بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وفي هذا اللقاء أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل هذا الشهر مباركًا علينا وعليكم، ويجعلنا وإياكم من أهل القرآن، أهل الله وخاصته، وأن يكشف الغُمَّة عن الأُمة.
والشكر لله أولًا، ثم للإخوة في جمعية "وِئام للرعاية الأسرية"، وأخصُّ بالذكر أخي الأستاذ عبدالرحمن الخضير -جزاه الله خيرًا- أبا سليمان على جهده، والإخوة جميعًا في الدعم الفني: الأخ منصور والشباب جميعًا -جزاهم الله خيرًا- على هذه البرامج الطيبة المباركة التي تُتيح الفرصة للأفراد والأُسر للاستفادة منها خلال هذا الشهر المبارك، وكذلك من خلال هذا الحظر المنزلي، لعلَّ الله أن يُبارك في أوقاتنا وأوقاتكم، اللهم آمين.
سنستعرض فوائد سريعةً جدًّا -بإذن الواحد الأحد-، وسنستحضر فوائد ودروسًا تربويةً من خلال آيات الصيام في سورة البقرة من الآية مئة وثلاثٍ وثمانين إلى آخر الآيات المُتعلقة بالصيام وهي الآية مئة وسبعٍ وثمانين تقريبًا، وسنستعرض ذلك فيما تيسر من الوقت، ثم نُتيح الفرصة لسماع الفوائد منكم، أو الاستدراكات، أو الأسئلة.
دعونا نبدأ بالآيات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ .. إلى آخر الآيات [البقرة:183-184]، ثم قول الله : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .. إلى آخر الآية [البقرة:185]، ثم قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ .. إلى آخر الآية [البقرة:186]، ثم: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ .. [البقرة:187].
دعونا نقف مع مجموعةٍ من هذه الجوانب التي نحتاجها؛ من أجل أن يكون كتاب الله مُربيًا لنا -التربية في آيات الصيام-، وهذا هو المغزى المراد فيما يتعلق بقضية تدبر كتاب الله ، يقول الله : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
فهذا التذكُّر وهذا التدبر هو المغزى المقصود من سماع آيات الله ، ومن قراءتها، ومن حفظ آيات الله ، مع أن الإنسان مأجورٌ: لا أقول "الم" حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ إلى آخره[1]أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، … Continue reading.
إذن نحن نحتاج إلى أن نقف مع هذه الأوجه في الجوانب التربوية، ونقف مع كل آيةٍ متعلقةٍ بقضية الصيام، لعلنا كأفرادٍ نستفيد من هذه الآيات العظيمة؛ حتى نفقه ما يرتبط بحِكَم الصيام، يعني: الصوم مدرسةٌ لتهذيب الروح، ولتقوية الإرادة، وهذا عنوان كتابٍ للشيخ العلَّامة عبدالرحمن الدوسري -رحمة الله عليه-، وهو من أنفس الكتب التي تحدَّثتْ عن قضية الصوم وما يتعلق به.
المحتوى
القضايا المُتعلقة بالجوانب التربوية من خلال الآيات
دعونا نتحدث عن هذه القضايا المُتعلقة بالجوانب التربوية من خلال تِلكُم الآيات.
أيها الإخوة، لاحظوا هذه القضايا، فالذي ينظر في حِكَمِ الله في العبادات يرى أن هناك تنوعًا في هذا الجانب المُتعلق بقضية العبادات؛ فتجدون بعض هذه القضايا مُتعلقًا بجوانب ماليةٍ بحتةٍ، مثل: الزكاة، وبعضها مُتعلقًا بقضايا مُرتبطةٍ بجوانب بدنيةٍ وماليةٍ، مثل: الحج، وبعضها مُتعلقًا بقضايا مرتبطةٍ بالترك: كالصيام مثلًا.
هذا التنوع يُعطي مجالًا كبيرًا لأَنْ نُحقِّق قضية العبودية لله في حياتنا، وأن يحصل من هذا التنوع التأثُّر في هذه العبادة؛ حتى نستطيع أن نُزكي أنفسنا من خلال هذه المجالات المتنوعة في العبادة.
ولذلك فالصيام عبادةٌ ورُكنٌ من أركان الإسلام، يكون فيه تهذيب النفس من خلال قضية الترك، فيترك الإنسان المُباح، وكما أنه قادرٌ على ترك المباح هو كذلك قادرٌ على ترك الحرام.
هل لاحظتم قول الله في الآية الأولى من هذه الآيات حينما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]؟ هذا هو المغزى الرئيس والمهم من خلال هذه العبادة التي جاءت ضمن سلسلةٍ من العبادات المتنوعة، وفيها عبادة الترك، فيترك الإنسان ما تلذُّ نفسه، وهو مباحٌ له، ويجب عليه هذا الترك لهذا الحلال، وهو كذلك يستطيع أن يترك الحرام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، فتتهذب هذه النفس وتتربى على التقوى ومنازل التقوى؛ لذلك هذا هو مُؤشرٌ لاستفادتنا من قضية الصيام، ألا وهو: ما مستوى التقوى الذي تُحقِّقه النفس البشرية؟ وما مستوى التقوى الذي تُحقِّقه الأُسرة المسلمة؟ وما مستوى التقوى الذي تُحقِّقه المجتمعات المسلمة من رمضان؟
إنْ زاد منسوب التقوى -وهذا المُفترض، وهو الواجب- فلا شكَّ أن هناك معنًى رائعًا حصل بالنسبة للفرد أو الأسرة أو المجتمع عمومًا؛ لذلك هذا هو المقياس الحقيقي كما جاء في الحديث: رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش[2]أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1424).، يعني: هو كفَّ عن الأكل وجاع، وكفَّ عن الشرب وعطش، لكن ليس له إلا ذلك، لماذا؟
لأنه ما زال على نفس حالته، فهو على الحالة التي كان عليها، فبرنامجه ما زال كما هو؛ لا يجرؤ على أن يأكل في فترة نهار رمضان، ولا أن يشرب في فترة نهار رمضان، فهو يُحقِّق الفرض الظاهري المُتعلق بقضية الصيام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
والتقوى: أيُّ شيءٍ يقي الإنسان من الوقوع في جهنم والنار -والعياذ بالله، نسأل الله أن يُعيذنا وإياكم من النار-، وأي أمرٍ يُقربنا إلى الله ، يعني: هو -في حقيقة الأمر- تحقيق العبودية لله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ [الذاريات:56]، هي في الحقيقة مرتبطةٌ باسمٍ جامعٍ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فتمتد صور العبادات والقُرَب في رمضان، فتكون كما قال النبي : يا باغيَ الخير أقبلْ، ويا باغيَ الشر أَقْصِرْ[3]أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، برقم (682)، وصححه الألباني في "مشكاة … Continue reading، فيحصل التنافس؛ ولذلك رغم أنفه، مَن أدرك رمضان فلم يُغفر له، فقال : آمين[4]أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1888)، وقال محققه: إسناده جيدٌ.، أمَّنَ على ذلك.
وهذا هو أعظم مجالٍ للتربية الإيمانية، والتربية على التقوى، والتربية على العبودية بمفهوم العبودية الشامل، فلا شك أن موضوع الصلاة والتوحيد والعقيدة يظهر: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وموضوع الزكاة يظهر، وإن كانت لا يجب أن تكون في رمضان، فتظهر هذه الجوانب العبادية البحتة، وتظهر كل القُرَب التي يمكن للإنسان أن يُمارسها: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، هذا يختم عشر ختمات في شهر رمضان، وذاك يختم ختمةً واحدةً، وبينهما ختمات من بعض الناس، وقد لا يختم القرآن، وهذا يقرأه تلاوةً، وهذا يحفظ الكثير من كلام الله، وذاك يحفظ أقلّ، وذاك لا يحفظ، وهذا يُراجِع ما يحفظه، وذاك لا يُراجِع، وهذا يقرأ في آيات الوعد والوعيد، وفي الأحاديث، وفي الأمور التي تُقربه إلى الجنة وتُبعده عن النار، وذاك أقلّ، وذاك لا يفعل.
وهكذا أمورٌ عديدةٌ جدًّا من خلال تهذيب النفس والأخلاق، والتعامل مع الوالدين، والتعامل مع الإخوة والأخوات، والتعامل مع الآخرين، والإحسان للمحتاجين والفُقراء والمساكين.
فتظهر معانٍ عظيمةٌ جدًّا فيما يتعلق بعبودية الإنسان، وعبودية قلبه لله بينه وبين الله، وكذلك فيما يتعلق بداخل أُسرته، وفيما يتعلق بالنفع المُتعدي للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، خاصةً مع هذه التقنية العظيمة التي قرَّبت البعيد، وجعلت الناس قريةً واحدةً، فأصبح الإنسان بمقدوره أن يتربى ويرتقي بمنازل عظيمةٍ جدًّا للعبودية بمفهوم العبادة المختلف، ويحرص على ذلك أكثر في رمضان؛ حتى يكون مُحقِّقًا لقول الله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، هذه قضيةٌ.
أيضًا لاحظوا التنويع الذي ذكرناه، نستفيد منه كذلك، فهو شرعٌ من الله مُتعلقٌ بعبادةٍ ماليةٍ، أو عبادةٍ بدنيةٍ وماليةٍ، أو عبادةٍ مُتعلقةٍ بقضية الترك، كذلك الإنسان في أساليبه في التعامل مع البشر: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، هذا أمر الشرع، وفي تعامُله كذلك، فيحتاج إلى التنوع؛ لأن هذا التنوع يُعطي مجالًا أكبر في التأثُّر والتأثير، فنحتاج إلى أن نُغير في أساليب التربية، وفي أساليب الدعوة إلى الله، وفي أساليب التواصل مع الناس، وفي أساليب التأثير، وفي أساليب التعليم، إلى غير ذلك من أساليب الإقناع، نحتاج إلى هذا التنوع، فالنفوس البشرية تنجذب لمثل هذا التنوع.
الجانب المُتعلق بالتسلية
يقول تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لاحظتم كيف؟ لاحظوا هذا الجانب المُتعلِّق بالتسلية، انظروا الصلاة، يعني: الصيام ورد في هذا الجانب، لكن لم يأتِ به هذا المعنى.
وذكر العلماء هذه اللفتة الرائعة جدًّا: نظرًا لمشقة الصيام مُقارنةً بالصلاة كانت الحاجة إلى التسلية وتخفيف وطأة المشقة التي تحصل عند الإنسان في الصيام، تحصل هذه المشقة من حيث ترك ما تُحبّه النفس في نهار رمضان، وقد تكون هُناك مشقة بسبب الأجواء، يعني: حسب الظروف، حسب الوضع وما شابه ذلك .. إلى آخره، يعني: ليس على الأمر المعتاد؛ فأنت لست وحيدًا، ولستم أنتم الذين فُرِضَ عليكم الصيام، قد فُرِضَ على مَن قبلكم، وفي هذا تسليةٌ لهذه الأنفس حتى تستطيع أن تُحقِّق المراد من قضية الصيام.
وكذلك جاءت التسلية في الآية التي بعدها: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، فالقضية كلها أيام، لاحظوا: نحن الآن في اليوم الثامن، وما أن يدخل الشهر إلا ونُبارك، ثم نقول: قد مضى منه ما مضى، ثم نُودّعه، وهكذا في كل سنةٍ، هذا كله أيضًا تخفيفٌ، فالأمر معدودٌ.
لاحظ: هذه تربيةٌ من الله ومن التشريع لنا؛ حتى ننجذب لهذه العبادة، وحتى نُحافظ على هذه الحِكَم من هذه العبادة، ونُحقِّق مُراد الله ومُراد النبي من هذه العبادة.
لقاؤنا الأسبوع القادم سيكون عن التربية في أحاديث الصيام، وسنفهم هذه القضية أكثر، وكذلك ما يتعلق بآيات الصيام؛ لذلك هذه تسليةٌ.
وقلنا: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فنحن نحتاج في تربيتنا لأبنائنا لهذا: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، فمع أننا نُريد أن نوصل لهم رسالتنا في تعليمنا، كذلك نحتاج إلى هذا الجانب الذي يُخفف على النفس المُتلقية من توجيهاتٍ ومجالاتٍ تربويةٍ مختلفةٍ، يحتاج منا أن نُخفف عليهم ذلك بأن نقول لهم: غيركم ممن كان قبلكم من الطلاب عانوا معاناةً شديدةً .. إلى آخره، فهذا الجانب يُعطي دافعيةً ويُسلِّي، لست وحيدًا.
كذلك قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ يُبين أن القضية كلها أيامٌ معدوداتٌ، فأنتم يا طلاب بمجرد أن يبدأ الفصل الدراسي ينتهي.
لاحظوا هذه المعاني العظيمة التي فيها إشباعٌ للجانب الوجداني والعاطفي، يعني: أنا أتحسر على الأستاذ أو المعلمة الذين يُثْقِلون على الطلاب، حينما تأتي الاختبارات يُهددونهم، ويقولون لهم: "الأمر ليس سهلًا"، لا، يا أخي سهِّلها حتى ولو بالألفاظ، فالاختبار هو نفسه، أنت لن تُغير اختبارك مثلًا، لكن أعطهم من العبارات التي تُسليهم وتُخفف عليهم، قل لهم: إن زملاءكم اختبروا في الفصل الماضي، وعانوا مثلما عانيتم، ولكن مرَّ الأمر على خيرٍ، ولله الحمد والمِنَّة، كلها أيام قلائل وتنتهي الاختبارات.
القضايا النفسية لها دورها الكبير في تربية الشخصية
هذه القضايا النفسية لها دورها الكبير في تربية الشخصية، حتى يتعامل بطريقةٍ سريعةٍ مع قضايا الحياة، وقضايا ما يجب عليه في هذه الحياة، وكيف يقي نفسه من المشكلات؟ ولو وقع في مشكلةٍ كيف يستطيع أن يخرج منها بأقلّ الخسائر، وهذا إنما يكون من خلال التربية، ومن خلال البيئات التربوية، ومن خلال المُربين الذين هم في البيوت من آباء وأُمهات، وإخوة وأخوات كبيرات، وكذلك المعلمين والمعلمات، والشخصيات المُؤثرة التي يُفترض أن يكون لها مثل هذا الدور، ونستفيد أيها الإخوة من مثل هذه المعاني بشكلٍ كبيرٍ.
هذه أيضًا من المعاني التي تُربِّي، آيات الصيام تُربينا عليها، ونحتاج أن نتنبَّه لها كذلك.
عودًا إلى قضية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، فهنا تأكيدٌ على أن هذه الغاية ينبغي ألَّا ننساها أبدًا؛ لذلك ابحثوا عن أي سببٍ وأي وسيلةٍ تُقربكم إلى التقوى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فإذا كنا نقول في أمور الدنيا: مَن يُحقق مالًا أكثر، أو يُحقق تفوقًا في الدراسة، أو يُحقق أكثر .. إلى آخره، كذلك هنا يُقال من باب أولى: مَن يُحقق أكثر مجالاتٍ للتقوى سيكون هذا هو الذي استفاد من شهر رمضان.
ما الأسباب التي تُقربنا إلى التقوى؟
المفترض أن تكون طريقة تفكيرنا مُرتبطةً بـ: ما الأسباب التي تُقربنا إلى التقوى؟
لا من ناحية الفرد، ولا من ناحية الأُسرة، ولا من ناحية المجتمعات، ولا من ناحية أجهزة الإعلام: البرامج والمشاريع، لا بد أن تكون هذه القضية هي الحاضرة؛ لأنها الأساس كما قلنا قبل قليلٍ؛ ولذلك كلما استطاع الإنسان لا بد أن يُركز على الأسباب التي تُوصله إلى التقوى: هل هذا الأمر يُوصلني إلى التقوى أو لا؟ وهل هذا البرنامج في الأُسرة سيُوصلني إلى التقوى أم لا؟ هذا كله سيُعينُ بشكلٍ كبيرٍ على تحقيق: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
انظروا أيضًا إلى الآية التي جاءت بعد ذلك: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] يعني: هذه الآية تدل على التخفيف وعلى التسلية، فالرسول كان يقول لمَن بعثهما إلى اليمن: يسِّرا ولا تُعسِّرا، هذا شرعٌ بلا شكٍّ، هذا الذي نتكلم عنه شرعٌ، لكن نحن نستلهم منه كذلك ونستفيد منه، كما جاء في طريقة النبي في التربية: "ما خُيِّر النبي بين أمرين إلَّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا"[5]أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي ، برقم (3560)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب مُباعدته للآثام، واختياره … Continue reading.
انظروا: هذا فيه توجيهٌ، وفيه ضابطٌ: "ما خُيِّر النبي بين أمرين" هنا موقف المُربي، وبينه أمران لأجل أن يُؤثِّر في الطرف الآخر، أو يُوجِّه الطرف الآخر، فماذا يختار؟ وكلا الأمرين يُوصلان للمقصود.
فالرسول ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، إذن أنا أبحث عن الأيسر من هذين الأمرين؛ لأن النفس البشرية -أيًّا كانت هذه النفس- تُحب مَن يتعامل معها بمثل هذا الاتجاه، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ كما ذكر أهل الاختصاص في الجانب النفسي، وذكر هذا الكلام الجميل جدًّا الدكتور عبدالله الخاطر -رحمة الله عليه- في كتابه الرائع "فن التعامُل مع الناس"، فذكر هذه الحقيقة المُتعلِّقة بالنفوس البشرية السَّوية.
"ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا"، وهذا هو الضابط المهم الذي نحتاج أن نتنبَّه له؛ لأنه في بعض الأحيان تدخل الآراء الشخصية، وتدخل الأمزجة، وتدخل الأعراض، وتدخل العادات؛ لكنها ليست على ما يُريد الله ، فيُمكن للإنسان أن يقول: يا أخي، دَعِ الولد ينام؛ لأنه متعبٌ، ما يحتاج، متى ما صلَّى صلَّى، ومتى ما قام قام، فنقول: لا، هذا إثمٌ، بل يجب عليه أن يقوم ما دام أنه مُكلَّفٌ، لا بد أن يقوم، وأن يُصلي، ويجب علينا أن نُساعده على ذلك، هذا ليس من اليُسر بحالٍ من الأحوال؛ ولذلك هذا الضابط هو الذي يضبط ما يتعلَّق بقضية الحرية الشخصية، وما يتعلَّق بقضية تحقيق الرغبات الشخصية التي تدعو إليها النظريات الغربية التربوية والنفسية، وما شابه ذلك، فتأتي مثل هذه القضية لتضبط هذه المعالم حقيقةً.
حكمة التدرج في التشريع
لاحظوا أيضًا التدرج، كان المُتعلِّق بالصيام في البداية أمرًا اختياريًّا، ولم يكن أمرًا واجبًا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]، هذا كان في مرحلةٍ من المراحل، وهذا ما يُسمّى بقضية حِكمة التدرج في التشريع.
نحن الآن لا يمكن أن نأتي بأحكامٍ شرعيةٍ ونقول: "نُدرجها للشخص كما أدرجتها الشريعة من قبل"، لا، لكن نحن عندما نتعامل من أجل التأثير لا ننسى موضوع التدرج شيئًا فشيئًا؛ حتى نستطيع أن نصل إلى الهدف الأسمى، فيُمكن للإنسان أن يبدأ بأسلوبٍ معينٍ: كالأسلوب غير المباشر بعلاقةٍ حميميةٍ إيجابيةٍ مع ابنه، مع طالبه، مع الشخص الذي يُريد أن يُؤثر فيه .. إلى آخره، ثم بعد ذلك يكون الجانب الآخر المُتعلِّق بقضية التشويق والترغيب، وهكذا الثالثة والرابعة.
فكل الإجراءات هدفها في النهاية أن يكون الإنسان مُعبَّدًا لله على مُراد الشرع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، وعندئذٍ يلتزم الأوامِر كما حصل في التدرج في التشريع إلى أن أصبح الصيام واجبًا، عندئذٍ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
فهذه أيضًا لفتةٌ تُبين كيف أن الشرع حكيمٌ، والشارع حكيمٌ ورحيمٌ بنا، ويُمكن أن نستفيد من هذا -كما قلنا- في طريقة تعاملنا عمومًا في جوانب الحياة مع النفوس البشرية.
انظر إلى الآيات عندما يقول الله : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، فالقضية الأساسية هي التربية من خلال القرآن، كلام الله منهج حياةٍ: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، هذا القرآن فيه الهدى والهداية، كما قال الله في سورةٍ أُخرى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
الشيخ الشنقيطي المُفسِّر المعروف رحمه الله لما شرح هذه الآية شرحها في صفحاتٍ عديدةٍ في كتابه العظيم "أضواء البيان"، فيقول: "لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أقوم في كل منحًى من مناحي الحياة: للجانب العبادي، وللجانب الأخلاقي، وللجانب السياسي، وللجانب الاجتماعي، وللجانب الاقتصادي، وللجانب الشخصي، وللجانب الأُسري، وللجانب المجتمعي، .. إلى آخره، فهو أقوم في كل شيءٍ"[6]"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للشنقيطي (8/ 249)..
فالقرآن منهج هدايةٍ، فينبغي أن يكون لهذا القرآن أثرٌ على قلوبنا، كما قلنا: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
ولذلك يقول أبو عبدالرحمن السُّلمي -وهو من كبار التابعين-: "حدَّثنا الذين كانوا يستقرئون القرآن من رسول الله أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آياتٍ حتى يتعلموا ما فيها من علمٍ وعملٍ"، يقول: "فتعلمنا العلم والعمل معًا"[7]أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/ 80).، هذا هو المنهج الحقيقي؛ ولذلك يقول الإمام مالك رحمه الله أنه مكث على سورة البقرة ثماني سنوات يتعلمها[8]أخرجه مالك في "الموطأ" (695).، ليس لِقلة وضعف القُدرة لديهم، خاصةً مع تلك البيئة في جانب الحفظ، ولكن لهذه المنهجية: منهجية التطبيق والعمل، فنحتاج أن نتنبه لهذه القضية.
وهذه فرصةٌ لنُكثر من قراءة كلام الله وقراءة القرآن وتلاوته، وكل حرفٍ: لا أقول "الم" حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ[9]أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، … Continue reading، والحسنة بعشر أمثالها.
فعلينا أن نُكثر، وأن نتدبر ونتمعن ونستلهم هذه المعاني العظيمة، ونُراجِع أنفسنا ونسألها: أين نحن من كتاب الله ؟ حتى يكون القرآن حُجَّةً لنا، لا حُجَّةً علينا.
ليس معنى ذلك: أن الإنسان لا يقرأ قراءةً فقط، لا، يقرأ، لكن الكلام في قضية: هل واقعه يُطابق كتاب الله أم أنه يُخالفه؟ هذه القضية الرئيسة.
ولذلك يرى البعض أن تكون للإنسان ختمةٌ في التلاوة، وأن يكون له نظرٌ في التدبر من خلال "التفسير الميسر" مثلًا، وكذلك "التفسير المختصر"، وكلها مُختصرةٌ جدًّا.
وهناك تطبيقٌ رائعٌ اسمه "تطبيق آيةٍ" جمع التفسير المُيسر والتفسير المختصر، وكذلك "تفسير ابن سعدي" بتلاوة وقراءة المُقرئين المشاهير، وكذلك قضية التفسير وما يتعلق بها.
وهذه كلها أصبحت بين أيدينا، وفي مُتناولنا، فنحتاج أن نستفيد منها، وإذا لم نستفد من القرآن في شهر رمضان فمتى نستفيد أيُّها الإخوة؟!
لذلك شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185] نحن نُريد هذه الهداية، الله يفتح لنا من الهدايات مع كتابه ما تُسرّ به قلوبنا وأنفسنا، ونعرف كيف نتعامل مع ذواتنا؟ وقبل ذلك مع علاقتنا بالله ، وكذلك ما يتعلق بعلاقتنا بالآخرين، وكيف ننجح في الحياة؟ فهذا كتاب هدايةٍ كما قلنا: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ
لاحظوا الآن الآية التي بعدها: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، هنا لفتةٌ مهمةٌ جدًّا مع هذا الجزء الإيماني والعبادي والقرآني، وهذا الموسم العظيم: شهر رمضان.
فهذه القضية مُرتبطةٌ بقضية الدعاء، وعلاقة هذه الآية بما سبق، فالإنسان يحتاج إلى أن يُري الله من نفسه خيرًا، فيسأل الله : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، فاللهُ قريبٌ: قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ؛ لذلك نحتاج أن نكون صادقين في دعوتنا لله كما قال العلماء، وهذا شرطٌ مهمٌّ جدًّا حتى يحصل الافتقار بين يدي الله ، فإذا حصل الافتقار فالله قريبٌ منا: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
نحن الآن في موسم الصيام، وفي هذا الموسم فرصٌ عظيمةٌ جدًّا، كقوله ﷺ: للصائم دعوةٌ لا تُرَدّ[10]أخرجه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (912).، فرصةٌ عظيمةٌ جدًّا أن نرفع أيدينا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] يعني: قد تنغلق علينا الأسباب المادية، مع أننا نحتاج إليها، لكن لا يجوز أن يكون اتِّكالنا عليها، وإنما توكلنا على الله في كل شيءٍ، لا في أزمة كورونا فحسب، ولا فيما يترتب على هذه الأزمة من الركود الاقتصادي، وقضايا البُعد عن الأهل، فربما يعيش بعض الناس بعيدين عن أهاليهم من أجل الدراسة: كطُلاب المِنَح، أو المُغتربين في بلدانٍ أخرى من أجل لقمة العيش، أو حتى في نفس البلد، فالأُسرة ليست مكتملةً، كلٌّ في بيته ومنزله، وغير ذلك من أمور الحياة والمعاش عمومًا، فتكون هناك حاجةٌ لدعاء الله ، وهناك فرصةٌ ثمينةٌ مع هذه الخلوات ومع هذا الحظر المنزلي في أن نُرِي الله من أنفسنا خيرًا، فتأتي هذه القضايا وهذا الموقف العظيم في أننا نضع حاجتنا بين يدي الله .
وهنيئًا لمَن وُفِّقَ لذلك، تنغلق أبواب الأسباب المادية، ولكن يبقى باب الله مفتوحًا، لكن هل نحن قريبون من هذا الباب فعلًا؟
هذه الآيات تُعيدُنا إلى هذه التربية المُتعلِّقة بأن نأوي إلى ركنٍ شديدٍ، ألا وهو الله ، ونضع حاجاتنا بين يديه.
التربية على تقوية الإرادة
لاحظوا أيضًا قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187]، الآية الأخيرة المُتعلِّقة بقضية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، فهنا ذكر العلماء لفتةً جميلةً نحتاجها في جانب التربية الحقيقية، وهي: كما أن الإنسان يخون غيره قد يخون نفسه، وذلك حينما يفتح على نفسه أبوابًا لا يرضاها الله ، فيقع في المعاصي في مثل هذا الشهر العظيم، وفي مثل هذه الحالة العظيمة المُتعلقة بقضية الصيام.
ولذلك فالإنسان يضبط نفسه، فلا يقع في الحرام من الحلال الذي أحلَّه الله في غير رمضان، فيقع فيه في نهار رمضان، فمن باب أولى أن يضبط الإنسان نفسه؛ فلا يقع فيما حرَّمه الله من المعاصي التي هي حرامٌ في رمضان وفي غير رمضان، وهذه تقوية الإرادة، وهذا درسٌ آخر مُرتبطٌ بقضية التربية على تقوية الإرادة، كقوله ﷺ: فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقلْ: إني صائمٌ[11]أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب: هل يقول: إني صائمٌ إذا شتم، برقم (1904)..
فالقضية أن يضبط الإنسان هذه النفس ويملكها، فكما أنه استطاع أن يمتنع عن الحلال في نهار رمضان، فكذلك يستطيع أن يمتنع عن الحرام في نهار وليالي رمضان، وفي غير رمضان، فرَبُّ رمضان هو ربُّ باقي الشهور.
فكم نحتاج إلى هذه المعاني العظيمة، فلا نخن بأن نفتح على أنفسنا أبواب الحرام؛ لذلك قال في نفس الآية الأخيرة: فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، لا تقربوا حدود الله، يعني: لا تخترقوا أوامر الله ، بل استجيبوا لأوامر الله .
العِلم سببٌ للتقوى
انظروا أيضًا إلى قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، وقوله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [البقرة:187]، وفي هذا دلالة على أن العلم سببٌ للتقوى.
لاحظوا كيف ربط بين كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ فهذا التبيين وهذا التعليم من أجل: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وهذه لفتةٌ رائعةٌ جدًّا فيما يتعلق بالتربية العلمية.
ثم انظروا إلى الآية الأخرى في سورة فاطر، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] يعني: أصحاب العلم هم أكثر الناس خشيةً؛ ولذلك فإن العلم الحقيقي المُؤثر هو الذي يُقربنا إلى الله، لا يُبعدنا عن الله ، وكما جاء عن ابن مسعودٍ : "إنما العلم الخشية"[12]"جامع بيان العلم وفضله" للقرطبي (1/ 758).، وكلما زاد الإنسان علمًا؛ ازداد علمه بجهله، وازدادت خشيته لله .
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا حينما نتربى على آيات الصيام؛ ولذلك انظروا للإنسان حينما يسأل عن بعض أحكام الصيام، وحينما يتعلم أمورًا عديدةً، وحينما يتفقه من خلال آيات الصيام وأحاديث الصيام ويزيد علمًا، فالمفترض أن يزداد تقوى، فالعلم بابٌ عظيمٌ جدًّا للحصول على سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، فكم نحن بأمس الحاجة إلى ذلك؟
أما الذي ينصرف إلى غير العلم النافع: كالفلاسفة، فقد ذكر ابن تيمية في كتابه "الفتوى الحموية الكبرى" كلامًا لفلاسفةٍ كبارٍ دخلوا في قضايا الفلسفة، وهم من أذكياء العالم، حتى كان يقول عبارته: "أُوتوا ذكاءً، ولم يُؤتوا زكاءً"[13]"شرح الفتوى الحموية" للتويجري (616)..
إذن الذكاء ما ينفع في تزكية النفس؛ ولذلك تحدَّث عن بعض عبارات هؤلاء الذين رجعوا في أواخر حياتهم وأنقذهم الله : كالشهرستاني، والجويني إمام الحرمين، والرازي، وقد ذكروا أن كل ما سبق مما ذكرناه لم ينفعهم، بل ضرَّهم، يقول أحدهم: "الآن أموت على عقيدة عجائز نيسابور"، يعني: اللاتي بقين على الفطرة. يقول: "وما استفدنا من الفلسفة وعلم الكلام إلا قيل وقالوا"، وما شابه ذلك.
هؤلاء أذكياء كتبوا وألَّفوا وتحدَّثوا في الفلسفة، ولكنهم ما استفادوا مما طرحته الثقافة اليونانية والإغريقية، ما السبب؟
لأنه علمٌ لا ينفع، علمٌ لم يُقربهم إلى الله، بل أبعدهم عن الله .
فينبغي علينا أن نُدرك العلم النافع؛ ولذلك الرسول ﷺ كان يقول: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا[14]أخرجه أحمد في "مسنده" (26521)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (82).، وفي الحديث: اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع[15]أخرجه مسلم (2722).، فنتنبه لذلك؛ لا الشهادات العليا، ولا ..، ولا ..، إلى آخره، فكم من أناسٍ زادوا في علمهم فضلوا الطريق.
إذن العلم بالله هو طريقٌ لتقوى الله ، فلا بد عندئذٍ أن نسأل أهل الذِّكر: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:43-44].
فالسؤال عن مُراد الله ومُراد النبي هو الذي يُساعدنا؛ ولذلك ينبغي لأصحاب التخصصات المختلفة غير الشرعية أن يُدركوا هذه الحقيقة فيما يرتبط بأهمية التأصيل الإسلامي للعلوم، والتوجيه الإسلامي للعلوم؛ لأنها قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، حتى لا تصرف هذه العلوم القلوب والنفوس والأشخاص والعقول عن مُراد الله ، فيكون الإنسان ربما بلغ مُنتهى العلم، لكنَّه فيما يتعلَّق بقضية قُربه من الله بعيدٌ.
أذكر أنه كان عندنا (بروفيسور) في الجامعة التي كنتُ فيها قديمًا، وقد بلغ في تخصصه مبلغًا كبيرًا، وهو تخصصٌ علميٌّ بحتٌ، فكان يقول: "إلى متى نبقى بهذه الصورة؟! والآن لو نقرأ كتاب الله لا نعرفُه، ولا نُحْسِن تلاوته"، وكانت -فعلًا- لديه إشكاليةٌ في إقامة الحروف والتلاوة، مع أنه رجلٌ عربيٌّ، فيقول: "ما تركنا شيئًا إلا وصلنا إليه، حتى بلغنا مُنتهى الدرجة والمنزلة العلمية"، وكان (بروفيسور)، فجزاه الله خيرًا على تواضعه؛ لقد دخل في حلقة تحفيظ القرآن، وبدأ يُقيم التلاوة بطريقةٍ صحيحةٍ، وكما قيل: لأنْ تصل مُتأخرًا خيرٌ من ألا تَصِل.
مرتبة التقوى
يقول الله : كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، ولقد ذكر العلماء أن في الآية إشارةً إلى عُلو مرتبة التقوى؛ لأن الله ربط هذا التبيان وهذا التبيُّن بقضية التقوى، فالتقوى مرتبةٌ عُليا، مرتبةٌ تعلو كل المراتب التي يبحث عنها الناس اليوم في هذه الحياة الدنيا، وكما قال الله : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، فالدنيا مطلوبةٌ، لكن على قدرها، ولكن لا تنس الأساس، فالقضية الأساسية هي: تقوى الله ، وذلك حينما نقف بين يدي الله، ليس بيننا وبينه ترجمان؛ ستكون القضية مرتبطةً بما يتعلق بهذا الجانب المُرتبط بقضية تحقيق التقوى من عدمها، أو التقصير فيها.
الشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه- في شرح "رياض الصالحين" تناول شيئًا جميلًا من معاني هذه الآيات، وعلى آية حالٍ هناك أشياء ذكرها قد ذكرتُها، ومما لم يُذْكَر قبل قليلٍ: النداء، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183]، انظروا هذا النداء الرباني العظيم؛ لأن الذي سيأتي في التوجيه بعده فيما يتعلق بالصيام يحتاج إلى إيمانٍ.
وكم نحتاج إلى هذه النداءات الرحيمة الجاذبة التي تكون مُشوِّقةً لمن نُوجِّهها إليهم ونُناديهم إلى أن يتأثروا بهذا النداء؛ فيكون هذا النداء طُعْمًا للاستفادة مما يأتي من توجيهٍ.
كم نحن بأمس الحاجة لمثل هذه المعاني التربوية؟
الأجر على قدر المشقة
أيضًا ذكر الشيخ -رحمة الله عليه- عند هذه الآية: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] ما يتعلق بالأجر على قدر المشقة؛ ولأن الصوم فيه مشقةٌ فالأجر على قدر المشقة؛ ولذلك كان الصوم -قبل أن يكون واجبًا- خيرًا.
والشيخ هنا ذكر أن هذه ليست قاعدةً عامَّةً، وهذه مهمةٌ جدًّا، ولكن إذا جاءت الحالة الشرعية وبيَّنت هذه الحقيقة فلا شك أن الإنسان حينما يُمارس العبادة -ولو فيها مشقَّةٌ- يحتسب الأجر؛ لأن الأجر عندئذٍ يكون على قدر المشقة.
فمثلًا جاء التوجيه بأن ما يتعلق بإسباغ الوضوء على المكاره في وقت البرد -كمثالٍ- أنا لا أبحث عن الماء البارد حتى أقع في هذه المشقة، لكنني وجدتُ الماء البارد هو الذي بين يدي؛ فأحتسب الأجر، وأتذكر أن الأجر على قدر المشقة، وعندئذٍ يُصيبني -بإذن الله - فضل الله الواسع.
وذكر أيضًا قبول رُخصة الله في رفع المشقة لما قال : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأنْ يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا.
كما أسأله أن يجعلنا ممن وُفِّقَ إلى الصيام الذي يُحبُّه الله منا، وأنْ يُعيننا وإياكم على تربية أنفسنا وتربية أُسرنا وتربية مجتمعاتنا ومَن نستطيع من خلال استلهام هذه المعاني العظيمة لمدرسة الصوم، فهي فعلًا مدرسة تهذيب النفس كما قال الشيخ عبدالرحمن الدوسري في كتابه العظيم: "مدرسةٌ لتهذيب النفس وتقوية الإرادة".
ولو خرجنا بهذين المعنيين في تهذيب النفس من خلال لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ والمعاني العظيمة التي ذكرناها في قضايا العبادات، والتقوى، وما شابه ذلك -فهي في تقوية الإرادة- أظن أننا سنكون -بإذن الله - من الناجحين في هذا الشهر المبارك.
هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" برقم (2137). |
---|---|
↑2 | أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1424). |
↑3 | أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، برقم (682)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" برقم (1960). |
↑4 | أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1888)، وقال محققه: إسناده جيدٌ. |
↑5 | أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي ، برقم (3560)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب مُباعدته للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حُرماته، برقم (2327). |
↑6 | "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للشنقيطي (8/ 249). |
↑7 | أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/ 80). |
↑8 | أخرجه مالك في "الموطأ" (695). |
↑9 | أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2137). |
↑10 | أخرجه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (912). |
↑11 | أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب: هل يقول: إني صائمٌ إذا شتم، برقم (1904). |
↑12 | "جامع بيان العلم وفضله" للقرطبي (1/ 758). |
↑13 | "شرح الفتوى الحموية" للتويجري (616). |
↑14 | أخرجه أحمد في "مسنده" (26521)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (82). |
↑15 | أخرجه مسلم (2722). |