المحتوى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج "أسس التربية"، وهو برنامجٌ أسبوعيٌّ في قناة "زاد" العلمية.
كنا قد بدأنا معكم في الحلقة السابقة -وهي الأولى من الدورة الجديدة- حول ما يتعلق بقضية المربي الفعّال، وذكرنا مبرر اختيار هذا الموضوع المهم الذي سيستمر معنا في هذه الحلقة وحلقة الأسبوع القادم -بإذن الله تعالى-؛ وذلك أن معظم المدارس والجامعات في الدول العربية والإسلامية -أو كثيرًا منها- فتحت أبوابها في هذه الفترة، فأردنا أن نُذكِّر بقضية المربي الفعَّال المُؤثِّر في الأجيال.
مع أن مصطلح (المربي الفعَّال) ليس محصورًا فقط في قضية المعلم والمعلمة، بل يدخل فيه الأب والأم، بل تُعَدُّ البيئة التربوية الأسرية أولى من البيئة التربوية التعليمية.
ولذلك نحن نتمنى من الإخوة المتابعين لنا في هذه الحلقة اليوم، والذين لهم ممارساتٌ إيجابيةٌ في مجال التربية الأسرية، أو في مجال البيئة التعليمية -كمعلمين ومعلمات، وآباء وأمهات- أن يشاركونا بجهودهم كما حصل في الأسبوع الماضي في مداخلات بعض الإخوة.
وكنا قد تحدثنا في اللقاء الماضي عن القواعد الثلاث المتعلقة بالحقوق والواجبات، والبصمة الإيجابية، والتبادل في العلاقات، وتكلمنا في ذلك بما فيه الكفاية، واستمعنا لنموذجين في مجال التعليم، وهما: المرحلة الجامعية، ومرحلة الصفوف الأولية.
المربي الفعَّال
وفي هذا اللقاء -إن شاء الله- سنتحدث عن المربي الفعَّال المؤثر، ذي الشخصية المؤثرة؛ ولكي يكون هذا المربي شخصًا فعالًا مؤثرًا في الأجيال -أبناءً وطلابًا- لا بد أن يسلك مجموعةً من المجالات، ويهتم بها، وهذه المجالات هي:
المجال الأول: مجال المشاعر.
المجال الثاني: مجال المفاهيم.
المجال الثالث: مجال السلوك.
أولًا: مجال المشاعر
وهو الجانب الوجداني، وهو علاقة الإنسان المربي أو المُربية بالله ، وإخلاصه في التربية، وفي عمله لله ، فلا بد أن يكون هدفه الحصول على محبة الله ورضاه، ونيل الأجر والثواب، ولا يكون همه الجانب المادي والدنيوي البحت، وما شابه ذلك.
فقضية العلاقة بالله قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ لأنها عبادةٌ قلبيةٌ بين الإنسان وربه؛ ولهذا فإن هذه القضية محرومٌ منها المربي غير المسلم المعتمد على جهده فقط، والإنسان حينما لا يكون معتمدًا على ربه الذي خلقه فلن يُعان؛ ولهذا فالمسلم يطلب من ربه العون في كل صلاةٍ، فيقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فحصر العبادة لله، والاستعانة بالله ، ولا يمكن أن تقوم العبادة إلا بالعون من الله ، ومن باب أولى غيرها من الأمور، ومن أهمها: قضية التربية والتأثير على أبنائنا وطلابنا، فليست النائحة الثَّكْلَى كالنائحة المستأجرة، فالتي تبكي من القلب لفقد عزيزٍ عليها ليست مثل النائحة المستأجرة التي تبكي غيرها.
حاجة المربي إلى تصحيح النية
ولذلك نحن بأمس الحاجة إلى تأمل ما قاله سفيان الثوري رحمه الله، حيث يقول: "ما عالجتُ شيئًا أشدّ عليَّ من نيتي؛ لأنها تفلَّت عليَّ"، أو قال: "مرةً لي، ومرةً عليَّ"[1]"قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" (2/ 264)، و"إحياء علوم الدين" (3/ 66).، فالنية تحتاج إلى مجاهدةٍ؛ ولذلك كان النبي يُكثر من قول: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك[2]أخرجه الترمذي برقم (2140)، والنسائي في "السنن الكبرى" برقم (7690)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (4801).، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما بالك بغيره؟!
والله لما زكَّى أولئك الأقوام الأطهار صحابة النبي قال عنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فسألت عائشةُ رضي الله عنها: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويُصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا تُقبل منهم[3]أخرجه الترمذي برقم (3175) واللفظ له، وابن ماجه برقم (4198)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" برقم (3175)..
فنحن بأمس الحاجة إلى هذه العلاقة بالله تعالى؛ لأن مَن أسند أمره لله واستعان بالله أعانه الله ، والله يقول: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، ويقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، فالمربي بأمس الحاجة إلى عون الله تعالى في التربية.
عقبات في طريق المربي
هناك عقبات يُلاقيها المعلم والمعلمة، والأب والأم، فهذه العلاقة بالله والاستعانة به تُذلل كل هذه العقبات بشكلٍ كبيرٍ، وقد قال لي أحد المربين: تقف الأمور المادية والمهارات أمامي في حل مشكلةٍ لأحد أبنائي، لكن لما ألجأ إلى الله وأدعوه؛ يُفرجها الله من عنده، وصدق الله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].
فعلى المربي والمربية أن يُراجعوا أنفسهم فيما يتعلق بقضية الإخلاص، وحُسن العلاقة بالله ، فهذا الأمر مهمٌّ وضروريٌّ ضرورةً ماسةً، ولا يمكن الاستغناء عنه، وفيه خيرٌ كبيرٌ؛ لأن المربي يؤجر على تربيته لابنه أو طالبه ولو لم يحصل الأثر من التربية، بل إن الأمور العادية في الحياة -ومنها تربيتنا لأبنائنا وطلابنا وتعايشنا معهم- إذا صاحب ذلك النية الطيبة للمعلم وللمعلمة، وللأب وللأم، فإن هذه النية تقلب العادات إلى عبادات، فما أجمل أن يُداعب الإنسانُ وهو يشرب الشاي أو الماء أبناءه وطلابه ويُمازحهم، ويكسبُ أجرًا على ذلك!
وروي عن بعض السلف: "وددتُ لو أن لي في كل مباحٍ نيةً"، فهو يتمنى أن تكون له في كل مباحٍ نيةٌ؛ ولذلك يمكن أن يأتي الإنسان أهله ويكون له في ذلك أجرٌ، كما قال النبي : وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ[4]أخرجه البخاري برقم (56)، ومسلم برقم (1628).، ويضع الأكل في فم زوجته ويكون له بذلك أجرٌ، وفي الحديث: إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك[5]أخرجه مسلم برقم (1006).؛ لأن العبرة باستحضار النية ومجاهدة النفس في هذه الأمور، ولا شك أن ذلك مؤثرٌ جدًّا في اعتبار الأعمال.
فيا أهل التربية، أنتم أمسّ الناس حاجةً إلى استحضار النية؛ لأن مشروعكم الحضاري الكبير متعلقٌ بتربية الآخرين والتأثير فيهم، وهذا يحتاج إلى عونٍ من رب العالمين.
الصدق مع الناس
كما أن على المربي والمربية العناية بقضية الإخلاص لله في تربية الناس، عليه أيضًا الصدق معهم، فالناس يريدون منكم أيها المربون أن تكونوا صادقين في تربيتهم، فالأبناء عندما يشعرون بأن الأب صادقٌ في تربيتهم، والأم كذلك، وهكذا الطلاب مع أساتذتهم، فإن ذلك يؤدي إلى كسب المُتربين.
فنحن بأمس الحاجة إلى الإخلاص لله، والصدق مع الناس أثناء ممارسة التربية، فلنُراجع أنفسنا، وننظر كيف هو صدقنا مع الله، ومع الناس؟
وكيف يعرف الناس أنك صادقٌ؟
عندما يُطابق قولُك فعلَك، وتكون قدوةً، فلا تقل كلامًا وتُخالفه؛ فإن هذا يُحْدِثُ شرخًا كبيرًا جدًّا عند الأبناء، فعندما يجدون التوجيهات متناقضةً ومتعارضةً، والقول شيئًا، والفعل شيئًا آخر، فهذا يُحدث لديهم نفورًا، فليتنبه المربي لهذا، فإنه خطيرٌ جدًّا في التربية.
وهذه القضية في أمور الدين والدنيا معًا؛ ففي أمور الدين في قضية القيم، كقيمة الصدق -مثلًا- عندما يُوجه المُربي المُتربي إلى الصدق وهو يكذب!
وفي قيمة العفة عندما تُراجع الأم لبناتها في بعض المواد والمناهج الدراسية مسألة الحجاب -مثلًا- وهي تُخالف ذلك، فلا تكون مُتسترةً! فهذا تناقضٌ.
والأب -مثلًا- يوصي الأبناء بإنجاز مهامهم، وهو لا يُنجز مهامه!
والأستاذ يقول لطلابه: انضبطوا في الحضور للمحاضرة، وهو يتأخر في المحاضرة!
فهذه الصور السلبية تُؤثر في الأجيال سلبًا، بينما إذا كان المعلم مُنضبطًا سيكون الطلاب منضبطين، وإذا كان المعلم فاعلًا سيكون الطلاب فاعلين، وإذا كان الأب منضبطًا في الصلاة سيكون الأبناء منضبطين في الصلاة، وإذا كانت الأم مُتسترةً مُتحجبةً فستكون بناتها كذلك، وهذا في الغالب، وهكذا ينشأ الجيل منذ نعومة أظفاره على قدواتٍ حسنةٍ.
لذلك انظروا أيها الإخوة والأخوات إلى الصورة البشعة التي لا يُحبها الله، بل يبغضها أشدّ البُغض، وهي: مخالفة القول للفعل، يقول الله : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، فالله يبغض الإنسان الذي يكون قولُه مخالفًا لفعله.
فهاتان نقطتان أساسيتان فيما يتعلق بمجال المشاعر، ولعلهما -إن شاء الله- تكونان واضحتين، وهما: الصدق مع الله، والصدق مع الناس.
ثانيًا: مجال المفاهيم
ننتقل إلى مجال المفاهيم، والمفاهيم: كل ما يتعلق بالجانب العقلي، فإذا كانت المشاعر مرتبطةً بالجانب الوجداني، من الصدق، والإخلاص، والقيم، وما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه، وعلاقته بالناس، وما شابه ذلك، فالمفاهيم مرتبطةٌ بالجانب العقلي.
هذه المفاهيم التي نتحدث عنها هي -باختصارٍ شديدٍ- مفهوم التيسير والتعسير، والرحمة والشفقة والقسوة، والتأني والعجلة، والتواضع والتبسط، والتكلف والتكبر، لكن هذه سلوكيات، فما علاقتها بالناحية المفهومية؟
ذكر هذا الدكتور عبدالعزيز النغيمشي -وفقه الله- في كتابه النفيس "علم النفس الدعوي" في فصل "التفاعل التربوي"، ونحن نستفيد منه كثيرًا.
وبشرى سارة للقناة: سيكون الدكتور -بإذن الله - ضيفنا في الأسبوع القادم في موضوع "خصائص المربي الفعَّال".
دعونا قبل أن نُكمل نستقبل اتصالًا من الأخ أبي عبدالله من السعودية.
تفضل أخي أبو عبدالله.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: مسَّاك الله بالخير يا شيخ، جزاك الله خيرًا يا شيخ على كلامك الطيب المفيد، نسأل الله لنا ولكم صلاح النية والذرية.
المحاور: اللهم آمين.
المتصل: يا شيخنا، عندي استفسارٌ: ولدي عمره سنة وستة أشهر، ولكنه عنيدٌ جدًّا، لا أقدر على التعامل معه، إن فكرتُ بالضرب فما زال صغيرًا، فما أدري ما الحل؟ هل توجد حلولٌ لمثل هذا الولد؟
المحاور: قلتم: تستخدمون معه الضرب؟!
المتصل: حصل أكثر من مرةٍ، وليس كثيرًا.
المحاور: كيف هي طريقة تعاملكم معه يا أبا عبدالله؟
المتصل: والله نحاول أن نتلطف معه.
المحاور: هل بوصلة التعامل منك ومن أمه مُتجهةٌ إلى الدلال، أو إلى القسوة، أو بينهما؟
المتصل: بينهما.
المحاور: الكثير يقولون: بينهما، وليس كذلك.
المتصل: لا نُعاقبه باستمرارٍ، ولا نُدلِّلُه باستمرارٍ، وإنما على حسب المزاج.
المحاور: هل معه أخٌ صغيرٌ؟
المتصل: لا، هو الوحيد.
المحاور: طيب، تسمع الجواب، بإذن الله، جزاك الله خيرًا.
المتصل: شكرًا لكم.
المحاور: حفظك الله وبارك فيك.
معنا الآن مشاركةٌ من أحد الأساتذة الفضلاء، وهو أستاذٌ موفدٌ إلى المدارس السعودية في أنقرة، في تركيا، وهو الأستاذ محمد بن صالح بن ناصر الثابت.
حيَّاك الله يا أستاذ محمد.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، سعداء بك، حفظك الله.
المتصل: الله يُسعدك، ويُسعد مساءك أستاذي الكريم والإخوة المشاهدين، وأنا سعيدٌ بتواجدي معكم اليوم.
المحاور: جزاك الله خيرًا، أعرف أنك لا تريد الثناء، ولكن حتى يفهم الجمهور لماذا هذه المشاركة؟
فالأستاذ محمد الثابت -باختصارٍ شديدٍ جدًّا- من مدينة الأحساء في المنطقة الشرقية بالسعودية، وهو الآن موفدٌ في تركيا، ويرأس البرنامج التميزي في المدارس السعودية هناك، وهو حاصلٌ على مجموعةٍ من الجوائز للتميز: كجائزة حمدان بن راشد آل مكتوم للتعليم المتميز، وأيضًا حصل على المركز الأول في فئة المعلم المتميز على مستوى المملكة، وحصل على المركز الأول في فئة المعلم المتميز على مستوى المنطقة الشرقية، وكذلك المركز الأول على مستوى محافظة الأحساء، وبتواريخ وسنواتٍ مختلفةٍ، فسيرته حافلةٌ بالعطاء.
ولعلنا -إن شاء الله- نحظى بكم في لقاءٍ كاملٍ في إحدى الحلقات القادمة، نستفيد من تجاربكم.
وفي هذه الحلقة نود أن نتناقش حول المربي الفعَّال، وبخاصةٍ ونحن مع بداية العام الدراسي الجديد.
فنودُّ منكم أستاذ محمد -جزاك الله خيرًا- أن نعرف كيف يكون المربي والمعلم فاعلًا ومؤثرًا، وذلك من خلال التجربة التي مارستها؟
المتصل: الله يسعدك يا دكتور، وأنا سعيدٌ جدًّا بوجودي معكم اليوم، وأرغب أن تكون مداخلتي من خلال ممارساتٍ عمليةٍ طبَّقتها مع طلابي، فتركت فيهم أثرًا لا يُنكر.
المحاور: جميلٌ، هذا المطلوب.
المتصل: النقطة الأولى: لا شك أن الحب هو كلمة السر الأولى، فحينما يتعامل المعلم مع طلابه بالحب -يُعلِّمهم بالحب، وينصحهم بالحب- يُؤثر فيهم أثرًا كبيرًا.
المحاور: هذه العبارة وجدتها على صورة حسابك في (الواتس آب)، ما شاء الله، جزاك الله خيرًا.
المتصل: جزاك الله خيرًا.
المحاور: ويبدو أنك تعيشها، ما شاء الله عليك.
المتصل: أقول: الحب هو كلمة السر الأولى في التوجيه والنصيحة، بل حتى العتاب، فلا بد أن نُعاتبهم بحبٍّ؛ وبذلك سنترك فيهم أثرًا جميلًا، شعرنا بذلك أم لم نشعر، وكل ذلك يتحقق بشرط أن تكون مهنة التعليم رسالةً، لا مجرد وظيفةٍ.
الأمر الآخر المهم أيضًا: أن يكون المعلم قدوةً، وأن نظهر أمامهم بأجمل صورةٍ يظهر عليها كل ما تعلموه من المُثُل والأخلاق الحسنة، ونزرع فيهم هذا الأمر، فلا ينبغي أن نعلمهم حُرمة الكذب، ثم يرون منا ممارساتٍ تُنافي ذلك.
ومن النقاط المهمة أيضًا: أن نُشعرهم بأن لهم قيمةً على اختلاف مستوياتهم المعرفية وغيرها، فعلى سبيل المثال السريع: أذكر أنه أتى إليَّ بعض الطلبة من كبار السن في المدرسة، والضعفاء دراسيًّا، فقال لي: يا أستاذ، أنتم كل مسابقاتكم وبرامجكم وأنشطتكم اللاصفية تستهدف الطلاب المتفوقين فقط!
المحاور: المتميزين.
المتصل: نعم، فمن كلمته هذه بدأتُ أفكر: كيف نبدع في توليد أفكارٍ أو برامج تناسب هذه الفئة من الطلبة، وسبحان الله العظيم! وضعنا لهم فكرة مسابقةٍ لا تعتمد على الذكاء والمهارة العقلية، وإنما القوة فقط، وخلال شهرٍ كاملٍ كلهم أصبحوا نجوم المدرسة، ولهم جمهورٌ كبيرٌ، فكان لذلك أثرٌ كبيرٌ جدًّا، حتى إن أحد الطلاب لما كرمناه في الطابور قال بالحرف الواحد: أول مرةٍ أشعر أن لي قيمةً في هذه المدرسة. وتغيرت سلوكياتهم 180 درجةً بشهادة الإدارة والمعلمين.
المحاور: النقطة الرابعة؟
المتصل: وهي أن نجعلهم يفخرون بإنجازاتهم، ونُساعدهم في تحقيقها، وقد طبقتُ مع طلابي برنامجًا أسميته: خطط لمستقبلك، وفي هذا البرنامج طلبتُ من كل طالبٍ أن يختار وظيفة المستقبل بناءً على رغبته، ثم أصبحتُ أناديهم بهذه الوظيفة، فمثلًا أقول: تفضل يا دكتور محمد، الدور عليك، أو يا مهندس فلان.
فكان الأثر الأكبر من هذه التجربة أنه بعد رابع سنةٍ من هذه التجربة مع طلابي في برنامج: خطط لمستقبلك، زارني طالبان من طلابي الذين تخرجوا سابقًا، فقال أحدهم: يا أستاذ، أتينا نُبشرك بشارةً. قلت: تفضلوا. فقالوا: يا أستاذ، نحن كنا معك قبل أربع سنواتٍ في ثالث متوسط، وكنا قد اخترنا أن نكون أطباء، وها نحن الآن في الخطوة الأولى؛ فقد التحقنا بالجامعة في مجال الطب. ففرحت فرحًا كبيرًا جدًَّا لأنهم حققوا الهدف، وبدأوا بالخطوة الأولى، حتى إنني اصطحبتهم معي داخل الصف، وطلبتُ منهم أن يذكروا هذه التجربة، وذكروا هذا الأمر، وكان مؤثرًا جدًّا بالنسبة لي ولزملائهم أيضًا الذين كانوا في الدفعة في ذلك الوقت.
أيضًا لا بد أن نربط المناهج التعليمية بحياة الطلاب وواقعهم، وأذكر أنني طبقتُ عليهم برنامجين:
البرنامج الأول: كان برنامجًا أسميته: أحبكما، هذا البرنامج يُقدِّم فيه الطلاب أعمالًا يفخر بها آباؤهم وأمهاتهم، والطلاب الفائزون في البرنامج يُكرَّم آباؤهم وأمهاتهم، فكان لهذا آثارٌ جميلةٌ جدًّا.
البرنامج الثاني: برنامج المتبرع الصغير، وكنت كل شهرٍ أصطحب معي مجموعةً من الطلاب، فنزور الجمعية الخيرية القريبة من المدرسة، والشيء المؤثر: أن الطلاب استطاعوا -بفضل الله - أن يتعاونوا في كفالة أسرةٍ محرومةٍ لمدة شهرٍ، وطالبٍ يتيمٍ لمدة سنةٍ، فكان لهذا -بفضل الله- أثرٌ كبيرٌ.
النقطة السابعة: أن نُعطيهم الدور الأكبر أثناء العملية التعليمية، ويكون دورنا فقط الإرشاد والتيسير من خلال ابتكار البرامج التي تزيد دافعيتهم نحو التعلم وتُحفِّزهم.
وأذكر مثالًا واحدًا فقط: وهو أنني وضعتُ برنامجًا طبقته مع الطلاب، سميته: أمير الأحلام، والفكرة باختصارٍ: أنني وضعتُ طاولةً وكرسيًّا فخمًا في مدخل الصف للطالب المتميز خلال الأسبوع، يكون هذا مكانه، ويحمل لقب: أمير الأحلام، ويكون بشكلٍ مميزٍ عن بقية الطلاب، وكان التنافس بينهم مثيرًا جدًّا، وآثارها جميلةً ورائعةً.
المحاور: كأنك تقول يا أستاذ محمد وبشكلٍ واضحٍ جدًّا: أن النَّمطية المعهودة في التعليم في كثيرٍ من المدارس، والتركيز فقط على الجانب الكمِّي للمعلومات غير صحيحٍ، فينبغي إعادة النظر في تحقيق الأهداف الشمولية بمستوياتها: المعرفية، والوجدانية، والمهارية، أليس كذلك؟
المتصل: هذا صحيحٌ يا دكتور، وهذا مرتبطٌ بالنقطة الأخيرة التي كنتُ سأتكلم عنها، وهي: أن المعلم ينبغي له ألا يكون تقليديًّا في طرحه وشرحه، بل ينبغي أن يُجدد ويُطور من نفسه.
وأنا وضعتُ قاعدةً بسيطةً أسميتها: (ألف، ط، ط، ألف) ابحث، طوِّر، طبِّق، احصد.
فالمعلم المتميز ينبغي عليه أن يبحث عن الأفكار المتميزة في كل مكانٍ، فقد يجدها في جلسةٍ شخصيةٍ، وقد يجدها في برنامجٍ تلفزيونيٍّ، وقد يجدها في برنامجٍ تدريبيٍّ، أو في أي مكانٍ، وقد تكون لا تُناسب -مثلًا- الإمكانات المادية للمدرسة، أو المرحلة العمرية التي يُدرِّسها، هنا نأتي للمرحلة التالية: (طوِّر)، فعليه أن يُطورها ويُكيفها، ثم بعد ذلك (طبِّق)، ثم سيحصد النتائج بحول الله تعالى.
فينبغي على المعلم أن يُواكب التقنيات والوسائل التعليمية الحديثة والاستراتيجيات، والهدف من ذلك أن يُجدد أجواء الحصة الدراسية، ويجعل الطلاب يترقبون ويتشوقون لها، وهذا شيءٌ مهمٌّ جدًّا، فإذا وصل المعلم إلى أن يجعل الطلاب يترقبون حصته وينتظرونها فقد وصل إلى مرحلةٍ متميزةٍ جدًّا من التميز والرضا النفسي.
المحاور: بيَّض الله وجهك يا أستاذ محمد.
المتصل: ووجهك يا دكتور.
المحاور: ما شاء الله، الله يُبارك لك فيما أعطاك، ويزيدك من فضله، ويحفظك من كل شرٍّ، ونحن سُعداء جدًّا بهذه المشاركة، لكن لا نريد أن نأخذ أكثر؛ لأننا نطمع -كما قلتُ لك- في لقاءٍ أوسع، بإذن الله .
أشكرك شكرًا جزيلًا على هذه الإطلالة الجميلة مع النقاط الثماني المتعلقة بنجاح المربي والمعلم الفعَّال، والذي يمكن أن يكون مؤثرًا وبانيًا لشخصية طلابه على مقاعد الدراسة.
شكرًا لك يا أستاذ محمد، ومُوفَّقٌ بإذن الله .
الأستاذ محمد الثابت، شكرًا جزيلًا لك على هذه النقاط الرئيسة المهمة، وهي: الحب، والقدوة، وإشعار الطالب بأنَّ له قيمةً، وأن يفخر بأمرٍ لمَّا يحصل بعد، ولكنه يُحقق له الهدف مستقبلًا، وأن يرى المُتربي منا أثرًا يتركه عليه، حتى يترك هو أثرًا على مَن بعده، وربط المناهج التعليمية بالحياة الواقعية، والشعور بدوره الأكبر، وما يتعلق بهذا الجانب، وأن يُشعر المتربي بأن له الدور الأكبر في المجتمع، وألا يكون المعلم تقليديًّا، وعندئذٍ يُجدد من الطرائق والوسائل التعليمية، ويتعلم شيئًا من هذا القبيل من خلال الدورات التدريبية.
والحمد لله قد تسهَّل هذا الأمر مع وجود الإنترنت الآن، ووجود المقاطع التي تُفيد في مثل هذا الجانب، حتى هذا الجيل اليوم أصبح -كما يُقال- جيل الصورة والصوت والحوار، فنحتاج -في الحقيقة- إلى مراعاة مثل هذه القضايا في هذا الجيل الذي ربما يملُّ من طول التحدث من قبل طرفٍ واحدٍ، وعلماؤنا السابقون قد أكَّدوا على هذه القضايا، فكيف بمثل بيئاتنا اليوم؟ فلا شك أن الحاجة إليها أكبر.
علاج مشكلة عناد الابن
عودًا على بدءٍ، كان السائل أبو عبدالله يسأل عن عناد ابنه ذي السنة وستة أشهرٍ.
فنقول: من الأهمية بمكانٍ العناية بمراجعة وتقييم التعامل مع الابن من قِبَل الطرفين: الأب والأم، فيما يرتبط بقضية الودِّ بدون حزمٍ، أو الحزم بدون ودٍّ، والاتجاه -مثلًا- إلى الدلال والدلع، أو إلى القسوة، فكلا الاتجاهين مشكلةٌ، ولا بد من التوسط في ذلك، فهذه القضية تحتاج إلى مراجعةٍ، والتأكُّد منها بشكلٍ جيدٍ.
وقضية وجود مستوًى من العناد عند الأطفال أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأن مستوى الإدراك عندهم ما يزال بسيطًا، فأمرٌ طبيعيٌّ أن يحصل عنادٌ من الطفل؛ لأنه يريد أن يُشبع حاجته لأمورٍ، وإذا أردنا ألا يبكي، ولا يصيح، ولا يُعاند، .. إلى آخره، فمعنى ذلك أنه لا بد أن نُلبي له جميع الطلبات، وهذا صعبٌ، بل من الخطأ أن نُعوِّده على تلبية جميع طلباته، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في التربية؛ ولذلك يذكر بعضُ أهل الاختصاص في مثل هذه الحالات من العلاج: الإغفال، ويُسمونه: الإهمال والتطنيش، فلا يُهتم به حينما يُظهر العناد، ويُترك؛ لأنه إذا زاد الاهتمام به فإما أن ننتقل إلى الاهتمام الزائد، أو إلى القسوة، وكلا التصرفين ليس من التصرفات المناسبة، فلعل الإغفال والتطنيش والإهمال وتحمل مرحلة الطفولة في مُعطياتها هو الأمر الطبيعي جدًّا بإذن الله .
المعيار الصحيح لنجاح العملية التربوية
نُكمل الآن المجالات، فقد ذكرنا مجال المشاعر، وذكرنا فيه: الصدق مع الله، والصدق مع الناس، ووقفنا عند مجال المفاهيم.
فهناك مصطلحات كما هو مُبيَّنٌ على الشاشة المعروضة، تُلاحظون أمامكم اتجاهاتٍ متقابلةً: تيسيرٌ يُقابله تعسيرٌ، ورحمةٌ تُقابلها قسوةٌ، وتأنٍّ تُقابله عجلةٌ، وتواضعٌ يُقابله تكبرٌ، فهناك عددٌ من المربين يرون أن الاتجاه لذات الشمال هو الأقوى في إثبات شخصية المربي: أبًا كان، أو معلمًا.
وهذا الاتجاه يرى أنه لا تُعطى للطلاب حُريتهم كاملةً، فيعسر بعد ذلك إخضاعهم، وأنه إذا سأل الطالب سؤالًا فلا يستعجل في الإجابة واتخاذ القرار مثلًا، ولو طلب منه شيئًا فلا يُعطى بسهولةٍ، ولا بد أن يضع المُربي بينه وبين الطلاب حاجزًا، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا تقدح في المفهوم.
ولنا تجارب مع بعض الطلاب الذين يُطبِّقون في التربية الميدانية، وهم تخرَّجوا من كليات التربية أو سيتخرجون، وينزلون الميدان، فيسمعون من بعض الأساتذة الأساسيين في المدرسة التي يُطبِّق أحدُهم فيها في آخر فصلٍ دراسيٍّ قبل أن يُصبح معلمًا رسميًّا، فيقولون له: انتبه، لا تَلِنْ مع الطلاب؛ فإنهم لن يسمعوا لك أبدًا، وإنما لا بد أن تُريهم العين الحمراء كما يقال، ولا تبتسم في وجوههم.
فيدخل الأستاذ ناسيًا كل ما درسه في التربية بسبب ما سمعه من بعض المعلمين من الخبرات السلبية، فيقوم بتطبيقها، ويرى أن الطلاب ساكتون، صامتون، ولا يتحركون، وكأن هذا هو المعيار في نجاح العملية التربوية! وهذا غير صحيحٍ، فالمعيار هو مدى شعور الطالب بالأمن والارتياح النفسي، ومدى شعوره بقابليته للنمو في الجانب العقلي والوجداني والمهاري، فإذا لم يوجد الأمن والارتياح النفسي، ولم يوجد المعلم المُؤثر، فلن يكون هناك أثرٌ، حتى لو كان الطالب صامتًا مُؤدَّبًا، ولا يتكلم، فليست القضية مرتبطةً بسكوته، وإنما لا بد -كما ذكر الأستاذ محمد الثابت قبل قليلٍ- أن يكون الفصل الدراسي مليئًا بالنشاط والحركة، والأخذ والعطاء، والسماع والمشاركة، وأن تُقام فيه ورشُ عملٍ، وما شابه ذلك، فهذه من الأشياء التي تُسهم في نجاح العملية التربوية.
فنحن لا بد أن نكون مُيسرين، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه"[6]أخرجه البخاري برقم (3560)، ومسلم برقم (2327).، ولا بد أن يكون التيسير بهذا القيد المهم: "ما لم يكن إثمًا"، كما لو أصبح ابنك متعبًا، وليس مريضًا، لم ينم إلا متأخرًا مثلًا، فهل تتركه ولا تُوقظه لصلاة الفجر بحجة أنه متعبٌ، وتقول: نأخذ بأيسر الأمرين؟! وأنَّ ذلك من باب التيسير وترك العسير؟! لا، ليس الأمر كذلك؛ لأن ذلك أصبح إثمًا.
لكن إذا كان تكليف الابن أو الطالب -مثلًا- يحصل بطريقين: طريقٍ سهلٍ، وآخر عَسِرٍ، فإننا نأخذ بالطريق السهل، فإذا كان أمامنا -مثلًا- حوارٌ ونقاشٌ وإقناعٌ، أو ضربٌ، فآخذ بالطريق السهل وهو الحوار، كمشكلة الأخ أبي عبدالله مع عناد ابنه، فعندي طريقٌ عَسِرٌ يمكن أن أمارسه مع الطفل، وهو الضرب، وطريق أيسر وأنجع، وهو -مثلًا- الإهمال والإغفال، فآخذ جانب التيسير.
كذلك خُلق الرحمة: الله يقول عن النبي : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فالله يقول: إن الصحابة قد ينفَضُّون عن النبي وهو رسول الله إذا كان فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ، وحاشا النبي أن يكون كذلك، بل كان رحيمًا لينًا.
وهذه الآية نزلت بعد غزوة أحدٍ وما حصل فيها، فكيف بنا في ظروفنا التي هي أقلّ من غزوة أحدٍ؟! فنحن نحتاج إلى هذه الرحمة واللين.
وكذلك ما يتعلق بالتأني، فالمربي قبل أن يتخذ قرارًا معينًا يتعلق بالأبناء، أو بالزوجة، أو بالطلاب، هو بحاجةٍ إلى التأني، وقد جاء في الحديث: التُّؤَدَةُ في كلِّ شيءٍ إلَّا في عمل الآخرة[7]أخرجه أبو داود برقم (4810)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (3009)..
وأيضًا لا بد أن يكون المربي مُتواضعًا؛ لأنه يكسب الطلاب بتواضعه، أما المُتكبر فإن بينه وبين المُتربين حواجز كبيرةً جدًّا.
سؤالٌ للجمهور
أيها الإخوة والأخوات، هناك سؤالٌ تفاعليٌّ سيُطرح -إن شاء الله تعالى- خلال هذه الحلقة، ونتمنى التفاعل من جمهورنا الكريم، وسنستفيد منه -إن شاء الله تعالى- في لقاء سعادة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز النغيمشي في الحلقة القادمة التي ستكون حول خصائص المربي الفعَّال، والتي ستكون -تقريبًا- آخر حلقةٍ متعلقةٍ بهذا الموضوع.
والسؤال هو: ما صفات المُربي الفعَّال، سواء كان أبًا، أو أمًّا، أو معلمًا، والتي تجعله يُؤثر في المُتربين؟
نتمنى أن نجد إجاباتٍ من خلال العناوين التي تظهر لكم في الشاشة، بارك الله فيكم.
ثالثًا: مجال السلوك
دعونا في هذه الفترة المتبقية من هذه الحلقة نتحدث عن المجال الأخير: ألا وهو مجال العمل والسلوك، وقد سبق أن تكلمنا عن المشاعر والمفاهيم، والآن سنتحدث عن قضية العمل والسلوك، ويمكن أن نُقسم هذا المجال إلى قسمين:
الأول: استخدام اللغة والألفاظ والعبارات التي تكون جميلةً.
الثاني: العناية بالسيماء والهيئة.
فالمربي الفعَّال لا بد أن تكون ألفاظه إيجابيةً وجميلةً، والله تعالى يقول في شأن النبي : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فالرسول لم يكن سبَّابًا، ولا شتَّامًا عليه الصلاة والسلام، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
فالمربي عليه أن ينتقي أطايب الكلام حتى يستطيع أن يُؤثر في الآخرين، وليقوموا بتنفيذ طلباته وتوجيهاته، فالمعلم أو الأب أو الأم حين يأمر بأمرٍ عليه أن يستخدم ألفاظًا مُؤثرةً، مثل: لو سمحت، لو تفضلت، جزاك الله خيرًا، بارك الله فيك، لو فعلت هذا الفعل؟ بدلًا من أن يقول: افعل، واعمل، واترك. فهذه الألفاظ والأساليب تُؤدي نفس الغرض، لكن بأسلوبٍ مختلفٍ، فنحتاج إلى سلوكٍ لغويٍّ راقٍ.
وهكذا الكلام الطيب الذي يُقال له أثره التربوي، سواء بين الزوجين، أو الآباء والأبناء، أو المعلمين والمعلمات، أو المسلم والكافر، أو غير هؤلاء.
فربما يأتي الواحد منا إلى عامل المحطة، أو عامل النظافة، وهو لا يعرف عنه شيئًا، ويتعامل معه بفظاظةٍ في الأسلوب، ويُوجّه له الأوامر: افعل، أو اترك. وكأننا نُلزمه أن يُنفذ الذي عليه، ولو قال له: السلام عليكم، أو مرحبًا، أو كيف الحال؟ أو يبتسم له كما سيأتي معنا في الجانب الثاني، وهو سلوك السيماء والهيئة.
وأما ما يتعلق بالسيماء والهيئة: فالنبي يقول: ولو أنْ تلْقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ[8]أخرجه مسلم برقم (2626).، يعني: ببشاشة الوجه، فحينما يدخل الأب على أبنائه، والمعلم على تلاميذه مُبتسمًا يكون لذلك أثرٌ كبيرٌ، وقد قال النبي : تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقةٌ[9]أخرجه الترمذي برقم (1956)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (2908).، فالابتسامة، والكلمة الطيبة، وطلاقة الوجه، ورحابة الصدر، والبشاشة على وجه المربي مؤثرةٌ على نفسية المُتربي جدًّا.
فلا بد أن يكون سلوك المربي في تعامله العادي قائمًا على الرفق، كما جاء في الحديث: إِنَّ الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه[10]أخرجه مسلم برقم (2594).، فالمربي من الأب والأم والمعلم لا يمكن أن تكون له صورتان: صورة رفقٍ عندما يكون مرتاح البال، ومبسوطًا، ومُنشرح الصدر، وصورةٌ أخرى في حال تغيّر مزاجه ومعاملته، فيتحول إلى شخصٍ غليظٍ، شديدٍ، قاسٍ على مَن تحته من المُتربين، ومَن يتعاملون معه، فعندئذٍ يخافون أن يتعاملوا معه، وينفرون منه.
وأذكر أن أحد الأشخاص كان مسؤولًا، وكانت لي عنده حاجةٌ، وذلك أيام الدراسة، في سنٍّ مبكرةٍ، فقال لي أحد الحاضرين في المكتب: لا تُقدّم طلبك إلى هذا المسؤول؛ لأن مزاجه مُتقلِّبٌ وغير منضبطٍ، فاترك الموضوع عندي إلى أن أرى مزاجه مضبوطًا، وسوف أتصل بك بإذن الله .
وفعلًا بعد عشرة أيامٍ أو أسبوعٍ -تقريبًا- اتصل بي على الهاتف وقال: أبشرك، قدمنا طلبك، ووافق المسؤول على الطلب.
فالمفترض أن يكون المربي أو الشخص الفاعل والمؤثر عنده هذه الصفة مستمرةً، فيكون ممن يملك غضبَه، ويتحكم في مزاجه، ولا تُؤثر ضغوط الحياة على علاقاته بأبنائه وطلابه، نعم، الإنسان بشرٌ يتأثر، لكن لا يمكن أن يكون بهذه البساطة، فيستسلم لكل شيءٍ، فالرفق مهمٌّ أن يبقى سمةً أساسيةً وصفةً مستمرةً في المربي.
السلوك الرابع: وهو ما يُسمى بـ"السلوك العلاجي"، وهذه قضيةٌ من القضايا الكبيرة والشائكة والمهمة جدًّا؛ لأن الكثير منا -للأسف الشديد- في التعامل مع الأسرة والمدرسة لا يقف عند القضية ويدرسها إلا عندما تحصل المشكلة؛ ولذلك عندنا العناية بالجانب العلاجي أكبر من العناية بتنمية الإنسان والجانب الوقائي الذي يعصمني من مشكلاتٍ كثيرةٍ، وعندما نريد أن نُعالج أي قضيةٍ لا بد أن نُعالجها بأسلوبٍ صحيحٍ ووسيلةٍ مناسبةٍ؛ حتى لا تتفاقم المشكلة، فما الفائدة من أننا نعالج مشكلةً ما بطريقةٍ خاطئةٍ، فنزيد في المشكلة، ونزيد الطين بِلَّةً؟! لا فائدةَ، أو تبقى المشكلة على ما هي عليه، والشريعة الإسلامية جاءت لدرء المفاسد وتقليلها، وتحقيق المصالح أو تكثيرها.
فإذا كانت عندي مفسدةٌ أو مشكلةٌ حاصلةٌ الآن، فالمفترض أنني أدرأ المشكلة، وأحلها تمامًا، أو أُقلل منها، وكلا الأمرين مقبولٌ؛ لأن التقليل قد يكون هو الشيء الممكن؛ لأنني لا أستطيع أن أُنهي المشكلة، ولكن أستطيع أن أُقلل منها، وهذا الدور الفاعل بالنسبة للمُربي مع طلابه، والأب مع أبنائه، فقد يكون باستطاعته أن يُنهي المشكلة تمامًا، وقد يُقللها فقط، فلا تبقى على ما هي عليه، ولا يمكن أن تزداد من باب أولى، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ، ولها أحكامها الشرعية عند أهل الاختصاص.
السلوك اللغوي ومعناه
المقصود بالسلوك اللغوي: أن نتعلم مهارات حل المشكلات، وهذا يُعدم أو يَضعف عند كثيرٍ من المربين من خلال ما أُلاحظه، وكثيرٌ من الآباء والمعلمين ضُعفاء في هذا الجانب، وهو مهارات تعديل السلوك، مع أن موضوع تعديل السلوك من الموضوعات الرائدة والجميلة جدًّا في تخصص الدراسات النفسية، وهناك مقرراتٌ ومناهج في هذه القضية معروفة لدى أهل الاختصاص، ونحتاج إلى معرفة مجموعةٍ من هذه المهارات وممارستها؛ لأنني قد أستخدم أسلوبًا ما في حل مشكلةٍ معينةٍ ولا أنجح، وإذا استخدمتُ أسلوبًا آخر ربما نجحتُ في حلها، فلا بد من تنوع الأساليب.
ولذلك حين تطَّلعون على كتاب الشيخ محمد المنجد -وفَّقه الله وجزاه الله عنا خيرًا- "الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس" تجدونه كتابًا سبق كتب التخصص في هذا المجال، وتميز تميزًا كبيرًا، فقد استقرأ نصوص السنة النبوية في مواقف النبي مع المشكلات، وكيفية حلها، وهو كتابٌ موجودٌ على الشبكة العنكبوتية بنسخة (PDF)، ومطبوعٌ أيضًا، ذكر فيه مؤلفه عشرات الأساليب النبوية في حل المشاكل.
ولما نظرتُ في هذه الأساليب تكوَّن لدي مخزونٌ من المهارات والأساليب المتنوعة، فعندما أحاول حل مشكلةٍ ما فإنني أستخدم أسلوبًا منها، فإن لم ينجح انتقلت إلى أسلوبٍ أو وسيلةٍ أخرى، وهكذا.
وقد يكون محمدٌ عنده مشكلةٌ، وإبراهيم عنده نفس المشكلة، فنستخدم مع محمدٍ علاجًا معرفيًّا مثلًا، ومع إبراهيم أسلوبًا أو علاجًا آخر، كالحرمان مثلًا، وهكذا، فتنوع الأساليب نافعٌ جدًّا في حل المشاكل التربوية.
وعند التأمل في أساليب النبي في حل المشكلات نجدها متنوعةً، وتختلف من شخصٍ لآخر: كنقاشه مع الشاب الذي جاء يستأذنه في قضية الزنا، فالشاب يعرف أنه حرامٌ، ومع هذا أخذ النبي يُحاوره بأسلوبٍ مُقنعٍ قال عنه أهل الاختصاص: إنه أسلوبٌ عقلانيٌّ انفعاليٌّ، حيث ذكر له صورةً في الذهن لها أثرٌ في النفس، فقال: أتُحبُّه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فِدَاءَك. قال: ولا الناس يُحبُّونه لأمهاتهم[11]أخرجه أحمد برقم (22211)، وقال محققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح".، وذكر له أخته وخالته وعمته، .. إلى آخره، ثم دعا له فذهب ما في نفسه.
فهذا الشاب يعرف أن الزنا حرامٌ، لكنه كان يريد الإذن نظرًا لما يُعانيه في هذا الجانب، فحلَّ النبي مشكلته.
وهكذا بالنسبة لمشاكل عديدةٍ جدًّا حلها النبي ، ويمكن أن يُرجَع إلى الكتاب المذكور، ففيه أساليب نبويةٌ كثيرةٌ في التعامل مع أخطاء الناس.
السلوك التعاوني ومعناه
السلوك الخامس: هو السلوك التعاوني، فالمربي الفعَّال والناجح والمؤثر لا بد أن يكون شخصيةً متعاونةً، تُشْرِك المتربين في حل المشكلات، ولا يضع المربي نفسه في أبراجٍ عاجيةٍ: يُوجه الأوامر، ولا يُشارك، فإذا قرر الأب -مثلًا- إقامة رحلةٍ أسريةٍ لأبنائه فلا بد أن يشترك معهم في الإعداد لها، والقيام بالأعمال معًا، وكذلك المعلم مع طلابه، فلا يليق -مثلًا- أن يقوم الطلاب بترتيب وإعداد حفلٍ مثلًا، أو ورشة عملٍ، والمعلم جالسٌ ينظر إليهم دون مشاركةٍ، فلا بد أن يُشاركهم ويتعاون معهم.
ولهذا حينما يمرض الطالب ينبغي أن يكون أول مَن يتصل به ويطمئن عليه ويزوره في المستشفى هو الأستاذ، فهذه كلها من السلوكيات التعاونية المطلوبة، وهي تُؤثر كثيرًا على نفسية المُتربين.
فعلى المربي -سواءٌ كان أبًا، أو معلمًا، ذكرًا أو أنثى- أن يتحلى بهذه السمة، وهي سمة التعاون والمشاركة مع المُتربين، ولا يجعل بينه وبينهم حواجز وهميةً: كأن يشعر -مثلًا- أن ذلك يُنقص من قدره، أبدًا، فإذا تواضع لهم أحبوه، وإذا أحبوه أطاعوه، وهابوه، واحترموه، هكذا ينبغي أن تكون العلاقة بين المربي والمتربي قائمةً على الود والحزم.
السلوك التكميلي ومعناه
النقطة الأخيرة المتعلقة بالسلوك -وبها نختم حلقتنا أيها الإخوة والأخوات- هي ما يُسميه بعض أهل الاختصاص -وعلى رأسهم أستاذنا الدكتور عبدالعزيز النغيمشي، الذي سيكون -إن شاء الله- ضيفنا في الحلقة القادمة- بـ"السلوك التكميلي"، وهو مرتبطٌ بالدعابة والمزاح والترفيه، فالمربي لا بد له من مُمازحة المتربي وشيءٍ من الدُّعابة.
والرسول يقول لرجلٍ مُداعبًا: يا ذا الأُذُنين[12]أخرجه أبو داود برقم (5002)، والترمذي برقم (1992)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (7909).، وهو حقًّا له أذنان.
ويقول لامرأةٍ: إِن الجنة لا يدخلها عجوزٌ، ثم قال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوزٌ، إِن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35-36][13]أخرجه البغوي في "شرح السنة" برقم (13/ 183)، والبيهقي في "البعث والنشور" (ص217)، والترمذي في "الشمائل المحمدية" (ص57)، … Continue reading، فالناس يدخلون الجنة وأعمارهم ثلاثٌ وثلاثون.
ويُمازح النبي صبيًّا فيقول: يا أبا عُميرٍ، ما فعل النُّغَيْرُ؟[14]أخرجه البخاري برقم (6203)، ومسلم برقم (2150)..
ونُلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يمزح مع الكل، مع العجوز والطفل والشاب، وغيرهم.
وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يَتَبَادَحُونَ بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال[15]أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" برقم (266)، وصححه الألباني في "الصحيحة" برقم (435).، أي: كان يرمي بعضهم بعضًا بقشور البطيخ، وهذا كله من المزاح.
وكان النبي يمزح، ولكنه لا يقول إلا حقًّا عليه الصلاة والسلام، فهذا ضابطٌ مهمٌّ في قضية المزاح، وهو: أن يكون المزاح حقًّا.
وصلنا إلى نهاية الحلقة، وأسأل الله التوفيق والسداد للجميع.
والحمد لله رب العالمين، ونلتقي على خيرٍ، بإذن الله تعالى.
↑1 | "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" (2/ 264)، و"إحياء علوم الدين" (3/ 66). |
---|---|
↑2 | أخرجه الترمذي برقم (2140)، والنسائي في "السنن الكبرى" برقم (7690)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (4801). |
↑3 | أخرجه الترمذي برقم (3175) واللفظ له، وابن ماجه برقم (4198)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" برقم (3175). |
↑4 | أخرجه البخاري برقم (56)، ومسلم برقم (1628). |
↑5 | أخرجه مسلم برقم (1006). |
↑6 | أخرجه البخاري برقم (3560)، ومسلم برقم (2327). |
↑7 | أخرجه أبو داود برقم (4810)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (3009). |
↑8 | أخرجه مسلم برقم (2626). |
↑9 | أخرجه الترمذي برقم (1956)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (2908). |
↑10 | أخرجه مسلم برقم (2594). |
↑11 | أخرجه أحمد برقم (22211)، وقال محققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح". |
↑12 | أخرجه أبو داود برقم (5002)، والترمذي برقم (1992)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (7909). |
↑13 | أخرجه البغوي في "شرح السنة" برقم (13/ 183)، والبيهقي في "البعث والنشور" (ص217)، والترمذي في "الشمائل المحمدية" (ص57)، وصححه الألباني في "الصحيحة" برقم (2987). |
↑14 | أخرجه البخاري برقم (6203)، ومسلم برقم (2150). |
↑15 | أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" برقم (266)، وصححه الألباني في "الصحيحة" برقم (435). |