بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذا اللقاء الذي أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يُبارك فيه، وأن ينفع فيه المُتحدث والسامع، اللهم آمين.
سنتحدث سريعًا -بإذن الواحد الأحد- عن بعض الأحاديث المتعلِّقة بالصيام، وكيف نستلهم منها جوانب تربويةً؛ لعلنا نحظى بالاستفادة من المقاصد التربوية في هذا الشهر الفضيل "شهر الصيام".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قال الله : كلُّ عَمَلِ ابن آدم له إلا الصيام فإنَّه لي، وأنا أَجزي به، والصيام جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ يومئذٍ، ولا يَسْخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقلْ: إني امرؤٌ صائمٌ. والذي نفسُ محمدٍ بيده، لخُلُوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من رِيح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لَقِيَ ربه فرح بصومه[1]أخرجه مسلم (1151)..
وفي روايةٍ عند البخاري: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها[2]أخرجه البخاري (1894)..
أيها الإخوة الأكارم، هذا حديثٌ من الأحاديث، وهو حديثٌ مشهورٌ معروفٌ، وكثيرٌ منا يقف مع مُعطيات نظريةٍ عالميةٍ، أو مع أشخاصٍ ربما وُفِّقُوا إلى ما يمكن أن يُعينوا النفس البشرية عليه حتى ترتقي في سُلَّم هذه الحياة في مجالاتها المختلفة، ولكن هذا المصدر المتعلق بحديث النبي ، وقبله القرآن.
وقد بدأنا الأسبوع الماضي في التربية في آيات الصيام، وفي هذا اللقاء نتحدث عن التربية في أحاديث الصيام، هذا المصدر هو مصدر التربية الإسلامية الحقيقية، فالحضارات والعالم أجمع يُعانون من عدم وجود هذا المصدر بين أيديهم، فيتلقون منه، وإنما يتلقون من نظريةٍ، وينتقلون منها إلى نظريةٍ أخرى، ومن شخصٍ إلى شخصٍ، ومن آراءٍ إلى آراءٍ، وما شابه ذلك.
أيها الإخوة، هذه القضايا نحتاج أن نعتز بها، نحن ننتمي إلى أمةٍ عظيمةٍ، ننتمي إلى وحيين هما المصدران الأساسيان لنا في هذه الحياة، ومن ذلك ما يتعلق بتربية النفس، وما يتعلق بتربية الأُسرة، وما يتعلق بتربية الأبناء، وما يتعلق بالتواصل بين البشر، وما يتعلق بالتأثير فيما بين البشر، إلى آخر تِلكُم الأمور.
وكذلك نستلهم تِلكُم المعاني المرادة، والمقاصد التي أرادها الله ، وجاءت في الوحي؛ حتى نستطيع أن نستلهم تِلكُم المعاني، ونعرض أنفسنا عليها، ونجعلها هدفًا لنا؛ حتى نستطيع أن نُحقق تِلكُم الأهداف من خلال تِلكُم التوجيهات، وتِلكُم الاستنباطات والمقاصد التربوية.
انظروا في هذا الحديث الذي ذكرناه قبل قليلٍ، خذوا مثلًا ما يتعلق بقضية اختصاص الصيام: إلا الصوم فإنه لي، فالله اختص الصيام من سائر العبادات.
فالآن لو جاءك شخصٌ عزيزٌ عليك مثلًا: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60]، ووجدتَ منه اهتمامًا في شيءٍ معينٍ، وأنت تُريد أن تُرضيه، ستُرضي هذا الشخص بلا شكٍّ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى، فالله بيَّن في أمر الصيام ما لم يُبيِّنه في غيره، فقال: إلا الصوم، استثنى الصوم، فلم يستثنِ الصلاة، ولا الزكاة: إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به.
وهذا يجعل الإنسان يتأمل تِلكُم الخصوصية الفائقة الربانية التي حظي بها الصوم، وعندئذٍ يحظى بها الصائمون، انظروا إلى قضية النية الباطنة المتعلِّقة بالصوم، يعني: المجالات الأخرى يمكن للإنسان أن يُثبت حصولها ظاهرًا: كالصلاة، فيُعرف أنه يُصلي، يعني: القضية ظاهرةٌ، بيِّنةٌ، واضحةٌ؛ ولذلك يُقال: أهل بيته يعرفون أنه يُصلي أو لا يُصلي، لكن الصيام بينه وبين الله ، يعني: هو ظاهرًا ما أكل شيئًا، لكنه يختلس ويذهب إلى مكانٍ مُنْزَوٍ فيتناول شيئًا؛ لأن الصيام إمساكٌ، الصيام من عبادات الترك، بل هو أظهر عبادات الإمساك.
المحتوى
تنوع العبادات في الشريعة الإسلامية
سبحان الله! تنوع العبادات في هذه الشريعة قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، يعني: هناك عبادةٌ بدنيةٌ مثل: الصلاة، وهناك عبادةٌ ماليةٌ محضةٌ مثل: الزكاة، وهناك عبادةٌ بدنيةٌ وماليةٌ مثل: الحج، والصيام ليس من هذه العبادات، وإنما هو -كما قال العلماء- من قبيل الإمساك؛ ولذلك تتربى النفس على التحجيم؛ أن يمنع الإنسان نفسه عن شيءٍ تُحبّه، وهذا من أعظم ما يظهر في الصيام، ففي الصيام مشقةٌ عظيمةٌ كما بيَّناها في سورة البقرة عند قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].
فالله أراد أن يُسلينا، وأن يُخفِّف عنا، فبيَّن أن هذه العبادة مكتوبةٌ على مَن قبلنا؛ لأن فيها مشقةً أعظم، فتحتاج إلى صبرٍ وتحملٍ، ثم قال بعدها: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، هي أيامٌ بسيطةٌ، ثم قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184] أيضًا التخفيف في هذا الجانب.
هنا بيان هذه المعاني العظيمة المرتبطة بقضيةٍ بين الإنسان وربه، وأن هذه العبادة لا يُدركها إلا الله في هذا العبد.
الصبر أنواعٌ ثلاثةٌ
وكذلك قال العلماء -وهذه نقطةٌ مهمةٌ جدًّا-: "إن الصيام يجمع بين أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على الأقدار المُؤلمة"، يعني: لما تأتي ظروفٌ كهذه الأزمة التي نحن فيها اليوم، ونحن في شهر رمضان، وتترتب عليها أمورٌ لها ارتباطٌ برمضان: كصلاة الجماعة في المساجد، والتراويح، فهذا كله تراه في معاني الصبر.
يعني: انظروا إلى الذين ينجحون الآن في البيوت أكثر مما لو أنهم كانوا في وضعٍ عاديٍّ؛ نظرًا لصبرهم، قلوبهم مُعلَّقةٌ بالمساجد، لكن يُعوضونها في البيوت، ليس لأن المساجد لا تُقام بها الآن الصلاة، فهو يُقصِّر في هذا الأمر؛ ولذلك هنيئًا لتِلكُم البيوت التي فيها مثل هؤلاء القدوات، هنيئًا لتِلكُم البيوت التي فيها مثل تِلكُم القلوب المُعلَّقة بالمساجد، هنيئًا لتِلكُم البيوت التي فيها مَن يحفظ كتاب الله ، ويُقيم لهم الصلوات، وما شابه ذلك.
أيها الإخوة، لقد قرأت (تغريدةً) أثَّرت فيَّ، يقول صاحب (التغريدة) أنه أثَّرت فيه رسالةٌ وصلته أن بعض البيوت لا يجدون أحدًا يُقيم فيهم الصلاة؛ لأنهم لا يُحسِنون القراءة والتلاوة، وبيوتٌ أُخرى -ما شاء الله، تبارك الله- لديهم أكثر من حافظٍ، يقول: فأدركتُ أثر التربية على كتاب الله، وتربية الأبناء على ذلك، وأهمية عناية الأُسرة بأبنائهم، فكيف ظهرت هذه القضية في ظل الأزمات وفي رمضان؟!
إذن من أنواع الصبر: الصبر عن المعصية؛ فالإنسان يكفّ عن المعصية، ويكفّ عن الحلال، وهذا أمرٌ واجبٌ عليه: يترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي[3]أخرجه البخاري (1894).، ألا يكفّ عن الحرام؟
وكذلك المشقة -كما قلنا- موجودةٌ في الصيام، وكذلك الصبر على الطاعة، وهذه مدرسةٌ كبيرةٌ وعظيمةٌ جدًّا في قضية التَّحمل، وكما سيأتي معنا هو أظهر في خلق قوة الإرادة كما أشرنا إليها في اللقاء الماضي، وقضية التعود على الصبر: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]؛ ولذلك هناك بابٌ اسمه: الريان، وهو خاصٌّ بالصائمين، خاصٌّ بهؤلاء الذين بلغوا هذه المنازل العظيمة.
للصائم فرحتان
انظروا أيضًا أيها الإخوة الأكارم إلى ما يتعلق بقضية للصائم فرحتان[4]أخرجه البخاري (7492)، ومسلم (1151).، ما أستطيع أن أقف مع كل هذا الحديث؛ لأن عندنا أحاديث أخرى سريعةً، ولذا لا نُريد أن نُطيل حتى ندع الفرصة لكم لتعليقاتكم واستدراكاتكم وأسئلتكم في هذا الجانب التربوي: فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه[5]أخرجه مسلم (1151).، اللهم ارزقنا هاتين الفرحتين.
نحن من المُفترض أن نشعر بالفرحة الأولى؛ لأنها في الدنيا، وما زلنا في الدنيا، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفرحة الأخرى عند لقاء الله حين تُوزع الجوائز والحوافز، فيكون هؤلاء ممن يدخلون باب الريَّان، اللهم آمين.
انظروا لقضية: عند فطره، أنجز مهمةً، قام بالواجب الذي عليه: صيام نهار رمضان، والآن يُفطر؛ فهذه فيها فرحةٌ، فيفرح الإنسان بهذا الإنجاز.
وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين هذا الوجه، وذكر الوجه الآخر كما سيأتي معنا بعد قليلٍ[6]"مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين" (20/ 200)..
فالإنسان يفرح أن وفَّقه الله إلى قضية هذا الإنجاز في العبادة، توفيقٌ من الله، تصور أنك لا تستطيع أن تصوم، وتصور أنك -لا سمح الله- من الضالين، فالتوفيق من الله، ومع ذلك الإنسان يشهد على نفسه بالتقصير، كما يشهد بالمنَّة لله ؛ ولذلك يفرح ويحمد الله على ذلك.
الفرحة الأخرى: الفترة الزمنية اليومية في نهاية رمضان التي أوجب الله فيها الامتناع والإمساك عن الحلال، فما يتعلق بطعامه وشرابه وشهوته الحلال أصبح الآن متاحًا إلى طلوع فجر اليوم التالي.
فنحن بحاجةٍ إلى إدراك المنهج الإسلامي التربوي الذي يُراعي حاجات النفس البشرية؛ ولذلك يُتيح لها مجالات الفرحة حتى عند العبادة التي فيها مشقةٌ، فالله لا يُريد أن يشقَّ علينا: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فالله لا يُريد لنا المشقة، ولكن يُريد ما يترتب على ذلك؛ لأن النفس البشرية تحتاج إلى أن تتربى.
ولاحظوا قوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] نحن اليوم في منتصف رمضان، وتحديدًا في الخامس عشر، وكأن رمضان بدأ أمس، فالأيام تمشي سريعًا.
فمن نِعَم الله أن نستثمر هذه اللحظات بأن نجعلها محطة وقودٍ؛ من أجل أن نحقق قول الله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، هذا هو المقصد الرئيس الذي نريده، وهذا هو المقصد الذي تنبغي العناية به.
فالنفس البشرية تُحِبّ أن تفرح إذا حققت إنجازًا، وهذا يُسمونه: الحاجة للإنجاز، حاجة بشرية، فكيف عندما يكون هذا الإنجاز فيما أوجبه الله ؟! الله أكبر، فيفرح الإنسان عند فطره بأن وفَّقه الله لذلك، كما يفرح أن الله أعطاه السماح لتِلكُم المُباحات التي منعها عنه فترةً من الزمن من أجل مصلحة هذا الإنسان، ثم الله يفتح له المجال.
نحن بأمس الحاجة إلى أن نستظهر مثل هذه المعاني التربوية، حتى في طريقة تعامُله مع الناس، وما يتعلق بخاصية محاولة مراعاة المشاعر، ومحاولة مراعاة أحوال الناس وحاجات الناس التي ينبغي أن تُحقَّق فيما يُرضي الله .
إني امرؤٌ صائمٌ
لاحظوا أيضًا قول النبي في الحديث نفسه: فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ يومئذٍ، ولا يَسْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقلْ: إنِّي امرؤٌ صائمٌ[7]أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151). يعني: كأنه يقول: أنا لستُ عاجزًا أن أرد، ولكن لأني صائمٌ لن أرد، وهذا يجعل الطرف الآخر يعرف قدر نفسه.
كذلك ذكروا أنه يردع نفسه عن مقابلة هذا الذي سبَّه، فيقول: "إني صائمٌ"، كأنه هنا حديث بينه وبين نفسه، يعني: التوجيه الأول بينه وبين الشخص نفسه، فهل يُجْهَرُ بها أو لا يُجْهَر؟
المقصود أن يسمع الإنسان قول: "إني صائمٌ"، فيجعل لذلك معيارًا يردعه حتى لا يرد عليه، وهذا من أظهر ما يكون في التعامل، كما قال الله : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، هذا ليس ضعفًا في النفس البشرية، هذه قوة: ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد مَن ملك نفسه عند الغضب[8]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).، هذه هي القوة، وهذه هي الشجاعة، وهذه هي الشدة نفسها، فالصوم يُربيني على المصاعب والصبر والتحمل، والصوم يُربيني على ضبط النفس.
لاحظوا هذا الأمر التربوي الإسلامي العظيم، فالنبي كان إذا رأى ما يُعجبه من أمور الدنيا، وخاف أن تتعلق نفسه به -كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح "رياض الصالحين"- ماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام؟ اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة[9]أخرجه البخاري (3797)، ومسلم (1804).، الله أكبر، فيُذكِّر النبي نفسه أن العيش عيش الآخرة، وهذا الأمر منهجٌ عظيمٌ جدًّا في تعامُل الإنسان مع نفسه فيما يتعلق بالاغترار بالدنيا، وما يتعلق بقضية إيذاء الناس له، وما يتعلق بحُطام الماديات، فليعلم أن العيش هو عيش الآخرة، فهو يقول: إجابةً لك يا ربّ إن العيش عيش الآخرة، أمَّا هذه الدنيا فهي زائلةٌ.
لعلنا نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بقضية هذا الحديث، وفيه أشياء كثيرةٌ جدًّا، وكل كلام النبي نورٌ وهدايةٌ بعد كلام الله .
الصيام يُعلمنا الانضباط
لاحظوا -مثلًا- الحديث المشهور: صوموا لرُؤيته، وأفطروا لرُؤيته[10]أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1080)..
هنا وجوب الصوم إذا رأى المسلمون الهلال -كما هو معروفٌ-، لكن اللفتة التي أُريد أن أقف عندها هي ما يتعلق بالانضباط والالتزام، وليست القضية مرتبطةً بمجالاتٍ فوضويةٍ، ولا، ولا، ولا، إنما نظامٌ، فينضبط الإنسان بناءً على الرؤية، ويخرج بناءً على الرؤية.
وهذه القضية تجعل الإنسان ينتظر حتى ينضبط ويلتزم، ليست القضية مزاجيةً، وليست القضية قضيةً فرديةً، إنما هو منهجٌ وتعليماتٌ؛ ولذلك نحن بأمس الحاجة إلى أن ننضبط ونلتزم فيما يكون خيرًا لنا في الدنيا وفي الآخرة، وهذا لا يتأتى إلا بوجود أنظمةٍ، وبوجود قوانين، وبوجود رجوعٍ للتعليمات الربانية والنبوية فيما يتعلق بقضية الجوانب الشرعية والأوامر والنواهي.
الجود في رمضان
انظروا -مثلًا- ما جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله كان أجودَ النَّاس، وكان أجودَ ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان فيُدارسه القرآنَ، وكان رسول الله أجودَ بالخير من الرِّيحِ المُرسلة[11]أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308)..
أيها الإخوة، هنا ما يتعلق بقضية بذل المحبوب من مالٍ أو عملٍ، فالإنسان في هذا الشهر الفضيل يجب أن يستثمر هذه الفرصة الثمينة، ويقتدي بالنبي ، بأبي هو وأمي: كان أجود ما يكون في هذا الشهر، فأيُّ مجالٍ متاحٍ لك أخي الكريم ومتاحٍ لي علينا أن نفعله، وأن نقوم به، وأن نتقرب به إلى الله من عملٍ، ومن جهدٍ، ومن نفعٍ للنفس، أو نفعٍ للآخرين، من استشاراتٍ، ومن قراءةٍ، ومن إفادةٍ، ومن نقل خيرٍ، ومن نفع النفس في صلاةٍ، وفي دُعاءٍ، .. إلى آخره من تلك الأمور التي تستوعب قضايا الدين والدنيا، فالعبادة هي: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
لذلك يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذه اللفتة: "أجود الناس النبي بماله، وبدنه، وعلمه، ودعوته، ونصيحته، وكلُّ ما ينفع الخلق، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ لأن رمضان شهر الجود، يجود الله فيه على العباد، والعباد المُوفَّقون يجودون على إخوانهم، والله تعالى جوادٌ يُحبّ الجود"[12]شرح "رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 276)..
فأنت تجود على إخوانك، والله يُحبّ الجود؛ فيجود عليك، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء.
لذلك على الإنسان أن يُسارِع كما سارع النبي ، فنحن أيها الإخوة أحوج من النبي لهذه المسارعة، فالرسول غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فلنُربي أنفسنا في هذا الشهر على أننا لا نُفاوِض على عمل الخير، نكون مثل الصحابة كما وصفوا حتى في غير رمضان، إذا حُدِّثوا عن التوجيه الذي يعملونه ما سألوا: هل هو واجبٌ أم مُستحبٌّ؟ وإنما قاموا به، فيستوي عندهم الواجب والمستحب في العمل، وكذلك المُحرَّم والمكروه في الترك، هذا من المسابقة.
لا شك أن الواجب يجب على الإنسان أن يعمله، والمُحرَّم يجب على الإنسان أن يتركه، والمُستحبّ لا يجب، ولكن يُؤجَر عليه، والمكروه لا يحرم، ولكنه يُكره، لكن صاحب المقامات في العبودية لا يفعله، ومن ذلك الذي إذا تربى على العبادة، وعلى قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فيكون هذا الشأن عنده كثيرًا ومهمًّا جدًّا، لا يُفرِّق بين الواجبات، ويلتزم بها، ويحرص على المُستحبات كذلك والعناية بها بأي بابٍ من الأبواب: باب الصدقة، وباب الصلاة، وباب الدعاء، وباب نفع الآخرين، وباب بر الوالدين، وباب صلة الأرحام، فيجعل له نصيبًا في ذلك.
وأنا أعرف بعض الأشخاص في بعض مقامات العبودية يُحاول أن يجعلها يوميًّا، يعني: نضرب المثال في هذا: شخصٌ عنده نفقةٌ، فهو يُحاول أن يُنفق يوميًّا، وبإمكانه أن يجعلها مرةً واحدةً، لكن هو مريضٌ، ويُريد أن يعيش، وأسأل الله أن يشفيه، وأن يُعافيه، وأن يجعل هذه الصدقة دفعًا للبلاء الذي هو فيه، حفظه الله، ووفَّقه، وشفاه.
فهذا سلوكٌ جيدٌ حتى تُصبح عند الإنسان عادةٌ يوميةٌ، وهكذا بالنسبة للأشياء الأخرى التي يُمكن أن تُقرِّب إلى الله بنفع الإنسان لنفسه، وكذلك النفع المُتعدي، فالرسول كان يُسارع للخير ويجود به، حتى كان أسرع من الرِّيح المُرسلة، هل يستطيع أحدٌ منا أن يتصور هذه الريح السريعة العاصفة؟ فالرسول كان أشدَّ منها، وعليكم أن تتخيلوا هذا الأمر.
ولذلك ترى بقاء الإنسان في رمضان كما هو في غير رمضان غير صحيحٍ أبدًا، ويُخشى على الإنسان: رغم أنفه؛ مَن أدرك رمضان فلم يُغفر له[13]أخرجه النميري في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام" (216)، وقال الألباني في "فضل الصلاة على النبي ": … Continue reading، وكذلك الزيادة بصورةٍ بسيطةٍ جدًّا دون محاولة الضغط على النفس والارتقاء بدرجاتٍ ومقاماتٍ كبيرةٍ، حتى إنه يجود بما يستطيعه مما يملكه من قدراتٍ في أمورٍ عديدةٍ جدًّا في هذه الحياة.
لما قال عبدالله ابن الإمام أحمد: "يا أبتي، لِمَ تُتْعِبُ نفسك؟!" لماذا تُجْهِد نفسك؟! هكذا يرى الابن عبدالله، يعني: هو حريصٌ على أبيه، فيقول له: لماذا تُتعب نفسك؟! قال: "راحتها أُريد"[14]"الفوائد" لابن القيم (42)..
انظر كيف يُفكِّر الإمام أحمد؟ يرى راحتها في الآخرة، هذا الذي يُريد، كما قال: اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة[15]أخرجه البخاري (3797)، ومسلم (1804).، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنان في الآخرة.
فالإنسان مطلوبٌ منه أن يتربى على ذلك، وهذا مما يُعطي مُؤشرًا كبيرًا على استثمارنا لشهر رمضان.
الاجتهاد في رمضان
لاحظوا أيضًا الحديث الآخر: عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله إذا دخل العَشْرُ أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشَدَّ الْمِئْزَرَ"[16]أخرجه مسلم (1174)..
نحن مُقبلون على العشر الأواخر، فما مدى الاستعداد؟
لا بد من تهيئةٍ كما قال العُلماء: الإنسان يُهيئ نفسَه، ويتأهب تأهبًا كاملًا للعمل، وإلا كيف سيعمل؟! يعني: ربما تضيع عليه العشر الأواخر، لكن الذي يضع في باله مزيدًا من العناية والحرص، خصوصًا وأن تِلكُم الليالي فيها ليلة القدر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن أدركها؛ حتى لا نُحرم إياها، يعني: لا نجعل تلك الليالي الفاضلة كبقية الليالي الأُخرى؛ ولذلك الرسول كان ينشط فيها.
ولاحظوا أن القضية هنا: كيف أن الله يُربي عباده، يعني: ولذلك يقول العلماء: "الله غيَّبَ عنا ليلة القدر، ولو كانت في ليلةٍ معينةٍ لقامها الناس وتركوا بقية الليالي"، فالقول الصحيح أنها تتنقل من ليلةٍ إلى أخرى على مدار السنين؛ ولذلك كان النبي يتحراها من خلال الاعتكاف ولزوم العبادة وجمع القلب، يجمع قلبه على ذلك حتى يُدركها.
فنسأل الله أن يرزقنا العودة إلى المساجد في العشر الأواخر من رمضان، لكن لو بقي الوضع بهذه الصورة سيكون كل واحدٍ منا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الاجتهاد ومراجعة النفس؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
فإذا كان الإنسان في البيت، وهو معتادٌ على صلاة القيام والتراويح مع الناس، ويعتكف معهم في المسجد -كما هو معروفٌ-، فيحتاج الإنسان أن يُعوّض.
هؤلاء الناس الذين وفَّقهم الله إلى ما كانوا عليه من خيرٍ، فما بالك بغيرهم؟! لا شك أن غيرهم من باب أولى.
التخلية قبل التحلية
أنا أُريد أن أرجع إلى قضية: إني صائمٌ[17]أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1127).، يقول الشيخ ابن عثيمين: "كأنه يقول: أنا لستُ عاجزًا عن أن أُقابِلك بما سببتني به، ولكني صائمٌ، يمنعني صومي من الردِّ عليك"[18]شرح "رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 268).، وعلى هذا فيقوله جهرًا، يعني: هي عبارةٌ عن جملةٍ خبريةٍ.
تكلمنا قبل قليلٍ عن قضية الجود والإحسان إلى الآخرين، وأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، ومن الأحاديث الواردة: مَن لم يدعْ قولَ الزُّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه[19]أخرجه البخاري (1903)..
يا الله! يعني: هو ترك طعامه وشرابه، ونجح في ترك الطعام والشراب، وفي الالتزام بترك المُباح الحلال، ولكن وقع في غير مقصد الشرع من ذلك، الشرع لم يأتِ من أجل أن يحرمنا مما نشتهيه، ليس فقط مجرد الحرمان، إنما هناك مقصدٌ مهمٌّ؛ ولذلك أيها الأحبة ينبغي عند أي توجيهٍ، وأي سلوكٍ، وأي برنامجٍ أن نضع في بالنا الهدف والمقصد الرئيس في الصيام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، الله يُريد تهذيب هذه النفس، وتحقيق مقامات العبودية، فهذه فرصةٌ ثمينةٌ، فالإنسان قد لا يعود مرةً أخرى إلى هذا الشهر، فقد يكون في عداد الموتى ويُخْتَم له؛ ولذلك عندما يُدرك الإنسان هذا الشهر فهو في نعمةٍ عظيمةٍ، فينبغي أن يعمل، وهذه هي الحكمة الواضحة البيِّنة المهمة التي تنبغي العناية بها.
ومن الفوائد والوقفات التربوية هنا: ما يرتبط بقضية التخلية قبل التحلية، وهذه قاعدةٌ رائعةٌ جدًّا، فالإنسان إذا سلك مسلكًا إيجابيًّا في أمرٍ معينٍ، ولم يترك ما يُشوِّش على هذا المسلك قبل أن يأتي به: يتزوج الزواج الحلال، يُكمل به نصف الدين، وقد يكون واجبًا على بعض الناس، لكنه ما زال ينظر إلى الحرام؛ ولذلك لم يُحقق مقاصد الزواج وأهداف الزواج: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]؛ نظرًا لبقاء ووجود تِلكُم الأمور المُنغِّصة التي لم يتركها.
فلا بد من التخلية قبل التحلية، التخلية: أن تُبعد عنك الأشياء المُثيرة سلبيًّا؛ لأنها مُضرَّةٌ، والتحلية: أن تأتي بالمُثيرات الإيجابية فتسلكها، عندئذٍ تشعر بقيمة ما تسلكه من السلوك الإيجابي، وعندئذٍ تستطيع أن تُكمِل مشوارك.
إنسانٌ لديه بعض الأشياء الرائعة جدًّا، ولكن عنده أصدقاء سوءٍ، أو عنده صديقات سوءٍ: إما مباشرةً، أو عبر التقنية، فيكون لهذا الأمر تنغيصٌ عليه، فيصل به الحال في بعض الأحيان إلى أنه يفعل أو لا يفعل، ويترك أو لا يترك، هو محافظٌ على الصلاة، وهي محافظةٌ على الحجاب، هو مُنتجٌ في الحياة، وهي كذلك -يعني- تقوم بما ينبغي أن تقوم به المرأة المسلمة التي تخاف الله ، ولكن أُولئك يُشوشون.
فمهمٌّ جدًّا أن نُدرك هذه القاعدة: مَن لم يدعْ قولَ الزُّور والعملَ به .. هذا هو الهدف الأساسي، كيف سينجح الإنسان وعنده أصدقاء سوءٍ، حتى ولو كان يُحبّ الله؟!
أنا أذكر أنه في مرةٍ من المرات جاءني شابٌّ في أحد اللقاءات في أحد المُخيمات الشبابية، وكانت لدي استشارات، فجاء هذا الشاب وقال: أنا أُحاول منذ سنوات أن أدخل هذا المخيم وأستفيد منه، ولم أستطع. فقلتُ له: غريبٌ، لماذا؟! وفهمتُ منه أنه من أسرةٍ محافظةٍ، قال: أصدقائي يكونون معي إلى آخر لحظةٍ، وأنا أُحاول أن أدخل المُخيم ويصدُّوني وأعود. يقول: هذا منذ سنواتٍ، وهذه أول مرةٍ أدخل.
هذا المبدأ مهمٌّ جدًّا، نحتاج أن نتنبه له، فلا نستطيع أن نشرب الماء من خلال هذا الوعاء وهو مُتَّسخٌ مثلًا، فالماء العذب الزُّلال سيتسخ فيه، فمن الطبيعي جدًّا أن أُنظف هذا الوعاء من الوسخ، هذه التخلية، ثم بعد ذلك أهنأ بشراب الماء العذب الزُّلال.
النبي في حديثٍ شُكِيَ إليه أن الناس قد شقَّ عليهم الصيام وهم في سفرٍ، فدعا بماءٍ فشربه في نهار رمضان والناس ينظرون إليه؛ حتى لا يكون في صدورهم حرجٌ إذا أفطروا، وكان ذلك بعد العصر، ولكن بعض الصحابة بقوا على صومهم، فجيء إلى النبي وقيل له: إن بعض الناس قد صام. قال: أولئك العُصاة، أولئك العُصاة[20]أخرجه مسلم (1114)..
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وصفهم بالعصيان لأنهم لم يقبلوا رُخصة الله مع مشقة ذلك عليهم"[21]"شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 263)..
فلا تتصور أنك أنت الذي تُقدِّر الأمر، وأنك أحرص من الشرع على نفسك وعلى الآخرين، فالبعض يقول: لا، لا، لا، أنا أقدر! فيدخل في المشقة الشديدة.
فينبغي أن يُؤخذ بالرُّخصة المشروعة، ولا بد أن نُراعي مشاعر الناس وحاجاتهم، فلا بد من مراعاة النفس البشرية، فالنفس البشرية تحتاج إلى أنْ تُساس بطريقةٍ سليمةٍ، والشرع جاء لحفظ دين هذه النفس البشرية، وحفظ عقلها، وعِرضها، ومالها، .. إلى آخره.
نحن بحاجةٍ إلى أن نُدرك مقاصد الشريعة، وكيف اهتمت الشريعة بتِلكُم المقاصد التربوية العظيمة من خلال التوجيهات في كتاب الله وسنة النبي بما يرتبط بقضية الصيام؟
اليقين لا يزول بالشك
انظروا إلى قوله ﷺ: لا تَقدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومًا فليصُمْه[22]أخرجه مسلم (1082).، وفي حديثٍ آخر: "مَن صام يوم الشَّك فقد عصى أبا القاسم" رواه أبو داود والترمذي، وهو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ[23]أخرجه أبو داود (2334)، والترمذي (686)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (3577)..
وهذا أيها الأحبة فيه قطعٌ للشك والوسواس، حتى يكون الإنسان مُقبلًا على رمضان وليس هناك أدنى إشكالٍ؛ ولذلك جاء الاحتياط والتوجيه من الشرع من أجل أن يصوم الإنسان رمضان من أوله، ولا يختلط الأمر عليه، ولا يحصل له أي شكٍّ.
وهكذا ما من بابٍ للشك إلا والشرع يقطعه، وكما تعلمون القاعدة المشهورة: "اليقين لا يُزال بالشك"[24]"الأشباه والنظائر" للسيوطي (50).، أنت عندك يقينٌ، إذن لا اعتبار للشك.
ولعلمائنا قاعدةٌ جميلةٌ يذكرونها:
والشك بعد الفعل لا يُؤثر | وهكذا إذا الشكوك تكثر[25]"القواعد والأصول" للشيخ ابن عثيمين (1/ 84). |
ومن خلال الاستشارات النفسية نلحظ أن بعض الناس عندهم قابليةٌ للشكوك والوساوس، يحصل لديه الوسواس في العبادات، وفي النظام، وفي الأوراق، وفي الوقت، وفي التعامُل، وفي العلاقات، وما شابه ذلك، وفي بعض الأحيان يتمادى هذا الأمر إلى أن يصل إلى ما يُسمّى بالوسواس القهري الذي يُعرف بأنه خطأٌ من حيث السلوك، ويُعرف بأنه خطأٌ من حيث الفكرة، لكنه لا يستطيع أن يتركه، وهذا من أشد ما يكون، وعندئذٍ نحتاج إلى تدخلٍ دوائيٍّ لمن وصل إلى هذا المستوى، طيب، فما الحل؟
الحل أن الشك بعد الفعل لا يُؤثر، إذا فعلت فعلًا فالشك بعده لا يُؤثر، ارمِه، كما جاء في التوجيه عنه : فليستعذ بالله ولينتهِ[26]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، يقول: أعوذ بالله وأنتهي.
والذي يقطع هذه القضية من بداياتها لا يمكن أن يصل إلى مستوى الشك والوسوسة في الوضوء، أو في الصلاة، أو ما شابه ذلك، وحين ناقشتُ بعض أصحاب الوسواس القهري اكتشفت أن بداياتهم كانت ضعيفةً، ولكن -للأسف- استرسلوا فيها، واستسلموا لها، ولم يُطبِّقوا مثل هذه التوجيهات.
فالشك بعد الفعل لا يُؤثر، انتهى، لا يُؤثر، لا يا أخي، يعني: هل أنت أحرص من الدين؟!
وهذه القاعدة ذكرها الشيخ ابن عثيمين في القواعد الفقهية، فهل أنت أحرص من الدين ومن علماء الدين في قضية حماية جناب الله وأحكامه ؟!
فينبغي على الإنسان أن يكون حازمًا مع نفسهِ، فليتعوذ بالله ولينتهِ.
والشك بعد الفعل لا يؤثر | وهكذا إذا الشكوك تكثر[27]"القواعد والأصول" للشيخ ابن عثيمين (1/ 84). |
هذا بيتُ شعرٍ رائعٌ جدًّا، احفظوه، وهو من أروع ما يكون في التعامل مع الوسواس.
طيب، إذا كان من طبيعتك أنك تُوسوس كثيرًا، اقترح هذه القضية، وأغلق باب الوسواس؛ حتى لا تسترسل وتستمر معك، وعندئذٍ تنتقل إلى مستوى من الإشكال.
آداب الصيام
اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام[28]أخرجه الدارمي في "سننه" (1729)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع" (4404).، ربي وربك الله[29]أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (9730).، هلال رُشْدٍ وخيرٍ[30]أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (29749)..
هذا فيه تفاؤلٌ، وهو يتعلق بالارتباط بهذا المعنى التربوي العظيم: أن تكون النفس مُبتهجةً مُتفائلةً بخيراتٍ حِسانٍ، الله يُقدِّرها في مثل هذا الشهر العظيم.
وعن أنسٍ قال: قال رسول الله : تَسَحَّروا؛ فإنَّ في السُّحُور بركةً[31]أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095)..
ولاحظوا هذه اللفتة: الآن أنسٌ ينقل عن النبي ، ونبي هذه الأمة يتحدث عن قضية السحور، وعن البركة في السحور، وهذا يدل على أن الدين الإسلامي شاملٌ، وأنه ما ترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا أتى بما فيه مصلحتنا، يعني: أين البركة؟ بركةٌ في الأجر، وبركة التقوية على العبادة التي هي الصيام؛ لأن هناك فرقًا بين الذي يتسحر، والذي لا يتسحر، وكذلك ذكروا الفرق بين صيام المسلمين وغير المسلمين من خلال أكلة السحور.
فهذه المعاني عظيمةٌ، وحين يعيشها الإنسان يشعر بلذَّةٍ، ويشعر بقيمة المقاصِد الشرعية والمقاصد التربوية في شرعنا في قضية الصيام كما جاء في مثل هذه الأحاديث وغيرها.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ يومئذٍ، ولا يَسْخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتله فليَقُلْ: إني صائمٌ[32]أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151)..
وحديث النبي : مَن لم يدعْ قولَ الزُّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامه وشرابه[33]أخرجه البخاري (1903).، هذا معنًى عظيمٌ ومهمٌّ جدًّا نحتاجه أيها الإخوة فيما يتعلَّق بقضية الضبط الذاتي: ضبط النفس وقوة الإرادة والتدريب على هذا الجانب، أن يقول له: إني صائمٌ، انتهى.
فعند ما يتعلَّق بالضبط الذاتي يُعطي الإنسان لنفسه تعليماتٍ: إني صائمٌ، فإذا لم يقل هذا الكلام وبدأ يسبُّه ويشتمه ويردّ عليه؛ فقد فشل في الموقف.
كذلك قوله: مَن لم يدعْ قولَ الزُّور والعملَ به طيب، ماذا أفعل؟
أُمسك لساني، وأُمسك نفسي؛ حتى لا أقع في غير مراد الله ، وأُطبق قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
أختم -بارك الله فيكم- بحديثٍ عن أبي هريرة ، عن النبي قال: إذا نَسِيَ أحدُكم فأكل أو شرب، فَلْيُتِمَّ صومَه، فإنما أطعمه الله وسقاه[34]أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155)..
وهذه أيضًا قضيةٌ فيها رحمةٌ من الله ، فالإنسان لم يكن مُستحضرًا ومُدركًا لقضية الصيام، وليس في علمه، والشرع في هذه الحالة قد عذره، بل إن الله قد أطعمه وسقاه.
طيب، إذا رأى الإنسان غيره يأكل أو يشرب ناسيًا ماذا يفعل؟
انظر، هنا مسؤولية العلماء عندما تحدثوا عن هذه النقطة، غيرك يأكل ويشرب، وأنت مُدركٌ أنه يأكل ويشرب وهو صائمٌ، وهو ناسٍ، فهو معذورٌ، لكنْ أنت لست بمعذورٍ، فهنا المسؤولية جماعيةٌ، فيجب عليك أن تُذكره، كما جاء في أمر الصلاة: فإذا نسيتُ فذَكِّرُونِي[35]أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572).، لكن العلماء يذكرونها في غير الصلاة.
فيجب عليك أن تُذَكِّر هذا الإنسان، وهنا تظهر المسؤوليتان: المسؤولية الفردية التي تجب على الإنسان تجاه نفسه، والمسؤولية الجماعية التي تجب على الإنسان تجاه الآخرين.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني والشيطان.
وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وممن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وممن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | أخرجه مسلم (1151). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (1894). |
↑3 | أخرجه البخاري (1894). |
↑4 | أخرجه البخاري (7492)، ومسلم (1151). |
↑5 | أخرجه مسلم (1151). |
↑6 | "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين" (20/ 200). |
↑7 | أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151). |
↑8 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑9 | أخرجه البخاري (3797)، ومسلم (1804). |
↑10 | أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1080). |
↑11 | أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308). |
↑12 | شرح "رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 276). |
↑13 | أخرجه النميري في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام" (216)، وقال الألباني في "فضل الصلاة على النبي ": "صحيحٌ بشواهده" (15). |
↑14 | "الفوائد" لابن القيم (42). |
↑15 | أخرجه البخاري (3797)، ومسلم (1804). |
↑16 | أخرجه مسلم (1174). |
↑17 | أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1127). |
↑18 | شرح "رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 268). |
↑19 | أخرجه البخاري (1903). |
↑20 | أخرجه مسلم (1114). |
↑21 | "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 263). |
↑22 | أخرجه مسلم (1082). |
↑23 | أخرجه أبو داود (2334)، والترمذي (686)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (3577). |
↑24 | "الأشباه والنظائر" للسيوطي (50). |
↑25 | "القواعد والأصول" للشيخ ابن عثيمين (1/ 84). |
↑26 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑27 | "القواعد والأصول" للشيخ ابن عثيمين (1/ 84). |
↑28 | أخرجه الدارمي في "سننه" (1729)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع" (4404). |
↑29 | أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (9730). |
↑30 | أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (29749). |
↑31 | أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095). |
↑32 | أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151). |
↑33 | أخرجه البخاري (1903). |
↑34 | أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155). |
↑35 | أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572). |