المحتوى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في برنامجكم الأسبوعي: "أسس التربية"، برنامجكم المباشر من قناتكم قناة "زاد" العلمية الفضائية.
الهوية
تبقى قضية التربية بشموليتها التي تناقشنا فيها في لقاءاتٍ سابقةٍ تحتضن قضايا عديدةً، ولعلنا نتحدث في هذه الليلة عن قضيةٍ من القضايا المهمة جدًّا، وهي مرتبطةٌ بالإنسان، ومرتبطةٌ بالأسرة، ومرتبطةٌ بالمجتمع، ومرتبطةٌ بالأمة، ألا وهي: قضية الهوية.
معنا في هذا اللقاء سعادة الدكتور: عبدالله بن ناصر الصبيح، أستاذ علم النفس المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود.
حياكم الله يا دكتور عبدالله.
الضيف: الله يُحييكم، ويُبارك فيكم.
المحاور: وفيكم على استجابتكم لنا في هذا اللقاء، الله يحفظكم.
لعلنا نبدأ يا دكتور عبدالله فيما يتعلق بالعنوان: ما الهوية؟
الضيف: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أولًا: أُهنئكم باختيار هذا العنوان، وبحث هذه القضية: الهوية، فهذا من الموضوعات المهمة، فهو موضوعٌ يدرسه عددٌ من التخصصات: يدرسه عالم السياسة، وعالم التربية، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، وعالم الشريعة، كلهم يدرسون هذا الموضوع ويتناولونه.
المحاور: وعالم اللغة.
الضيف: وعالم اللغة يتناوله، ويُعنى به أيضًا أصحاب العمل، فالتربوي والمعلم والسياسي والمُربي كل هؤلاء يُعنون بقضية الهوية، فموضوع الهوية في غاية الأهمية.
فقضية الهوية ما كانت تُبحث في الماضي بهذه الصورة، الآن أصبحت موضوعًا يُعنى به ويُدرس، وكانت في الماضي موضوعًا عامًّا، ولم تكن هناك تحدياتٌ تُواجهها، ولا تصوراتٌ بديلةٌ لها، فكان الناس يقبلون الشخص ما دام أنه مسلمٌ، وهذه هُويته من طنجة حتى جاوه، ومن سمرقند حتى عدن.
المحاور: هذا كان فارضًا نفسه.
الضيف: كان هذا المفهوم مُستقرًّا في أذهان الناس، ولا شك أن هذا شيءٌ عظيمٌ حينما يعيش ربع الكرة الأرضية بهويةٍ واحدةٍ، وأيضًا مُهدِّدٌ للطرف الآخر، فلا بد من تفتيته.
المحاور: لكن يا دكتور قضية الاستقرار الذي كان في هذا الموضوع تُحيله إلى ماذا؟ إلى قلّة التحديات والمخاطر؟
الضيف: لا، الناس استقرَّ في أذهانهم أنهم مسلمون.
المحاور: من عمق التربية والتأثير الذي حصل في تلك الفترة؟
الضيف: نتيجة للانتماء للأمة الإسلامية، هذا شعور الناس؛ ولهذا تجد الشخص يخرج من منطقةٍ نائيةٍ إلى منطقةٍ أخرى، فيُمارس فيها دور المعلم، ودور السياسي، ودور المُربي، ودور الاقتصادي، وما شئتَ من الأدوار.
خذ مثلًا: محمد الخضر حسين رحمه الله، عالمٌ تونسيٌّ كبيرٌ انتقل إلى مصر، وأصبح شيخ الأزهر، لم يجد المصريون غضاضةً في أن يتولى هذا العالم المشيخة عندهم.
وخذ مثالًا آخر نحن عشناه في تجربتنا: في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله انتقل محمد عبدالرزاق حمزة وشيخه أبو السمح في عام 1344ه إلى مكة حاجّين، ثم استقرَّا في مكة وأصبحا إمامين في الحرم.
مثالٌ آخر: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
المحاور: وهما ...
الضيف: وهما مصريان، وما زالت عوائلهم إلى الآن تعيش هنا، أصبحوا من أهل هذه البلاد.
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله انتقل إلى هنا حاجًّا من موريتانيا، ولم يجد العلماء في هذه البلاد غضاضةً في أن يتتلمذوا عليه، ويتعلموا منه، ويُصبح علمًا من أعلامهم.
والشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمه الله انتقل إلى هنا، وأصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء، وأستاذًا، وشيخًا لمشايخنا، وكان نائبًا لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز.
فهذه الهوية الواسعة بهذه الخصوبة، وبهذه الضخامة، وبهذه السعة لا شك أنها تُعطي قوةً للأمة؛ ولهذا كان التحدي الذي يُواجه الخصم هو تفتيت هذه الهوية، فطرح على العثمانيين الذين يسكنون تركيا -كان اسمهم: العثمانيين- طرح عليهم من خلال بحوث (أنثروبولوجيا)، ومن خلال دراساتٍ، قالوا لهم: أنتم أتراكٌ. فقالوا لمَن يُحدِّثهم من المستشرقين ومن الباحثين: الله يبارك فيكم لا تشغلونا بقضية الأتراك، فنحن نعرف شعب الأتراك، أجدادنا كانوا مُتوحشين، فلماذا تُرجعونا إليهم؟! فما زالوا بهم حتى أقنعوهم بأنهم أتراكٌ، وأصبحت الهوية التركية تُواجه الهوية الإسلامية، ثم حصل ما حصل.
المحاور: هذا مدخلٌ يا دكتور عبدالله تريد أن تصل منه إلى قضية: ما الهوية؟
الضيف: أستطيع أن أقول لك: الهوية هي التصور الناشئ من الانتماء لجماعةٍ معينةٍ، حينما أنتمي إلى جماعةٍ معينةٍ: إلى جماعة المسلمين، أنتمي إلى الشعب السعودي؛ ينشأ عندي تصورٌ جزئيٌّ عن تعرفي لذاتي، فأنا الآن مسلمٌ، وأنا الآن بانتمائي إلى العرب عربيٌّ، وأنا الآن بانتمائي إلى السعودية سعوديٌّ، فكل هذه هويات.
وهذه الهويات يمكن أن تكون مُتعاضدةً ومتَّحدةً غير متعارضةٍ، فيعيش الناس في تناغمٍ، ويشعر الشخص -وقد اجتمعت فيه هذه الهويات- بنوعٍ من السواء والاستقرار، ولا يجد مشكلةً في كونه عربيًّا، أو مسلمًا، أو سعوديًّا.
المحاور: كون التناغم قد حصل بين هذه الأشياء كلِّها؟
الضيف: لأن هذه ليس بينها تعارضٌ، لكن حينما تُصبح العروبة (أيدلوجية)، أو السعودية (أيدلوجية) فهي تتعارض مع (الأيدلوجيات) الأخرى، فيحصل تصادمٌ، ويحصل قلقٌ، وتحصل أزمةٌ من أزمات الهوية.
ولذلك ينبغي أن تُقدم هذه الهويات المتعددة بطريقةٍ سليمةٍ، بطريقةٍ سلسةٍ، بطريقةٍ تتفق مع الهويات الموجودة في المجال الحضاري، أو في المجال الاجتماعي.
المحاور: وأيضًا نحتاج إلى وقاية هذا المجتمع، ووقاية هذه الحضارة مما يُناقض قيمَها ومبادئها؛ حتى لا يحصل الاضطراب في أفرادها، أليس كذلك؟
الضيف: لا شك في ذلك، فالهوية حينما تقول: أنا مسلمٌ، أو أنا سعوديٌّ، أو أنا عربيٌّ.
المحاور: تعريف الإنسان لنفسه.
الضيف: نعم، أو تنزل إلى مستوى القبيلة، أو إلى مستوى المدينة فتقول: أنا عنزي، عتيبي، دوسري، قحطاني، كل هذه الهويات تُحدد لك مَن أنت؟ وتُحدد لك مَن لستَ منهم.
المحاور: إذن تُميز الإنسان عن غيره.
الضيف: هي تُميزك عن غيرك، وتربطك بغيرك.
المحاور: يعني: شقها ذاتي في إطار مجتمعي.
الضيف: في إطار مجتمعي، فهي تربطك بفئةٍ، وتُميزك عن جهةٍ أخرى، فأنت بناءً على هذه الهوية تتصرف وتسلك سلوكًا معينًا ترى أنه يتفق مع هذه الهوية، وتتجنب سلوكًا آخر ترى أنه لا يتفق مع هذه الهوية.
أيضًا الهوية تُحدد لك مَن أنت؟ وتُنظم لك الدور الذي تعمله، أنت الآن: أبٌ، معلمٌ، تربويٌّ، مديرٌ، جارٌ، الهوية تُحدد لك هذا الدور.
المحاور: أنت رجلٌ، أو أنت امرأةٌ كذلك.
الضيف: تضع لك منظومةً من القيم، ومنظومةً من السلوكيات تقتضيها الهوية، وتُحدد لك أشياء أخرى تطلب منك الهوية أن تتجنبها.
المحاور: جميلٌ، إذن يا دكتور عبدالله لما يقول الله : وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] فلو مارست المرأةُ دور الرجل الذي يتميز به، أو العكس، فنقول هنا: قد اهتزت الهوية من طرفٍ تجاه الطرف الآخر؟
الضيف: نعم، تكون الهوية (الجنسية) قد اهتزت.
لكل هويةٍ (الجنسية) دورها الذي يُناسبها
المحاور: لكل هويةٍ (الجنسية) دورها الذي يُناسبها؟
الضيف: الذي يناسبها، فالهوية موضوعٌ ثريٌّ، موضوعٌ تاريخيٌّ، موضوعٌ شرعيٌّ، موضوعٌ اجتماعيٌّ، موضوعٌ نفسيٌّ، موضوعٌ سياسيٌّ، موضوعٌ عميقٌ جدًّا جدًّا جدًّا نحتاج إلى دراسته، ونحتاج إلى تناوله.
والآن في هذا العصر الذي نعيشه: عصر العولمة الذي يريد أن يُفكك الهويات، ويقضي عليها، ويُنتج هويةً واحدةً ذات سلوكٍ واحدٍ نحتاج أن ندرس الهوية، ونحتاج أن نتشبث بهويتنا.
اليوم عندي أحد الطلاب في الجامعة يتحدث معي، ومتأخرٌ، والغياب، وما الغياب؟ وتعرف هذه القضايا التي نعيشها يوميًّا مع الطلاب، فوجدتُ في يده بعض الأساور حاول أن يُخفيها عني، فقلت: لا، دعني أرى.
المحاور: مجرد أنه حاول أن يُخفيها عنك فهذا دليلٌ ومؤشرٌ على أنها خلاف الهوية التي ينتمي لها.
الضيف: خلاف الهوية، ودليلٌ على خيرٍ فيه، فهو أراد أن يُخفيها، فقلت له: ما هذا يا بُني؟! هذا لا يليق بك. فقال: أعدك أن أُغير، وكذا، وكذا.
لكن أنا أتجاوز هذه الحادثة لأتحدث عن مضمونها: هذه الحادثة هي سلوكٌ مستوردٌ، ربما يوجد في نيويورك، وفي لندن، وفي واشنطن، وفد إلينا من خلال الأفلام، ومن خلال الهوائيات، ومن خلال وسائل الاتصال الهائلة الرهيبة.
فهذه تحاول أن توجد نمطًا للشخصية، ونمطًا للسلوك منفصلًا عن الجغرافيا، ومنفصلًا عن القيم، ومنفصلًا عن المجتمع، وإنما هو هذا الإنسان يمكن أن يلبس نفس اللباس في نيويورك وواشنطن والرياض ونواكشوط، وفي أي بلدٍ، لباسٌ واحدٌ، يمكن أن تكون لك قصةٌ واحدةٌ، فهو شخصٌ مُنقطعٌ عن الجذور، منقطعٌ عن الجغرافيا، منقطعٌ عن الثقافة، شخصٌ تقريبًا له هويةٌ مُحيَّدةٌ.
المحاور: جميلٌ، لنا عودةٌ يا دكتور لهذا الكلام الجميل؛ لأن معنا اتصالًا من الدكتور: تركي العطيان، رئيس قسم علم النفس بجامعة الإمام.
حيَّاك الله يا دكتور تركي.
المتصل: يا أهلًا وسهلًا، ويا مرحبًا بك.
المحاور: حياكم الله، يا مرحبًا، وجزاكم الله خيرًا، وشكرًا على استجابتكم للمشاركة، بارك الله فيكم.
نحن مع الدكتور عبدالله الصبيح في كلامٍ حول الهوية، وكونك رئيسًا لقسم علم النفس بجامعة الإمام، وأيضًا كنت في الأسبوع الماضي في الندوة الدولية، فلو تحدثت عن هوية علم النفس وما يتعلق بها في الوطن العربي، هذا العلم المهم الذي ربما قضية الهوية أوجدت لها مساراتٍ عديدةً، فهلا تحدثتم لنا حول هذا الموضوع، بارك الله فيكم؟
المتصل: أولًا: سعيدٌ بوجودي معكم، وأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الضيف: وعليكم السلام، مسَّاكم الله بالخير يا دكتور.
المتصل: أهلًا، طال عمرك، ولا يُفتى ومالكٌ في المدينة.
المحاور: جزاك الله خيرًا.
الضيف: ما شاء الله، تبارك الله، الله يُبارك فيك، ويُثيبك.
المتصل: أنت رجلٌ فاضلٌ، وفيك خيرٌ وبركةٌ، ومن الأعمدة الموجودة عندنا في القسم، وخير مَن يتحدث عن الهوية، ويضبط الجانب العربي والجانب الإسلامي قبل كل شيءٍ، هو الدكتور عبدالله.
لا بد أن أُشير إلى الأساتذة في قسم علم النفس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، من سعوديين ومُتعاقدين، وهم يحرصون على عكس الصورة الإيجابية لمنهجنا الإسلامي الشرعي الديني.
هوية علم النفس العربي
وطبعًا الدكتور عبدالله أخبركم بشيءٍ من هذا، وكنا حريصين جدًّا في الندوة -لما كانت موجودةً- على عرض الهوية العربية بشكلٍ عامٍّ كشخصيةٍ أساسيةٍ لها سماتها الأساسية، ومنها: هوية علم النفس العربي، وهوية الشخص العربي.
فيُمكن أن أتحدث قليلًا قبل أن أعرف الإجابة عن الندوة التي تمت الأسبوع الماضي، ولا أدري هل الدكتور عبدالله تكلم عنها أم لا؟ ولكنها كانت على المدة.
المحاور: الدكتور صالح الصنيع كان معنا الأسبوع الماضي على الهواء في مداخلةٍ، وتحدث عن الندوة بشكلٍ عامٍّ.
المتصل: ممتازٌ جدًّا، إذن لن ندخل في هذا الأمر، لكنها كانت عن الهوية العربية الإسلامية، وهذا كان جانبًا من اتجاهات وأهداف جامعة الإمام لتصحيح بعض المفاهيم.
وكان الدكتور عبدالله يتحدث عن الجذور العربية والجذور الإسلامية منذ قليلٍ.
طبعًا الهوية الإسلامية والهوية العربية لعلم النفس العربي تأسست في العموم على جانبٍ غربيٍّ في البدايات، أما الآن فقد أصبح الدكتور عبدالله وأمثاله -بارك الله في الجميع، وأطال الله في عمرهم وعلمهم- أصبحوا يهتمون بجانب التأصيل الإسلامي للجانب النفسي، وعلم النفس العربي.
فأصبح أي أمرٍ يتم في النظريات الغربية نجد له أساسًا أو دلالةً قويةً أو دلالةً مُبطنةً سبق لها الإسلام، لكن لا نقول: إنه علم نفسٍ بحتٍ -بلا شكٍّ-، لا نحصر الدين الإسلامي في علم النفس، لكن يتماشى مع ما تُريده الجامعة وأهدافها في تدريس الطلبة.
وسمعت الدكتور عبدالله يتحدث عن الشباب، وعن الجذور، وعن سمات الشخصية العربية، ونحن طبعًا نحرص في نظرياتنا وعلومنا الإنسانية بشكلٍ عامٍّ، وعلم النفس بشكلٍ خاصٍّ، وأيضًا في جامعة الإمام بشكلٍ أدقّ وأشمل نحرص على أن نهتم بالجانب النفسي أو التأصيل الإسلامي في إعطاء النظريات وتأصيلها، نعم نأخذ من الغرب، ولكن سياسة الدولة ومجلس الوزراء في التعليم ألا يُخالف الدين الشرعي، ويتماشى معه.
فنحن نؤيد ما يتماشى مع الدين الشرعي، ونرد على ما لا يتماشى معه، وبالتالي علم النفس العربي في بعض الجامعات قد ينحى منحًى غربيًّا، لكن -ولله الحمد- لاحظتم من خلال المؤتمرات، ومن خلال الندوة التي تمت في جامعة الإمام أنه يأخذ المنحى الإسلامي الشرعي، أو يتكلم في إطارٍ شرعيٍّ بشكلٍ عامٍّ.
المحاور: يعني يا دكتور تركي -بارك الله فيك- هل تعني من كلامك الأخير أن هناك وعيًا في هذه القضية؟
المتصل: جدًّا.
المحاور: وبصورةٍ متقدمةٍ؟
المتصل: نعم، الوعي كان موجودًا، لكن نحن نحتاج إليه في هذه الأيام حتى لا يغرب علمنا، ولا نقول: غرب -ولله الحمد-، ولكننا نريد أن نأخذ طاقةً جديدةً لتوعية الجمهور المتعلم، ولتوعية الأساتذة المختصين: أن في شريعتنا ما يدعم مثل هذه النظريات، ويتماشى معها، ونرد على ما لا يتماشى معها بطريقةٍ معينةٍ؛ لبناء شخصية أبنائنا، وموادنا العلمية، والتربية في المنزل، والمناهج الدراسية، وغيرها من هذه الأمور حتى تخرج لنا هويةٌ.
أعطيك مثالًا واضحًا جدًّا: الآن على وسائل التواصل الاجتماعي تُهدم شخصية أطفالنا، وهي النواة الأولى لبناء الشخصية أو الهوية، أقول: السعودية تتوافق مثل السعودي، وفي إطارٍ شرعيٍّ، وفي إطارٍ عربيٍّ، وفي إطارٍ إسلاميٍّ أيضًا بشكلٍ عامٍّ.
فنريد أن نُنبه الآباء والأمهات والأساتذة والمعلمين إلى أننا نُغزى بطريقةٍ سهلةٍ، غير مُكلِّفةٍ، سهلةٍ جدًّا في ترويض أبنائنا، وفي تشكيل هوياتهم، فنحن نريد أن نُوعِّي الجمهور ونُحفزهم إلى هذا الأمر.
المحاور: جزاك الله خيرًا يا دكتور تركي على هذه الإطلالة الطيبة، وشاكرين لكم المشاركة، وبارك الله فيكم، وأعانكم الله على مسؤوليتكم، فأنتم روَّاد تخصص علم النفس، والقادة في هذا المجال، والمسؤولية عليكم كبيرةٌ في تحقيق الهوية في هذا العلم المهم، وبارك الله في جهودكم، ونشكركم شكرًا جزيلًا.
شكرًا دكتور تركي، ونعود أيها الإخوة إلى الدكتور عبدالله.
دكتور عبدالله، هل لكم تعليقٌ على كلام الدكتور تركي؟
أول مَن مارس علم النفس
الضيف: جزى الله الدكتور تركي خيرًا، فهو زميلٌ عزيزٌ، وله باعٌ في هذا التخصص، وهو الآن يقود مركبة قسم علم النفس، وهي قيادةٌ مهمةٌ، ما شاء الله، تبارك الله، نسأل الله له التوفيق والسداد.
ما ذكره من قضية الهوية مما أنعم الله به علينا في قسم علم النفس، وهي موجودةٌ بشكلٍ ضعيفٍ في بعض الجامعات، لكن نحن عندنا في القسم ثلاثة مقررات على مستوى (البكالوريوس) كلها تُعنى بالتأصيل الإسلامي في علم النفس.
المحاور: ما زلتم تخرجون (بكالوريوس علم نفس)؟
الضيف: نعم، نخرج (بكالوريوس علم نفس)، وعندنا ثلاثة مقررات يدرسها الطلاب لمدة تسع ساعات خاصة بتأصيل الهوية.
المحاور: يمكن أن تُعطونا العناوين؟
الضيف: عنوان المقرر الذي يدرسه الطلاب في المستوى الرابع: التراث النفسي عند علماء المسلمين، فيدرسون ما قدَّمه ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي، والحارث المُحاسبي، والماوردي، وابن الجوزي، وابن سينا، وغيرهم، فيأخذون كمًّا طيبًا.
ويدرسون بعض الأوَّليات التي سبق إليها علماؤنا، مثلًا: الآن الطلاب يدرسون في جميع أقسام علم النفس: أن أول مَن أجرى التجريب في علم النفس هو (فونت) في عام 1889م، وأنت درست هذا.
المحاور: وهو أول مَن مارس العملية، ونُسبت إليه القضية.
الضيف: لما درسنا في التراث وجدنا أن ابن الهيثم سبق (فونت) بثمانمئة سنة، فقد أجرى تجارب عن الإدراك الحسي، وعن أخطاء الإدراك، وهي موجودةٌ في كتابه "المناظر".
المحاور: مثل: قصة (بافلوف) فيما يتعلق باللعاب، بينما أبو حامد الغزالي وُجد له نصٌّ في هذه القضية، وقد سبق (بافلوف).
الضيف: أبو حامد الغزالي في قضية الارتباط الشرطي، وإن كان لي فيها وجهة نظرٍ.
المحاور: ليس هذا مكانها.
الضيف: نعم.
لكن خذ مثلًا: ابن القيم له نظريةٌ في الإرشاد النفسي، وفي دراسة الشخصية، وسابقةٌ جدًّا، ونحن ندرس جزءًا من نظرية ابن القيم عند (ماكو مبوم) أحد علماء نظرية الإرشاد، وأحد المُنظِّرين للإرشاد النفسي، ولكن ابن القيم قد سبق إليها بزمنٍ.
المحاور: هذا في مقرر التراث.
الضيف: هذا في مقرر التراث، وقد تحدث أبو زيد البلخي عن تصنيف الأمراض النفسية، وفرَّق بين الاكتئاب العصابي والاكتئاب الذهاني، وسبق إلى العلاج المعرفي السلوكي قبل أن ...
المحاور: يا سلام، قبل أن تأتي النظرية المعرفية.
الضيف: قبل أن تأتي النظرية المعرفية بتسعمئة سنة، أو بألف سنة، فالطلاب يدرسون هذه القضايا في هذا الموضوع.
المحاور: والمقرر الآخر يا دكتور؟
الضيف: المقرر الآخر: مدخل إلى التأصيل الإسلامي لعلم النفس، تُدرس فيه نظرية المعرفة الإسلامية، وكيف ينبغي أن تبني هذا العلم على تصورٍ إسلاميٍّ؟
المحاور: والمقرر الثالث؟
الضيف: المقرر الثالث: بعض الدراسات التي أجراها باحثون مسلمون معاصرون أو غير مُعاصرين عن التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
المحاور: جزاك الله خيرًا يا دكتور عبدالله.
أزمة الهوية
حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا إلى موضوعنا "الهوية".
دكتور عبدالله، لا شك أن الهوية وما يتعلق بقضية أزمة الهوية والشباب، وما يرتبط بالتحديات المتعلقة بالهوية، وبالذات قضية الأقليات المسلمة، لو أنكم حدثتمونا حول هذه القضايا، بارك الله فيكم.
الضيف: الهوية يمكن أن تمر بأزمةٍ ليس فقط عند الشاب، بل عند الشاب والشيخ الكبير والمرأة، وكذا، كلهم يمكن أن يمروا بأزمة هويةٍ، ليست أزمة الهوية التي تحدث عنها أركسون، أزمة الهوية عند المراهق لا يدري ماذا يفعل؟ لا، ليس هناك أزمةٌ واحدةٌ، بل هناك أزمات.
المحاور: يا سلام! مصدرها الصراع؟
الضيف: لها عددٌ من المصادر حينما تتعدد الهويات وتتناقض.
وقد قام باحثٌ أمريكي -أظنه مسلمًا، وهو أسود من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية- بعمل بحثٍ عن الهوية عند الأمريكيين من أصولٍ إفريقيةٍ، فوجد أن عندهم هويةً ثلاثية الأبعاد، فهو له هويةٌ باعتباره أمريكيًّا، وله هويةٌ باعتباره مسلمًا، وله هويةٌ باعتباره إفريقيًّا، أو من ذوي البشرة السوداء، فهذه الهويات أحيانًا تتناقض وتتعارض، فالهوية الأمريكية هي هويةٌ مفروضةٌ عليه، ربما تُشكّل هذه الهوية ولا بد أن ...
المحاور: بحكم الجنسية.
الضيف: بحكم الجنسية، لكنها تتبنى مفاهيم معينةً، وقضايا معينةً.
المحاور: تُخالف الأولى والثانية.
الضيف: قد تتضمن شيئًا من احتقار ذوي البشرة السوداء، فيها قدرٌ من العنصرية، وقد يكون فيها عدم إتاحة الحرية -أحيانًا وليس دائمًا- للمسلم لكي يُمارس شيئًا من دينه، فيعيش نوعًا من الصراع.
المحاور: مع ادِّعاء الديمقراطية.
الضيف: يعيش شيئًا من الصراع، ليس دائمًا، ولكن هذا موجودٌ، هذه دراسةٌ اطلعت عليها، ربما لها خمسٌ وعشرون سنةً، وتحدث عن هذا الموضوع.
نأتي الآن إلى الموجود عند الأقليات المسلمة في أوروبا.
المحاور: وهذه قضيةٌ والله يا دكتور تأتينا.
الضيف: في أوروبا بالذات، وربما أكثر من أمريكا، حينما يعيش الشاب هويته يُصنف نفسه، ويعرف نفسه باعتباره مسلمًا، ويريد أن يُمارس شيئًا من هويته، مثلًا: الفتاة تريد أن تُمارس شيئًا من حجابها، وحجابها ليس كما قال البعض: مجرد خرقةٍ، لا، ليس خرقةً، هو جزءٌ من هويتها، فحينما تريد أن تمارس هذا الشيء، أو يريد المسلم أن يُمارس شيئًا من صلاته، أو شيئًا من شعائره، ويُضيق عليه في ذلك، أو يُمنع من ذلك؛ فيحصل صراعٌ.
المحاور: أو يُستهزأ به.
الضيف: يحصل صراع هويةٍ، هذا الصراع ...
المحاور: هذه الأزمة.
الضيف: هذا الصراع يُوجِد أزمةً عند الشاب، فالآن هل أنا فرنسيٌّ أم مسلمٌ؟
وصاحب القرار يضع أمامي خيارًا يضعني في مكانٍ ضيقٍ جدًّا: إما أن تختاري أن تكوني فرنسيةً، أو تختاري أن تكوني مسلمةً، مع أنها يمكن أن تكون فرنسيةً مسلمةً، ليست هناك مشكلةٌ، فقط أَتِحْ لي الحرية، أريد أن أُمارس شيئًا من عبادتي، أمارس شيئًا من إسلامي، أمارس شيئًا من هويتي، وحينئذٍ لن أجد صراعًا مع الهوية.
هذا مصدرٌ من مصادر الصراع، مصدرٌ من مصادر أزمة الهوية.
مصدرٌ آخر من مصادر أزمة الهوية: حينما تتعرض مصادر الهوية لشيءٍ من التنقص، والازدراء، وتقليل القيمة من مصادر الهوية، ومن مُمارساتها: المسجد، دراسة القرآن، دراسة العلم الشرعي، ممارسة النشاط الإسلامي، حينما تتعرض هذه لشيءٍ من التقسيم، أو التضييق، أو كذا، فيشعر الشاب بالإحباط، مع أنه يمكن أن يكون مسلمًا، وأن يكون عربيًّا سعوديًّا، مصريًّا، مغربيًّا، سوريًّا، كويتيًّا، يمنيًّا، أيًّا كان، ليس هناك تعارضٌ.
لكن حينما يوجد قرارٌ، فيُضيق على مثل هذه المصادر، وعلى هذه المُمارسات؛ يحصل صراعٌ مع الهوية، ويوجد قلقٌ قد يتحول إلى نوعٍ من اللامبالاة بالهوية، ونوعٍ من العزلة، ونوعٍ من الهروب من مواجهة الواقع، ونوعٍ من العنف، ونوعٍ من التمرد على الهوية، فهذا مصدرٌ من مصادر النزاع، ومصدرٌ من مصادر القلق، أو من مصادر أزمة الهوية.
المحاور: دكتور عبدالله، أنت الآن وصفتَ وصفًا واضحًا جدًّا، وشخَّصْتَ ما يتعلق بأزمة الهوية عند الأقليات التي وصلت إلى مستوى أن المسلمين لا يستطيعون أن يجدوا حتى المدارس في البلاد الأوروبية، والبنت التي تصل إلى المدرسة ينبغي أن تنزع حجابها، هي قد تلبسه في الشارع مع الاستهزاء، لكن تنزع حجابها في الداخل.
ولا توجد هناك فرصٌ في المدارس وفي التعليم في المرحلة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية إلا بالمدارس التي تدرس العقيدة المتعلقة بتلك البلد، وكذلك بالاختلاط، وما شابه ذلك.
طيب، هذه الصورة التي ذكرتها من القلق، وما ينتج عنها من انسحاباتٍ، أو من هروبٍ، أو من إفراطٍ، أو تفريطٍ، أو ... إلى آخره من الأشياء التي قد تكون منتجةً للحقيقة، ونتاجًا لهذا القلق، ولهذا الأمر، ولهذه الأزمة، كيف يمكن أن يُعالج مَن يعيش هذه الأزمة أزمته؟
الضيف: ليس هناك علاجٌ إلا بإتاحة قدرٍ من الحرية لممارسة هذه الهوية.
الجمع بين هويتين
المحاور: هذا خطابٌ لأصحاب القرار؟
الضيف: نعم، نعم، ليس هناك سبيلٌ آخر، يعني: حينما تفرض عليَّ وتُلزمني بحلق لحيتي -لو فرضنا قرارًا بهذا الشكل- أو تُلزم المرأة بنزع حجابها، أنت تجعل من شخصيتها شخصيةً مزدوجةً، تعيش نوعًا من التناقض، فهويتها في المدرسة فرنسيةٌ، وهويتها في الشارع أو في البيت مسلمةٌ.
لماذا لا يجمع بين الهويتين بمنح شيءٍ من الحرية على المستوى الشخصي؟!
هذا لا يؤثر في الهوية العامَّة للبلد، فرنسا مثلًا، أو بلجيكا، أو غيرها من البلاد التي اتخذت شيئًا من هذا القرار، سوف تبقى علمانيةً، سوف تبقى مسيحيةً، هذه الهوية الكبيرة للبلد سوف تبقى، لن تؤثر عليها تلك الممارسة من أقليةٍ قد لا تصل إلى 15% من الشعب يُمارسون شيئًا من هويتهم.
فهؤلاء بدلًا من أن يعيشوا تلك الأزمة، سيعيشون بقدرٍ من الراحة، وسيكونون إضافةً إلى البلد، وسيكونون عاملًا مُساهمًا في البناء، بدلًا من أن يكونوا جزءًا قلقًا داخل المجتمع.
المحاور: هذا الخطاب العقلي، وهذا التصور الذي يستجيب له العقلاء، لكن لو لم يحصل هذا الأمر يا دكتور، وبقي المسلم في مثل تلك الظروف، وبقيت الأزمة، السؤال الذي يردنا، فأنا تأتيني استشاراتٌ في هذا الجانب من الدول الأوروبية يا دكتور عبدالله: كيف يستطيعون أن يخرجوا من هذه الأزمة كأشخاصٍ يشعرون بالقلق، أو كآباءٍ وأمهاتٍ ومُربين بالنسبة لأبنائهم؟
الضيف: هناك قضايا لا تستطيع أن تحلها باعتبارك فردًا؛ لأنها قضية أمةٍ، قضية جماعةٍ، ليست قضية فردٍ، مثل هذه القضية ليست قضية فردٍ.
المحاور: يعني نقول: اصبروا؟
الضيف: أنت على المستوى الشخصي قد تقول لفتاتك أو لابنك أو لفلانٍ: تحمَّل واصبر، وأنتِ يا ابنتي مرفوعٌ عنك الحرج في الشريعة الإسلامية، أعطيت حلولًا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أنتِ إذا رحتِ المدرسة انزعي الحجاب، وإذا خرجتِ البسي الحجاب.
هذا حلٌّ على المستوى الشخصي، لكن هذا لا يُعالج المسألة، المسألة سوف تبقى، فليست المسألة مسألة فردٍ، المسألة في مثل هذا تحتاج من الأقلية المسلمة إلى أن تُنظم نفسها، وأن تبدأ حوارًا مع أصحاب القرار.
أيضًا هناك حلٌّ آخر: هناك مؤسساتٌ إسلاميةٌ دوليةٌ، هناك "رابطة العالم الإسلامي"، و"منظمة التعاون الإسلامي"، وهناك دولٌ إسلاميةٌ، فينبغي أن يوجد حوارٌ مع تلك الدول بشأن هذه الأقليات التي تعيش وضعًا صعبًا، وتعيش قلقًا، ويقال لهؤلاء: ليس من مصلحتكم إطلاقًا أن تُهمِّشوا جزءًا من شعبكم.
أثر التهميش على الأجيال الناشئة
المحاور: إذن يا دكتور عبدالله ترى أنت أن هذا التوتر وهذا القلق وهذه الأزمة مُؤثرةٌ على الأسرة، ومؤثرةٌ على الفرد تربويًّا؟
الضيف: لا شكَّ في ذلك.
المحاور: مؤثرةٌ بشكلٍ كبيرٍ.
الضيف: جدًّا، جدًّا، وهذه ربما تُفسر لنا ذلك الغضب الذي تجده عند بعض الشباب المسلم، وعند بعض الفتيات المسلمات في أوروبا، مما يجعلهم يستجيبون لدعواتٍ خاطئةٍ، لدعواتٍ مُضرةٍ بهم، ومُدمرةٍ لهم، حينما يذهب إلى داعش، هذه كارثة! حينما أجد أبناء المسلمين يذهبون ويتحولون إلى قتلةٍ، وإلى أناسٍ لا يُبالون بالقيم الإنسانية.
فالإسلام جاء لاحترام الإنسان، وجاء لحفظ كرامة الإنسان، سواء كان مسلمًا، أو كان كافرًا: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].
فحين يتحول شابٌّ غريرٌ، صغير السن، قليل الخبرة، قليل التجربة إلى شخصٍ آخر لا يُبالي بالقيم الإنسانية، فهذه كارثةٌ كبيرةٌ جدًّا، وليست من مصلحة البشرية، وليست من مصلحة المجتمع إطلاقًا.
المحاور: أنت تقول: ربما يكون هذا من أسباب تلكم الأزمة، ليس تبريرًا لأفعالهم، ولكن ...
الضيف: لا، لا، نحن ندين هذه التصرفات، ولا يمكن أن نرضاها، ونرى أن هؤلاء مجرمون، هؤلاء الذين يقتلون ويُفجرون.
المحاور: ولكنه تشخيصٌ للوضع الموجود.
الضيف: نحن نُشخِّص ونصف ونقول لهؤلاء: أنتم مجرمون. ويكفي أن الرسول وصف الخوارج وأمثالهم بأنهم "كلاب النار"[1]أحمد في "مسنده" (19130)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3343)..
المحاور: يعني: سبحان الله يا دكتور!
الضيف: وإن كنت أعتقد أن الخوارج على ضلالهم أكرم من هؤلاء، فأولئك مع انحرافهم ومع ضلالهم عندهم دينٌ، أما هؤلاء فلا دينَ عندهم، أعوذ بالله.
تعدد الهوية
المحاور: إذن يا دكتور نحن نقول في بعض الأحيان: الواحد منا قد يمر بضائقةٍ من أمره في لحظةٍ من اللحظات، ولو رجع وقارن بين هذه اللحظة ولحظاتٍ أخرى قد يكون غير ذلك، قد يقول: سبحان الله العظيم! فكيف بمَن يعيش مثل هذه الأزمات؟!
فنقول: إن الأسر المسلمة هناك ينبغي أن تُساعد نفسها من أجل أن ترعى أجيالها هناك ممن ابتُلوا بأن يعيشوا في تلكم الدِّيار.
طيب، يا دكتور، موضوع تعدد الهوية هل هو خطرٌ على الشخص؟
الضيف: لا، هو خطرٌ إذا تناقضت الهوية، إذا كنت أعتقد أن هويتي الإسلامية تتناقض مع هويتي السعودية؛ فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا، هذا تناقضٌ، هذا خطأٌ: إما في تقديم الهوية لي، أو في فهمي للهوية، وهذا ينبغي أن يزول، ينبغي ألا أشعر بتناقضٍ في هويتي باعتباري سعوديًّا، وبين هويتي باعتباري مسلمًا، أو هويتي باعتباري عربيًّا، أو هويتي باعتباري ابن قبيلةٍ.
لكن حينما يُساهم المجتمع في نشأة هوياتٍ صغيرةٍ تعتدي على الهوية الكبيرة؛ فهنا يقع الخلل، فحينما تكون بعض البرامج التي تُساعد على نشأة هوية القبيلة وتمددها وانتشارها، وهوية القبيلة تمددت وانتشرت، وأصبح انتمائي لها، واعتزازي بها، واعتزائي إليها، لا يمكن؛ لأنها تتضمن أيضًا فخرًا على قبيلةٍ أخرى، فأظنها تتناقض مع الهوية الأكبر منها: هوية الوطن، هويتي باعتباري سعوديًّا.
فينبغي ألا يُسمح لهذا التَّمدد، نعم أنا ابن قبيلةٍ، وأنتمي إليها، ولكن لا ينبغي أن يتمدد هذا الانتماء إلى القبيلة أو إلى الإقليم لكي يحتقر الأقاليم الأخرى، أو القبائل الأخرى، وينتقصها، أو أشعر بتعالٍ عليها، هذا يتناقض مع الهوية الوطنية.
الأصل في الهوية الثبات
المحاور: جميلٌ، الهوية يا دكتور مبادئ وقيمٌ وأخلاقٌ، وفي منظومة شرعنا العظيمة أن هذه المبادئ والقيم والأخلاق ثابتةٌ لا تتغير، أليس كذلك يا دكتور؟
بمعنى: أنه إذا حصل هناك نقضٌ أو اختلالٌ لهذه القيم سيحصل هذا التعارض، وإذا صغرت مع الهوية، أو كبرت مع الهوية -الأصل أنها ثابتةٌ- عندئذٍ سيحصل الاضطراب.
الضيف: يعني: ما تذكر صحيحٌ، فالهوية ينبغي أن يكون لها قدرٌ من الثبات، وإن كانت لا بد أن تتصف أيضًا بشيءٍ من المرونة، إذا كان الثبات مطلقًا فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ، ينبغي أن يكون لها شيءٌ من المرونة.
المحاور: ماذا تقصد بالمرونة يا دكتور؟
لعلنا نُجيب عن هذا السؤال بعد الفاصل يا دكتور عبدالله.
الضيف: طيب.
المحاور: أيها الإخوة والأخوات فاصلٌ ونواصل، بإذن الله.
***
الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: لو نكمل يا دكتور عبدالله النقطة التي تحدثنا عنها، كنا نتحدث عن قضية الخلاف بين الهوية حين تكون ثابتةً.
الضيف: إي، نعم، الثابت والمُتغير.
المحاور: أنت قلت: حين يكون ثباتًا دائمًا، لا بد أن تكون الهوية أيضًا فيها مرونةٌ، وسألتك: ما المقصود بالمرونة؟
الضيف: خذ مثلًا: الشريعة الإسلامية هويةٌ، الإسلام هويةٌ، هل في الإسلام مرونةٌ؟
المحاور: أكيد.
الضيف: طيب، هذه المرونة ينبغي أن تكون واضحةً في ذهن الشاب، فهناك أشياء خاضعةٌ للاستطاعة، هناك أشياء تستطيع أن تُنفذها، وهناك أشياء لا تستطيع.
المحاور: مع بقاء الإطار وثباته.
الضيف: مع بقاء الانتماء.
المحاور: يعني: الصلاة واجبةٌ، ويجب أن يُصليها قائمًا، لكن إذا ما استطاع أن يُصليها قائمًا فقاعدًا، وهكذا.
الضيف: دعنا نطرح القضية بشكلٍ أوضح، أنا مسلمٌ، وأعتقد أن الإسلام يجب أن يحكم، لكن أنا في بلدٍ فيه إشكاليةٌ في التحكيم: إما لأنني أقليةٌ، أو لسببٍ آخر، ما العمل؟
فإذا كنتُ أرى أنه ليست هناك مرونةٌ في الهوية فسوف أدخل في صراعٍ، لكن إذا كنت أرى أن هذا الجزء متعلقٌ بالاستطاعة، فأنا حينئذٍ سوف أتعايش مع نفسي بطريقةٍ سليمةٍ، وهكذا في كل قضيةٍ من القضايا.
فالهوية هي وصفٌ يلحق الشخص بسبب انتمائه لجماعةٍ معينةٍ، لكن هذا الوصف أيضًا فيه مرونةٌ.
المحاور: جميلٌ، جميلٌ جدًّا، جزاك الله خيرًا.
الضيف: مع الثبات الذي فيه.
"البويات" (المسترجلة) أو (الجنس الرابع)
المحاور: طيب يا دكتور، بقي معنا عشر دقائق تقريبًا، نريد أن نركز على ما يتعلق بالأسرة، نريد أن نركز على ما يتعلق بالتربية وبناء الإنسان، يعني: دعنا نأخذ الآن حالةً، ونحن في المرحلة الجامعية تأتينا قضايا ترتبط بقضية الطالبات، مثلًا: "البويات" وما يرتبط ببعض الجوانب الأخرى، فتأتي توجيهاتٌ وقراراتٌ ... إلى آخره، يعني: لو ربطنا مثل هذه الحالة نفهم من خلالها ارتباط هذه الحالة.
الضيف: هذه قضيةٌ متعلقةٌ بالسلوك قبل أي شيءٍ آخر.
المحاور: لكنها سلوكٌ من تصورٍ وفكرٍ.
الضيف: قد يكون التصور والفكر واضطراب الهوية تبع ذلك، يعني: حينما تتصور أنها بدور الرجل، أو كذا، أو هذا ناشئٌ فيما بعد، لكن في الأصل كثيرٌ، بل أستطيع أن أقول: كثيرٌ من انحرافات الهوية تبدأ بالسلوك، سواء كان عند المرأة، أو عند الشاب، أو عند الفتاة، تبدأ بسلوكٍ منحرفٍ، ثم بعد ذلك تنشأ الهوية باعتبارها تبريرًا أو دفاعًا عن السلوك المنحرف، أو ربما تنشأ الهوية نتيجة لوصفٍ منحناه نحن لهؤلاء؛ لأن سلوكه منحرفٌ، فأنت وصفته.
المحاور: فلبسته إياه.
الضيف: نعم، فربما استسلم لهذا الوصف، أو ربما أصبح علمًا عليه، بينما لو ناقشته وتحدثت معه لقال: لا، أعوذ بالله!
المحاور: طيب، مثل: قضية الشذوذ في التصرفات والسلوكيات، أيًّا كان، من ذكرٍ أو أنثى، كونها -كما قلنا- في الهوية الجنسية، ماذا يمكن أن نقول في علاج هذه القضية ولو في دقيقةٍ؟
أنا أذكر مثلًا برنامجًا بعنوان: "إنني أنثى" قدم بعض الأخوات في تلكم الجامعات ...
الضيف: جميلٌ.
المحاور: هو عنوانٌ صارخٌ، وبالعودة إلى الهوية الجنسية هل لكم شيءٌ من هذا القبيل يا دكتور؟
الضيف: هذا الذي تذكره جميلٌ جدًّا، فما دامت قد قالت: "إنني أنثى" فإن معنى ذلك: أن أتصف بصفات الأنثى: من لباس الأنثى، ومن التزين كأنثى، ومن التصرفات كأنثى، ولا أتصرف باعتباري رجلًا.
أيضًا مما يُساعد في ذلك: الموعظة، فلا ينبغي أن نُقلل من الوعظ، فحينما يقول الرسول : لعن الله المُتشبهين من الرجال بالنساء، والمُتشبهات من النساء بالرجال[2]أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب: المتشبهون بالنساء، والمتشبهات بالرجال، برقم (5885).، لعن الله هذا أمرٌ ليس بالهين، لكن يحتاج إلى قلبٍ واعٍ، فلا ينبغي أن نُقلل من الموعظة، لكن الموعظة ينبغي أن نقدمها.
ممن تكون الموعظة؟
المحاور: الموعظة للخطيب فقط يا دكتور؟
الضيف: لا، ليست للخطيب.
المحاور: لا شك.
الضيف: ينبغي أن يُقدّم للموعظة مَن يُحسنها، وكنت أتحدث مع أحد مشايخي قديمًا -وقد تُوفي رحمه الله- فقال: بعض الأشخاص يدرس العقيدة فتتحول عنده إلى جغرافيا، وبعض الأشخاص يدرس الجغرافيا فتتحول عنده إلى عقيدةٍ. فدرس الجغرافيا يبدو عند البعض أنه مُملٌّ، وكذا.
المحاور: جزاك الله خيرًا.
الضيف: مناخٌ، وتربةٌ، وكذا، ولذلك من المُؤثرين جدًّا ونرتاح إلى سماعهم: شيخنا الشيخ صالح المغامسي، ما شاء الله، تبارك الله، موعظةٌ تطرق القلوب بلا استئذانٍ.
التقنية وثبات الهوية من خلالها
المحاور: في دقيقةٍ يا دكتور عبدالله، ننتقل إلى نقطة التقنية والهوية، استخدام التقنية للأجيال والأسرة وثبات الهوية من خلالها.
الوقت انتهى تقريبًا، لكن يمكن الحديث حول هذه القضية المهمة والشائكة في الأسرة ولو في دقيقةٍ، بارك الله فيكم.
الضيف: من الصعب المنع؛ ولذلك لا بد من التقنين.
المحاور: نظام؟
الضيف: نظامٌ داخل الأسرة، أتفق مع أولادي، وأقول: ما يُخالف يا أولادي، هذه تقنيةٌ، وهي نعمةٌ من الله ، فعليكم أن تشكروها.
المحاور: الدكتور خالد المنيف له مقالةٌ جميلةٌ في (الإنترنت): "في بيتنا قانونٌ".
الضيف: جميلٌ.
المحاور: يقول: كما أن عندنا قوانين مدنيةً، ينبغي أن يكون في الأسرة قانونٌ.
الضيف: جميلٌ، هذه أشار إليها الدكتور عبدالكريم بكار أيضًا.
المحاور: أحسنت.
الضيف: ووضع قانونها، ووضع حيثياتها، وقال: هذا ينبغي أن يُوقع عليه جميع أفراد العائلة.
وهذه القضية لها علاقةٌ بأسلوب الحياة، هذا الطفل، هذه المرأة، هذا كذا، ينبغي أن يعلموا أن الحياة لها قانونٌ، ولها ضوابط.
أحيانًا يأتي طفلي ويطلب مني حاجةً، فأقول له: لا، لماذا؟ لأني أُربي، بناء، مع أن الذي طلبه قد لا يُكلفني شيئًا، وهو بسيطٌ، وقد يكون موجودًا عندي، لكن أقول له: لا، طيب متى؟ إذا حصل كذا، وإذا حصل كذا، وإذا حصل كذا.
فلا بد أن يتعلم الأطفال، يعني: أنت لا تُربيهم فقط بأن تُعطيهم، بل تُربيهم بأن تمنعهم أيضًا.
المحاور: يا سلام! حتى نكون بين البناء والوقاية، وإذا اضطررنا للعلاج فنحن نُعالج، بإذن الله.
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في قضية التقنية.
بارك الله فيكم يا دكتور عبدالله، وسعدنا بكم والله في هذا اللقاء، وشكر الله لكم، وأسأل الله أن يبارك في جهدكم، ويبارك في الإخوة والأخوات.
أيها الإخوة والأخوات، في ختام هذا اللقاء نتقدم بخالص الشكر والتقدير لأستاذنا الدكتور عبدالله بن ناصر الصبيح، أستاذ علم النفس المشارك في جامعة الإمام، حول هذا الموضوع المهم، أسأل الله أن ينفع به.
وشكرًا لكم على متابعتكم، والحمد لله رب العالمين.