المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة من البرنامج الأسبوعي المباشر: "أُسس التربية" من قناة "زاد" العلمية.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
لا زلنا في الحديث عن التربية، نسأل الله لنا ولكم العون على تطبيق ما يكون فيها من أمورٍ مهمةٍ، خاصةً وأننا نقتبس ما يتعلق بقضايا التربية من كتاب الله وسنة النبي من خلال المنهج الإسلامي القويم.
العالم اليوم يضطرب اضطراباتٍ شديدةً جدًّا، وللأسف الشديد هو محرومٌ من معينٍ عظيمٍ يحتاجه كل واحدٍ منا.
أثَّر القرآن على غير المسلمين
كنا اليوم في لقاءٍ مع فئاتٍ من الناس اهتماماتهم مُختلفة، وكان الكلام حول: كيف أثَّر القرآن على غير المسلمين؟
وقلتُ لهم: عندنا حتى فيما يتعلق بالعلاج النفسي هناك ما يُسمَّى: بالعلاج بالقرآن، كما عند الغربيين: العلاج بالموسيقى، أو من يُشابههم، حتى إن بعض الغربيين يقومون بالاستفادة من القرآن من أجل تهدئة النفوس.
يقول أحد الإخوة عن قصةٍ في الخارج: سُمع صوتٌ للشيخ الحصري -رحمه الله- خارجٌ من بيتٍ، يقول: فجذبنا هذا الصوت، فطرقنا الباب، وقلنا لهم: ما شاء الله! أنتم مسلمون؟ فخرجت امرأةٌ لا تَمُتُّ إلى الحِشْمَة والعفاف بشيءٍ، فقالت: لا، لسنا مسلمين، ولكن إذا رجعتُ من العمل مُنْهَكَةً لا أجد إلا مثل هذا الكلام يُهدِّئني ويُريحني وأشعر بالاسترخاء والراحة به.
فنحن بحاجةٍ إلى العناية بمثل هذا الموضوع، ومثل هذه القضايا من خلال الضياع الكبير الذي يعيشه العالم اليوم: ضياع الهوية، وضياع القيم، وهم بحاجةٍ شديدةٍ لمَن يُساعدهم في تقريب كتاب الله إليهم.
ونحن أيضًا بحاجةٍ شديدةٍ إلى إيصال التربية الإسلامية ومفاهيمها ومعانيها وأُسسها إلى المجتمعات كافَّة؛ لأنها -خاصةً المجتمعات التي عُرفت بالإنتاج والحضارة وما شابه ذلك- بحاجةٍ إلى التأثير فيها من خلال المنهج الإسلامي القويم.
وحصلت لي قصةٌ تؤكد قضية التربية، ونحن في هذه الحلقة في الجزء الثالث من أهمية التربية للمجتمع، وهي مُرتبطةٌ بأهمية التربية للأسرة، وأهمية التربية للفرد كذلك.
أثر المربي على الأجيال
في بلدنا ومنطقتنا هذه الأيام في الاختبارات النهائية للفصل الأول كنتُ أُصحح أوراق طلابي في أحد المُقررات، فلفت نظري طالبٌ من الطلاب قد كتب في إجابته لسؤالٍ كان عن: اذكر مثالًا حول جانبٍ من جوانب الأمور التي يكرهها الناس، أو حول هذه القضايا فيما يتعلق بجوانب الاتصال ومهارات الاتصال في مقررٍ عندنا اسمه: "مهارات الاتصال"، وهو مُقررٌ مهمٌّ جدًّا، وما شابه ذلك.
فكتب الطالب أنه لما ذهبنا إلى رحلةٍ بحريةٍ للكلية، وكان معنا الطلاب والأساتذة، قال لي الدكتور السعدي: أنت فاشلٌ. وأنا لا أعلم لماذا قال لي هذا الكلام؟! وهل له قصدٌ في هذا الموضوع أم لا؟
هو يكتب هذا الكلام في ورقة الإجابة، وقد أخذ إجابةً كاملةً عليها؛ لأنه مطلوبٌ منه مثالٌ، وقد أجاد المثال، لكن استغربتُ استغرابًا شديدًا جدًّا؛ لأني لا أذكر هذا الموقف أبدًا، حاولتُ أن أتذكر فلم أستطع أن أتذكر هذا الكلام البتة.
فاتَّصلتُ به على الجوال الذي كتبه في ورقة الإجابة؛ لأن رقم الجوَّال كان مكتوبًا، فكان يقول: ليس موجودًا في الخدمة. فطلبتُ من مُنسق المجموعة أن يُفيدني برقمه، أو هو يتَّصل بي، فأرسل لي نفس الطالب المقصود الذي كتب الإجابة بعد ساعاتٍ: بأنك طلبتني يا دكتور. فاتَّصلتُ به، فإذا نفس الرقم غير موجودٍ بالخدمة، ولكن (الواتس) يعمل على (الإنترنت)، فراسلته برسالةٍ صوتيةٍ، فقلتُ له: قرأتُ إجابتك، ووالله لا أذكر أبدًا أني قلتُ هذه الكلمة في مثل هذه المناسبة، وليس من عادتي أن أقول ذلك، لكنني أقولها أحيانًا من باب المزاح والتَّلطف الزائد عن حدِّه، وهذا لا بد أن تضعه في بالك. وشكرني، جزاه الله خيرًا.
فالمربي ينبغي أن يشعر بدوره وأثره على الأجيال، فما كنتُ أتوقع أبدًا هذه الكلمة التي قلتُها، وقد نسيتها تمامًا، وإلى هذه اللحظة لا أذكر أبدًا أني قلتُها من باب المُمازحة والمُداعبة، أنا أجزم بهذا 100%، وقلتُ له: ليتك ذكرتَ هذا الكلام في وقته؛ لأننا قد تجاوزنا ثلاثة أشهر تقريبًا، ولا يزال حابسًا لها في ذهنه!
لذلك ينبغي للمُربي -من أبٍ ومُعلمٍ ومُؤثِّرٌٍ- أن يحسب حسابًا لهذه القضايا؛ لأن التربية مُؤثرةٌ ومهمةٌ جدًّا في المجتمعات وفي البيئات، أيًّا كانت هذه البيئات.
وأذكر في هذا الصدد إمام مسجدٍ أعرفه يقول: ذات مرةٍ أتاني أحد المُصلين في الصف الأول وقال لي: يا شيخ، أنت غيَّرتَ جلستك السابقة التي كانت على سُنَّة النبي ، أنت غيَّرتها! قال: أي جلسةٍ؟ يقول: كنتُ أضع رجلي بطريقةٍ معينةٍ بسبب إصابةٍ مُعينةٍ في رجلي، ففهم هذا المأموم أن هذه الطريقة للجلسة هي جلسة محمدٍ ، وبدأ يُقلدني على أنها السنة، فلما شُفِيَ الإمام من مرضه ووجعه يقول: أصبحتُ أجلس جلسةً عاديةً، فتغيَّرت الجلسة على هذا الأخ، فاستغرب، فقال: لماذا تركتَ سنة النبي ؟!
فهذا ليس سنةً، وإنما موقفٌ اعتياديٌّ واضطراريٌّ، وليس له علاقةٌ.
فانظروا كيف أصبح هذا الإمام قدوةً بهذه المثابة إلى مستوى أن يُقلَّد حتى في طريقة الجلسة، ويظن المأموم أن هذه الجلسة هي جلسة محمدٍ ؟!
فموضوع التربية، وموضوع التواصل مع الناس، وموضوع التأثير، وموضوع علاقة الأفراد بالآخرين في المجتمع الواحد لا شك أنه مُؤثرٌ تأثيرًا كبيرًا، فينبغي أن يكون هذا التأثير بعلمٍ صحيحٍ، وفي إطارٍ إيجابيٍّ؛ حتى نستطيع أن نُؤثر التأثير السليم، وهذه أمثلةٌ تُعطي دلالةً على أثر الكلمة وأثر الموقف؛ أثر الكلمة ككلمة: فاشل، مع أني لم أقلها إلا من باب المزاح والتلطف مع هؤلاء الشباب، فهي كلمةٌ، لكن أصبحت مُؤثرةً فيه إلى أن فرَّغها على ورقة الاختبار، وهذه طريقةٌ معينةٌ في الجلسة أثَّرت فيه فترةً من الزمن؛ يظن أنها سنة النبي .
أسباب عدم التوافق الزواجي
معنا استضافةٌ مُباركةٌ للأستاذ: محمد عبدالقادر، المشرف على جمعية "وئام" في المنطقة الشرقية.
حيَّاك الله يا أستاذ محمد.
المتصل: الله يُحييك، وأهلًا وسهلًا بك يا دكتور وبالسادة المُستمعين والمُستمعات، حيَّاكم الله.
المحاور: حيَّاكم الله، يا مرحبًا، يا مرحبًا.
المتصل: الله يحفظك.
المحاور: بين أيدينا "التربية وأهميتها للمجتمع"، ونحن في الجزء الثالث والأخير منها -إن شاء الله-، فهلَّا حدَّثتُمونا من خلال خبرتكم وإشرافكم على هذه الجمعية المُتعلقة بالتنمية الأسرية وعلاقتكم بالأُسر ما يُؤكد أهمية التربية، وكذلك في المجتمع عمومًا ما يؤكد التربية لمجتمعاتنا.
تفضلوا، بارك الله فيكم.
المتصل: شكرًا لك يا دكتور.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فمن خلال كثيرٍ من الدراسات الاجتماعية تبين أن المشاكل الزوجية والأُسرية تبدأ من وجود نقصٍ في الانسجام بين الزوجين، وهذا النقص -أو عدم التوافق الزواجي كما يُقال- له أسبابٌ كثيرةٌ كما أشارت إليها الدراسات، فمن ذلك: التوافق النفسي، والثقافي، والاجتماعي، وكذلك الجانب الاقتصادي، والانفعالي أيضًا.
فالزوج والزوجة هما نِتاج تربية والديهما وتربية مُجتمعهما، فإذا أردنا أن نُخفف أو نُقلل من هذه المشاكل وآثارها السلبية الكثيرة: الاقتصادية، والمُجتمعية، فلا شك أن التربية لها دورٌ كبيرٌ في الحياة المُستقرَّة للزوجين، وبالتالي لها دورٌ كبيرٌ في تربية المجتمع على منهاج النبوة، وعلى الحياة السليمة بين الطرفين.
فنقص التفاهم بين الزوجين لا يأتي من فراغٍ: التبذير في المال سواءٌ من الزوج، أو من الزوجة، أو من الأسرة ككلٍّ، الانفعال السريع وعدم تفهم الآخرين، سرعة الغضب، عدم الرغبة في الطموح مثلًا، أو الرِّضا باليسير غير اللائق بالإنسان.
كل هذه أشياء لو قُدِّر أن الأب والأم حرصا على تربية الأبناء عليها منذ الصِّغر وتنشئتهم تنشئةً مُتوازنةً مُتكاملةً شاملةً؛ لا شك أن هذا سيُؤثر في المدى المتوسط والقريب والبعيد أيضًا.
فالمجتمع بحاجةٍ إلى تربيةٍ، وتربيته تأتي من لَدُن الأسرة، فهي النَّواة التي تُبنى بها المُجتمعات، ويُبنى بها العالم بأسره، فلا شك أن الأسرة عليها ولها دورٌ كبيرٌ في هذا الأمر، والتربية المجتمعية لها دورٌ كبيرٌ جدًّا؛ حتى نحصل على شخصيةٍ مُتوازنةٍ لدى الطرفين.
المحاور: جميلٌ، من خلال مُمارساتكم أستاذ محمد: كيف وجدتم عناية الأفراد والأُسر بموضوع التربية في مجتمعاتنا؟ يعني: هل لفت نظركم موضوع التربية، أم أن هناك ضعفًا في هذا الموضوع؟
المتصل: ليس بين يدي دراسةٌ تُعطي أرقامًا لها دلالةٌ، ولكن من خلال الهواتف الاستشارية، ومن خلال حالات الصُّلح، ومن خلال الطلاق ومشاكل الطلاق وما يترتب عليه من تنفيذ أحكام الرؤية، والخصومات عند المحاكم، والتكاليف المالية التي تترتب عليها، نقول: إن هناك نقصًا.
وهذا النقص لا ندَّعي أنه كبيرٌ؛ حتى نكون بعيدين عن التَّشاؤم، لكن نقول: هناك نقصٌ في التربية المُجتمعية، وفي التربية الوالدية، فهو مُؤثرٌ في حياتنا كدولةٍ، ومؤثرٌ في حياة المجتمع ككلٍّ، فلو كان هذا النقص 5%، أو كان هذا النقص 10%؛ فهو نقصٌ مُؤثرٌ جدًّا في حياتنا في المجتمع.
العنوسة الآن كم تحدث الإعلام أنها بالملايين، وهذه مُغالطةٌ كبيرةٌ جدًّا.
أنا أقول: الرقم لا يتجاوز مثلًا مئتي ألف فتاة في المملكة بلغت سنَّ العنوسة، ولكن المئتي ألف هذا الرقم ليس بالأمر اليسير في مجتمعٍ مُحافظٍ: أن تبقى مئتا ألف فتاة عانس! حتى لو كانت من عشرين مليونًا.
المحاور: عفوًا يا أستاذ محمد، لما يُقال: مئتا ألف عانس، هل المقصود مَن بلغن عمر الثلاثين فما فوق؟
المتصل: نعم، حسب المصطلح الذي بُنيت عليه الدراسة: أنها مَن بلغت سنَّ الثلاثين تقريبًا ولم تُوفَّق في الزواج.
فأقول: كذلك مما ذُكر في بعض الإحصاءات: أن هناك في المملكة بأرجائها حوالي 70 حالة طلاق يوميًّا، أو 72 حالة طلاق يوميًّا.
أنا أقول: حتى لو كانت عشر حالات طلاق في اليوم، فالطلاق وإن كان شرع الله ، لكنه أبغض الحلال إلى الله ، وهو كسرٌ لنفسية المرأة.
المقصود أن هذه الممارسات أو هذه الظواهر وهذه الحالات وإن كانت قليلةً إلا أنها تُشير إلى أن هناك نوع تقصيرٍ في تربية الأبناء على التوازن في الحياة اليومية.
المحاور: طيب، جزاك الله خيرًا، نحتاج أستاذ محمد إلى معرفة برامجكم وخدماتكم التي يُقدِّمها القطاع الثالث، أو القطاع الخيري، أو الجهات المعنيَّة بالتنمية الأُسرية فيما يتعلق بدورها التربوي في المجتمع.
برامج وخدمات جمعيات التنمية الأسرية
المتصل: جمعيات التنمية الأسرية تنظر إلى الشخصية من الطفولة إلى الكهولة، من التكوين إلى التَّمكين، فتهتم بتقديم البرامج البنائية والوقائية والعلاجية، سواءٌ في بناء الأسرة وتكوينها.
فهناك حلقاتٌ تدريبيةٌ تتكلم عن: كيف يختار الشابُّ شريكة حياته؟ وكذلك كيف تختار الشابَّة شريك حياتها؟
وكذلك مرورًا بعقد الزواج، فهناك دورات تأهيل للمُقبلين على الزواج تُقدم مجانًا في أرجاء المملكة.
وبفضل الله يُعقد أسبوعيًّا في المملكة ما يُقارب خمسين برنامجًا من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، والوسطى.
تقريبًا في العام الماضي تدرب حوالي ثلاثون ألف شابٍّ وفتاةٍ على هذه البرامج.
ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية -مشكورة- الآن لديها رؤيةٌ بأن يتم تدريب أكثر من مئةٍ وثمانين ألف شابٍّ وفتاةٍ سنويًّا.
وهناك برامج إرشادية تُعنى بحل المشكلات، وهي على أنواعٍ:
- منها: الهاتفية.
- ومنها: الحضورية، والمُقابلة.
- ومنها كذلك: الإلكترونية.
وهناك خدمةٌ بدأت تُقدمها جمعيات التنمية الأسرية، وهي: تنفيذ أحكام الرؤية والزيارة، فالأُسَر المُنفصلة يقع أبناؤها في ضغطٍ نفسيٍّ كبيرٍ، فبالنسبة للرؤية لا يستطيع الأب أو الأم أن يرى أبناءه إلا في مراكز الشرطة، وهذا لا شك أنه -كما لا يخفى عليكم- له تأثيرٌ سلبيٌّ على الأسرة ككلٍّ.
الآن بدأت الجمعيات -بفضل الله- بالتعاون مع وزارة العدل التنسيق والترتيب فيما يخص تنفيذ أحكام الرؤية والزيارة في ثوبٍ نفسيٍّ تربويٍّ جميلٍ يُراعى فيه كل الأطراف: الزوج، والزوجة، والأبناء، وكذلك المجتمع.
وهناك خدماتٌ أخرى تُقدمها الجمعيات فيما يخص التنمية الأُسرية، مثل: المستشار الزائر، والبرامج التوعوية الجماهيرية، والبرامج التدريبية المُتخصصة، مثلًا: برنامج تأهيل المُطلَّقات، والمقصود به: أن تتجاوز المُطلَّقة هذه العقبة في حياتها؛ حتى تكون مُنتجةً، وتكون في حياةٍ طبيعيةٍ، وغيرها من البرامج الكثيرة.
المحاور: بارك الله فيكم، ونفع الله بجهودكم، وشكرًا لكم أستاذ محمد.
المتصل: شكرًا لكم يا دكتور.
المحاور: الله يُعطيكم العافية.
المتصل: الله يجزيكم خيرًا.
المحاور: حيَّاك الله، وبارك فيك.
كان معنا الأستاذ محمد عبدالقادر المشرف على جمعية "وئام" في المنطقة الشرقية للتنمية الأسرية.
وظهرت لنا أهمية العناية بالأسرة وتربيتها -موضوعنا السابق- وأثر ذلك على ما يتعلق بتربية المجتمع، وأهمية تقديم الخدمات للمجتمع التي تُساعد على بناء أفراد المجتمع وأُسَر المجتمع، وكذلك حلّ المشكلات المُتعلقة بقضايا الزواج: قبل الزواج، أو بعد الزواج، وكذلك بعد الطلاق.
وقد سبق الحديث حول ما يتعلق بتحقيق التنمية الاقتصادية في الحلقة الماضية بعد أن تحدثنا عن النقطة الأولى: الأمن الاجتماعي، والأمن الفكري، والأمن الأخلاقي، والجانب الآخر ذكرناه في أهمية التربية للمجتمع، وهي ما يتعلق بالترابط الاجتماعي، وذكرنا ما يرتبط بالحقوق والواجبات بين الأفراد، والتماسك والانتماء المجتمعي.
والنقطة الثالثة التي وقفنا عندها هي: ما يتعلق بتحقيق التنمية الاقتصادية للمجتمعات، ولا بد أن نهتم اهتمامًا كبيرًا جدًّا فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية.
وأشرنا إلى أولى نقاط هذا الموضوع: ما يتعلق بالتربية الأخلاقية؛ لأننا كلما زرعنا الجانب القِيَمي والأخلاقي في أفراد المجتمعات كلما استطعنا أن نُساعد في التنمية الاقتصادية الحقيقية للمجتمع، كما قلنا مثال: الصدق في مقابل الكذب، والمُراقبة الذاتية في مُقابل الخيانة، والأمانة في مقابل عدمها وضعفها، فلا شكَّ أن هذه القضايا مهمة.
ولذلك تجد أن المجتمع الذي تكون نسبة الفساد فيه مُرتفعةً تحصل التنمية الاقتصادية بصورةٍ سلبيةٍ، وهذا -لا شك- بسبب ضعفٍ في التربية على الجانب القِيَمي المُتعلق بما يُضاد الفساد، بينما المجتمعات التي تهتم بقضية النجاح الحقيقي، وطرد الفساد، وما شابه ذلك؛ تجد أنها مجتمعات تنمو اقتصاديًّا بشكلٍ إيجابيٍّ وملحوظٍ.
التربية المهنية والإبداعية
النقطة الثانية فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية وتحقيقها: ما يرتبط بالتربية المهنية والإبداعية، وهذه أيضًا قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ لأننا حينما نسعى إلى قضية تنمية المواهب وتنمية المهارات، وكذلك تمكين الأفراد في المجتمع في مهنهم المناسبة، واكتشاف المُبدعين والموهوبين ورعايتهم؛ لا شك أننا سنُحقق التنمية الاقتصادية بصورةٍ كبيرةٍ جدًّا؛ لأنه مما لا يُحمد أن نملك طاقاتٍ مخزونةً كبيرةً لا نكتشفها، وربما لو كنا نعلمها أو يعلمها أصحابها لا يُمكنون من القيام بها بسبب ضعف الجانب التربوي.
ولذلك من القضايا الأساسية ما يُسمَّى: بعلم النفس المهني، وما يُسمَّى: بالميول المهنية، وما يُسمَّى: بأنماط الشخصية وتمكين الإنسان، واكتشاف الإنسان لنمط شخصيته، ثم تمكينه من الشيء الذي يُناسبه، كما في نظرية -مثلًا- هولاند العالمية وغيرها من النظريات المتعلقة بهذا المجال، وقضايا الموهبة، وقضايا الإبداع وما يرتبط بها.
فلذلك نحن في أمس الحاجة منذ نعومة أظفار الطفل إلى العناية بما يتوجه إليه ويُناسب شخصيته حسب هذا النمط، فتجد بعض الأطفال يتعاملون مع جانب -كما يُقال- القوة الحركية، وأطفال يتعاملون مع القوة الذهنية، والقوة التواصُلية ... إلى آخره، وهكذا ما بعد الطفولة في مرحلة المُراهقة وما بعد المُراهقة.
فهذه الأشياء العناية بها، والتربية المهنية والإبداعية لها، ومحاولة وضع كل إنسانٍ في المكان المُناسب له؛ سيُساعد جزمًا في التنمية الاقتصادية.
وتصور أن شركةً من الشركات يرأسها شخصٌ ليس قائدًا، وشركةً أخرى بنفس المجال يرأسها شخصٌ قائدٌ، ستجد فرقًا بين الشركتين بلا شكٍّ، وسيُؤثر ذلك في الإنتاج؛ لأن الثاني قيادته ناجحةٌ، والأول قيادته ليست كذلك.
وهكذا عندما نأتي إلى الجوانب الأخرى المتعلقة بقضايا الإنتاج، والأقسام، والإدارات، والمجالات، وما شابه ذلك.
فالجهة التي عندها الجانب الدعائي مُتمكِّنٌ فيها من خلال الشخصيات المُبدعة إعلاميًّا، ولديها ما يُسمَّى: بالميل الذوقي، والميل الفني؛ ستُبدع وستُنتج أفضل من الجهات التي ربما تكون بعيدةً عن ذلك؛ لعدم اكتشاف الطاقات الموهوبة في الجانب الذوقي والفني، أو عدم تمكينهم من هذه القضية.
ولذلك فإن الأسرة التي تستطيع أن تُربي أبناءها في الجانب المهني والإبداعي والمواهب وما يتميزون به، وتُمكِّنهم من ذلك؛ تجد أنها أُسرةٌ مُنتجةٌ أكثر من تلك الأسرة التي لا تهتم بهذه القضايا بسبب عدم اكتشاف المواهب، أو بسبب عدم تمكينها لو كانت مُكتَشَفةً.
ولذلك نُوصي وصيةً مهمةً جدًّا: لا بد من العناية باكتشاف ما لدى الأفراد من مواهب، ومن أنماط الشخصية، ومن مواطن القوة بالنسبة إليهم، ثم تمكينهم من ذلك من خلال فرص العمل، وقبل ذلك التخصص، وتحميلهم المسؤوليات المُتناسبة مع شخصياتهم.
حتى ابن القيم -رحمه الله- في كتابه المشهور "تحفة المودود بأحكام المولود"[1]انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص244). يتحدث عن الأحكام الشرعية للمولود، وتحدث عما يرتبط بمثل هذه القضايا من خلال نظر الأب إلى ابنه الطفل الصغير، فقد يجده قويَّ الحفظ، مهتمًّا بمثل هذا الجانب، فهذا رجلٌ ستجد أنه يهتم بجانب العلم، والآخر ليس عنده هذا الجانب، لكن عنده القوة البدنية، فيهتم بجانب الفروسية، والثالث ليس عنده هذا الجانب الأول، ولا الثاني، ولكن عنده مهنةٌ معينةٌ، فيهتم به في هذا الجانب، ثم يُمكَّن كل إنسانٍ في مجاله المُناسب له؛ لا شك أن هذا سيُساعد على التنمية الاقتصادية في المجتمع، وقبل ذلك في الأُسَر.
أيها الإخوة والأخوات، فاصلٌ ونعود إليكم -بإذن الله - فانتظرونا.
فائدة اليوم:
انتقد السلوك ولا تنتقد ابنك!
يُخطئ كثيرٌ من الآباء والأمهات بأن ينتقدوا ابنهم أو ابنتهم: إما علنًا أمام الناس، أو أنهم ينتقدون شخصياتهم، فيقول: أنت فاشلٌ، أنتِ فاشلةٌ، أنتِ عاقَّةٌ، أنت ولدٌ عاصٍ!
وهذه الأوصاف وهذه الألقاب إنما تُحطم بقايا النبوغ والإبداع لدى أبنائكم وفتياتكم، فانتقد الفعل، ولا تنتقد ابنك.
انتقدي التصرف الخاطئ من ابنتك وفتاتك، ولكن لا تنتقديها هي مُباشرةً، قولي: يا ابنتي، أنتِ غاليةٌ عندي، أنا أُحبك، ولكن كسلك عن الصلاة هذا ليس محبوبًا.
قل لابنك: أنا أُحبك، وأنا أفتخر بك، ولكن تقصيرك في دروسك هذا هو الذي يُزعجني، وأتمنى أن أتلافى أنا وأنت هذا الخطأ.
بهذه الطريقة تكسب ابنك، وتكسب ابنتك:
تعمَّدني بنُصحك في انفرادٍ | وجنِّبني النَّصيحة في الجماعة |
فإن النُّصح بين الناس نوعٌ | من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيتَ أمري | فلا تغضب إذا لم تُعْطَ طاعة[2]"ديوان الإمام الشافعي" (ص56). |
الدكتور خالد:
بسم الله الرحمن الرحيم
نعم، انتقد السلوك، ولا تنتقد الشخص نفسه، هذه قضيةٌ من القضايا المهمة، ونشكر الدكتور على لفتته الجميلة التي جاءت تتناسب مع مثالنا الأول الذي ذكرناه في قصة الطالب والاختبار والموقف الذي كان قبل الاختبار بثلاثة أشهر، وكلمةٌ نُسيت، وأيضًا ذُكرت في إطار المزاح، كيف أثَّرت كثيرًا فيه؟
فنحن في أمس الحاجة إلى الاستفادة من مثل هذه المعاني والوقوف عندها، حتى في قضية العلاقات بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء، والمُربين والمُتربين فيما يرتبط بقضية: أنا أُحبك فعلًا، لكن هذا السلوك لا أرضاه، وأنا كذلك أُقدرك كزوجةٍ، ولكن هذا الأمر الذي تفعلينه لا يُحمد، وما شابه ذلك.
فهناك فرقٌ بين كذا، وبين أن كذا، أو أنك كذا، ووصف قضيةٍ مُرتبطةٍ بالذَّوات قد تجعل هناك جانبًا من انتهاك الكرامة الإنسانية التي لا يقبلها أي إنسانٍ.
عودًا إلى موضوع: أهمية التربية للمجتمع، ونحاول أن ننتهي هذه الليلة من هذا الموضوع -بإذن الله - في حلقته الثالثة.
تحدثنا عن النقطة الأولى حول تحقيق التنمية الاقتصادية والتربية الأخلاقية، وحول قضايا القيم، والجوانب التي تُساعد في قضية التنمية الاقتصادية والتربية عليها، وهذه أصبحت اليوم من اللوازم في ظل الفساد الذي قد يحصل في الجوانب الاقتصادية وما شابه ذلك كما أشرنا إليها.
القضية الثانية: تحدثنا عن قضية التربية المهنية والإبداعية، وأشرنا لما يتعلق بعلاقة هذه القضايا واكتشاف الميول، وتمكين الإنسان من ميوله التي تُناسبه، ونمط شخصيته المناسبة، ومواطن القوة لديه بالنسبة للتنمية الاقتصادية.
النقطة الثالثة -قبل الأخيرة- في هذا الموضوع: ضمور واختفاء المُعوِّقات الاقتصادية السلوكية، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهي ما يُسمى: بالتخلية؛ أن الإنسان يبتعد، ويضمر أي مُعيقٍ لقضايا التنمية الاقتصادية بأي صورةٍ من الصور، فتكون هذه القضايا هي مَحَطُّ الإبعاد والإقصاء؛ حتى لا تتمكن وتتجذر في الفرد والأسرة ويتأثر بهذا المجتمع.
أي صورةٍ من صور المُعيقات الاقتصادية المُتعلقة بالقضايا السلوكية لها علاقةٌ بالجانب الذي ذكرناه: الجانب الأخلاقي، والقِيَمي، والتعاملات، وما شابه ذلك؛ ولذلك نحن بحاجةٍ إلى مراعاة هذه القضايا وأثر التربية المجتمعية لها.
فتحزن في بعض الأحيان حينما تجد -مثلًا- وصفًا لبعض الفئات، أو بعض الجنسيات المعينة، أو ما شابه ذلك بأمورٍ سلبيةٍ عُرف بها البعض فأصبحت وصفًا كبيرًا موجودًا، بينما تجد عكس ذلك في فئةٍ أخرى ليست مُسلمةً، والفئة الأولى مسلمة، فتجد إقبال الناس كبيرًا على الفئة الثانية في أعمالها ومهنها؛ لأن مَن يتعامل معهم يشعر بأمانتهم وصدقهم، ويشعر أيضًا بالأمن النفسي فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي في داخل المجتمعات، وهذه قضيةٌ من القضايا الخطيرة جدًّا، ونحتاج حقيقةً أن نُراجع أنفسنا فيها:
نعيب زماننا والعيب فينا | وما لزماننا عيبٌ سوانا[3]ديوان الإمام الشافعي، رحمه الله. |
فالقضية في صدقنا نحن، وهذه القضية مُتناثرةٌ في المجتمعات، لكن الكلام في نسبة القضايا السلبية في مقابل القضايا الإيجابية.
تقليل المصروفات
وهذه أيضًا من القضايا المهمة -يعني- التي لا بد أن يهتمَّ بها المجتمع في الجانب الثقافي، وفي الجانب التطبيقي العملي، خاصةً عندما تكون هناك قضايا أزمات اقتصادية كما نعيش الآن في كثيرٍ من بيئات العالم اليوم: في الدول الإسلامية وغيرها، فيحتاج الإنسان إلى التربية على هذا الجانب، فتجد أسرةً أو تجد مجتمعًا يهتم بتثقيف أفراده فيما يتعلق بقضية ضبط الصرفيات، وما شابه ذلك.
وهناك فرقٌ بين هذه القضية الخاصة بتثقيف المجتمع في هذا الجانب، وبين مَن لا يُثقف أفراده في هذا الأمر، وما شابه ذلك، وهذا الجانب التثقيفي مهمٌّ.
يعني: آخذ مثالًا آخر ليس له علاقةٌ بالجانب الاقتصادي، وإن كان يؤثر تلقائيًّا في الجانب الاقتصادي، ولكن ليس المقصود هنا ذكره من باب الجانب الاقتصادي، ولكن من باب توضيح أثر التثقيف في بعض الجنسيات في الحج: نلحظ أنها تستطيع أن تقول: إنها من الجنسيات المُتميزة في أداء فريضة الحج، والانضباط في هذا الجانب؛ لأنهم قد تلقوا تدريباتٍ ودوراتٍ تدريبيةً، ولا يُسمح للإنسان أن يأتي إلا عندما يُعطى هذه الدورات التدريبية؛ لمعرفة كيف يتعاطى مع الحج، وأحكام الحج، والتعليمات المُتعلقة بأنظمة الحج، وما شابه ذلك؟
فرقٌ بين هذه الجنسيات وهذه الدول، وبين الدول الأخرى التي لا تعتني بهذا الجانب.
هكذا بالنسبة لما يتعلق بتقليل المصروفات، يعني: المجتمعات التي تعيش البذخ، وتعيش الصرف بصورةٍ قد تُصبح سمةً ويُتندر بها -للأسف-، وفي بعض الأحيان عندما نجد صورًا في أعراسٍ وولائم ومناسبات، وتأتيك هذه الصور في مقابل صور المجاعة في بعض البلاد الأخرى، وما شابه ذلك، فهذه القضايا من القضايا الحسَّاسة التي تُثير الاستفهام الكبير، وهو ما يتعلق بقضية: أين التربية على التنمية الاقتصادية من خلال تقليل المصروفات وضبط المصروفات؟
خذوا قضية الزواج، وهي قضيةٌ من القضايا الشَّائكة جدًّا، ولها علاقةٌ بالمجتمعات وثقافة المجتمعات، فبعض الجهات أو بعض القبائل أو بعض العوائل أصبح عندها جانبٌ من ضبط ما يتعلق بقضايا المهر والاتِّفاق العُرفي فيما يرتبط بهذا الجانب، فأصبح هناك شيءٌ من التقليل عن كواهل الشباب فيما يتعلق بمصروفات الزواج، بينما تجد فئاتٍ أخرى لم تُمارس هذه القضية، فأصبحت القضية على ما هي عليه، وأصبح هناك هاجسٌ كبيرٌ لدى الشباب، وبعبعٌ في الحقيقة.
ونحن نناقش العديد من الشباب الذين يتمنون الزواج هذه الليلة قبل غَدٍ، وأكبر مُعيقٍ لديهم ليس وجود البنات، فالبنات موجوداتٌ، والجمع بين الأطراف مُتيسرٌ وممكنٌ، بل إن كلا الطرفين بأمس الحاجة إلى بعضهما البعض، لكن القضية المالية مؤثرةٌ جدًّا؛ لذلك نحتاج أن نُساعد في هذا الجانب، وهذا له أثرٌ كبيرٌ في التنمية الاقتصادية بالنسبة للمجتمعات.
بهذه الصورة وما ذكرناه سابقًا من نقاطٍ حول أهمية التربية للأسرة وأهمية التربية للفرد نجد الثقل الكبير المُتعلق بهذا المصطلح الكبير العظيم، ألا وهو مصطلح التربية، فهناك فرقٌ بين معلمٍ مُربٍّ ومعلمٍ غير مُربٍّ، وفرقٌ بين أبٍ مُرَبٍّ وأبٍ غير مُربٍّ، وأمٍّ مُربيةٍ وأمٍّ غير مُربيةٍ، ومُعلمةٍ مُربيةٍ ومُعلمةٍ غير مُربيةٍ، وفرقٌ بين مُديرٍ مُربٍّ وقائدٍ مُربٍّ، وبين مديرٍ أو قائدٍ غير مُربٍّ، وهكذا كثيرٌ، حتى في الأمور الحياتية والدنيوية ستجد الشخصية التي تربَّت، يعني: خذ مثالًا في التجار الذين نشروا الإسلام في شرق آسيا، لم ينشروه وهم يحملون شهادات شرعية، أو أنهم عُرفوا بالدعوة، وإنما عُرفوا بحُسن الخلق والتربية الأخلاقية التي أتوا بها مع تجارتهم، فالناس اطمأنوا لهم ولأمانتهم وأخلاقهم، فدخلوا في دين الله أفواجًا، فنحن في أمس الحاجة إلى العناية بمثل هذه الأمور.
أسأل الله أن يُعيننا وإياكم فيما يتعلق بالتربية، وهذه قضيةٌ من القضايا التي أتمنى أن نُعيد فيها، وأن تكون محلَّ اهتمام الزوجين، ومحل اهتمام البيئات التعليمية، ومحل اهتمام البيئات المجتمعية، ومحل اهتمام أصحاب العمل الخاص، وأصحاب القطاع الخيري، كل هؤلاء يحتاجون إلى ذلك.
والذين يشتغلون في العمل الخيري حينما تكون قضية التربية موجودةً وحاضرةً يختلف التعامل فيما بينهم، وكذلك من يتعاملون مع مشاريعهم فيما لو كانت القضية ليس فيها اهتمامٌ بالجانب التربوي.
وهكذا بالنسبة لقضية القطاع الخاص والتجارة، فهناك فرقٌ بين الذي تهمه الإنتاجية فقط، فهو يريد الإنتاج، لكن ليس عنده علاقات أو تواصل مع الآخرين، فهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا ومُؤثرةٌ في الجانب التربوي.
فنحن نحرص على الإنتاج في القطاع الخاص، وفي القطاع الحكومي، وفي القطاع الخيري، ولكن لا بد أن نحرص كذلك على التأثير في الآخرين، وهذه هي المُعادلة الصحيحة التي نحتاجها في التعامل مع الأفراد، وفي بناء الأُسَر، وكذلك بناء الكيانات المجتمعية.
إجابة الأسئلة
وردت بعض الأسئلة من خلال (الواتس آب) إلا أننا نمضي بقية الحلقة حول بعض هذه الأسئلة.
س: بعد السلام تقول: زوجي دائمًا ينفعل على ابنه الكبير، وابنه عمره ست عشرة سنة، شديد الانفعال، ويُعاني من مرض السكر، وهو دائمًا يقول له: أريد أن أراك أمام عيني في المسجد. وإذا لم يره في المسجد انفعل عليه، والولد يقول له: أنا أُصلي لربي، وربي يراني. وينفعل دائمًا عليه أمام الناس في الشارع، وفي المسجد، حتى أصبح الولد مُعقَّدًا من الخروج.
ج: نداء لهذا الأب أن يتَّقي الله في رعايته لابنه، فهذا الوصف الذي وصفته الأخت الكريمة والدة هذا الابن وصفٌ خطيرٌ ومُزعجٌ جدًّا، وأي واحدٍ منا والله حتى لو كان بأعمارٍ تتقدم عمر هذا الابن -ست عشرة سنة- لا يستطيع أن يتحمل مثل هذا الوصف المُتعلق بالانفعال الشديد والدائم، والصراخ، والإحراج، وما شابه ذلك.
هذا فيه شيءٌ -كما قلت- من إهانة الكرامة والتأثير على النفس البشرية سلبًا، وهذا لا تقبله النفوس البشرية، خاصةً في هذا السن العمري الذي تشير إليه: ست عشرة سنة، وهذه المرحلة العمرية -ست عشرة سنة- مرحلة مُراهقة، وهي من المراحل الخطيرة جدًّا، والتي تحتاج إلى شيءٍ من الانتباه، وشيءٍ من الرعاية، وشيءٍ من الحذر واليقظة؛ لأن التَّمرد واردٌ حينما تحصل قضية الانفجار، أو شبه الانفجار.
لذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام -وهو مَن هو-: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
وكونه مُصابًا بالسكر هذا جانبٌ آخر مُؤثرٌ بلا شكٍّ؛ لأن الذين ابتُلوا بقضية الإصابة بمرض السكري يُؤثر هذا على الجانب النفسي بلا شكٍّ، وهذا ثابتٌ طبيًّا، لكننا هنا نحتاج أن نتنبه، وأن نُراعي مَن ابتُلي بهذا المرض في بعض الجوانب لديه، فلا بد أن يُقال للابن: الأب مُصابٌ بالسكر ... إلى آخره.
وفي المقابل أيضًا: ليس معنى هذا التبرير لحال الأب، فلا بد للأب أيضًا أن يضبط انفعاله، ويحاول قدر ما يستطيع أن يضبط هذا الانفعال، خاصةً في مثل هذا الوصف: في المسجد، وفي الشارع، وأمام الناس، وواضحٌ أن القضية ليست مُرتبطةً بجانب المرض، وإنما هي شيءٌ من الطبع الذي تتطبع عليه.
ولذلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[4]أخرجه ابن وهبٍ في "جامعه" (446)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وفي "الكبير" (929)، وابن عبدالبر في "جامع بيان … Continue reading، فإذا قال هذا الأب: "لا مجالَ أن أتحسَّن" سيبقى على ما هو عليه، لكن باستطاعته أن يتحسن لو جاهد نفسه واستطاع أن يُحسِّنها من خلال تدريباتٍ عمليةٍ بسيطةٍ جدًّا مُتعلقةٍ بتخفيف قضايا الانفعال، وضبط الانفعال، والقيام ببعض التوجيهات المُرتبطة بهذا الجانب، كقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وتغيير وضع الإنسان؛ فإذا كان واقفًا يجلس، ويُغير مكانه، ويتوضأ ... إلى آخر تلك الأشياء، ويُفكر في عواقب تلك القضايا وما يتعلق بها.
س: سؤالٌ آخر يقول أو تقول: المجتمع باعتباره: المدرسة، الشارع، الرُّفقة، كيف أجعل ابني قدوةً صالحةً لمُحيطه؟ بماذا أنصحه؟ بماذا أُحفِّزه؟
ج: هذا سؤالٌ مهمٌّ، وحبذا لو كان لدى المُربين والمُربيات والآباء والأمهات هذا الحس وهذا النَّفس فيما يتعلق بأن يتمنى الأب وتتمنى الأم أن يكون ابنهما قدوةً صالحةً لمُحيطه.
نعم، نحن نريد في التربية المجتمعية إيجاد القدوات الصالحة التي تُؤثر في الآخرين، فنحن لسنا بحاجةٍ إلى قدواتٍ سلبيةٍ.
وقد أعطت الدراسات والمُؤشرات دلائل سلبيةً عديدةً فيما يتعلق بالقدوات غير الصالحة، وهي موجودةٌ في ظل الانفتاح الإعلامي؛ ولذلك تنبغي العناية بالقدوات الصالحة من خلال بعض الأمور التي ربما نُشير إليها ولكن بعد هذا الاتصال من الأخ رشيد من إيطاليا.
كيف أُربي أبنائي على الإسلام وأنا في أوروبا؟
تفضل يا أخي، معنا الأخ رشيد؟
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصل: بارك الله فيكم على هذا البرنامج.
المحاور: وبارك فيك، تفضل حبيبنا.
المتصل: كيف يُوازن الإنسان في تربية الأبناء وهو يعيش في دول أوروبا؟ وكما تعلمون أن الدول الأوروبية ليست كالدول الإسلامية في التقاليد والعادات، والأطفال يتعوَّدون على أشياء في الشوارع وفي المدارس، ويعيشون كل وقتهم خارج البيت.
المحاور: واضحٌ، واضحٌ سؤالك.
المتصل: واضحٌ؟
المحاور: واضحٌ السؤال جدًّا.
المتصل: يعني: كيف يتم تحفيظهم القرآن، وتعليمهم سنة النبي ، وتحفيظهم شرع الإسلام؟ وخاصةً أنهم يعيشون في الخارج.
المحاور: منذ كم وأنتم تعيشون في إيطاليا؟
المتصل: منذ سنوات ونحن نعيش في إيطاليا.
المحاور: بارك الله فيك، شكرًا لك يا أخ رشيد.
المتصل: لي أكثر من عشر سنوات.
المحاور: شكرًا لك يا أخ رشيد.
المتصل: عندي أربعة أولادٍ يعيشون كلهم هنا في إيطاليا.
المحاور: شكرًا لك، إن شاء الله تسمع التوجيه، بارك الله فيك أخانا الحبيب.
وهذا سؤالٌ مُتكررٌ، تكرر في الحلقة الماضية، وقبلها في حلقاتٍ، وأظن أن هناك أسئلةً الآن وردت إلينا في (الواتس آب) تطلب أن تكون هناك حلقةٌ خاصَّةٌ تتعلق بهذا الموضوع، وسبقت لنا مُداخلاتٌ من بعض الإخوان الذين يعيشون في الخارج وتم التواصل معهم في حلقات هذا البرنامج حول هذا الموضوع وما يتعلق به.
لكن نقول لأخينا رشيد ما دام أنه قد سأل وهذا السؤال تكرر: هذا الحس عند الأب -مثل الأخ رشيد- حِسٌّ مُباركٌ ومُوفَّقٌ، فأن يحسّ الإنسان ويشعر بأهمية هذا الموضوع وبالأزمة خيرٌ من ألا يشعر؛ ولذلك فإن الشعور بالمشكلة هو أول طريق حلِّ المشكلات، ووجود الجانب البنائي ومحاولة تقليل المشكلات؛ فلذلك أنت في الطريق السليم.
وأيضًا ما ذكرته في قضايا التعويض بالتعليم والعناية بالقرآن هذه قضايا مهمةٌ جدًّا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، يعني: احرصوا على أن تُعوِّضوا، فأنتم لن تستطيعوا أن تمنعوا أبناءكم، وأنتم مُضطرون للعيش في تلك البلاد، وإذا كنتم غير مُضطرين فعودوا إلى بلادكم، فلا شكَّ أن هذا هو الأولى.
وأنا لا أتحدث عن هذه القضية من الناحية الشرعية؛ لأن لها رجالاتها الذين يتكلمون عنها من الناحية الشرعية، لكن أتكلم من الناحية التربوية، فلا شكَّ أنك حينما تنتقل إلى مجتمعٍ أقلّ مشكلة من المجتمع الذي أنت فيه لا شك أن هذا سيُساعد على تربية الأسرة، وهكذا.
بل إن بعض الناس -حتى في بلاد الغرب- تجدهم ربما يأخذون مناطق أقل إشكالًا من مناطق أخرى في نفس البلد، وهذا من باب تخفيف الشرور على أبنائهم، فينبغي أن تكون لدينا عنايةٌ واهتمامٌ: أين نكون؟ ومتى نكون؟ وكيف نكون؟ ومتى نُعوض ما نستطيع من التربية الإيمانية والتربية الأخلاقية السلوكية لأبنائنا؟ ونطلب من الله العون.
أنت تشعر أن ابنك كيف سيعيش -وكذلك بنتك- في ظلِّ هذا المجتمع المفتوح؟
كن قريبًا من دينك، وكن مُهتمًّا، وكذلك كوني قريبةً من دينك ومُهتمةً، واسألوا أهل الذكر، وكونوا قدوةً لأبنائكم، وحاولوا منذ نعومة أظفارهم أن تربطوهم بمعين التربية الإسلامية: كتاب الله، وسنة النبي ، ستجدون أثرًا كبيرًا -بإذن الله - في تربيتهم.
وأيضًا عوِّضوهم من خلال -كما قلت- التربية داخل أُسركم، وكذلك مُحيط بعض المراكز الإسلامية، أو البيئات المحلية، أو الأُسر القريبة منكم.
وأنا أعلم وأسمع وأعرف بعض هذه القضايا، وقد نفع الله بها، وسيبقى هذا اجتهادٌ، ونحن ليس لنا إلا أن نقوم بالوسع، وأعاننا الله على ذلك وإياكم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
كيف نستفيد من (الإنترنت) في التربية؟
أخونا أبو عاصم من السعودية، تفضل.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصل: جزاكم الله خيرًا يا دكتور على هذا البرنامج.
سؤالي سريعًا هو: كل واحدٍ منا يا دكتور حريصٌ على أن يُربي أبناءه على التنشئة الصحيحة، وأن يُربيهم على الخلق الحسن، ولكن لقلة البضاعة يظل الطفل بحاجةٍ لتجارب، فما الأُسس التي أحرص عليها أنا كأبٍ لأُعطيها لابني من غير ضررٍ؟ يعني: ما الخطوات الصحيحة التي يجب أن أتبعها كمُرَبٍّ؟
المحاور: لأجل ماذا؟
المتصل: يعني: مثلًا الناحية السلوكية، هل يمكن أن أطلع على كتبٍ في (الإنترنت) وأُطبقها، أو نصائح آخذها من (الإنترنت) وأُطبقها على طفلي؟ هل هذا الأسلوب هو الأسلوب الصحيح؟
المحاور: جزاك الله خيرًا، واضحٌ، الآن واضحٌ سؤالك تمامًا لي، بارك الله فيكم يا أخ كريم أبو عاصم، وشكرًا لكم من السعودية، وشكرًا لسابقك كذلك.
الموضوع الذي ذكره الأخ أبو عاصم كبيرٌ جدًّا، ومُرتبطٌ بحلقاتنا "أُسس التربية"، وكثيرًا ما تحدثنا عن قضية الطفل وما يتعلق به، وضرورة الاهتمام بالطفل؛ لأن الزرع في هذه البذرة، زرع البذرات التربوية والمعاني التربوية والقيم التربوية من وقتٍ مُبكرٍ سيُساعد على توجيه الشخصية والتأثير على المراحل العُمرية الأخرى.
نعم ما ذكرته من أساليب وغيرها ..، فأي أسلوبٍ ناجحٍ توكل على الله وافعله، وأي طريقةٍ من حيث القصة، والقصة محبوبةٌ، وفيها القدوة، ونحن بيَّنا أثرها وأهميتها من حيث المُشاركة، ومن حيث التعاون، ومن حيث تحميل المسؤولية -أساليب-، لكن لا بد للإنسان المُربي -الأب- أن يقرأ، ولا بد أن يحضر دورات تربوية، ويتابع بعض الأشياء في (الإنترنت)، ويُتابع بعض الأشياء في القنوات الفضائية النافعة المُفيدة، مثل هذه القناة، وإن شاء الله يكون هذا البرنامج نافعًا ومفيدًا؛ حتى يُطور نفسه، ويُثقف نفسه في مثل هذه المجالات، وتكون كلمةٌ واحدةٌ ينفع الله بها بشكلٍ كبيرٍ.
ونحن نحتاج إلى مثل هذه القضايا وما يتعلق بها، ثم نُطبقها، وسنجد أن من هذا الخِضَم، ومن هذا الذي نسمعه هنا وهناك، ومن خُطب الجمعة؛ لا بد أن يكون عندنا النفس السريع في قضية التطبيق ولو لجزءٍ من مثل هذه الأمور، فمجالات التربية مهمةٌ جدًّا.
نحن في أمس الحاجة إلى العناية والاهتمام بمرحلة الطفولة، وستكون لنا في ذلك -إن شاء الله تعالى- لقاءاتٌ، وربما استضافاتٌ، وكذلك العناية.
وقد أشرنا إلى بعض القضايا المُتعلقة بهذه المرحلة، خاصةً أنها مرحلةٌ فيها سرعةٌ في القابلية والتأثر، وقوةٌ في التقليد والمُحاكاة، وهذان العنصران مع النمو السريع لدى الطفل يجعلنا نهتم اهتمامًا كبيرًا بمرحلة الطفولة، وكثيرٌ منا يجعل هذه المرحلة مرحلة براءة وتضيع سُدًى، للأسف الشديد.
أريد أن أجعل ابني قدوةً
كان سؤالنا الأخير الذي نختم به الحلقة حول قضية مَن يريد أن يجعل ابنه قدوةً:
كونوا قدوةً أنتم يكن ابنكم قدوةً، كونوا قدوةً صالحةً يكن ابنكم قدوةً صالحةً، وربُّوه كذلك على المعاني العظيمة المتعلقة بالقيم الإسلامية التي يصحبها التطبيق من خلال كتاب الله وسنة النبي ، مع المُحافظة على الفكر السليم والعقيدة الصحيحة.
حمِّلوه مسؤوليةً، وانظروا المجال الذي يتميز فيه ومكِّنوه منه، وحاولوا أيضًا أن تُربوه على ما يُسمى بجانب العلاقات والشخصية الاجتماعية التي تُمارس التواصل مع الآخرين بشكلٍ إيجابيٍّ -بإذن الله- كي يكون قدوةً صالحةً، ودعاء الله قبل ذلك وبعده أن يجعله قدوةً صالحةً.
وما أجمل أن يكون الابن قدوةً صالحةً! لكن لن يكون كذلك إلا إذا كان أبوه كذلك، بإذن الله .
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياكم من المُوفَّقين في تربية أنفسنا، وتربية أُسرنا، وتربية مجتمعاتنا على كتاب الله وسنة النبي .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص244). |
---|---|
↑2 | "ديوان الإمام الشافعي" (ص56). |
↑3 | ديوان الإمام الشافعي، رحمه الله. |
↑4 | أخرجه ابن وهبٍ في "جامعه" (446)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وفي "الكبير" (929)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (903)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" ت: بشار (6/ 442)، وحسَّنه الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (342)، وفي "صحيح الجامع" (2328). |