المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة والأخوات، مرحبًا بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي المباشر: "أسس التربية" من قناتكم قناة "زاد" العلمية.
كنا قد بدأنا معكم في الحلقة الماضية حول أهمية التربية للأسرة، ولعلنا -بإذن الله - نستكمل الجزء الثاني من موضوع أهمية التربية للأسرة المسلمة.
تحدثنا عن أن أهمية التربية تكمن في كونها طاعةً لله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
ثم تحدثنا أيضًا عن النقطة الثانية في أهمية التربية، وهي: أنها أداءٌ لحق المسؤولية، كما جاء في حديث النبي : كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[1]أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829)..
سؤالٌ عن الرِّهاب الاجتماعي
ونبدأ باتِّصالٍ من الأخ عبدالحليم من الجزائر.
تفضل يا أخ عبدالحليم.
المتصل: السلام عليكم يا دكتور، كيف أحوالكم؟
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حيَّاك الله يا دكتور.
المحاور: أهلًا وسهلًا بك، مرحبًا، حيَّاك الله حبيبنا.
المتصل: عندي سؤالٌ يا دكتور.
المحاور: تفضل.
المتصل: كنتُ كلمتُك في الأسبوع الماضي عن الرِّهاب.
المحاور: أي نعم.
المتصل: لم أجد علاجًا في الجزائر.
المحاور: جزاكم الله خيرًا، لكنك لم تتواصل معي عن طريق (الواتس) يا شيخ عبدالحليم.
المتصل: لم أتمكن من الاتصال يا شيخ.
المحاور: أبشر، أنا سأُجيب عنك -بإذن الله-، لكن لو تتصل عليَّ عبر (الواتس)، والإخوة في (الكنترول) سيُعطونك الرقم.
المتصل: في أي وقتٍ يا دكتور؟
المحاور: أرسل ما لديك في (الواتس) في أي وقتٍ، وأنا أتواصل معك في أي وقتٍ، إن شاء الله.
المتصل: لم أستطع يا شيخ.
المحاور: أرسل رسالةً صوتيةً أو مكتوبةً أفضل على (الواتس)؛ لأن الأمر الذي ذكرته يحتاج إلى نقاشٍ على انفرادٍ، بارك الله فيك.
شكرًا لك يا أخ عبدالحليم، وأسأل الله أن يُخفف عنك، وحالتك -بإذن الله- يمكن الوصول إلى علاجٍ لها، وما أنزل الله داءً إلا قد أنزل له شفاءً، علمه مَن علمه، وجهله مَن جهله[2]أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده" (3578)، وقال محققو "المسند": "صحيحٌ لغيره"، وأوله في البخاري..
وأرجو من الإخوة في (الكنترول) الاتصال به، أو إرسال رقم الهاتف الاستشاري الخاص بي، بارك الله فيكم.
كنا قد تحدثنا عن أن القيام بالتربية أداءٌ لحق المسؤولية المُلْقَاة على عاتق المُربين وأولياء الأمور، وهي قضيةٌ سنُسأل عنها يوم القيامة، وقد جاء في الحديث: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، فالأب راعٍ، والأم راعيةٌ، كما جاء في تفصيل هذا الحديث عن النبي .
في التربية وقايةٌ للنفس والأهل من النار
التربية مهمةٌ للأسرة؛ لأن فيها وقاية الأبناء من النار التي ذكرها الله في قوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فقد يكون أبناؤنا وقود النار يوم القيامة -والعياذ بالله- إذا قصَّرنا في تربيتهم فكبروا وسلكوا مسلكًا لا يُحبه الله ولا يرضاه، وهناك آيةٌ واضحةٌ وصريحةٌ في هذا الأمر، وهي قول الله : إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن:14]، فهذه الأموال والأولاد قد تكون عدوًّا لنا؛ ولذلك جاء في الحديث: إن الولد مَبْخَلَةٌ، مَجْبَنَةٌ، مَحْزَنَةٌ[3]أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (4771)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1990)..
فالأبناء عُرْضَةٌ لعقاب الإنسان إذا لم يقم بتربيتهم، واستثمر ذواتهم بطريقةٍ إيجابيةٍ صحيحةٍ، وسيكونون له أعداء، وحاجبين له عن التقدم الإيجابي، وعن إسعاد الأسرة في الدنيا والآخرة.
فينبغي للإنسان أن يُدرك أن الأبناء والأهل قد يكونون أعداء إذا لم يقم بتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وكم يشتكي أناسٌ فلذات أكبادهم، ويتمنون زوالهم، وتأتينا استشاراتٌ أحيانًا من الأب، أو ولي الأمر عمومًا: أبًا، أو أمًّا، يريد أن يتخلص من الابن، أو العكس، فتأتي اتِّصالاتٌ من الأبناء يتمنون الخلاص من آبائهم.
وهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا، فحينما تكون هذه العداوة حاصلةً في الدنيا، فكيف سيكون الحال حين لقاء الله ؟!
ولذلك ينبغي أن نقي أنفسنا من عداوة الأبناء وعداوة الأهل والأزواج من خلال التربية الإسلامية الصحيحة.
معنا اتِّصالٌ من الأخت أم محمد من السودان.
تفضلي يا أخت أم محمد.
المتصلة: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصلة: ابنتي مُتوفيةٌ منذ سبعة أشهر، هل يجوز أن أزور قبرها من أجل أن أدعو لها؟
المحاور: هذا سؤالٌ شرعيٌّ، لعلك تسألين في البرامج الشرعية، وأما هذا فهو برنامجٌ خاصٌّ بالأسرة والتربية والجوانب النفسية، بارك الله فيكِ.
وأسأل الله أن يجعلها شفيعًا لكم يوم القيامة، بارك الله فيكم.
التربية مصدرٌ لسعادة الوالدين
ومن ثمار وأهمية التربية للأسرة: أنها ستكون سببًا لسعادة الوالدين، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ولها ارتباطٌ بالنقطة السابقة، لكن ذكرناها هنا من باب توضيح قضية السعادة؛ لأن الأب والأم حينما يُمارسون التربية في بناء القيم والعقيدة، ويستصلحون من أبنائهم: ذكورًا وإناثًا، لا شك أن هذا سيُعينهم على قضية الشعور بالسعادة؛ ولذلك كان من دعاء عباد الرحمن: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، فحينما يكون الأزواج والذُّريات قُرَّة عينٍ تحصل هنا السعادة وقُرَّة العين، كما كانت الصلاة قُرَّة عين النبي ، وهكذا عندما تكون الزوجة والأبناء قُرَّة عينٍ للزوج والأب، فهذا مصدر السعادة.
وهي عكس النقطة السابقة، فالنقطة السابقة فيها جانبٌ وقائيٌّ، وهو: عدم حصول العداوة وما يترتب عليها من إشكالاتٍ وضعفٍ في التماسك الأُسري والخلافات، وهذه النقطة هي نقطةٌ بنائيةٌ مُرتبطةٌ بقضية الإسعاد ووجود الراحة والطمأنينة النفسية من خلال هذه التربية الإسلامية للأسرة.
وكم تقرُّ عين الأب حينما يرى أبناءه -ذكورًا وإناثًا- على خيرٍ عظيمٍ، وكم تقرُّ الأم حينما ترى كذلك أبناءها على خيرٍ عظيمٍ.
وهكذا ينبغي أن نفرح ونسعد من خلال مُنتج التربية، فنحن في المنتج التربوي في الأسرة نحتاج المنتج الذي يعبد الله ، ويُحقق قول الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فحينما يرى الأب والأم من أبنائهم -ذكورًا وإناثًا- ذلك فهم لا شكَّ أنهم سيسعدون، وستقرّ أعينهم، وحينما يحصل العكس لا شك أن هذا سيكون مصدرًا للتعب والشقاء، حتى لو بذلوا جهدًا.
صحيحٌ أن الإنسان إذا بذل جهده فإنه يحمد الله على ما حصل، ويحاول أن يزيد، لكن ربما يلقى الله ولم تتحقق له سعادته في رؤية ما يسرُّه في الأبناء؛ ولذلك بعض الأنبياء مثل نوحٍ ما استطاع أن يجعل ابنه مسلمًا، وكذلك زوجته -كمثالٍ-، وهذه القضية واضحةٌ جدًّا، وهو نبيٌّ.
ولذلك نحتاج إلى أن نهتمَّ بقضية التربية منذ نعومة الأظفار، وأُؤكد على قضية المرحلة المُبكرة جدًّا، وهي مرحلة الطفولة؛ لأجل ألا نندم بعد ذلك، فهذه المرحلة نحتاج إلى الوقوف معها كثيرًا، ونغرس فيها القيم التي يحتاجونها؛ لأن في هذه المرحلة جانب المُحاكاة والتقليد قويٌّ عندهم، وسرعة القابلية للتأثر والتَّشكيل، ويُقبلون بعد ذلك على مرحلة المُراهقة وهم في وضعٍ مُستقرٍّ يقرّ أعين والديهم.
في التربية حصول الثواب
وهذه التربية لها أهميتها للأسرة من خلال حصول الثواب يوم القيامة، يقول الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، فالله تعالى يُلحق الآباء بالأبناء بسبب أثر الآباء على الأبناء في الدنيا، فهم سلكوا مسلك الإيمان، وأثَّروا في أبنائهم، فالله جمع الآباء بالأبناء مع أنهم في تفاوتٍ في منازل الآخرة، لكن جزاء لهذا العمل الكبير، وهو التربية على الإسلام حتى أصبح هؤلاء الأبناء على طريق الإيمان، فهم لا شكَّ يستحقون الجزاء يوم القيامة، وهو: أن يلتقوا بأبنائهم في مكانٍ واحدٍ في جنات النعيم.
رزقنا الله وإياكم منازل الجنان مع أبنائنا.
وصايا للأُسَر المسلمة في الغُربة
معنا مداخلةٌ كريمةٌ للدكتور: ياسر بن مصطفى الشلبي، دكتوراة في علم نفس الأسرة من الجامعة الألمانية للعلوم والتكنولوجيا، وهو أيضًا طالب دكتوراة في الحديث النبوي من جامعة غازي عنتاب بتركيا، وهو معنا من تركيا.
والدكتور له اهتمامٌ بالأُسر السورية؛ لكونه من هذه الديار المُباركة، ونحن أيها الإخوة نتحدث في وقتٍ عصيبٍ، نسأل الله أن يلطف بإخواننا هناك، وخاصةً في حلب، وأن يرفع عنهم البأساء.
حيَّاك الله يا دكتور.
المتصل: الله يُحييكم، يا مرحبًا بكم، وأهلًا وسهلًا.
المحاور: أهلًا وسهلًا بك، ونحن سُعداء بوجودكم، جزاكم الله خيرًا على مُشاركتكم وجهودكم الطيبة في رعاية الأُسر المسلمة، وبخاصةٍ الأُسر السورية في المهجر والغُربة.
ألا حدثتنا عن أهمية التربية للأسرة المسلمة، وبخاصةٍ لكونكم لكم اهتمامٌ في رعاية الأُسر السورية في خارج سوريا في ظلِّ هذه الأحداث.
أسأل الله أن يُسعدنا ويسرنا في النَّكال بالنظام الظالم، وأن يرفع عن إخواننا ويحفظهم، اللهم آمين.
تفضلوا، بارك الله فيكم.
المتصل: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نسأل الله أن يرفع عن الأمة هذا الخَطْب الجَلَل، وأن يحفظ إخواننا في حلب وفي سائر بلاد المسلمين.
أخي الكريم، لا يختلف اثنان على أهمية التربية الأُسرية وضمان التَّنشئة السليمة للطفل، وهذه الأهمية تصل إلى الدرجة القصوى في بلاد الغُربة؛ وذلك للحفاظ على الهوية الإسلامية للطفل.
ففي البلاد المُحافظة التي يغلب عليها المظهر الإسلامي هناك مَن يُساعد الأسرة على التربية والتنشئة الإسلامية للطفل: كالمدرسة، والمسجد، والأقارب، والجيران، وغير ذلك، لكن في بلاد الغُربة فإن الأسرة في الغالب تنفرد في مجال التربية الدينية والقِيَمية والأخلاقية للأبناء، بينما المجتمع يهتم بالتربية المادية دون الأخلاقية، بل قد يُساهم المجتمع في هدم القيم، وتغريب الأبناء، مما يجعلهم ينسلخون من هُويتهم الإسلامية!
وفي معظم بلاد الغُربة نُعاني بشكلٍ كبيرٍ من انسلاخ الأبناء من الهوية الإسلامية، سواء الصغار، أو حتى طلبة الجامعة.
من هنا تبرز أهمية قيام الأسرة بدورها في تربية الأبناء، وغرس القيم لديهم، كما تبرز أهمية ظهور الوالدين بمظهر القدوة للأبناء في مناطق الغُربة؛ ليتعلموا منهم كيف يتعاملون مع مجتمعٍ مليءٍ بالمخاطر؟ وكيف يستفيدون من إيجابيات المجتمع الذي يعيشون فيه، ويكتسبون المهارات الحياتية دون أن يُؤثر ذلك على أخلاقهم وعقيدتهم وهويتهم الإسلامية؟ فبالتأكيد هناك جوانب إيجابية في المجتمعات التي يعيشون فيها، سواءٌ في المجالات العلمية، أو المهارية، فإذا انشغل الأبناء بملذَّات الحياة سوف يعودون إلى بلادهم مليئين بالآثام، بدلًا من أن يعودوا إلى بلادهم مُكتسبين للمهارات المهمة.
المحاور: كونك مختصًّا بعلم نفس الأُسر، هل ترى فعلًا أن المُعاناة الموجودة للأُسر وللإخوة السوريين في شتات البلدان قضيةٌ واضحةٌ؛ لكونكم مُتابعين للقضايا التربوية والأُسرية؛ لأنه فعلًا تردني أسئلةٌ واستشاراتٌ كثيرةٌ حول هذا الموضوع؟
المتصل: نعم، هي قضيةٌ واضحةٌ جدًّا، فنحن نُعاني في بعض البلدان الغربية من موضوع غياب الهوية لدى الأبناء، وحتى في البلاد الإسلامية مثل: تركيا، فالمجتمع هنا مجتمعٌ علمانيٌّ، توجد مظاهر إسلاميةٌ جيدةٌ -الحمد لله-، لكن الشارع العام مظهره علماني، وجميع مظاهر الفسق والمعاصي موجودةٌ أمام الأطفال، وفي مُتناول الأبناء بشكلٍ كبيرٍ، والجو داخل الجامعات مليءٌ بالمخاطر للأبناء، والأدهى من ذلك أنه بدأت موجة الإلحاد تنتشر في جميع تلك المناطق.
المحاور: طيب، يا دكتور ياسر، وصيتك لأُسرنا وإخواننا السوريين.
المتصل: أهم وصيةٍ أود أن أُوصي بها الأُسر وأُؤكد عليها: أن يعتنوا بتقوية الرقابة الذاتية والإيمانية للأبناء منذ الصِّغر، فهي من العوامل المُساعدة على تنشئة الأبناء تنشئةً سليمةً في ظل غياب وازع الرقابة المجتمعية في بلاد الغُربة، فالرقابة الذاتية تجعل الطفل يُحاكم نفسه إذا أخطأ، ويختار الطريق الصحيح لتحقيق أهدافه.
فلا بد أن نغرس تلك الرقابة لدى الأبناء منذ صغرهم من خلال الحوار، وتعليم الابن تحمل المسؤولية، وربطه بالله تعالى، وتعظيم أوامر الله في نفسه، وإشعاره برقابة الله.
وهذا ما فعله النبي حينما أردف ابن عباسٍ رضي الله عنهما وهو ابن سبع سنوات، وقال له: يا غلام، إني أُعلمك كلماتٍ، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله[4]أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (2382).، إلى آخر الحديث الذي يُعتبر من الأُسس التربوية للأطفال في غرس الرقابة الذاتية بالنسبة لهم.
المحاور: أحسنتَ، وأيضًا الملحظ يا دكتور ياسر في هذا الموقف النبوي العظيم: أن النبي عليه الصلاة والسلام يُربي ابن عباسٍ رضي الله عنهما مع صغر سنِّه على قضايا أصول الدين، وهي واضحة المعالم، لكننا قد لا نتنبه لها، مع أن الطفل في عمر سبعٍ لديه مستوى من الإدراك محدودٌ، لكن قد تصله الرسالة بأن الله معه، ويراه ، وتستمر هذه القضية التراكمية بالنسبة له من خلال التربية.
هل ترى يا دكتور أن بناء القيم وغرس القيم هي المهمة الأساسية التي ينبغي للأسرة المُغتربة المسلمة أن تقوم بها؟
المتصل: نعم، أول دورٍ بالنسبة للأسرة المسلمة أن تقوم بتربية الرقابة الذاتية عند الأبناء، ووضع هدفٍ للطفل والابن يسعى إليه، فلا نستصغر الأبناء، يعني: هناك خطأٌ تربويٌّ، وهو: أننا نستصغر إمكانيات الأبناء، مع أننا نستطيع أن نُعلم الطفل من صغره -وهو ابن سبع سنوات- أن يكون له هدفٌ في الحياة يسعى إلى تحقيقه، ونُساعده على تحقيق هذا الهدف.
ولدينا بعض التجارب الناجحة -بحمد الله- مع الطلاب في المرحلة المتوسطة والثانوية؛ وضعنا لهم مجموعة أهدافٍ، وعزَّزنا الرقابة الذاتية لهم، فكانوا ناجحين في المجتمعات لدرجة أن بعضهم عندما دخلوا الجامعات أصبحوا هم الأوائل في تلك الجامعات؛ لأنهم مشغولون بأهدافهم ويعملون على تعزيز أنفسهم، وكذلك بعضهم وصل إلى أنه يُعاقِب نفسه بنفسه، ولم يحتج أحدًا ليُعاقبه؛ لأنه أصبحت له قيمةٌ.
المحاور: رائعٌ، هم في بلاد الغُربة يا دكتور؟
المتصل: نعم، وهم في بلاد الغُربة، وأعرف طالبًا عملنا معه، ما شاء الله عليه! والآن هو الأول في جامعات إسطنبول، ومعدله 94%، والطالب الثاني تركي ومعدله 74%، بفارق 20% بين الطالب الأول والثاني، والسبب في هذا الأمر: أن هذا الطالب تعززت لديه الرقابة الذاتية، وأصبح هو مَن يُحاسِب نفسه، ولديه هدفٌ في الحياة.
المحاور: هذه الآن مُمارسةٌ خارج الأسرة، فأين الأسرة يا دكتور؟
المتصل: ممارسةٌ من خلال محضنٍ تربويٍّ بالتنسيق مع الأسرة، لا نستطيع نحن أن نعمل مع الطفل وحده بدون أن نُنسق مع أُسرته؛ لتُساعده في تحقيق هذا الهدف.
المحاور: يعني: هو وصل لهذا الهدف من خلالكم ومن خلال الأسرة؟
المتصل: نعم، كان هناك تنسيقٌ مع الأسرة أن تُساعد هذا الطالب في الوصول إلى هدفه.
المحاور: جميلٌ.
أسأل الله أن يجزيكم خيرًا.
هل بقيت نقطةٌ مهمةٌ في موضوع الإجراءات؟
المتصل: نحن دائمًا نُوصي الأسرة في الغُربة بأن تُوجِد محاضن تربوية لأبنائها، والصُّحبة الصَّالحة التي نستطيع من خلال ربطهم بها أن يُمارس الابن القيم الإسلامية، ويتعامل بها.
ومن الأمور الأخرى المهمة جدًّا التي نُوصي بها الأُسر: الاهتمام بموضوع اللغة العربية، فإذا ابتعد الطالب أو الابن عن اللغة الأم أو لغة القيم -لغة القرآن- فسوف يبتعد بشكلٍ كبيرٍ عن دينه وأخلاقه وهُويته، فلا بد أن نهتم بشكلٍ كبيرٍ بتعليم الأبناء اللغة العربية؛ ليستطيعوا فهم القرآن والأحاديث النبوية.
المحاور: بارك الله فيك يا دكتور ياسر، وحقيقةً كلماتٌ جميلةٌ، ومشاريع مُوفَّقةٌ مُباركةٌ، وجهودٌ نسأل الله أن يُبارك لكم فيها، ويُعينكم عليها، فأنتم تقومون بدورٍ كبيرٍ، أسأل الله أن يرفع الغُمَّة، ويُبارك في جهودكم في رعاية هذه الأُسر والأجيال وتوجيهها.
نشكرك يا دكتور ياسر، وبارك الله فيك.
المتصل: جزاكم الله خيرًا، وأهلًا وسهلًا بكم.
المحاور: شكرًا للدكتور ياسر الشلبي، دكتوراة في علم نفس الأسرة، ومن المُهتمين بالأُسر السورية ورعاية الأجيال في تركيا، أسأل الله أن يُبارك في جهودهم.
وقد ذكر كلامًا مهمًّا عن موضوع الهوية والقدوة وما يرتبط بالتنسيق بين المحاضن التربوية والأُسرة، فحينما يكون هذا التنسيق قائمًا سيكون له أثرٌ كبيرٌ جدًّا على الأجيال، ثم ينبغي أن تكون المُزاحمة موجودةً في ظل ما يُعانونه في المدارس والجامعات والمجتمع والشارع في بلاد الغُربة، حتى في بعض بلاد المسلمين -كما أشار إلى ذلك-؛ لكون الشارع فيها -للأسف الشديد- لا يُمثل الحشمة والتدين وما شابه ذلك، وإنما هناك انفتاحٌ، وهذا الانفتاح لا شك أنه يُؤثر على الأبناء والأجيال ويُكسبهم أشياء غير حسنةٍ، فإذا لم يجدوا ما يُزاحمها من خلال توجيهٍ تربويٍّ في الأسرة والمحاضن التربوية الرافدة ستحصل إشكاليةٌ، لكن إذا وُجِد هذا الغرس ..، ولقد ضرب الدكتور مثالًا وهو: الطالب الذي حقق المستوى الأول بسبب تربيته على المُراقبة الذاتية.
وقد أكَّد الدكتور على المُراقبة الذاتية بشكلٍ جيدٍ، ولا شك أن هذا من الإنجاز العظيم جدًّا.
ثم ختم كلامه حول قضية اللغة العربية، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في المُحافظة على الهوية بلا شكٍّ، وتُساعد أيضًا على الاستمرار في التلقي والفهم من مصادرنا العظيمة.
ونحن نريد من مُشاركة الدكتور الكريم، وأيضًا تلخيص كلامه: أن نُوصِّل رسائل لكثيرٍ من أصحاب الأسئلة التي تردنا، فكثيرٌ من المُتابعين لهذا البرنامج وأمثاله هم أناسٌ من الأُسر المسلمة الموجودة في البلاد الغربية، أو المهجر، أو بلاد الغُربة، ويسألون كثيرًا حول هذه القضايا وما يتعلق بها.
ولعل ما أشار إليه الدكتور ياسر يكون لنا -إن شاء الله تعالى- معه ومع غيره إشاراتٌ أكثر -بإذن الله- تكون لها فائدةٌ عظيمةٌ جدًّا لهذه الأُسر؛ حتى نجعلها كمنهجٍ يُساعدنا في ضبط البوصلة في تربية الأجيال.
طيب، كنا قد تكلمنا عن قضية ثواب الوالدين في الآخرة، وهذا من أهمية التربية للأسرة، كما قال الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، فالله يجمع الأبناء بالآباء في الجنان في منزلةٍ واحدةٍ.
تربية الابن الكبير تفيد في تربية الصغار
ومن أهمية التربية: أن الوالدين يحتاجان إلى الأبناء الكبار الأبكار -ذكورًا وإناثًا-، فدائمًا تجدون في الأُسر التي تهتم بالتربية صفًّا ثانيًا من المُربين من الأبناء، فالولد الأكبر يكون مُعينًا لوالديه في تربية إخوانه الأصغر منه، وكذلك البنت الكُبرى، وهذا ملحوظٌ في الأُسر الناجحة.
من فوائد التربية: تقليل التكاليف الاقتصادية
فالتربية من شموليتها: أنها تهتم بالجانب الاقتصادي، والجانب الاقتصادي مُؤثرٌ جدًّا في موضوع التربية.
وقد جلستُ اليوم في مجلسٍ مباركٍ، وكان بعضهم يتحدث حول قضية الأبناء في أُسرهم، وكيف يقومون ببعض الأعمال والمُنتجات التي تُدرُّ على الأسرة ربحًا، وهم أبناء صغار، أو مُراهقون.
فلا شك أن هذه القضية ستُساعد في تقليل التكاليف الاقتصادية على الأسرة، وتدعمها من الناحية الاقتصادية، لكن لا يتأتى ذلك إلا بوجود تماسكٍ أُسريٍّ إيجابيٍّ، وتربيةٍ ناجحةٍ.
أيها الإخوة، فاصلٌ ونعود إليكم -بإذن الله-، فانتظرونا.
الفاصل:
البطالة
لأن يأخذ أحدُكم أَحْبُلَه ثم يأتي الجبل، فيأتي بحُزْمَةٍ من حطبٍ على ظهره، فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه؛ خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه.
توجيهٌ نبويٌّ لعلاج أخطر المُشكلات الاقتصادية والاجتماعية في واقعنا المعاصر، وهي البطالة، وترجع أسبابها إلى:
- احتقار بعض المهن أو رفضها بحجة عدم المُناسبة.
- اعتماد بعض الشباب على الوالدين.
- المُعدلات المُنخفضة للنمو الاقتصادي.
- التقدم التكنولوجي والاستغناء عن العمالة.
- ضعف نُظم التعليم والتدريب.
وتكمن خطورة تلك الظاهرة في آثارها التي منها:
- الإصابة بالإحباط وعدم الثقة؛ مما يُولد اكتئابًا وقلقًا وشعورًا بالفشل.
- التوجه للجريمة والانحراف: كالمُخدرات، والسرقة، والتطرف.
- إهدار الطاقات الإنتاجية.
- الفراغ القاتل الذي يُؤدي إلى عواقبَ لا تُحمد نتائجها.
ويتوقف علاج تلك الظاهرة على:
- تنشئة الشباب على حبِّ العمل والإيجابية.
- تقديم القُدوات الجادَّة الناجحة.
- توفير فرص العمل المُناسبة.
- تقديم الدورات التدريبية المُؤهلة للمُشاركة في سوق العمل.
- الإقراض الحسن للمشاريع الصغيرة والأعمال الفردية، وإنظار المُعسرين منهم.
قال رسول الله : ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده.
أثر الانفتاح العالمي على البناء الأُسري
معنا الآن مداخلةٌ كريمةٌ من الأخ الأستاذ: أنور الراشد عسيري، الأستاذ في كلية التقنية، وعضو مجلس إدارة جمعية "وئام" للرعاية الأسرية.
حيَّاك الله يا أستاذ أنور.
المتصل: حيَّاكم الله وبَيَّاكم فضيلة الشيخ الدكتور: خالد السعدي.
المحاور: أهلًا وسهلًا بك، ونحن سُعداء جدًّا بمُشاركتك حول أهمية التربية للأسرة المسلمة، ألا حدَّثتنا عن ذلك بناءً عن اهتماماتك -جزاك الله خيرًا-، وأيضًا كونك من المُختصين في مجال التوجيه والإرشاد النفسي.
المتصل: أولًا: نشكركم أستاذنا وشيخنا الدكتور: خالد السعدي على هذه المُداخلة، وما كان لمثلي أن يُداخل بين أيديكم إلا حبًّا في المُشاركة فقط في نشر الخير، وأشكر قناة "زاد"، وأشكر أيضًا المُداخل السابق الدكتور: ياسر، فقد كانت مُداخلته جميلةً ورائعةً.
بالنسبة للتربية: هي مسألةٌ ضروريةٌ للأسرة المسلمة، وكما لا يخفى على شريف علمكم -وفَّقكم الله- أنه من عام 1414 للهجرة النبوية تقريبًا بدأت تُواجه الأسرة المسلمة في العالم العربي خاصةً تحدياتٍ صعبةً بسبب الانفتاح العالمي والقنوات الفضائية و(الإنترنت) والعولمة، ... إلى آخره.
فهذا الانفتاح أثَّر على بناء الأسرة المسلمة وتماسُكها واستقرارها النفسي والفكري والسلوكي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل المشكلة في الانفتاح، أو المشكلة فينا؟
فقد أثبتت دراسةٌ قام بها أحد الأساتذة في جامعة الملك سعود عن قضية الانفتاح وأثره على المجتمع الخليجي خاصةً، وتطرق إلى مسألةٍ مهمةٍ جدًّا، وهي: أن المشكلة لم تكن في الانفتاح، وإنما المشكلة بكل بساطةٍ: أنه لما حدث هذا الانفتاح لم نكن نحن بالمستوى التربوي المطلوب لمُواجهة هذا الطوفان المُدمر.
المحاور: يعني: جاء الطوفان، أو جاءت التقنية مع ضعفٍ في التربية؟
المتصل: نعم، وهذا هو الإشكال الكبير، وهو: عدم وجود سياجٍ منيعٍ قويٍّ وحصنٍ متينٍ من التربية الإسلامية الصحيحة التي تكون حاجزًا مانعًا من هذه الانحرافات التي حصلت في المجتمعات العربية، وخاصةً الخليجية، فنحن بحاجةٍ إذن إلى بناءٍ تربويٍّ للمجتمع.
اليوم الإحصاءات والدراسات موجودةٌ ومُنتشرةٌ على (الإنترنت) وفي كل مكانٍ، فقضية -مثلًا- ارتفاع نسبة الطلاق، وانتشار المُخدرات والإدمان، والعنف الأُسري؛ مشكلاتٌ كثيرةٌ هددت كيان المجتمع، وكلها بسبب ضعف البناء التربوي للمسلم، والمسلم جزءٌ من هذه الأسرة، فلما نبني هذا المسلم أو الفرد فإننا نبني أسرةً قويةً متينةً تُؤسس لأجيالٍ قادمةٍ -بإذن الله-، وتكون ثمرةً مُباركةً للمجتمع.
أذكر -إذا سمحتم لي- مقالةً للدكتور: عبدالله بن وكيل الشيخ، أستاذ بكلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، يقول فيها: إن القيام بالتربية الأسرية واجبٌ شرعيٌّ دلَّت عليه النصوص الشرعية، وتفرضه المصلحة الواقعية، ويقتضيه العقل الحصيف.
وقال أيضًا: إن التربية عمليةٌ منهجيةٌ تحتاج إلى معرفةٍ ومهاراتٍ وصبرٍ على المُتابعة.
المحاور: إذن التربية ليست من نافلة القول، وإنما هي واجبٌ شرعيٌّ لا بد من العناية به.
المتصل: لا شكَّ، وذكر مثالًا في أسلوب التنشئة الاجتماعية: لما يسلك الوالدان مسلكًا جيدًا في التربية الاجتماعية للطفل يكون لها أثرٌ رائعٌ جدًّا على صحة هذا الابن النفسية، ولما يُبنى الابن على الشورى والتَّقبل، فلما يدخل في عراك المجتمع يستطيع أن يتعايش معه، ويُحقق ذاته، ويُعبر عما يريد، ولا يخشى شيئًا، بخلاف الأسرة التي تستخدم القهر والتَّسلط والإلزام، ... إلى آخره.
وذكر كلماتٍ كثيرةً جميلةً في هذا الباب، ولا أريد أن أُطيل عليكم.
والوصية لنفسي ولإخواني الكرام في ختام هذه المُداخلة: أن نحرص على تربية أبنائنا على الكتاب والسنة، ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ، وقدوةٌ مُباركةٌ.
وأقترح اقتراحًا بسيطًا عمليًّا -إذا سمحتم لي- أختم به.
المحاور: تفضل يا أبا عبدالرحمن.
المتصل: جرى استبيانٌ أو استفتاءٌ على عدد ثلاثمئة طالبٍ فقط: مَن يجلس مع والديه في اليوم؟
المحاور: أين طُبِّق يا أستاذ أنور؟
المتصل: على طلابي في كلية التقنية.
المحاور: طلاب مرحلة جامعية؟
المتصل: نعم.
المحاور: وكيف كانت النتائج؟
المتصل: 1% الذي يجلس مع والده ومع والدته وإخوانه، يجتمعون مرةً واحدةً في الأسبوع!
المحاور: لا إله إلا الله! 1%.
المتصل: نعم، للأسف، وأنا نصيحتي هنا أو المُقترح الذي أُقدِّمه لأرباب الأُسر: أن يكون هناك لقاءٌ يوميٌّ ولو لمدة سبع دقائق أو عشر، يجتمعون على آيةٍ من كتاب الله، ويتدارسونها، أو على حديثٍ من أحاديث رسول الله ويتدارسونه، ثم يفتحون نقاشًا عامًّا مفتوحًا، فهذا يُحْدِث شيئًا من التقارب، وأيضًا يكسر الحواجز، فالابن أو البنت إذا كانت عنده مشكلةٌ يطرحها للنقاش، ويكون هناك نوعٌ من المُكاشفة؛ حتى نسلم من هذه الانحرافات التي طرأت على مجتمعنا، سواءٌ كانت فكريةً، أو سلوكيةً، أو اجتماعيةً.
أشكركم، وأعتذر عن الإطالة.
المحاور: جزاكم الله خيرًا، شكرًا لكم.
المتصل: شكر الله لكم، ونفع بكم.
المحاور: شكرًا يا دكتور، أفدتنا كثيرًا، ولا فُضَّ فوك.
المتصل: جزاك الله خيرًا.
المحاور: وشكر الله لك على هذه الإطلالات الجميلة والرائعة، وأسأل الله أن يُبارك فيك وفي عمرك، اللهم آمين.
كان معنا الأستاذ أنور الراشد عسيري، أستاذ في كلية التقنية، ومُهتمٌّ أيضًا بشؤون الأسرة، ومُرشدٌ طلابي، جزاه الله خيرًا.
وقد حلَّق بنا في أمورٍ جميلةٍ حول البناء التربوي، وحاجة الأسرة لهذا البناء التربوي في مقابل القضايا التي ربما تأتي في الدراسات السلبية، وأكَّد أن هذه كلها بسبب ضعف الجانب المتعلق بالبناء التربوي، وهذا الكلام حقيقي.
وأجمل ما ذكر فيما لفت نظري هو قضية: هل نحن المشكلة، أم الانفتاح هو المشكلة؟
يعني: أظن أن هذا الانفتاح كان موجودًا من قبل، كلٌّ على حسب وقته وزمنه، لكن الكلام في مدى قُدرتنا نحن على قضية القيام بالواجب الذي علينا، كما أشار إلى كلام الشيخ عبدالله بن وكيل، وهو كلامٌ جميلٌ.
ثم عقَّب على الدراسة الخطيرة المسحية السريعة على طلابه، وكان عددهم ثلاثمئة، وكانت النتيجة أن 1% فقط من أولياء الأمور يجلسون مع أبنائهم أسبوعيًّا! وهذه القضية خطيرةٌ جدًّا، فنحن قد نكون أول المُقصِّرين فيها، فينبغي على أولياء الأمور أن يُراجعوا أنفسهم فيما يتعلق بهذه القضية، ويجلسوا مع أبنائهم، ويكون هذا جزءًا من أولوياتنا.
وهناك دراساتٌ أخرى مُتعلقةٌ بالحوار والنقاش، وليست نتائجها مُبَشِّرةً، فنحتاج أن نُراجع أنفسنا حتى نبني الأسرة بناءً تربويًّا سليمًا، وكلما بُنيت الأسرة بشكلٍ سليمٍ وتحقق الاستقرار النفسي والصحة النفسية؛ استطعنا أن نُحقق الإنتاجية في الحياة، ونُوجد الاستقرار الذاتي عند أفراد الأسرة، والاستقرار المجتمعي عند الأُسر ككيانٍ مجتمعيٍّ بينه تلاحمٌ إيجابيٌّ، وأيضًا مع المجتمع الخارجي، وكذلك نُحقق الإنتاجية الكبيرة، كلٌّ حسب طاقته.
شكر الله للأستاذ أنور، والدكتور ياسر، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذه المُداخلات الطيبة.
التربية والتحديات المُعاصرة
ومن أهمية التربية الإسلامية للأسرة: أنها تُساعدنا في التغلب على التحديات المُعاصرة، وقد كان لنا لقاءٌ سابقٌ قبل أسبوعين تقريبًا مع سعادة الدكتور: سعد الشدوخي حول التربية في ظل التحديات المعاصرة.
ونحن نؤكد على أن هذه التحديات المعاصرة ليست بإرادتنا، فلسنا نحن الذين أوجدناها، وإنما هكذا الحياة، وهكذا التقدم التقني والمعرفي والثورات المعلوماتية والاتصالية، وما شابه ذلك، فإن لم تكن التربية الإسلامية موجودةً في أُسرنا ستُصبح عندنا مشكلاتٌ في التعامل مع هذه التقنية والإعلام الجديد؛ ولذلك التربية حمايةٌ ووقايةٌ واستثمارٌ لهذه التقنية بطريقةٍ إيجابيةٍ، وإلا سنجني الصورة السلبية التي نعاني منها ونقرأها كثيرًا في إحصائياتٍ عديدةٍ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، للأسف الشديد.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أهمية التربية للأسرة.
الإجابة عن الأسئلة
في أواخر هذه الدقائق المُتبقية من هذه الحلقة نُجيب عن بعض أسئلة الإخوة الأكارم التي كانت مطروحةً عبر (الواتس آب).
س: يقول أحد الإخوة: عندي ولدٌ يسرق أشياء من زملائه في المدرسة، وهو في سنِّ ست سنوات، ماذا أفعل؟
ج: حقيقةً لا بد من معرفة سبب السرقة، فهذا مهمٌّ جدًّا، هل هو تقليدٌ؟ لأن قضية المُحاكاة مُؤثرةٌ جدًّا في مرحلة الطفولة، وصحيحٌ أنه فيه إدراكٌ ينمو أكثر وأكثر، لكن أيضًا هذا الإدراك له ارتباطٌ بالتربية، فهل هو تقليدٌ، أو حرمانٌ من شيءٍ -مثلًا- فهو يريد أن يُعوضه عن طريق السرقة، أو هو خوفٌ؟
فقد حصلت قصةٌ في بعض المدارس، وهي: أن بنتًا صغيرةً في الابتدائية كانت تسرق، فتحرَّت المُرشدة الطلابية أو المُشرفة الاجتماعية في المدرسة، فتبيَّن أن سبب السرقة: أن الأم كانت دائمًا تقول: أين الهدايا التي تأخذها زميلاتك للتفوق؟! أنت لا تأتين بأي هديةٍ! وكلما دخلت البنت إلى أمها واجهتها بهذا العِتاب! فصارت البنت الصغيرة تخاف أن يستمر عِتاب أمها؛ فبدأت تسرق من المدرسة، وأنا أعرف هذه القصة، واطَّلعتُ عليها، وأُؤكد على الانتباه لمثل هذه القضايا المُرتبطة بالاحتمالات التي ذكرناها.
أيضًا من الأهمية بمكانٍ -أخي الكريم- أن نُعزز الجانب الذي هو عكس جانب السرقة بلا شكٍّ، وأيضًا أن نُؤكد لهذا الابن أو البنت ونقول له: يا ولدي، إن هذا السلوك ليس سلوكًا سليمًا ومحبوبًا، فالله لا يرضى عنه، والناس لا يُحبونه، فأنت لا ترضى عن أحدٍ يأخذ أغراضك. وما شابه ذلك، وسنُكافئك -بإذن الله - حين تكون بعيدًا عن هذه الأشياء. فيُوعَد بقدرٍ.
فإذا حصل التعزيز وما نفع، أو وُجِّه إلى التعزيز ووُعِدَ به ولم ينفع، ننتقل إلى قضية العقاب المُتعلق بالحرمان من شيءٍ يُحبه؛ حتى يشعر بالعقوبة، ولعله يرتدع، بإذن الله .
س: هذه سائلةٌ تقول: عندي أولادٌ ثلاثةٌ: بنتان وولدٌ، عمر البنت الكُبرى سبع عشرة سنة، والثانية خمس عشرة، والولد اثنتا عشرة سنة، وهم تاركون للصلاة، وليس بينهم احترامٌ، وهذه البذرة أنبتها أبوهم داخلهم حتى كبرت، والآن بعد فقدان والدهم لا أستطيع السيطرة على الوضع، وليس لي إلا الضرب والإهانة، ساعدوني وأرشدوني.
ج: أسأل الله أن يغفر لأبيهم ويرحمه، وأسأل الله أن يُعينك، ويُصلح حال أبنائك.
أما الجواب أختي الكريمة: فإياك أختي الكريمة والإهانة وكسر الكرامة، فمهما وصل الأمر إلى ما وصل إليه فسنخسر أبناءنا، والأعمار التي ذكرتيها هي أعمارٌ خطيرةٌ جدًّا؛ فإياك أن تكسري كرامة أبنائك من خلال الإهانة، فلنتنبه لهذه القضية فإنها مهمةٌ جدًّا.
وأيضًا لا داعي للضرب والقسوة، فإنه في ظلِّ وضعهم وعمرهم لا أرى ذلك نافعًا، فليست القضية تنفيسًا وتسجيل موقفٍ بعدم الرضا، فواضحٌ أن هناك عدم رضا من قِبَلك، وهم يعرفون هذا الكلام، لكن الكلام في التعامل، وعليكِ أيضًا بالإلحاح على الله بالدعاء، فقد تنقطع السُّبل بنا، لكن يبقى سبيل السماء، وهو عون ربِّ العالمين، فنحن بأمس الحاجة إليه.
وكذلك حُسن العشرة والتواصل، فأقول لجميع الإخوة أولياء الأمور -ذكورًا وإناثًا-: أرجوكم أن تحرصوا على حُسن العشرة مهما كانت ظروف الأبناء، وخاصةً إذا كانت هناك أشياء فيها مُخالفاتٌ لا يرضاها الوالدين، ولا يرضاها الله قبل ذلك، أو هناك شيءٌ أشد من ذلك كما وصفت الأخت حول أبنائها، فلا بد من حُسن العشرة والتواصل معهم.
ثم استخدام أساليب مُؤثرة -مُباشرة وغير مُباشرة- قدر المُستطاع في قضايا الصلاة، وقضايا الأخلاق والقيم، ومن خلال القدوة والمُشاركة الجماعية، ومن خلال الروابط والفيديوهات القصيرة، و(الفلاشات) الرائعة المُؤثرة، ومن خلال القصة غير المُباشرة، فلعل هذه -بإذن الله - تُساعد على إصلاح الأبناء.
ولا تيأسي أختي الكريمة، فإذا قمتِ بما أوجب الله عليكِ، فالله يعذركِ، ولسنا وإياك خيرًا من بعض الأنبياء الذين لم يستطيعوا أن يكونوا سببًا في هداية أقرب الناس إليهم.
س: هذا الأخ الكريم يقول: أنا أُدرِّس أطفالًا في قسمٍ تحضيريٍّ، وعندي تلميذٌ عمره خمس سنوات، ويُعاني من التَّوحد، كيف أتعامل معه؟
الدكتور نصح أهله أن يُدخلوه الدراسة؛ حتى يندمج مع الأطفال، لكنه لم يتجاوب مع الأطفال العاديين، وأحيانًا يُصدر أصواتًا مُزعجةً: كضرب الطاولة، أو الحائط، ويجري في الفصل، ولا يُركز معي مهما حاولتُ معه.
ج: هذه مُعاناةٌ واضحةٌ جدًّا على أية حالٍ، وهذا الطفل معذورٌ، وأسأل الله أن يرعاه ويُعين أهله، فهذه هي أفعال الطفل المُصاب بالتوحد، ولا شك أن الصورة التي هو فيها تُوضح أن هذا الطفل مُصابٌ بالتوحد، وقضية دمجه بهذه الصورة مع الأطفال العاديين في المدارس العادية لي فيها وجهة نظرٍ، وهي: أن هذا ليس من الإجراء الصحيح، وإنما المُفترض أن يكونوا في فصولٍ خاصةٍ، ورعايةٍ خاصةٍ، ولا مانع أن يكون هناك دمجٌ جزئيٌّ للدعم الاجتماعي والنفسي والاختلاط مع الآخرين، وحتى يُعطى الأطفال العاديون شيئًا من القيم في التعامل مع مثل هؤلاء الأطفال المُصابين بالتوحد، فهذا يكون أمرًا إيجابيًّا، لكن أن يكونوا موجودين مع الأبناء العاديين في فصولهم، فلا شكَّ أنهم لن يستطيعوا أن يتقدَّموا.
وهناك محاضن خاصَّة للتوحد ينبغي الاهتمام بها، والذَّهاب إليها لأجل التشخيص والعلاج.
وأنا أضم صوتي لمَن يرى أهمية الدَّمج، لكن الدمج الجزئي، وليس الكُلي.
س: هذا الأخ يقول: أنا أُدرِّس أطفالًا صغارًا، وأجد صعوبةً في التعامل معهم، فلا ينضبطون أثناء الحصة، فهم يُشاغبون طوال الوقت، ويتشاجرون مع بعضهم، فماذا أفعل؟
ج: الحركة من هؤلاء الأطفال الصِّغار طبيعيةٌ، فلا بد أن تُدرك هذه القضية؛ فلا نتصور أن عدم الانضباط للطفل في مثل هذه المراحل دليلٌ على عدم انضباطه؛ لأن الحركة جزءٌ من طبيعته.
وأيضًا ينبغي استثمار اللعب والحركة في التربية، وهو ما يُسمَّى: بالألعاب التربوية، وهنا تظهر جدارة المعلم والمعلمة في إيجاد ألعابٍ تربويةٍ، فيتحرك الأطفال في الفصل من خلال ألعابٍ تربويةٍ رائعةٍ، ومربوطةٍ أيضًا بالمقرر والمنهج، ولا شك أن هذه مُفيدةٌ حتى للكبار.
وهناك كتبٌ تربويةٌ خاصةٌ في الألعاب التربوية مهمةٌ جدًّا، وتُستفاد منها فائدةٌ كبيرةٌ.
وأيضًا استخدام المُحفِّزات والتعزيزات مهمٌّ، مع أهمية ألا نفهم الانضباط بالفهم الذي يفهمه البعض، وهو: عدم الحركة، ووجود الطالب هكذا لا يتحرك، وكأنه رجلٌ آليٌّ، فنحتاج أن نتنبه لذلك.
س: هنا سؤالٌ يقول: لدي مشكلةٌ، وهي: أنني أُركز كثيرًا، وأُنصت للدرس بكل تركيزٍ وانتباهٍ، ولكن لا أستوعب جيدًا، فماذا أفعل؟
ج: الحقيقة لم نعرف كم عمر هذا السائل أو السائلة، ولا ندري: هل هي قضيةٌ عامَّةٌ، أو خاصَّةٌ بشيءٍ معينٍ، أي: مواد، أو تخصصات، أو مُقررات مُعينة؟ فهناك فرقٌ بين أن يكون هذا في شيءٍ عامٍّ أو خاصٍّ؛ لأنه قد يكون الشيء الخاص متعلقًا بقضية الميول والرغبة، وما شابه ذلك.
فالأصل أن الإنسان يستوعب ما يتناسب مع عمره الزمني -كما يقولون-؛ فمرحلة السبع سنوات غير مرحلة العشر سنوات، وغير مرحلة الأحد عشر عامًا، وغير مرحلة ما بعد ذلك، وما شابه ذلك، فالمُفترض أن يكون المنهج يتناسب مع العمر، وأن الطالب يستوعبه.
ويُنصح -مثلًا- بعمل اختبار قُدرات عقلية لهذا الأخ أو الأخت، وهذا موجودٌ عند بعض الجهات المُتعلقة بالقياسات المُرتبطة بالقدرات العقلية العامَّة؛ حتى يطمئن أن الوضع على الأقل في مرحلة الاعتدال، وليس هناك أشياء قد يكون عليها استفهامٌ؛ فيحتاج إلى شيءٍ من الرعاية الخاصة.
وأيضًا مُراجعة ما تميل إليه النفس من حيث المضمون، وكذلك المستوى التدريجي، فهذه قضايا مهمةٌ جدًّا، فلا بد أن تكون المضامين التي نقرأها، أو نستمع إليها، أو نُتابعها مما يميل الطالبُ إليها، وترغب نفسه فيها.
والناس يختلفون: فهذا -مثلًا- يُحب الموضوعات المُفيدة النافعة، وهذا يُحب القصص، وهكذا يدرس الطالب الجوانب التي يميل إليها، وهكذا في الجانب التخصصي وما يتعلق بذلك.
وأيضًا لا بد أن يكون ذلك بالتدرج، فلا يبدأ بجرعةٍ كبيرةٍ فيتحمس للقراءة، فإذا به يقرأ شيئًا كبيرًا ضخمًا، ثم بعد ذلك يجد نفسه قد انقطع، وهكذا فيما يتعلق بقضية العلم والتعلم: يبدأ بجرعاتٍ كبيرةٍ من الحماس، ثم يجد نفسه لا يستطيع، فقد تكون مشكلة عدم الاستيعاب صعوبة الأمر، فبعضنا قد يقرأ كتابًا، ولكن مستواه لا يتناسب مع هذا الكتاب، فيحصل إشكالٌ في قضية الاستيعاب، فالأمر فيه احتمالاتٌ عديدةٌ يمكن أن يُعاد النظر فيها.
س: لعلنا نختم بهذا السؤال: الأخت أم مريم من مصر تقول: مريم ابنتي عمرها خمس سنواتٍ، وعندما تريد شيئًا تطلبه بإصرارٍ وتُلحُّ كثيرًا، حتى مع رفضي وتفسير سبب رفضي؛ مُحاولةً مني لإقناعها، لكن لا تسكت إلا عندما أصيح عليها، أو حتى أضربها، مع العلم بأني لا أستجيب لإصرارها على أي طلبٍ، ومع ذلك لم تتغير هذه العادة!
أرجو ذكر أنواع العقاب لمثل هذا السن، وهل الضرب من أنواع العقاب أم لا؟
وشكرًا جزيلًا.
ج: أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد والإعانة.
أولًا: لا بد من استعمال أسلوب الإغفال والإهمال من غير صراخٍ ولا ضربٍ؛ لأن الصراخ والضرب عند الكثيرين هو ردَّة فعلٍ، وعندنا أساليب أخرى أحسن من ذلك، ومنها: الإغفال والإهمال في مثل حالات الإلحاح من الابن الصغير، فهم يصيحون لأجل تحقيق الشيء الذي يُريدونه، أو لفت النظر، وأفضل طريقٍ هو الإغفال والإهمال، وقد جرَّبته، وسمعتُ قصصًا عديدةً جدًّا، فهو أسلوبٌ وجدتُه رائعًا في مثل هذه القضايا.
المشكلة أن العاطفة تأخذنا بعض الأحيان، ولا نستطيع أن نترك أبناءنا دون أن نُلبي رغباتهم.
وأيضًا لا بد من استخدام التعزيز في السلوك المُضاد، فيُوعد الابن بالتعزيز والتَّشجيع إذا حقق هذا الأمر، فإذا لم ينفع هذا الأمر نبدأ بقضية الحرمان من شيءٍ تُحبه.
ولا بد من التأكد من شعوره بالأمن النفسي على كل حالٍ، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فقد يكون السبب المُتعلق بوضعه هو: عدم شعوره بالأمن النفسي، فهو يشعر بخوفٍ من الأم، أو أن أحدًا آذاه، أو أن هناك إشكالاتٍ أثَّرت على نفسيته؛ فأصبحت هناك ردَّات فعلٍ مُتعلقةٌ بمثل هذه الأمور، فلا بد أن نطمئن أن البيئة آمنةٌ نفسيًّا في التعامل الإيجابي.
وفَّق الله الجميع لما يُحب ويرضى، وقد كنا سُعداء معكم في هذا الموضوع المُلح والمهم، ونلتقي على خيرٍ في الأسبوع القادم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.