المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات مع حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي "أسس التربية" من خلال قناتكم قناة "زاد" العلمية.
كنا معكم في اللقاءات السابقة حول أهمية التربية للفرد والأسرة، ثم شرعنا في الحديث عن أهمية التربية للمجتمعات، وفي هذه الحلقة -بإذن الله - سنُكمل أهمية التربية للمجتمع.
التربية حتى آخر لحظة!
وقد كنتُ اليوم مع أحد الزملاء الذين كنا سويًّا في برنامج (الماجستير)، فقال لي مُداعبًا: إلى متى وأنتم تتكلمون في قضية التربية؟ وهو أصلًا مُختصٌّ في مجالات التربية والجوانب النفسية، لكنه من باب الدُّعابة.
فقضية التربية ستبقى هاجسًا إلى آخر لحظةٍ في حياة الإنسان؛ ولذلك لا بد من إدراك أهمية التربية، والتدرج بالإنسان وإنشائه إلى مستوى كماله المطلوب؛ لأجل أن يكون مُستقرًّا نفسيًّا وذاتيًّا ومجتمعيًّا، ويكون لديه الإنتاجية الإيجابية في هذه الحياة.
فمثلًا لما تحدثنا عن أهمية التربية للفرد تحدثنا عن نقاطٍ ثلاثٍ كبرى، منها: أن التربية طاعةٌ لله تعالى، وبها يُحقق الفرد الأمن النفسي، ويحصل على تقديرٍ وحبٍّ للمجتمع، أو من المجتمع للفرد نفسه.
ولما تحدثنا بعد ذلك عن أهمية التربية للأسرة تحدثنا عن أنها طاعةٌ لله تعالى، وذكرنا على ذلك شواهد من كتاب الله وسنة النبي ، وما شابه ذلك من أمورٍ، وأخذنا بعض المُداخلات والتعليقات.
وقلنا: إن من أهمية التربية للأسرة أن بالقيام بها يحصل أداءٌ لحق المسؤولية، ووقايةٌ من عداوة الأبناء، وأنها مصدر سعادة الوالدين، وثوابهما في الآخرة.
وقلنا: إن تربية الابن الأول تُسهِّل تربية الأبناء الآخرين.
وتحدثنا أيضًا عن تقليل التكاليف الاقتصادية في الأسرة من خلال الدور التربوي، وتكلمنا أيضًا عما يتعلق بالمُتغيرات المُعاصرة: كالتقنية، والثورة المعلوماتية، وتحدثنا أيضًا عن دور الأسرة في المُساعدة في استثمار التقنية، ودفع المضار منها؛ حتى ينشأ جيلٌ نافعٌ ومفيدٌ.
وتحدثنا في حلقةٍ كاملةٍ عن نقطةٍ واحدةٍ بالغة الأهمية، وهي: ما يتعلق بالأمن الاجتماعي، وتحاورنا في هذا الموضوع، وما يرتبط بقضية الأمن الفكري، والسلوكي، والأخلاقي، والقِيَمي، وناقشنا ما يرتبط بقضية الانحراف الفكري والأخلاقي، والبناء الفكري والأخلاقي، وذكرنا مواقف عديدةً من التراث: كموقف النبي مع عمر بن الخطاب في قضية التوراة، وقوله له: أَمُتَهَوِّكون أنتم كما تَهَوَّكَت اليهود والنصارى؟![1]أخرجه البيهقي في "الشعب" (178).، أو أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً[2]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (15156)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ"..
وكذلك موقف النبي مع ابن عمه الفضل بن عباس رضي الله عنهما لما نظر إلى إحدى النساء في الحج، فصرف النبي نظر الفضل بن عباس رضي الله عنهما[3]أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334)..
فهذه وقايةٌ وقى النبي فيها عمر بن الخطاب ، وهو ثاني رجلٍ بعد أبي بكر الصديق في هذه الأمة؛ حتى لا يحصل هناك -كما يُقال- تشويشٌ على المصدر والمنبع الصافي في تلقي العقائد والأفكار، وما يتعلق بذلك.
وهكذا بالنسبة للسلوكيات والأخلاقيات، فينبغي على الإنسان أن يحفظ نفسه؛ حتى لا يقع فيما لا يرضاه الله ، فلا يحصل لديه انحرافٌ فكريٌّ ذات اليمين وذات الشمال، وتحدثنا عن انحرافاتٍ في الغلو، والتطرف، والتكفير، والتفجير، وتحدثنا عن الطرف الآخر كذلك فيما يتعلق بقضية الإلحاد، والليبرالية، والتغريب، والعلمانية، وتمييع الدين، وما شابه ذلك.
فهذه كلها تكلمنا عنها في الحلقات السابقة، وعرَّجنا بذكر ما يتعلق بالقضايا السلوكية التي هي أقل خطرًا من القضايا الفكرية، لكن تبقى أيضًا من مجالات الانحراف في هذه الأمة، ولا شك أن الانحراف في السلوك أهون من الانحراف في الأفكار، فالانحراف في الأفكار أخطر من الانحراف في السلوك؛ لأن انحراف سلوك الإنسان يعرف أنه خطأٌ، فالإنسان يشرب الخمر ويعرف أنه خطأٌ، ويزني ويعرف أن الزنا خطأٌ، فهو يفعل الأشياء الخاطئة ويعرف أنها خطأٌ، وهو يُدرك الصواب، لكن نفسه تضعف، وهو مُحاسَبٌ على ذلك ما دام أنه مُكلَّفٌ.
ولكن صاحب الانحراف الفكري يرى أن ما يُمارسه من تكفيرٍ وتفجيرٍ وإلحادٍ وليبراليةٍ وعلمانيةٍ وغير ذلك هو الصواب، فهنا تكون المشكلة كبيرةً في قضية الانحراف الفكري؛ ولذلك لا بد من العناية الكبرى فيما يتعلق بالبناء الفكري، ويتلوه البناء السلوكي.
فإذا بنينا أجيالنا بناءً فكريًّا بالمُعتقد الصحيح، والأفكار والمبادئ الصحيحة؛ فإنه في الغالب -بإذن الله- تنضبط السلوكيات، ويكون ذلك سهلًا، ولو انحرف تسهل كذلك إعادته إلى الفطرة المُرتبطة بالفكر والمنبع الصافي.
فنحن اليوم في صراعٍ فكريٍّ وسلوكيٍّ شديدٍ، ولكن الفكري بدأ يظهر بشكلٍ كبيرٍ جدًّا في ظل المُتغيرات العالمية والقرية الواحدة.
وقد ناقشنا في اللقاء الماضي مع الدكتور فؤاد عبدالكريم ما يتعلق بقضية الجوانب الفكرية والبناء الفكري، وما يتعلق بقضية التربية الفكرية، وخاصةً فيما يرتبط بقضية المُؤتمرات الدولية، والأمور التي خرجت من تلكم المؤتمرات في إلزام المجتمعات الإسلامية والعربية بأشياء تُخالف الفطرة والدين، فأصبحنا في خطورةٍ كبيرةٍ.
وذكرنا أن علاج الجانب الفكري هو العلم الصحيح، وتلقي العقيدة والأفكار والمبادئ الصحيحة ... إلى آخره، وذكر الدكتور أنه عندما يضعف العلم يُصبح الإنسان قابلًا لتشرب الأفكار والشبهات المُنحرفة أيًّا كان اتِّجاهها، سواءٌ كانت مُرتبطةً بقضايا دينيةٍ: كالبدع، والشركيات، والتكفير والتفجير، أو قضايا أخرى: كالتَّفلت عن الدين من ليبراليةٍ، وعلمانيةٍ، وإلحادٍ، وما شابه ذلك.
وثمَّة قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهي: تأسيس الجيل على العلم الصحيح، وخاصةً في البلدان التي مناهجها الدراسية يقلُّ فيها العلم الشرعي الصحيح، أو يكاد لا يُذكر، خاصةً -للأسف الشديد- في بعض البيئات حتى الإسلامية والعربية، فلا بد من التعويض من خلال المحاضن الأخرى: كالأسرة، أو غيرها من تلكم المحاضن، وخاصةً الذين يعيشون خارج بلادهم: كالدول الغربية، أو غيرها مما لا يَمُتُّ إلى الإسلام بصِلةٍ، فهؤلاء أحوج إلى تعويض الأجيال من العلم الصحيح الذي يحفظ أفكارهم ومبادئهم؛ حتى لا ينحرفوا في الأفكار.
مواجهة الانحرافات الفكرية بنشر العلم
معنا الأخ أبو عبدالعزيز من السعودية.
حيَّاك الله أبا عبدالعزيز.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حيَّاك الله يا شيخ.
المحاور: مرحبًا.
المتصل: بالنسبة لهذه الأفكار الدَّخيلة على المسلمين: هل يمكن أن نتصدَّى لها بالدعوة إلى الله ؟ فقد سمعنا كثيرًا أن حلَّ المشكلات التي عندنا -بإذن الله- بالدعوة إلى الله؛ لأن الباطل يعلو إذا خَفَتَ الحقُّ وأهله، فالليبراليون ما ارتفعت أصواتهم إلا بسبب خفوت أصوات أهل الحق.
المحاور: بارك الله فيك.
المتصل: بالنسبة للدعوة: لو تتبنَّى الدول الإسلامية أو منظمة التعاون الإسلامي مشروعَ دعوةٍ يكون قويًّا جدًّا؛ لأنه إذا ارتفع الحقُّ خَفَتَ الباطل.
المحاور: بلا شكٍّ، جزاك الله خيرًا، ونقطتك في محلِّها، فهل بقي عندك شيءٌ؟
المتصل: جزاك الله خيرًا.
المحاور: الله يُثيبك على هذه النقطة، وأنا أُوافق أخانا المتصل أبا عبدالعزيز -جزاه الله خيرًا- على ما ذكر، وهو تأكيدٌ لقضية العلم، فهو أصلًا سلاحٌ للدعوة، فينبغي -حقيقةً- العناية بنشر الدعوة إلى الله في ظل وسائل التواصل اليوم، ومن خلال المنظمات والدول نفسها، والجمعيات والجهات والأفراد والأُسر، وكل واحدٍ منا ولي أمر أسرةٍ، فهو ملكٌ في أسرته، فنشر الدعوة لا بد منه، والله يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، والبصيرة هي العلم، فهذا العلم هو الذي سيمنع الانحراف في الفكر والعقيدة وغيرها من المجالات المتعلقة بهذه القضايا.
فنحن نُوافقك بقوةٍ، وهذا هو الدور المطلوب؛ ولذلك الدعاة اليوم بأمس الحاجة إلى مزيدٍ من العمل والبذل، وبخاصةٍ في ظل هذا الصراع الفكري الخطير.
وأنا أقول هذا ولستُ شيخًا ومُفتيًا، ولكن في مجالي التربوي تأتيني استشاراتٌ تربويةٌ ونفسيةٌ وأسريةٌ، وقضايا مُتعلقةٌ بالاتجاه المُنحرف: كقضايا داعش، والتكفير، والإلحاد، وما شابه ذلك، فأصبحت هذه القضايا موجودةً اليوم، ومهمٌّ جدًّا أن نَحْتَكَّ بالمجتمع لأجل أن نُؤثر في هؤلاء الناس، ونشر الدعوة بين ظهرانيهم، ونُمكِّنهم من العلم الصحيح؛ حتى يعرفوا الصواب من الخطأ، والحقَّ من الباطل.
فالعلم مهمٌّ، وهو أساس الدعوة التي أشار إليها أخونا أبو عبدالعزيز مشكورًا، وكذلك ما يتعلق بالجانب الأخلاقي، فهذا يكون بالجرعة الإيمانية التي لا بد أن تُعاد النفوس إليها.
وقد تلقيتُ اليوم -مثلًا- اتِّصالًا عبارة عن شكوى من أبٍ أسرته تشتكي منه ومن انحرافه، حيث يقولون: إن وضعه كان إيجابيًّا، ثم بدأ يتَّجه إلى بعض البلاد، ويُمارس أشياء سيئةً، ... إلى آخره، ثم يقول لهم: إني قد تبتُ ورجعتُ. ثم يعود مرةً أخرى إلى هذا الانحراف، وما شابه ذلك.
فقلتُ لهم: إن حلَّ الأمر ليس حلًّا سهلًا، فهذه المشكلة تحتاج إلى جرعاتٍ إيمانيةٍ تجعل الإنسان إذا وجد ما تميل إليه نفسه وهواه وشهوته يقول: لا، مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
فأسأل الله أن يجعلني وإياكم من هؤلاء، كما جاء في حديث: سبعة يُظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبه مُعلَّقٌ في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجلٌ طلبته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله ...[4]أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031)..
فهذه التغذية الإيمانية، والخوف من الله ، ومُراقبة الله قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وأُسرنا اليوم ومجتمعاتنا ودولنا وجمعياتنا ومُنظماتنا تحتاج إلى عنايةٍ ومشروعٍ علميٍّ إيمانيٍّ يربط بالله ، فهذان هما سلاح الدعوة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ فهذا هو جانب الإيمان عَلَى بَصِيرَةٍ وهذا هو جانب العلم؛ ولذلك الله قال في سورة العصر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، فاستثنى أهل العلم والإيمان من الخسارة التي تُصيب البشر يوم القيامة؛ لأن أكثر الناس ليسوا من أهل الإسلام والإيمان.
وذكرنا من فوائد التربية وأهميتها في المجتمعات: أنه يحصل بين أفراد المجتمع الترابط الاجتماعي، والتماسُك، والوعي، والانتماء، فإذا أردتَ أن تعرف المجتمع وأثر التربية فيه فانظر لمستوى ترابط أفراد المجتمع بعضهم مع بعضٍ.
والدكتور محمد أمين المصري في كتابه "المجتمع الإسلامي" أكَّد على هذه القضية وما يتعلق بها.
عندي لا مُبالاة ولا أهتم بنفسي!
معنا اتِّصالٌ من سلطنة عمان.
تفضلي يا أخت ابتسام.
المتصلة: صارت لي مشكلةٌ، وبعد ذلك تعالجتُ عند اختصاصية الطب النفسي، لكن بقيت لي مشكلةٌ واحدةٌ وهي: عدم الاهتمام بشخصيتي، وصارت عندي لا مُبالاة، ومن كثرة المشاكل دائمًا أرجع لكلمة: لا، ولا أريد أن أفعل شيئًا.
المحاور: يعني: إذا طُلب منك شيءٌ تقولين: لا؟
المتصلة: نعم، يقولون: افعلي هذا الشيء. فأقول: لا.
المحاور: حتى لو كان لمصلحتك؟
المتصلة: نعم.
المحاور: ماذا كان التشخيص عند المُختصين بالطب النفسي؟
المتصلة: مرضٌ نفسيٌّ.
المحاور: ما اسم المرض؟
المتصلة: ما قالت لي شيئًا.
المحاور: ما قالوا شيئًا؟
المتصلة: لا.
المحاور: وأعطوكم دواءً؟
المتصلة: لا، ما أعطتني دواءً، قالت: أنت مُحتاجة ...
المحاور: جلسات؟
المتصلة: علاجٌ عن طريق المُناقشة والحوار.
المحاور: وعقدوا لكم لقاءاتٍ وجلساتٍ إرشاديةً؟
المتصلة: نعم، عملت معي جلسةً استرشاديةً.
المحاور: كم جلسة؟
المتصلة: لي تقريبًا خمس سنواتٍ أتعالج معها بالطب النفسي.
المحاور: طيب، أرجو من الإخوة في (الكنترول) أن يُعطوا الأخت رقم (الواتس آب) لتتواصل بشكلٍ أفضل؛ حتى نستطيع أن نعرف المشكلة بشكلٍ أوسع.
شكرًا لكِ يا أخت ابتسام من عمان.
ما دام أنكِ قد عرضتِ نفسكِ على الأطباء النفسيين فالمُفترض أن يكون التشخيص واضحًا، وأنا أنصح مَن ذهب إلى طبيبٍ أن يعرف التشخيص ما هو بالضبط؟ لا أن أذهب وأرجع، وتبدأ لقاءاتٌ علاجيةٌ وبرنامجٌ علاجيٌّ ولا أعرف ما الذي عندي؟ هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وقبل هذا كله التوكل على الله ، واختيار الشخص المُناسب في التخصص المُعين، فأسأل مثلًا: مَن الأفضل في الطب النفسي في منطقتي؟ وأتجه إليه، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ لأن هذه الأمور تختصر على الإنسان الطريق.
بالنسبة للأخت الكريمة: على أية حالٍ أنا لم يظهر لي شيءٌ بعد، فقد يكون هذا من القصور عندي ابتداءً، وأيضًا ربما عدم استكمال المعلومات؛ ولذلك أتمنى أن يكون هناك تواصلٌ معها لعلنا -إن شاء الله- نُفيدها إن استطعنا.
والذي يظهر لي ابتداءً أنها بحاجةٍ إلى تقوية الثقة بنفسها، وأتمنى أن تعود إلى قناة (اليوتيوب)، فهناك مادةٌ لمُحدِّثكم -أسأل الله أن ينفع بها- بعنوان: "السعادة النفسية عند العلَّامة ابن سعدي"، وهي مناقشةٌ نفسيةٌ وتربويةٌ لرسالة "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، فأتمنى من الأخت الكريمة الرجوع إلى هذا العنوان في (اليوتيوب)، والاستفادة منه، وهو قُرابة الساعة والربع تقريبًا.
وأرجو منها أن ترجع أيضًا إلى مادةٍ موجودةٍ في موقع (اليوتيوب) الخاص بمُحدِّثكم، وهي بعنوان: "تعديل السلوك باستخدام الأسلوب المعرفي"، فأظن أنها بحاجةٍ أيضًا إلى أن ترجع إلى هذه المُتعلقة بقضية طرد الأفكار السلبية، وأن يحلَّ محلها الأفكار الإيجابية، وستجد بعض الأمثلة ربما تستفيد منها، إن شاء الله تعالى.
ولعلنا نتواصل عمومًا بصورةٍ أفضل؛ حتى نستطيع أن نأخذ تصورًا بشكلٍ أفضل.
الترابط الاجتماعي
نعود إلى قضية الترابط الاجتماعي، وإيجاد علاقات بين الأفراد بعضهم البعض، وانتمائهم للمجتمع، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وستجدون مثلًا في المجتمعات عمومًا -قديمًا وحديثًا- والدول المختلفة والقبائل: أن هناك فرقًا بين مجتمعٍ ومجتمعٍ، ودولةٍ ودولةٍ في عُمق ارتباط الأفراد بمجتمعاتهم وضعف هذا الارتباط، أو شيء من هذا القبيل؛ ولذلك فإن التربية إن وُجدت في أي مجتمعٍ، وكانت منهجًا موجودًا فيه؛ سيكون لها أثرٌ كبيرٌ جدًّا على قضية الترابط الاجتماعي.
وهناك كتابٌ رائعٌ جدًّا للدكتور: محمد بن تميم المصري -رحمه الله- بعنوان: "المجتمع الإسلامي"، وهو يتحدث عن أهمية دور الفرد في بناء الكيان المجتمعي، وتحدث عن هذه القضية وما يرتبط بأثر البناء التربوي للأفراد من أجل إيجاد الترابط والانتماء للمجتمع الإسلامي.
فالإنسان إذا آمن بشيءٍ، وانتمى إليه، واقتنع به؛ سيُضحِّي من أجله، وإذا كان الذي يؤمن به شيئًا إيجابيًّا صحيحًا -وهذا الذي ندعو إليه- فإنه سيَذُبُّ عن دينه ومجتمعه، ولا شك أن هذا أمرٌ عظيمٌ، ولا يمكن أن يتأتى إذا لم يحصل الانتماء والارتباط بين أفراد تلكم المجتمعات، وهذا الارتباط لن يتأتى إلا من خلال التربية الإيجابية.
ومن الأشياء التي تُعين في هذه القضية خاصةً: معرفة الحقوق والواجبات، وسبق أن تحدثنا عنها في حلقات: "المُربي الفعَّال"، فإذا حفظ كل شخصٍ منا حقَّ الآخرين، فقام بالواجب الذي عليه تجاه الآخرين الذين ينتمون لهذا المجتمع، وحصل على حقوقه، فلا شك أن هذا من الأشياء المهمة جدًّا في المجتمعات، ومتى ضاعت حقوق الأفراد حصل ضعفٌ في الترابط الاجتماعي، وهذا بلا شكٍّ دلالةٌ كبيرةٌ جدًّا على ضعف التربية.
فالتربية كما ساعدت على ضبط الجانب الفكري، وعدم الانحراف الفكري، وضبط الجانب السلوكي والقِيَمي وما يتعلق به، وعدم الانحراف فيه، كذلك ساعدت التربية على الترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد.
ونحن اليوم بأمس الحاجة في ظل الهجمات العالمية على الإسلام والمسلمين إلى معرفة أن المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضًا[5]أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585).، ومثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى[6]أخرجه مسلم (2586)..
أهمية التنمية الاقتصادية
نأتي إلى قضيةٍ أخرى، وهي تتعلق بأهمية التربية للمجتمع، وهي ما يتعلق بقضية التنمية الاقتصادية، فالمجتمعات والدول والحضارات تهتم بقضايا التنمية الاقتصادية أيّما اهتمامٍ، وهذه قضيةٌ لا شك أنها مهمةٌ جدًّا، فالتربية تلعب دورًا كبيرًا في المجتمعات في الحصول على التنمية الاقتصادية وتحقيقها، وهذه القضية تظهر من خلال مجموعةٍ من النقاط:
الأولى: هي ما يتعلق بقضية التربية الأخلاقية، وهي تربية أفراد المجتمع على القيم الأخلاقية الاجتماعية: كقيمة الصدق، والعفَّة، والمُراقبة، والمسؤولية، ... إلى آخر تلك الأمور، فهذه كلها تَصُبُّ في التنمية الاقتصادية؛ لأن قيمة الصدق إذا لم تكن مُتوفرةً -مثلًا- في المجتمع سيُؤثر ذلك جزمًا على التنمية الاقتصادية، ويفقد الناس الثقة في مُعاملاتهم المالية، وستكون القضية سلبيةً في هذا الجانب.
وخذ مثالًا: الذي لم يَتَرَبَّ على تحمل المسؤولية سيبقى عالةً في جانب التنمية الاقتصادية، وسيحتاج إلى مَن يعتمد عليهم، وأيضًا حين يفقد أصحابُ رؤوس الأموال والشركات الثقةَ بأبناء المجتمع -مثلًا- سيأتون بأشخاصٍ آخرين من بلادٍ أخرى، وهذا لا شك أنه يُؤثر سلبًا على قضية التنمية الاقتصادية.
لعلنا نُكمل بعد أن نستمع إلى اتِّصال الأخت عزيزة من فرنسا.
تفضلي يا أخت عزيزة.
المتصلة: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصلة: نحن نُحبكم كثيرًا.
المحاور: الله يغفر لنا ولكم، ويجعلنا وإياكم من المُتحابين فيه.
المتصلة: نحن نعيش هنا في فرنسا، ولا توجد هنا مدارس إسلامية لنتعلم، وأيضًا يوجد اختلاطٌ، فأقنعتُ ابني أن يذهب إلى المغرب إلى إحدى المدارس في تعليم القرآن الكريم.
المحاور: كم عمره؟
المتصلة: ثلاث عشرة سنةً.
المحاور: طيب، واقتنع، إن شاء الله؟
المتصلة: نعم، مُقتنعٌ -ولله الحمد-، وهو الآن قد حفظ شيئًا من كتاب الله، وهو سعيدٌ -والحمد لله-، ولا أرى عليه الحزن.
المحاور: الحمد لله، طيب، ما سؤالكم يا أخت عزيزة؟
المتصلة: سؤالي: عندي ثلاثة أطفالٍ وبنت، هل أُكمل الطريق، أم ماذا أفعل؟ بارك الله فيكم.
المحاور: ما السؤال بالضبط؟
المتصلة: هل أفعل معهم كما فعلتُ مع ابني الأول؛ لأن عندي ثلاثة أطفالٍ كذلك؟
المحاور: وابنك الأول إلى أين درس؟ في المرحلة الابتدائية؟
المتصلة: إلى الثاني إعدادي.
المحاور: في نفس المدارس الفرنسية؟
المتصلة: نعم.
المحاور: لا توجد عندكم مدارس خاصَّة إسلامية؟
المتصلة: لا يوجد حتى مسجد، نحن نُصلي في الدَّكاكين.
المحاور: وأنتم لا بد أن تبقوا في فرنسا؟
المتصلة: للعيش، ربما ندرس الانتقال في المستقبل، إن شاء الله.
المحاور: طيب، جزاكم الله خيرًا، بإذن الله نُجيبكم بما نستطيع.
المتصلة: شكرًا لكم.
المحاور: حيَّاكم الله، وأسأل الله أن يُبارك في حرصكم، وهذا نموذجٌ من النماذج الطيبة، وأنا أفخر بمثل هذه النماذج التي اضطرت إلى الخروج من البلد والاغتراب من أجل الرزق، أو لأسبابٍ أخرى، ومع هذا هي حريصةٌ على الحفاظ على الهوية، وهذا يدل على أهمية التربية وأثرها على الأسرة كما ذكرنا في لقاءاتٍ سابقةٍ، وكذلك في لقاءنا اليوم.
وأيضًا معنا اتِّصالٌ من موريتانيا، حتى لا نُطيل على الأخ الكريم.
المتصل: ألو.
المحاور: تفضل أخي أدجي، أهلًا وسهلًا.
المتصل: السلام عليكم يا شيخ.
المحاور: وعليكم السلام، تفضل يا أخي، حيَّاك الله، ما سؤالك؟
المتصل: يجب على المسلمين أن يتَّبعوا الشريعة، وإذا ترك المسلم الشريعة فسيتلقى من الطرق المُلتوية، فالبيت والأسرة هي التي تُعلم الإنسان الطريق الصحيح، وأساسًا الأسرة هي التي تُكوِّن الولد أو البنت على الطريق الصحيح الذي لا ينحرف، وهذه الموجة من التطرف الواقعة اليوم في المسلمين موجةٌ كبيرةٌ وخطيرةٌ جدًّا؛ لأنها تُؤدِّي إلى القتل وفعل ما حرَّم الله.
المحاور: جزاكم الله خيرًا، أنت كم عمرك أخ أدجي؟
المتصل: أنا عمري تقريبًا أربعون.
المحاور: ما مهنتك؟
المتصل: تاجر صوف.
المحاور: طيب، شكرًا لك يا أخ أدجي على مُداخلتك الجميلة، أسعدتني مُداخلتك؛ لأن كلامك في الصَّميم، جزاك الله خيرًا، وأنا أُوافق على ما ذكرتَ، والإخوة لعلهم سمعوا ما ذكرتَ، ولا حاجة للإعادة، فشكرًا لك يا أخي الكريم على عنايتك بقضية خطورة الانحراف في ظل هذا الزمن، ودورنا المطلوب من خلال الأسرة، وما يتعلق بها وبالمجتمعات عمومًا.
معنا الأخت أم عمران من المغرب.
وذكِّرونا بالاتصال الذي جاء من فرنسا حتى نُجيب عنه.
المتصلة: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصلة: جزاكم الله خيرًا على هذا المجهود الذي تقومون به.
المحاور: وإياكم.
المتصلة: جزاكم الله خير الجزاء، جعل الله ما تفعلونه في ميزان حسناتكم.
المحاور: اللهم آمين، تفضلي يا أختي.
المتصلة: أريد أن أسأل عن ابني الذي عمره سنتان، وأريد منه أن يكون -إن شاء الله- حاملًا لكتاب الله، وأريد أن أُربيه على حبِّ القرآن وحفظه، فكيف أتعامل معه؟ هل أتكلم معه باللغة العربية؛ لأننا لدينا هنا اللغة الدَّارجة العامية، أم أتكلم معه بالدَّارجة العامية؟ كيف أفعل؟
المحاور: جزاك الله خيرًا، عمره سنتان؟
المتصلة: سنتان.
المحاور: بإذن الله نُجيبك، بارك الله فيك، وجزاكم الله خيرًا.
المتصلة: جزاكم الله خيرًا.
المحاور: شكرًا يا أخت أم عمران من المغرب.
أيها الإخوة والأخوات، فاصلٌ ونعود إليكم بإذن الله ، فكونوا معنا.
التربية العكسية
فائدة اليوم: التربية العكسية:
التربية العكسية المقصود بها: أن الطفل إنما هو مرآةٌ لأمه وأبيه، فإذا اشتكيتَ من أن ابنك يرفع صوته، فاعلم أنك أنت أو أمه ترفعان صوتكما دائمًا، وإذا وجدتَ أن ابنك ربما يمد يده لأخذ أشياء الآخرين -وهي السرقة- فلأنه لم يجد الثقة والتَّشجيع، ولم يجد الكرم من أبيه وأمه، وإذا وجدتَ الابن لا يُشارك غيره بأشيائه؛ فلأن الأب والأم مُتحفظان على أشيائهما مع جيرانهما، وحين تجد الابن أو البنت ضعيف التواصل مع الزملاء والأصحاب والأقران؛ فلأن الأم والأب كذلك يُغلقون أبواب الصُّحبة والصَّداقة والجِيرة والتَّعارف مع الآخرين.
فكلما كان الأب والأم مُنفتِحَين مع الآخرين والجيران بضوابط؛ تجد أن هذه الفتاة وهذا الابن مُتميزان في علاقاتهما مع الآخرين؛ لأنه:
بأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ فِي الكَرَمْ | وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ[7]الرجز لرؤبة في "ديوانه" (ص182). |
التعليق على الفاصل
أُؤكد على الفاصل الجميل للدكتور الفاضل حول التربية العكسية، وهي من الأمور التي نستطيع أن نُشخص من خلالها ما يرتبط ببعض الإشكالات التي تردنا من المُعاناة داخل الأُسَر، وكذلك العلاج حينما تحصل المشكلة.
عودًا إلى الأخت الكريمة -أظن- عزيزة من فرنسا.
فأقول: الحقيقة أن الواحد يبتهج بوجود مَن يعتني بالهوية والانتماء لهذه الأمة، وهذا ما ذكرناه قبل قليلٍ فيما يتعلق بقضية الانتماء، فما دام الأمر قد يسَّره الله بتخطيطٍ من قبل الأسرة، فلا يندموا، وإنما يتوكلون على الله ، خاصةً إذا وجدوا مَن يكون مُهتمًّا ومُتابعًا لأبنائهم في بلدهم المغرب.
ولا شك أنه إذا أمكن أن تكون الأسرة كلها مع بعضها البعض مُجتمعةً فهذا هو الأفضل، وهذا هو الأولى بلا شكٍّ، فإذا كان -كما فهمتُ- من الممكن في المستقبل القريب أن ينتقلوا فيا ليت والله؛ حتى يخرجوا من الأزمة الموجودة، وعنايتها بابنها ذي الثلاث عشرة سنة أنا أُقرُّها على ذلك، وأقول: لِتَهْنَأ بذلك، وستجد أثر ذلك على ابنها -بإذن الله -، وإخوته الصغار يُلحقون به، لكن لعل الله يُيَسِّر عودتهم إلى بلادهم؛ فتكون القضية قد حُلَّت، والأطفال أمرهم أهون من الكبار، وإن كان التأسيس أيضًا خطيرًا، لكن إن بقوا في فرنسا فلا بد من المُحافظة على هوية الأطفال: بأن يُحاولوا أن يُوجدوا مدارس ولو محلية، ولو داخل البيوت، من خلال بيتهم وبعض البيوتات المسلمة، ومن خلال بعض المُعلمات، أو شيءٍ من هذا القبيل، فهذا سيُؤثر -إن شاء الله تعالى- إيجابيًّا.
أما من حيث الخطة والمنهج: فأنا أرى أنه أمرٌ جيدٌ، وتُشكرون عليه، جزاكم الله خيرًا، وستجدون -بإذن الله- ذُخرها وأجرها وأثرها الإيجابي في الدنيا والآخرة، بإذن الله.
معنا الأخت غزان من إسبانيا، تفضلي.
المتصلة: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصلة: أود أن أسألك سؤالًا: كيف أُربي ابنتي وأنا مُقيمةٌ في إسبانيا؟
المحاور: كم عمرها؟
المتصلة: ستّ سنوات.
المحاور: طيب، بارك الله فيكم، بإذن الله تسمعين الجواب.
طيب، قبل أن نُجيب عن سؤال الأخت الكريمة نُعرِّج على سؤالٍ قبله، وهو سؤال الأخت التي لديها ابنٌ عمره سنتان، وتريد أن تُحفِّظه كتاب الله ، فمن المهم جدًّا أن تحرص على ذلك، وهذه المراحل المُبكرة في الطفولة هي مرحلة قوة النمو فيما يتعلق بالحفظ، ونحن نغفل كثيرًا في استثمار هذه الفرص، فهذه فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا جدًّا، وهي: أن ينشأ الطفل الصغير وهو يحفظ كتاب الله، ويتعلم اللغة العربية من خلال نصوص كتاب الله، أو غير ذلك، فأنا أُؤيد ما اتَّجهتم إليه، واحرصوا على التَّخاطب باللغة العربية، وإذا كان هناك من الأسرة مَن يُجيد التِّلاوة لكتاب الله والحفظ وتلقين الابن فهذا شيءٌ جيدٌ وممتازٌ، وإلا يُؤتى بمعلمٍ أو معلمةٍ تقوم بهذا الدور الإيجابي الرائع المهم، وحفِّزوه وشجِّعوه.
وأذكر أنني التقيتُ بطفلٍ عمره أربع سنواتٍ، وكنتُ أُمازحه في المسجد، وأبوه بجواره، فكنتُ أقول له: هل تحفظ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] أو الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة]؟ كنت أظن أنه لا يحفظها؛ لأن عمره أربع سنواتٍ، فقال لي أبوه: الحمد لله، أُبَشِّرك: ابني عبدالله يحفظ جزء ياسين كاملًا. فانبهرتُ، فقلتُ: ما شاء الله! وقبَّلتُ الابن، ووعدتُه بهديةٍ، وأتيتُ له في بيته بهديةٍ، والآن الابن -ما شاء الله- يُحضِّر (الماجستير)، وهو مُتقنٌ لكتاب الله أيّما إتقانٍ، فنحن نحتاج إلى العناية بمثل هذا الأمر.
التربية في بلاد الغُربة
الأخت الكريمة التي سألت قبل قليلٍ وقالت أن لديها بنتًا عمرها ستّ سنوات، ويعيشون في إسبانيا، أو في إحدى الدول غير المسلمة، فهذه أسئلةٌ تكررت كثيرًا، وقد ورد سؤالٌ في (الواتس آب) نذكره الآن ما دام أنها كلها حول موضوعٍ واحدٍ، وهو هذا الموضوع، ويُؤكدون على الحاجة لوجود حلقةٍ عن هذا الموضوع.
ونحن سبق أن تحدثنا عن موضوع الهوية في لقاءٍ مع الدكتور عبدالله الصبيح قديمًا، تجدونه على (اليوتيوب) في قناة "زاد"، وكذلك كان هناك كلامٌ في هذه اللقاءات عن أهمية التربية للأسرة، وكان كذلك هناك لقاءاتٌ مع بعض الدكاترة، وتحدثنا مع الدكتور ياسر وغيره من تركيا عن قضية الإخوة الذين يعيشون في الاغتراب، وأهمية حفظ الهوية، وكيف يُربون أبناءهم في ظلِّ هذا الاغتراب؟
فنقول لهذه الأخت الكريمة: أنتم اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
وأنا الآن لستُ أتكلم من الناحية الشرعية، فأهل الشريعة هم المُختصون بذلك، فلا بد أن نسألهم في الجوانب الشرعية، لكنني أقول من باب التذكير: إذا كانت الإقامة لا بد منها في بلادٍ غير مسلمةٍ، وكان الإنسان معذورًا في ذلك، فأعانه الله، وإذا كان الإنسان ليس مُلزمًا بذلك، ويستطيع أن يعود إلى بلده، فلا شك أن العودة لبلادنا الإسلامية، حتى على ما في بعض البلاد الإسلامية من الانحراف والضعف ... إلى آخره، لكنها خيرٌ من بلاد الكفر.
فالمقصود: أنه إذا كان البقاء هناك شيئًا مُلزمًا ولا بد منه، فأنتم اجتهدوا في قضية التربية، والبحث عن مصادر صحيحةٍ موثوقةٍ للتربية إضافةً للأسرة، فالأسرة ينبغي ألا تتخلى عن مهمة التربية: لا في البلاد الإسلامية، ولا في البلاد المُحافظة، ولا في البلاد الكافرة، هذه قضيةٌ مهمةٌ وأساسيةٌ لكل أسرةٍ.
وتتأكد القضية في البلاد غير المسلمة بأن الأسرة تُمارس الدور الأكبر فيما يتعلق بتعويض أجيالها من التربية على الإسلام، والمفاهيم، والعقائد، والأخلاقيات، والسلوكيات بأساليب مُتنوعةٍ: بالتشجيع، والحوافز، والألعاب التربوية، والقصص، وقراءة السيرة، وما شابه ذلك، فهذا مهمٌّ جدًّا جدًّا.
فأقول للذين يعيشون في بلاد الكفر: لا بد للأسرة أن تُمارس دورًا مُضاعفًا في التربية.
وأيضًا عليها أن تبحث -وأنا أُؤكد على هذه القضية كثيرًا- عن محاضن تربوية تهتم بالجانب الإسلامي، أو تكون هذه المحاضن أقلّ إشكاليات من المحاضن الأخرى، أو من خلال الأحياء الإسلامية، أو المراكز الإسلامية.
وأنا أظن أن الأنظمة في كثيرٍ من تلك الدول تُساعد على مثل هذه القضايا، لكن يحتاج المسلمون هناك إلى تضافرٍ وترابطٍ اجتماعيٍّ؛ لأجل قضية إقامة هذه المهمة.
وأنا أعرف عددًا من المُنظمات والجهات والتَّجمعات في غير البلاد الإسلامية التي حصلت على محاضن تربوية لتربية أبنائهم على تعاليم الإسلام.
فاحرصي على العناية أكثر بتربية ابنتكِ وتنمية الجانب الإيماني والسلوكي لديها، واحرصي على تشجيعها وتحفيزها، وابنيها بناءً جيدًا، ولا تقولي: نحن نحثُّها -مثلًا- على أهمية العِفَّة والحجاب والسَّتر، ولكن إذا خرجت إلى الشارع تنظر إلى عكس ذلك، فلا بد من بقاء أثر التعليم والتربية؛ لأن هذا التعليم هو الذي سيحمي وسيُقلل من الشرور؛ ولهذا كان الدور الكبير على الأسرة، وأسأل الله أن يُعينكم.
ثم عليكم اللجوء إلى الله في حماية الجيل، فما أجمل أن يرفع الأب أو الأم أيديهما إلى الله ! ويتقربا إلى الله بأعمالهما الصالحة ويسألاه أن يُعينهما على تربية أبنائهما، ويُصلح أحوالهما وأبناءهما ... إلى آخره، فيجتهد الإنسان، ويكون بذلك قد أعذر عند الله : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
ابني ضعيف الثقة بنفسه
الأخت تسنيم من الجزائر، تفضلي.
المتصلة: يا دكتور، أسألكم عن طفلٍ تعرَّض لضغوطٍ من الأب والعائلة، ولما كبر صارت عنده الثقة في نفسه ضعيفةً جدًّا، فكيف يمكن للطفل أن يسترجع ثقته بنفسه؛ لأنه أحيانًا لما يتذكر ماضيه يرجع له الضعف، فيبكي كثيرًا، أو شيء من هذا؟
المحاور: كم عمره الآن؟
المتصلة: عشرون سنةً.
المحاور: طيب، خيرًا إن شاء الله، جزاكم الله خيرًا.
لا شك أن ما حصل في مرحلة الطفولة، وخاصةً حينما يكون الحدث شديدًا وقويًّا ومُتجذِّرًا، وهذا قد يحصل بسبب تحرشاتٍ جنسيةٍ مثلًا، أو اعتداءٍ جنسيٍّ، أو جسديٍّ، أو نفسيٍّ، أو -مثلًا- وفاة، أو حصول حادث مُعين أمامه؛ فتلكم الصور المُزعجة في نظره تحتاج منا مزيدًا من القُرب، وتعويض الجانب الوجداني والعاطفي لمثل هؤلاء الذين حصلت لهم تلك المصائب، أو المشكلات، أو الاعتداءات، وما شابه ذلك.
ولذلك ينبغي الانتباه لها من وقتٍ مُبكرٍ؛ حتى لا نغفل عنها فيكبر وتبقى المشكلة أو آثارها موجودةً بالنسبة له، لكن لو حصل ما حصل -كما ذكرت الأخت الكريمة- فلا شك أن الحوار والنقاش -خاصةً لعمر عشرين سنةً- ومحاولة تغيير طريقة التفكير ينفع في ذلك.
ومثلما ذكرتُ لكم: هناك مادةٌ موجودةٌ في (اليوتيوب) بعنوان: "تعديل السلوك باستخدام الأسلوب المعرفي"، وأهمية طرد الأفكار اللاعقلانية إلى أفكارٍ عقلانيةٍ، وهي مادةٌ مفيدةٌ لمُحدثكم في ساعةٍ وربع، تجدونها في (اليوتيوب).
فطريقة التفكير مؤثرةٌ، وكذا الوقوف عند السابق، والنظرة السلبية، والنبي يقول: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز[8]أخرجه مسلم (2664).، فلا بد من التركيز على ما يتعلق بالمرحلة الحالية، وعدم الانشغال بما سبق؛ ولهذا كان النبي يتعوَّذ: اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن[9]أخرجه البخاري (5425)، ومسلم (1365).، فالحزن يكون على ما سبق، فهو يُفكر بالسابق ويتعب، أو من الهمِّ بالمستقبل فيتعب كذلك، فكل هذه القضايا مشكلةٌ.
وأيضًا توجد في (اليوتيوب) مادةٌ أخرى عن "السعادة النفسية"، وقد تطرقت إلى هذه القضية بشكلٍ واضحٍ جدًّا.
فمن المهم جدًّا أن يستمع هذا الشاب الذي عمره عشرون سنةً إلى مثل هذه الأشياء، وشاهدوها أنتم، واجعلوا برنامجًا عمليًّا للارتقاء به وإعادة الثقة لديه.
وكونوا قريبين منه، وعزِّزوه، وانظروا للجوانب الإيجابية، وحمِّلوه المسؤولية في الأشياء التي يُحبها، وأشغلوه في أوقات فراغه، وأوجدوا له البيئة الإيجابية: كالأصدقاء الطيبين.
فكل هذه الأشياء أظنها ستكون مُساعدةً جدًّا -بإذن الله- ليتخطَّى المرحلة، حتى لو صارت هناك مُعاناةٌ حاولوا قدر ما تستطيعون، وإن كان الأمر ثقيلًا عليه فهنا يحتاج إلى تدخل أهل الاختصاص بعرضه على الطبيب، فربما يحتاج إلى جانبٍ أقوى في التشخيص، ثم أيضًا تدخل علاجي، ولو كان دوائيًّا عند الأطباء النفسيين.
تعليم اللغة العربية ونشر الإسلام
معنا الأخضر من إسبانيا.
تفضل يا أخي.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: أعزَّك الله يا شيخ.
المحاور: مرحبًا، حيَّاك الله أخي الأخضر، تفضل بسؤالك.
المتصل: يا شيخ، عندي سؤالان.
المحاور: تفضل سريعًا، فنحن في نهاية الحلقة، بارك الله فيك.
المتصل: السؤال الأول: عندي بنتان، فكيف أُربِّيهنَّ وهنَّ لا يتكلمن بالعربية؟
المحاور: السؤال الثاني؟
المتصل: السؤال الثاني: كيف أتكلم عن الإسلام وأنا لا أُجيد العربية؟
المحاور: طيب، واضحٌ أخي الكريم، شكرًا لك، وجزاك الله خيرًا على حرصك وجميع الإخوة والأخوات المُتصلين والمُتصلات.
لا شك أن هذه من المُعاناة التي يُعاني منها الإخوة في الأُسر التي تعيش في بلادٍ غير مسلمةٍ، أعانهم الله .
وأنا أقول: الواحد يجتهد ويبحث حتى يجد مَن يُساعده على التربية، ولا شك أن التربية من خلال اللغة العربية قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فربُّوا بما تستطيعونه، والله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، فاجتهدوا في التربية الإسلامية بالنسبة للبنات، وعزِّزوا فيهن قضية العزَّة والثقة والعِفَّة، وذكِّروهم بعائشة وفاطمة وخديجة رضي الله عنهن كثيرًا، والقراءة في صورةٍ من حياة الصَّحابيات، وغير ذلك.
لكن مهمٌّ جدًّا أن تتنبَّهوا لقضية اللغة، فاللغة هي وعاء الفكر، وهي كذلك رمزٌ للهوية، فاحرصوا على ألا تَضْمَحِل هذه اللغة العربية، لغة القرآن؛ لأن هذا سيُؤثر جدًّا على الأجيال.
وأما ما يتعلق بقضية نشر الإسلام وشرحه: فأنتم في مُجتمعاتٍ هي بأمس الحاجة لذلك، ومُتعطِّشة إلى أن تسمع الكلمة الطيبة عن الإسلام.
فأنتم أولًا مثِّلوه بأخلاقكم وتعامُلكم لكونكم هناك؛ لأن الأفعال أبلغ من الأقوال.
ثم أيضًا تعلَّموا بعض أمور الدين التي تستطيعون أن تُوصلوها لغير المسلمين، لعل الله أن يفتح عليكم.
والحمد لله أصبحت التقنية اليوم تخدم في ذلك، فستجدون -مثلًا- ركن الحوار موجودًا على الشبكة العنكبوتية، وتستطيعون -بإذن الله - أن تستفيدوا منه في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
أيها الإخوة والأخوات، انتهى الوقت، ونحن ما زلنا في موضوع أهمية التربية للمجتمع في جزئها الثاني، وسنحتاج في الحلقة القادمة إلى جزئها الثالث؛ لنُكمل هذا الموضوع المهم، وأيضًا لنُجيب عن أسئلة الإخوة والأخوات المُعلَّقة في (الواتس آب).
لكم تحياتي، ولقاؤنا في الأسبوع القادم على خيرٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البيهقي في "الشعب" (178). |
---|---|
↑2 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (15156)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ". |
↑3 | أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334). |
↑4 | أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031). |
↑5 | أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585). |
↑6 | أخرجه مسلم (2586). |
↑7 | الرجز لرؤبة في "ديوانه" (ص182). |
↑8 | أخرجه مسلم (2664). |
↑9 | أخرجه البخاري (5425)، ومسلم (1365). |