط؛ لأن الفكرة هي مُنطلق القضية، وأنت تذكر كلامنا قبل قليلٍ عن كلام ابن القيم الجميل الرائع، وأن القضية تنطلق من خاطرةٍ، ثم تنتقل إلى فكرةٍ، ثم إلى إرادةٍ، ثم إلى عملٍ.
المحاور: هل الإرادة هي الهمُّ؟
الضيف: الإرادة هي العزيمة.
المحاور: العزيمة على العمل؟
الضيف: العزيمة المُؤدية للعمل، والتي تُوصلك إلى العادة، ونحن هنا في هذه النقطة نتكلم عن الجانب السلبي أم الإيجابي؟
المحاور: كلها.
الضيف: لا، في قضية "حياتك تبعٌ لأفكارك" الحديث عن الجانب الإيجابي من حيث السعادة، وأننا نريد أن نُوصلك إلى عادةٍ إيجابيةٍ من خلال فكرةٍ وخاطرةٍ إيجابيةٍ.
ومَن يجلب التَّعاسة لنفسه هو الذي سيقف عند فكرته السيئة وخاطرته السلبية، فإن الخاطرة إن تَمَعَّنَ فيها صارت فكرةً، فإن ذهب وأراد أن يعزم على أن يفعل، كمَن قال: دعني أُجرب وأُحاول الدخول على مواقع الشبهات ... إلى آخره، فدخل المرة الأولى، ثم بعد ذلك أصبحت عادةً عنده.
أذكر حالةً مرَّت عليَّ لشخصٍ ظلَّ لسبعة أشهرٍ يدخل على مواقع الإلحاد، فأصبح -يا شيخ- لا يؤمن بوجود الله ، وعمره سبعٌ وعشرون سنةً، وقد كان قبل سبعة أشهرٍ بلا مشكلةٍ، ولكن وردت في ذهنه خاطرةٌ، ثم صارت فكرةً، وقويت بالإرادة، ثم لما عمل واسترسل فيها أصبح منهجًا يوميًّا، وأصبح مُتَشَرِّبًا لهذه الشُّبَه.
هذا في الجانب السلبي.
أما الجانب الإيجابي: فإن مصدر السعادة أن أيَّ فكرةٍ إيجابيةٍ لا تقف، ولا تطردها، وإنما اعمل بها، وقَوِّ إرادتك فيها، وانقلها إلى عملٍ إيجابيٍّ ميدانيٍّ، ثم اجعلها عادةً لك.
قد يقول قائلٌ: أنا لم أَعْتَدْ على أن أُوتر قبل أن أنام، أو لم أَعْتَدْ على السنن الرواتب، أو ربما ما تعودتُ على الصلاة في الجماعة، أو ربما ما أُصلي إلا قليلًا. فماذا نقول له؟
اجعل فكرتك أن تفعل هذا الشيء الذي ينبغي عليك أن تفعله، وهو شيءٌ إيجابيٌّ، والذي قد يكون واجبًا أو مُستحبًّا، ثم اعزم: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، واعمل بها، ثم اجعلها عادةً، فأنت تَبَعٌ لأفكارك: إن كانت إيجابيةً ستُسعدك، وإن كانت سلبيةً ستُشقيك، وحياتك ستكون تَبَعًا لهذه الأفكار.
لذا فإن موضوع الأفكار خطيرٌ جدًّا، وإلا لماذا يحصل الاضطراب عند بعض النفوس البشرية عندما تتعرض إلى الشبهات؟ بينما لو تعرض إلى التوحيد الصافي الذي يدل عليه قول النبي عندما أتاه عمر -رضي الله عنه وأرضاه، ولاحظ هذا الملحظ يا شيخ-، فيقول عمر: إنَّا نقرأ في التوراة أحاديث تُعجبنا، أفلا نكتبها يا رسول الله؟ قال: يا ابن الخطاب، أمُتَهَوِّكون كما تَهَوَّكَت اليهود والنصارى؟! لقد تركتُكم على المَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ أو كما قال النبي [11]أخرج أحمد (15156)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (174) عن جابر بن عبدالله -واللفظ لأحمد-: أن عمر بن الخطاب أتى النبيَّ … Continue reading.
فالرسول أراد أن يقطع قضية الأفكار السلبية على عمر، ويُبقيه في صفاء ما يتلقَّاه.
فأين نحن اليوم من مثل هذا الاتجاه؟
فحياتك وسعادتك ستكون بناءً على أفكارك السعيدة، وشقاؤك في حياتك سيكون بناءً على أفكارك السلبية.
تأصيل الأفكار الإيجابية
من المهم أيضًا تأصيل الأفكار الإيجابية، حتى إنك تجد العلماء الذين ردُّوا على المذاهب المُنحرفة قد أسَّسوا أولًا المنهج والفكر الصحيح، فعندما تقرأ في الردِّ على الجهمية تجد أنهم ذكروا منهج أهل السنة، فمثلًا: صاحب كتاب اللالكائي ابن حمدان تحدث عن منهج السلف، وأنهم كانوا يُعزِّزون المنهج الحقَّ أولًا، ثم بعد ذلك تأتي الأمور الثانية واضحةً وبينةً.
أما لو عكسنا القضية فربما كانت إيراداتٍ للشبهات، وكما كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول لابن القيم: "كفاك إيرادات"، وهي الأمور السلبية التي تجعل الإنسان عبارةً عن إسفنجةٍ -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- تتشرب أيَّ شيءٍ، ولكن كُنْ مثل الزجاج الذي يخترق القضية بطريقةٍ وبفكرةٍ سليمةٍ.
الإقبال على الله ورجاء ما عنده
من القضايا المهمة جدًّا -يا أستاذي الكريم-: قول الله : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9]، أين مصدر السعادة هنا؟
المحاور: مصدر السعادة في الإقبال على الله ورجاء ما عنده من الأجر والثواب.
الضيف: إذن أنت تنتظر الشكر من الله فقط، أما الذي سيشغل نفسه، مثلًا: هذا المدير لم يشكرني، أو هذا الزميل ما شكرني، ولا قال لي كذا. ويتمحور حول نفسه، فيُتابع الناس أيشكرونه أم لا؟ سيتعب وسينساه الناس، فإن في بعضهم كبرًا، والبعض -للأسف- لم يَتَرَبَّ على قضية الشكر ... إلى آخره من الاحتمالات المتعددة، ولكن إذا انتظر الإنسان الشكر من الله سيستريح ويُريح.
المحاور: لا شكَّ أن هذا سلوكٌ يحتاج إلى تعوُّدٍ وتوطينٍ وزيادة إيمانٍ.
الضيف: بالضبط، لا شكَّ أنك تأوي إلى ركنٍ شديدٍ حينما تشكر الله الواحد الأحد سبحانه، فهو الذي يستحق الشكر.
الانشغال بالنافع وترك الضَّار
من الوسائل أيضًا -ونحن في ختام حلقاتنا عن الطريق إلى السعادة-: الانشغال بالنافع دون الضار، وهذه أشرنا إليها، ولكن نريد أن نُضيف إليها هنا ما يتعلق بقضية: أن علينا أن نأخذ بأي شيءٍ فيه فضائل، خاصةً الشيء الذي تميل نفسي إليه، بل حتى لو لاقيتُ من المضارِّ ما لاقيتُ يا شيخ، فإن الله لا يُقدر شرًّا محضًا، فلو كان أبوك مُؤذيًا، فإن الله يقدر على إعلاء قَدْرك، ومهما هضم حقَّك فالله يريد أن يُكافئك في يوم الحساب.
إذن أنا بالنسبة إليَّ -يا شيخ- لدي أشياء نافعةٌ جدًّا عليَّ أن أشغل نفسي بها؛ حتى أستطيع أن أستثمر وقتي، وفي نفس الوقت تكون هذه الأشياء النافعة قريبةً من نفسي.
وأما لو وردت أشياء تُكدرني فعليَّ أن أرميها خلفي، وفي نفس الوقت أنظر لما في طيَّاتها من خيراتٍ حِسانٍ، فهذه مهمةٌ جدًّا، مع عدم إشغال نفسي بالضارِّ، فأنا أشغل نفسي بالنافع حتى في وجود الضارِّ، كيف أفعل هذا؟
المحاور: بالفكرة الجميلة فيما يتضمنه هذا البلاء والأذى من النِّعَم والمِنَح الربانية.
الضيف: ابن القيم له كلامٌ جميلٌ جدًّا في حِكَم الابتلاء، وقد طُبعتْ رسالةٌ من كتبه -أظن "إغاثة اللهفان" وبعض كتبه الأخرى- تضمَّنتْ مجموعةً كبيرةً من تلك الحِكَم، فإذا كنتَ مُبتلًى بمرضٍ أو فقرٍ ... إلى آخره فعليك أن تنظر إلى أن هناك حِكَمًا عظيمةً جدًّا.
ومن لطيف ما ذكره من حِكَم ابتلاء الله لعبده: أن الله يُحب أن يرى من عبده لجوأه إليه، فالله يريد منك حين تحصل لك خسارةٌ ماليةٌ أو مرضٌ معينٌ أن يرى هل تلجأ إليه أم لا؟ أليس في طيَّات هذا الأمر خيراتٌ حِسانٌ أم لا؟
المحاور: في داخلها خيراتٌ فعلًا.
الضيف: لا شكَّ أنه كان غافلًا عن الله ، ثم لجأ الآن إلى مَن بيده الأمر كله سبحانه.
وأعود فأقول: إن هذه القاعدة في هذه الوسيلة: الإشغال الحقيقي بالنافع حتى لو كان الضار موجودًا، فأنا أشغل نفسي بما تؤول إليه الأمور الضَّارة من منافع ومحاسن ومصالح؛ لأن الله لا يُقدر شرًّا مَحْضًا.
المحاور: إذن يا دكتور الإشغال بالنافع يأتي أولًا من حيث العمل والعلم والفكرة.
الضيف: ومن حيث الفكرة، وتوجيه الابتلاءات، أو المخاوف، أو المصائب إلى الجانب الآخر المُتعلق بقدر الله من خيراتٍ حِسانٍ في ظِلال هذه الأشياء، كلها قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
من سُبُل السعادة: إنجاز الأعمال في وقتها
الوسيلة قبل الأخيرة: تذكرتُ الآن -يا شيخ- شخصًا في ذهني -وهو مسؤولٌ- عندما أدخل عليه في كثيرٍ من حالاته أجد مكتبه خاليًا من الأوراق والملفات، بينما أناسٌ كثيرون تجد مكاتبهم مُكدسةً، ويقول لك: أنا آخذ أوراقي إلى البيت، وأنا مشغولٌ حتى في البيت!
وهذه ليست جدارةً، بل لا بد من حسم الأمور في وقتها؛ حتى يتفرغ الإنسان لما هو أولى من أمور المستقبل، فالأوجب على الإنسان حين يُغادر ويدخل بيته الانشغال مع أُسرته.
المحاور: والقيام بواجباتها.
الضيف: تجد بعض هؤلاء -للأسف الشديد- يعتبر أن إنهاء هذا المُتراكم عليه هو مَنْقَبةٌ بالنسبة له، وهذا خطأٌ؛ فإن تأجيل القضايا وعدم حسم الأمور يجعلها تتراكم، وهذا بدوره يؤدي إلى مشاكل مع زوجته وأولاده، ومع المُعاملات التي ينبغي عليه إنجازها، وقد يكون هذا الإنسان صاحب مركزٍ، أي: لديه أناسٌ، وتحته موظفون، إذن أنجز عملك.
هذا المسؤول الذي حدَّثتك عنه يُنجز عمله، وعندما تأتي الساعة العاشرة أو قريبًا منها يكون قد انتهى من كل شيءٍ، فهو يأتي مُبكرًا.
إذن هناك فرقٌ بين مَن يأتي مُبكرًا ومَن يأتي مُتأخرًا.
إذن أنجز مهامك واحسمها في الوقت الذي ينبغي أن تحسمها فيه، ولا تُؤجل عمل اليوم إلى الغد؛ لأن التأجيل سيجعل هناك تراكُماتٍ، وبمجرد أن ترى الأوراق والملفات سيُصيبك الإحباط بسبب هذا الذي ينتظرك، حتى كلامك مع الناس يكون كله أعذارٌ، وإذا عاد إلى البيت كذلك، فتكون هذه الأوراق كلها مصدر قلقٍ، وتوترٍ، وهمٍّ، وغمٍّ، بعكس مَن دخل بيته ولا شيء عنده إلا النادر، ويكون مُتفرغًا لهم، وكأنه -ما شاء الله! تبارك الله!- عائدٌ من المعهد الذي يتعلم فيه، وقد أنجز مُهمته وانتهى.
تقديم الأولويات
أخيرًا -أخي الكريم- من الوسائل المهمة: تقديم الأولويات والاستشارة وما يرتبط بها.
فلو لاحظتُ أن عندي أولويات، وهناك أشياء تميل إليها نفسي، فأنا أذهب للشيء الذي تميل إليه نفسي أولًا، وأُقدمه، وأجعله من الأولويات على غيره، وهناك شيءٌ عاجلٌ ومهمٌّ، وهناك شيءٌ عاجلٌ لكنه ليس مهمًّا، وهناك شيءٌ مهمٌّ وليس عاجلًا.
إذن رتِّب الأمور حسب الأولويات؛ لأنك لو قدمتَ غير المهم وغير العاجل، وأخَّرتَ المهمَّ العاجل؛ سيحصل لك ندمٌ بفوات وقته.
المحاور: وقد تحصل مشاكل بسبب فواته.
الضيف: وعندئذٍ سيتولد ضيقٌ وهمٌّ وغمٌّ، فعليَّ إذن أن أُرتب أولوياتي، ثم أستشير.
مثلًا: أنا أعرف أنك يا أبا عبدالرحمن لديك اهتمامٌ بهذا الجانب المعين، فهل تنصحني أن أشتري هذا أم هذا من خلال خبرتك؟
هذه الاستشارة بحدِّ ذاتها لن أندم عليها، فما ندم مَن استشار المخلوقين واستخار الخالق وتَثَبَّت في أمره، فقضية الاستخارة تأتي في نهاية المطاف، وعندئذٍ يَحْمَدُ القوم السُّرَى.
وسيكون ما حصل لك من أمورٍ هو خِيرةٌ من ربِّ العالمين، فلا تندم وتقول: ليتني ما فعلتُ! فأنت استخرتَ الله، وشاورتَ، ورتَّبتَ أولوياتك، والحمد لله ربِّ العالمين، فما هو موجودٌ الآن هو الخير؛ ولذا لا بد أن يحصل عندك الرضا والقبول في هذا الجانب.
لعل ما ذكرناه يكون إلمامةً حول هذه الوسائل العديدة التي ربما بلغتْ قُرابة العشرين أو أكثر من ذلك.
المحاور: أكثر من عشرين وسيلةٍ وسببٍ يا دكتور، تفاوتت هذه الأسباب والوسائل -من نظرةٍ سريعةٍ- بين الجانب القلبي، والفكري، والعملي، بل حتى اللسان قد شارك فيها.
وأُلاحظ قضية الشكر، والدعاء، والإيمان -والذي هو عاملٌ قلبيٌّ-، وقضية بناء أفكارٍ إيجابيةٍ، وقضية السعادة لا شكَّ أن مُنطلقها هو الإيمان.
وكذلك نحتاج إلى بعض الوسائل المُساعدة: من تطهير الفكر، إلى تقنين عملية التفكير وصرفها نحو الجانب الإيجابي، والتَّخلي عن الجانب السلبي.
الضيف: بل حتى الإيمان -يا شيخ- ابتداءً هو مُرتبطٌ بقضية الفكر، فإذا كان فكره مُنحرفًا صرفه عن الإيمان، بينما لو كان فكره إيجابيًّا سيُوصله إلى الإيمان، وهكذا بالنسبة للقضايا والأمور الأخرى.
وهناك فرقٌ بين السعادة المُؤقتة والدائمة.
المحاور: لعل السعادة المُؤقتة هي المتعة.
الضيف: قد نقول هذا فعلًا، وكذلك الذي يأتي ببعض هذه الوسائل ويترك أصولها.
وتجد كذلك أن الكفار ليسوا شيئًا واحدًا في السعادة، وحتى لو كان الكافر سعيدًا فلن يتكافأ مع المسلم السعيد أبدًا، والدليل على هذا أنك لو نظرتَ للذين دخلوا في الإسلام وسألتهم عما هم عليه من السعادة، وكيف كانوا من قبل؟
المحاور: الله المستعان.
الضيف: ستجد أنه مُتشبِّثٌ بدين الله أكثر مني ومنك، وهذه لا شكَّ أنها قضيةٌ ذاتيةٌ؛ لأنه يتأكد لديه أن الذي كان محرومًا منه ثم حصل عليه هو مصدرٌ لسعادته:
ولستُ أرى السعادة جمع مالٍ | ولكنَّ التَّقي هو السعيد[12]البيت للحطيئة. ينظر: "الأمالي" لأبي علي القالي (2/ 202). |
لذا -يا أستاذي الكريم- أين برامجنا الأُسرية، والمجتمعية، والتعليمية، والحياتية من أجل الحصول على السعادة؟
ونحن ذكرنا في أول الحلقة ما أشار إليه الشيخ في الأسباب الدينية، والعملية، والمجتمعية.
وهذه القضايا التواصلية هي التي تجمع هذه الوسائل كلها، ونحن نحتاج إليها: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
وأنت عندما ترى -سبحان الله!- بعض الشخصيات مثل: الأنبياء -وعلى رأسهم محمدٌ والصحابة من بعده ... إلى آخره- ستجد أنك ربما لو جلستَ تُعدد هذه الوسائل ستجد أن الذي نصيبه من السعادة أكثر هو مَن طبَّق هذه الوسائل قدر ما استطاع.
وهذا من توفيق الله : أن يعيش الإنسان لحظات حياته، كمَن كان في السجن ويشعر بهذه التَّجليات العظيمة جدًّا، ولو كان مشغولًا، فإن النبي كان أكثر الناس شُغلًا، ومع ذلك تجد أنه إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة، وكان يُداعب الطفل الصغير، فهل كان يُداعبه وهو يشعر بسعادةٍ أم بشقاءٍ؟
بسعادةٍ، فأنا لا أُداعب أحدًا إلا وأنا أشعر بسعادةٍ، وأرى أن هذه هي وسيلتي للإحسان إلى الآخرين، وحُسن التعامل، وهذه من القضايا المهمة جدًّا يا أستاذي الكريم.
المحاور: هذا جميلٌ، وفي الحقيقة مبدأ السعادة مبدأٌ جميلٌ، ولكن قبل أن نختم الحلقة أريد وصيةً يا دكتور تُقدمها لأرباب الأُسر: كيف يُربون أُسَرهم ويغرسون فيهم السعادة؟
وصيةٌ للأُسَر والمُربين
الضيف: جزاك الله خيرًا على هذا السؤال الجميل جدًّا، وأنا أتمنى أمنيةً كبيرةً، فشيخنا الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمة الله عليه- في رسالته العظيمة "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" -والتي قد طُبعت طبعاتٍ كثيرةً وبلغاتٍ عديدةٍ وبالملايين- استفاد فيها من (ديل كارنيجي) في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة"، ونحن أشرنا إلى هذا، وأنه ألَّف بناءً على المنهج الإسلامي لهذه القضية، والتي وجد أهميتها من خلال كتاب "دع القلق وابدأ الحياة".
وقد أُهْدِي هذا الكتاب إليه عندما كان في لبنان، وأُعجب به؛ فاشترى نسختين: أحضر الأولى إلى مكتبة عنيزة، وقد تناولها العلماء كالشيخ ابن بسام، والشيخ ابن عقيل -رحمة الله عليهما-، كلهم قرؤوا هذه الرسالة.
وأعطى الأخرى لشخصٍ مريضٍ بمرضٍ نفسيٍّ كان يُعالج عند الأطباء النفسيين منذ عامين، وقد صَلُحَ حاله بعدما قرأ كتاب "دع القلق وابدأ الحياة"، فكيف لو كان قرأ هذه الرسالة؟ فهي أقلُّ في عدد الصفحات، وفيها الجانب الإيماني.
وأنا والله أستخدمها في العلاج النفسي، وفي جلسات الإرشاد، وأُوصي بها، وأُوجه إليها، وأدعو الأُسَر إلى قراءتها أفرادًا وجماعاتٍ، وأن يتباحثوا في مضمون هذه الرسالة، والله تعالى أعلم، وهي موجودةٌ على الشبكة العنكبوتية.
المحاور: هذه "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، رحمه الله وأسعده، وأسعدكم، وأسعدنا والإخوة العاملين معنا، والسادة المشاهدين والمشاهدات.
سَعِدْنا بصُحبتكم في هذه الحلقات الثلاث بعنوان "الطريق إلى السعادة"، ونسأل الله أن يكتب لنا ولكم السعادة في الدنيا والآخرة، ولشيخنا ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
دُمْتُم جميعًا في حفظ الله، ونلقاكم -إن شاء الله- في حلقاتٍ قادمةٍ وأنتم في أمنٍ وأمانٍ وسعادةٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الضيف: اللهم آمين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه مسلم (1469). |
---|---|
↑2 | أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4515). |
↑3 | أخرج البخاري (6781) من حديث أبي هريرة قال: أُتِيَ النبي بسكران، فأمر بضربه، فمنا مَن يضربه بيده، ومنا مَن يضربه بنعله، ومنا مَن يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجلٌ: ما له؟! أخزاه الله! فقال رسول الله : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم. وأخرج البخاري أيضًا (6780) من حديث عمر بن الخطاب : أن رجلًا على عهد النبي كان اسمه: عبدالله، وكان يُلقَّب: حمارًا، وكان يُضْحِك رسول الله ، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأُتِيَ به يومًا، فأمر به فجُلِدَ، فقال رجلٌ من القوم: اللهم الْعَنْهُ، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي : لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنه يُحب الله ورسوله. |
↑4 | أخرج البخاري (783) عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي وهو راكعٌ، فرَكَعَ قبل أنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ، فذكر ذلك للنبي فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد. |
↑5 | أخرج البخاري (1121) عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله ، فتمنيتُ أن أرى رؤيا فأقصُّها على رسول الله ، وكنتُ غلامًا شابًّا، وكنتُ أنام في المسجد على عهد رسول الله ، فرأيتُ في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطويةٌ كطيِّ البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناسٌ قد عرفتُهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار. قال: فلقينا مَلَكٌ آخر فقال لي: لم تُرَعْ. فقصصتُها على حفصة، فقصَّتها حفصة على رسول الله ، فقال: نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلًا. |
↑6 | قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الفوائد" (ص31): "دافع الخَطْرة، فإن لم تفعل صارت فكرةً، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوةً فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمةً وهِمَّةً، فإن لم تُدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضدِّه صار عادةً، فيصعب عليك الانتقال عنها". |
↑7 | أخرج البخاري (3276) ومسلم (134) من حديث أبي هريرة -واللفظ للبخاري-: قال رسول الله : يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وليَنْتَهِ. |
↑8 | أخرجه أحمد (23299)، وأبو داود (1319) عن حذيفة بلفظ: "كان النبي إذا حزبه أمرٌ صلَّى"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703). |
↑9 | قال ابن القيم في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48) عن شيخه ابن تيمية -رحمه الله-: "وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبُستاني في صدري، إنْ رُحْتُ فهي معي لا تُفارقني، إنَّ حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ". |
↑10 | سبق تخريجه. |
↑11 | أخرج أحمد (15156)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (174) عن جابر بن عبدالله -واللفظ لأحمد-: أن عمر بن الخطاب أتى النبيَّ بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي ، فغضب وقال: أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتُكم بها بيضاء نقيةً، لا تسألوهم عن شيءٍ فيُخبروكم بحقٍّ فتُكذِّبوا به، أو بباطلٍ فتُصدِّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وَسِعَه إلا أن يتَّبعني، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح" (177). |
↑12 | البيت للحطيئة. ينظر: "الأمالي" لأبي علي القالي (2/ 202). |