المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
حيَّاكم الله في حلقةٍ جديدةٍ من البرنامج الأسبوعي المباشر: "أُسس التربية" من قناة "زاد" العلمية.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد.
ونحن في الحلقة السابعة والثلاثين ستكون إطلالتنا -بإذن الله - في هذه الحلقة حول عنوان: "خصوصيتنا التربوية".
اتَّفقنا على أهمية التربية، وأخذنا مشوارًا طويلًا حول ما يتعلق بالتربية الأُسرية، والتربية التعليمية، والتربية المُجتمعية عمومًا، وحاجة الأفراد إلى هذه التربية، وإلى بناء ذواتهم، ونحتاج إلى مزيدٍ من النقاشات والحوارات، وكذلك الاستضافات والمُداخلات والأسئلة التي يُتْحِفنا بها إخواننا الأكارم.
نحن جزءٌ من العالم غير أن لنا خصوصيتنا
وحينما نتحدث عن موضوع "الخصوصية" فنحن نتحدث في ظل أننا جزءٌ من العالم، هذه القضية الخطيرة جدًّا، نحن جزءٌ من العالم، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن نكون مُنفكين عن العالم، وهذا العالم الذي نحن جزءٌ منه لا يُمثلنا من حيث المبادئ، والمُعتقد، والنظرة للحياة، وما يتعلق بقضية القيم، وما يرتبط بهذا الجانب.
هناك فرقٌ كما قال الشاعر:
فحسبكم هذا التفاوت بيننا | وكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح[1]انظر: "وفيات الأعيان" (2/ 365)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (7/ 477). |
إناء المنهج الإسلامي يختلف عن إناء المناهج الأخرى في الجانب التربوي، فالمرجعية في المنهج الإسلامي التربوي تختلف عن المرجعية في المناهج الأخرى التي ربما تكون سبقتنا في تنظير النظريات التربوية: سبقتنا في فتح التخصصات التربوية العلمية، وسبقتنا في نشر المنشورات والكتب والمُؤلفات بالنسبة للجوانب التربوية، وسبقتنا فيما أنتجوه فيما يتعلق بهذا الموضوع -المضمار-، ألا وهو المضمار التربوي، بغض النظر عن قوته وضعفه -عن صحيحه وضعيفه-، وعن قبوله ورفضه، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
ولذلك ينبغي أن نُدرك في تربيتنا لأبنائنا أننا جزءٌ من العالم الذي ربما يكون -كما قلنا- قد قاد المضمار التربوي من الناحية الأكاديمية، ومن الناحية التنظيرية التأليفية والكتابة، ومن ناحية المراكز أيضًا، وما شابه ذلك، لكن الإشكالية هنا فيما يرتبط بقضية الخصوصية المتعلقة بمنهجنا في مقابل المناهج التربوية الأخرى.
وهذا لا شكَّ أن له أثرًا كبيرًا فيما يتعلق بقضية قراراتنا، وأساليبنا، وإجراءاتنا في التربية مع الأبناء، هذه قضيةٌ مهمةٌ، فهم جزءٌ من العالم، وينبغي أن يكونوا فاعلين في هذا الجزء من العالم، وأن يكونوا مُؤثرين إيجابيًّا في هذا الجزء من العالم، ليسوا مُتأثرين سلبيًّا، وليسوا تبعًا للمناهج المُنحرفة حتى لو كان لها بريقٌ علميٌّ وأكاديميٌّ وبحثيٌّ، وما شابه ذلك.
نحن إذن جزءٌ من هذا العالم، وهذه قضيةٌ مُدركةٌ، يُخطئ مَن يُربي أبناءه، ويُربي الأجيال، ويُربي طلابه، ويُربي المجتمع وهو يشعر أنه في كيانٍ بعيدٍ عن العالم.
لا أظن عاقلًا يقول ذلك، لكن أحيانًا تقول التصرفات ذلك، والإجراءات تقول ذلك، والوعي يقول ذلك، والتفكير يقول ذلك، هنا القضية الخطيرة والخطيرة جدًّا.
ولذلك كيف نستطيع أن نُربي أجيالنا على أنهم جزءٌ من العالم، يتأثرون به إيجابيًّا، ولا يتأثرون سلبيًّا، ويُؤثرون به إيجابيًّا، ولا يُؤثرون به سلبيًّا، هذه القضية مهمةٌ جدًّا؛ لأن لنا خصوصياتنا.
لا يمنع أن نستفيد من تلك المُعطيات التي جاءت بها النظريات، أو جاءت بها المناهج التربوية الأخرى، لكن فيما يرتبط بجانب الإجراءات والوسائل والأساليب: الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها[2]أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع" (4301).، لكن لا بد أن نُدرك أن الإطار لتلك المناهج يختلف عن إطار منهجنا التربوي؛ ولذلك وجب على المُنتمين لهذه الأمة الإسلامية أن يَضُخُّوا مزيدًا من العناية في المضمار التربوي بما يتوافق مع عقيدتنا ونظرتنا للحياة، ومع قِيَمنا ومبادئنا، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
فلذلك هذا هو السباق، وهو لا شكَّ يتحمله بالدرجة الأولى الذين يحملون لواء التربية في ظل التَّزاحم، أو تلاقُح الحضارات والمجتمعات، ووجود مجتمعات العالم كأنها قريةٌ واحدةٌ، ووجود مجالات التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الحديثة والتقنية وما يرتبط بهذا الجانب، حتى قرب البعيد وأصبحوا في قريةٍ واحدةٍ، فهذا لا بد من أخذه بالاعتبار حتى تكون تربيتنا قائمةً على أساس أننا وأبناءنا وأجيالنا جزءٌ من العالم، لكن هذا الجزء لا ينبغي أن يذوب في دهاليز هذا العالم المُظلم مهما كان بريقه المُرتبط بالمُنتج المعرفي، ولكن لا بد من تمييزه، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا حينما نُدرك أننا مسلمون، لنا هويتنا، ولنا خصوصيتنا التربوية من حيث عقيدتنا، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا لا شكَّ في ذلك، ولا يمكن أبدًا أن تنفك التربية عن العقيدة.
وكل الذين ينظرون في النظريات التربوية يُدركون الارتباط الكبير بين ما قدَّمته هذه النظرية من مبادئ وأُسس ونظرات مع عقيدة تلك النظرية، أو القائمين على هذه النظرية، أو ما شابه ذلك.
إذن العقيدة لها أثرها على الجانب التربوي، وهكذا ينبغي في تعليمنا لأبنائنا -وقد أشرنا إلى هذا ربما في حلقاتٍ سابقةٍ- أن نحرص على أهمية أنَّ ما يتعلمونه من كتاب الله يُطبقونه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، هذا ارتباط المنهج، منهج التَّلقي، وهو القرآن، ارتباط الأخذ من هذا المنهج، وما في هذا المنهج من مضامين عظيمةٍ جدًّا، وهو كلام الله ، هذه المضامين العظيمة جدًّا، مع الجانب التطبيقي والتأثير في حياة الإنسان الاجتماعية، وحياته النفسية، وحياته الاقتصادية، وغير ذلك من أمورٍ.
وكذلك ما جاء في رواية أبي عبدالرحمن السلمي بأنه كان يقول: حدثنا مَن كان يُقرئنا من أصحاب النبي أنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشر آياتٍ، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل[3]أخرجه أحمد في "المسند" (23482)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ"..
لذلك هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا جدًّا؛ أنه المُنطلق العقدي، المُنطلق الفكري، المُنطلق الثقافي، الإطار الثقافي لأي أمةٍ، ولأي حضارةٍ يُؤثر في تربيتها، ومُنطلقاتنا تختلف عن مُنطلقات أولئك القوم، فإن كان منهجنا ربانيًّا، فمناهجهم بشريةً: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، هل يستوي مَن يكون منهجه ربانيًّا ومَن يكون منهجه بشريًّا؟ هل يستوي صاحب النظرة البشرية مع صاحب المُنطلق الرباني؟ لا يمكن أن يستويان أبدًا.
ولذلك لنا خصوصيتنا؛ لأن منهجنا ربانيٌّ، وليس منهجًا بشريًّا، وحتى الذين يدَّعون في بعض المناهج الأخرى أنها سماويةٌ، هي مُحرَّفةٌ، وقد أُثبتت هذه القضايا، ولا مجالَ للحديث عنها.
وتكفي قصة الصراع الكبير الذي حصل بين الكنيسة والعلم، وبين الكنيسة والعلماء في العصور الوسطى التي كانوا يُسمونها: العصور المُظلمة بالنسبة لهم، وهي عصور ازدهار بالنسبة لنا، وأصبح هناك مَنْبَتٌ جديدٌ في هذه الأرض هو مَنْبَت العلمانية بسبب هذا الصراع الذي حصل في منهجهم، ولا يمكن أن ننقل ما حصل من هذا الصراع بين الدين والعلم.
والدين عندنا يحثُّنا على العلم، الدين عندنا يُشجع على العلم، ويُحفز على العلم، الدين عندنا يُؤكد ما ذكرناه قبل قليلٍ في علاقة الدين بالتربية والتأثير في النفوس، وبالعلاقات الأُسرية، وما شابه ذلك، وهذا أمرٌ واضحٌ لا يُنكره عاقلٌ بحالٍ من الأحوال، لكن أولئك لأن منهجهم بشريٌّ حصل الذي حصل؛ ولذلك لا يمكن أن يكون المنهج التربوي القائم على الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة مثل المنهج التربوي القائم على العلمانية وفصل العلم عن الدين والحياة، وفصل الدين عن الحياة، وما شابه ذلك، لا يمكن أبدًا.
هناك فرقٌ بين المنهج الديني والمنهج اللاديني، المنهج الرباني والمنهج البشري، هذا مُنطلقٌ أساسيٌّ مهمٌّ جدًّا؛ لأنه إذا كانت نظرتنا ربانيةً سنأخذ بسبب هذه الخصوصية في منهجنا؛ لأن الله هو الذي خلقنا وارتضى لنا المنهج التربوي، فسنأخذه من الله ، وسيكون هو مرجعنا.
أما الآخر صاحب المنهج البشري، أو الذي استبعد الدين؛ لأن منهجه علمانيٌّ، كما هو الحال في غير المناهج الإسلامية في غالب أحوالها، كالمناهج النظرية التربوية، والمناهج التربوية والنَّظريات التربوية الحديثة اليوم كلها قائمةٌ على هذا الاتِّجاه؛ اتجاه استبعاد الدين، وإن كان هناك بعض العلماء الذين يرجعون إلى شيءٍ من الفطرة والبحث عن قضية الدين، وربما تأتي بعض الجرعات في بعض التصورات حول قضايا أهمية العودة للدين وما شابه ذلك، لكنه كمنهجٍ هو منهجٌ علمانيٌّ يستبعد الدين.
فإذا استبعدنا الدين في تربيتنا لأبنائنا أصبحنا مثل المناهج غير الإسلامية، هذه المناهج الغربية أو غيرها، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا.
حتى لو كانت أخلاقنا طيبةً، تبقى الأخلاق عبارةً عن قِيَمٍ، لكن هناك شيءٌ أعظم من ذلك تنبثق منه القيم، ونأخذ منه تربيتنا، ألا وهو العقيدة: عقيدتنا في الله، عقيدتنا في الحياة، تصورنا عن الحياة وعن الدنيا، وعن الآخرة، هذه القضايا مهمةٌ جدًّا، لنا خصوصياتنا في كل هذا.
لا نتصور أبدًا أن تفكيري أنا المسلم مثل تفكير الآخر غير المسلم بحالٍ من الأحوال، مهما كنا مُتساوين مع الطرف الآخر في الذكاء، أو في الدرجة العلمية في التخصص، سيكون هناك فارقٌ بسبب هذه الخصوصية المتعلقة بخصوصية عقيدتنا ونظرتنا للحياة.
ذكرنا الآن التربية الربانية والبشرية، وتكلمنا عن منهج الدين، يعني: القائم على اعتبار المنهج الديني والتدين في مقابل المنهج الذي يستبعد الدين.
وخذ على ذلك ما يتعلق بالنظرة إلى الحياة؛ فرقٌ بين الذي ينظر في تربيته أنه يزرع في هذه التربية في الدنيا حتى يحصد في الآخرة، وأن هذه الدنيا مزرعةٌ للآخرة، وأنها ليست الدار الأبدية، وإنما الدار الأبدية في الآخرة: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] أي: الحياة الدائمة، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
فالإنسان يضع الآخرة هي الأساس؛ لأنها الهدف، فهي التي فيها المآل، وفيها الحساب والجزاء، وهي التي فيها الحوافز، أو غير ذلك، عكس ذلك من العقوبات والجزاءات، وما شابه ذلك، والدنيا ما هي إلا مزرعة، وعندئذٍ لا يمكن أن يكون شأن الدنيا والاهتمام بها مثل شأن الاهتمام بالآخرة، هذا منهجٌ مهمٌّ جدًّا: لنا خصوصيتنا في النظرة تجاه الدنيا والآخرة.
بينما الذي ينظر إلى أن الحياة من الأساس هي الدنيا ستكون القضية بالنسبة إليه في إطار الحياة الدنيا فقط؛ ولذلك تجدون كثيرًا من النظريات التربوية والنظريات النفسية مُرتبطة بالمتعة واللَّذة، وكيف يُحقق الإنسان ذاته؟ وما شابه ذلك، وهي قضايا واضحةٌ جدًّا في معالم المناهج التربوية الغربية، وما شابه ذلك.
إذن هذا جزءٌ من خصوصيتنا: إن كنا ننطلق من منهجٍ ربانيٍّ يجب أن نأخذ ما ارتضاه الله ، ومن ذلك أن يكون منهج النبي هو منهجنا في التربية؛ لأنه كما قال الله : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، ومن ذلك: الاتباع المُتعلق بالجانب التربوي، ورعاية الأسرة، والاهتمام بتربية الأبناء، والتأثير في الآخرين، ونقل الرسالة للآخرين، والعلاقة مع الناس: مسلمين وكافرين، ... إلى آخره.
إذن هذا المنهج الرباني في مقابل المنهج البشري الذي لا ينظر لهذه القضية؛ ولذلك المصدر عنده هو ما يأتينا من (فرويد) مثلًا في نظريته النفسية المشؤومة، هو هكذا أخذ هذه النظرية ونُسبت إلى عقلية (فرويد) ونظريته وتصوراته، وعندما أتى مَن بعده -وبعضهم من طلابه- نقضوا نظريته واحتجوا على نظريته؛ لأنه منهجٌ بشريٌّ قائمٌ على نظريات بشرية، وتصورات بشرية، فأنا قد أُوافقك، وقد لا أُوافقك، قد أنتقدك، وقد أقبلك، وقد أرفضك.
بينما المنهج الرباني لا يمكن أن يكون بهذا الشكل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
إذن هنا فرقٌ بين الربانية والبشرية، فرقٌ بين الذي يعتبر الدين منهجًا تربويًّا، والذي يستبعد الدين في منهجه التربوي، فرقٌ كبيرٌ جدًّا.
فالذي يعتبر الدين ستكون تنشئة الأجيال على التدين هي همُّه الأساسي، وهذه قضيةٌ مهمةٌ، كما قال الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
إذن لا من حيث الأوامر وتنمية الجانب الإيجابي، ولا من حيث الجانب الوقائي وما يرتبط بذلك، ولا من حيث حلّ المشكلات لو حصلت المشكلة، فالذي يكون عنده اعتبار الدين قضية أساسية سيُراعي قضايا الدين.
وانظروا الفروقات بين الناس اليوم في تصوراتهم وأفكارهم ورُؤاهم في قضيةٍ معينةٍ، مثلًا: عند مشكلة طالبٍ، أو مشكلة ابنٍ، أو علاقة بين زوجين، أو ... إلى آخره، أو أي جانبٍ مُرتبطٍ بالنفس البشرية، وفي التربية، وما شابه ذلك، ستجدون الفارق الكبير بناءً على: كل إناءٍ بالذي فيه ينضح.
تصور هذا الإنسان حول علاقة الدين بالحياة، أو ضعف هذا التصور عند هذا الإنسان، هل الدين هو الذي يُهيمن؟ هل القضايا الدينية هي التي تُهيمن؟ هذا هو المنهج الإسلامي كذلك، فالمنهج الإسلامي يؤكد على: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
لذلك ينبغي أن نرفع رؤوسنا، نحن منهجنا ربانيٌّ من الله ، من الخالق، الله هو الذي خلقنا، فهو أعلم بما يُحقق لنا سعادتنا في الدنيا والآخرة، إذن منهج الله أفضل بلا شكٍّ، ولا مُقارنة مع المناهج الأخرى، هذا رباني، وهذا بشري.
وهذا يُعطينا عنايةً بالدين، والاهتمام بقضايا التدين، وألا تكون قضيتنا هي قضية الدنيا: ولا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنا، كما جاء في دعاء النبي [4]أخرجه الترمذي (3502)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (1268).، وأما الطرف الآخر فسيكون همّه الدنيا.
ولذلك تجدون أناسًا من المسلمين -ولو لم يتبنوا العلمانية، أو يتبنوا المناهج التربوية الغربية- سلوكياتهم وتصرفاتهم في هذه الحياة، وطريقتهم في تربيتهم لأبنائهم، وتواصُلهم مع أُسرهم، واهتماماتهم عمومًا في هذه الحياة؛ تجد أنهم يُشابهون أولئك.
يعني: الله لما قال: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، يعني: هؤلاء الذين يعيشون من أجل المُتعة والأكل هم مثل الأنعام تمامًا؛ فلذلك ينبغي أن نهتمَّ بهذه الخصوصية، وأن نعتزَّ بها.
وكما قلنا إضافة لموضوع الربانية والبشرية، والموضوع المتعلق بما يرتبط بالعناية بالدين، وأنه الأساس، وأنه فوق الدنيا، مقابل مَن لا يعتبر للدين أي اعتبارٍ، وقد يُهمله، وكذلك النَّظرة للإنسان نظرةً شُموليةً في مقابل النظرة المادية، وأصحاب المناهج غير الإسلامية -المناهج العلمانية- غالبًا ينظرون للإنسان على أنه مادةٌ، وكيان الإنسان وتحقيق مَلَذَّاته وشهواته هي القضية الأساسية عندهم، حتى لو أدخلوا تصوراتٍ معينةً، أو بعض النظريات التي جاءت في الاهتمام بالفكر، وما شابه ذلك، تجد القضية مُرتبطةً بإطارٍ مُضطربٍ؛ لأنهم لا يرجعون إلى ركنٍ شديدٍ، وإلى تصوراتٍ في جوانب عقديةٍ، ونظرتهم للحياة، ونظرتهم للإنسان، ينظرون للإنسان نظرةً -كما قلتُ- ماديةً، ولا ينظرون نظرةً شاملةً، فالإنسان: عقلٌ وروحٌ وجسدٌ، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فالله أنشأ هذا الإنسان كذلك: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقَّه كما قال النبي [5]أخرجه البخاري (1968)..
هذا التصور مهمٌّ جدًّا جدًّا جدًّا؛ لأننا في خِضَم المناهج التربوية المُتعددة، والدورات التدريبية الكثيرة، والقراءات، والكتب، والمُؤلفات، كما قلتُ: هم قد سبقونا في هذا؛ سبقونا في الدورات، وسبقونا في المُؤلفات، وسبقونا في الجامعات، وسبقونا في التخصصات، وسبقونا في منح الدرجات العلمية، وسبقونا في التأليف، للأسف الشديد.
هناك جهودٌ طيبةٌ في جانب المناهج التربوية الإسلامية، لكنها لا تصل لهذا المستوى الذي وصل إليه الجانب العلمي والبحثي عند الغربيين، لكن كما قلتُ: لا بد أن نُدرك أن لنا خصوصيتنا، فحينما نَسْبَح نَسْبَح بخصوصيتنا، وحينما نُفكر نُفكر بخصوصيتنا، وحينما نقرأ نقرأ والخصوصية في أذهاننا، وحينما نُمارس ونُطبق ونفعل بعض الإجراءات التربوية ونضع بعض الخطط طبعًا تكون هذه الخصوصية موجودةً في أذهاننا، ولا بد ألا تنفك عنا.
حتى جانب المنهج الإسلامي التربوي جاء بأحكامٍ شرعيةٍ تُوجه سلوك الإنسان وسلوك أبنائه، وما يتعلق بذلك.
هذا فرقٌ بين هذا الذي له علاقةٌ بالمنهج الرباني -كما قلنا- وله علاقةٌ بجانب العناية بالتدين -الديني- وأيضًا الارتباط بشُمولية الإنسان والنظرة إليه، وهذه ليست موجودةً في المناهج الأخرى، فلدينا أحكامٌ ولدينا أشياء مُعينة تضبط سلوكنا، وتُوجه السلوك، وكذلك تُوجه سلوك الأبناء، وكذلك تُوجه مناحي العلاقات بين البشر.
بينما في المناهج الأخرى قد لا تكون هذه الأحكام بهذا الإحكام، نعم قد تكون لديهم بعض الجوانب المتعلقة ببعض القيم التي يشترك فيها العقلاء، وهذا موجودٌ لا يُنكر، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، لكن ستجد فيها ثغراتٍ كثيرةً جدًّا على كل نظريةٍ من النظريات بأنها خسرت نقاطًا في بناء الإنسان، وفي التربية؛ نظرًا لعدم وجود هذه التَّكامُلية وهذه الشمولية بالنسبة للمنهج التربوي.
حتى القيم الأخلاقية، وهذه قضيةٌ نحن نأخذها بعين الاعتبار في منهجنا الإسلامي، تربية الجيل كما يُربون على العقيدة، وتنطلق التربية من العقيدة، ومن النظرة للإنسان والحياة، النظرة للدنيا والآخرة، والنظرة إلى هذه القضايا وما يتعلق بها، وكذلك ما يتعلق بالقيم الأخلاقية وأهميتها بالنسبة للجوانب التربوية؛ لأنه لا فائدةَ من جانب القُدوة وجانب الإنتاج والعمل وأن تكون لدينا تصوراتٌ رائعةٌ حين تكون التطبيقات في القيم والأخلاق والتعاملات سيئةً، يعني: لا بد أن ننتبه لهذه القضية؛ لأن هذا مَحَكٌّ.
يعني: عندما قال الله : رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5]، هذا على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لا تجعلنا ربنا فتنةً للذين كفروا؛ لأن الواحد منا قد يكون بسبب سلوكه فتنةً للكفار بألا يدخلوا الإسلام، وهذه قضايا موجودة في السابق في عهد قوة الإسلام، وفي الوقت الحالي، وستكون في المستقبل فئاتٌ من المسلمين أو مواقف من المسلمين تصُدّ عن الإسلام؛ لأنهم لا يُمثلون القيم الأخلاقية الصحيحة.
وانظروا إلى شرق آسيا: كيف انتشرت الدعوة هناك؟
لم تنتشر بدعاةٍ، انتشرت بتجارٍ، لكنهم كانوا يحملون القيم الأخلاقية، كان أولئك الناس غير المسلمين يرون الأمانة بأم أعينهم نموذجًا تطبيقيًّا: يرون الصدق والانضباط ... إلى آخره من تلك القضايا، وهذه مُؤثرةٌ في الأبناء عندما يرون آباءهم بهذه الصورة، ومُؤثرةٌ في الطلاب عندما يرون مُعلمهم بهذه الصورة، ومُؤثرةٌ في الموظف عندما يرى المسؤول بهذه الصورة، وهكذا في المجتمع نحتاج إلى هذه القضايا.
لذلك لما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله قالت للسائل: "ألستَ تقرأ القرآن؟" قال السائل: بلى. قالت: "فإن خُلُق نبي الله كان القرآن"[6]أخرجه مسلم (746).، يعني: هو قرآنٌ يمشي عليه الصلاة والسلام، خُلُقه القرآن، تريد أن تعرف خُلُقه انظر للقرآن، فما جاء فيه من توجيهاتٍ فهو خُلُق النبي .
فالنبي قد ترجم هذه القضية في الميدان العملي المُباشر، هكذا ينبغي أن تكون خصوصياتنا بالنظرة للقيم، قِيَمنا من خصوصياتنا للعلم، قِيَمنا ثابتةٌ لا تتغير: الصدق، والأمانة، وغيرها، هي موجودةٌ، لا يمكن أن تتغير هذه القضية بسبب مزاجيةٍ معينةٍ، أو ما شابه ذلك.
وهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا عندما يكون الإنسان صاحب مزاجيةٍ، فيكون مرةً على قيمٍ إيجابيةٍ، وبعد ذلك تتغير المزاجية وتُصبح له أخلاقٌ أخرى، أو مصالح معينة، وبسبب عدم حصول هذه المصالح المعينة تتغير الأخلاق، وتُصبح عندئذٍ الأخلاق والقيم ليست ثابتةً.
وفي منهجنا الإسلامي ينبغي أن تكون ثابتةً حتى ولو على نفسك، قل الحقَّ ولو على نفسك، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
فالمؤمن لا يمكن أن يكذب بحالٍ من الأحوال، هكذا يتعلم الأبناء بهذه الصورة، لكن لو أن الأبناء رأوا جزءًا من السلوكيات السيئة في آبائهم وأمهاتهم، مثل: الكذب، سيُصبحون كذلك، فصور الأبناء هي صورٌ مُترتبةٌ على بناء الآباء لهم من خلال موقف الاختبار.
دعونا مع الأخ الكريم المُتصل الأخ: عبدالله من ألمانيا، تفضل.
المتصل: (ألو).
المحاور: تفضل يا أخ عبدالله، يا مرحبًا، السلام عليكم.
المتصل: وعليكم السلام والرحمة.
المحاور: حيَّاك الله، تفضل يا أخ عبدالله.
المتصل: ما جاوبتني!
المحاور: نعم؟
المتصل: أقول: ما جاوبتني على سؤالي.
المحاور: لم أسمع سُؤالك، أعد سؤالك لو سمحتَ، أنت سألت (الكنترول)، أعد سؤالك -الله يحفظك- بسرعةٍ.
المتصل: سؤالي هو الآتي.
المحاور: تفضل.
المتصل: أَشِرْ عليَّ، ما أفعل؟ ابنتي تُحب أن تتزوج وتُريدني أن أحضر الزواج، وأنا أرفض هذا الزواج، لكن هي تتمنى بالقوة، وأنا مغلوبٌ على أمري.
المحاور: لم أفهم سؤالك يا أخي عبدالله، لو الإخوان يفهمون السؤال ويُرسلونه لنا، شكرًا.
المتصل: تكلم بصوتٍ عالٍ، ما أسمعك.
المحاور: بنتك نصرانية؟
المتصل: أمها نصرانية، أنا متزوج بامرأةٍ نصرانيةٍ، وأتاني منها بنتٌ وولدٌ، والبنت كبرت وتعرَّفت على واحدٍ أمريكي، وتُحب أن تتزوج به.
المحاور: أنت رافضٌ؟
المتصل: أنا رافضٌ.
المحاور: طيب، سؤالك؟
المتصل: سؤالي: ما نعمل؟ هي تُحب أن أحضر زواجها، وأنا ما حضرت زفافها، أنا قلتُ لها: ما لازم نحضره.
المحاور: أخي عبدالله -بإذن الله- نقول: لو الإخوان في (الكنترول) يربطون الأخ عبدالله ببعض برامج الإفتاء مع أحد المشايخ يكون أفضل، الله يُعطيكم العافية.
سؤالك أخي عبدالله يحتاج إلى أن تكون هناك فتوى واستفتاء من خلال اتِّصالك المباشر بأحد البرامج، أو يُعطونك رقم أحد المشايخ -بإذن الله - ما يُقصر الإخوة معك.
أيها الإخوة، فاصلٌ ونواصل معكم، فحيَّاكم الله.
فائدة اليوم:
أطفالنا والتقنية الحديثة
ليس من الكرم أن تُغْدِق وتُغْرق بيتك بالأجهزة التقنية التي تكون في مُتناول يد الطفل من: (آيباد، وآيبوت، وآيفون)، وأنواع الأجهزة الذكية التي في يديه، ليس هذا من الكرم، وإنما هذا من الإشغال.
الطفل يحتاج إلى كلمة احتواءٍ منك، وكلمة حبٍّ منك، وإلى مُشاركةٍ جسديةٍ معه: تلعب معه، تُفكر معه، ترسم معه، تأكل معه.
ولا بد أن يكون هناك تحكمٌ في هذه الأجهزة: لا بد أن تُحدد ساعات استخدامها، ولا بد ألا يُفتح المجال للطفل باستخدامها في كل وقتٍ وحينٍ، ولا بد أن تُغلق في أوقات الصلوات، ولا بد أن يُحدد وقتٌ للنوم، ولا بد أن يُحدد وقتٌ للمُذاكرة والمُراجعة.
الكرم الحقيقي هو كرم المشاعر، وليس الكرم بالإغداق بالأجهزة.
الدكتور خالد: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات، ومرحبًا بكم بعد هذا الفاصل.
لو عُدنا إلى سؤال الأخ عبدالله، وإن كنا قد أحلناه إلى الجانب الشرعي لأهمية الجانب الشرعي، لكن وردت في البال والذهن توصيةٌ ربما ننطلق فيها من خلال ما ذكرناه في خصوصيتنا للأخ عبدالله.
كونك أخي الكريم أنت مسلمٌ والزوجة نصرانيةٌ، والبنت كذلك، أنا أقول: دورك هنا مهمٌّ جدًّا في أهمية إيصال هذه الرسالة العظيمة من خلال الصورة الطيبة في العلاقات الجيدة مع بنتك، وحتى يفتح الله قلبها وقلب أمها فتدخلان في دين الله .
أنا أعرف أنه قد تكون هناك أشياء مُعينة حصلت أو تحصل لا تستطيع أن يكون لك دورٌ فيها في ظلِّ عدم الميل لها أو الرغبة، لكن هذا على أية حالٍ، أما وقد نشأت الأسرة بهذه الصورة، أو أنها صارت بعد ذلك، لا بد لك من الجهاد.
وأنا أرى أن القضية تحتاج إلى جانبٍ من قُرب الأب أكثر من البنت ما دامت نصرانيةً وعلى هذا الوضع، لعل الله يُحدث في قلبها رغبةً في الدخول في دين الله ، ويكون لك دورٌ حتى على زوجها الذي تزوجها.
عمومًا أنا أقصد بهذه الصورة: حتى لو كان لك أخي الكريم عبدالله موقفٌ من بنتك في جانبٍ مُعينٍ لا تجعل هذا الموقف موقفًا نهائيًّا، وتفقد العلاقة معها، إن حصل شيءٌ معينٌ بسبب نظرةٍ شرعيةٍ، أو عدم ميلك لها بسببٍ أو بآخر -المقصود- فينبغي أن هذا الأمر انتهى مثلًا، وأن له وجهته، ولكن هذا لا يمنع أن نكون قريبين، بل نحاول تعويض هذه القضية بالقُرب الإيجابي.
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في العلاقات، وتظهر بشكلٍ خاصٍّ في المَحَكَّات، مثل: المَحَك الذي عليه الأخ الكريم مع ابنته، أسأل الله أن يهديها للإسلام، ويهدي أمَّها وزوجها، ويهدينا وإياهم جميعًا إلى كل خيرٍ.
عودًا إلى ما يتعلق بالخصوصية: ذكرنا القِيَم وغيرها من الأمور، وأيضًا لنا خصوصية في سُلَّم القيم في المنهج الإسلامي التربوي.
والقيم -كما قلنا- ثابتةٌ عندنا، أما عندهم فليست ثابتةً، فرئيسة وزراء بريطانيا السابقة كانت تقول: "ليس لنا أصدقاء ثابتون، وليس لنا أعداء ثابتون، وإنما لنا مصالح ثابتة".
إذن قضية القيم عندهم ليست ثابتةً، ولكنها مُرتبطةٌ بالمصالح؛ فقد توجد قيمة العدل أحيانًا، ثم تذهب هذه القيمة، وتأتيك قضيةٌ أخرى عكس العدل، ألا وهي الظلم.
هذا أمرٌ واضحٌ وبيِّنٌ في سلوكيات غير المسلمين خاصةً فيما يرتبط بالنظام العالمي اليوم، وما يتعلق به في مواقفه من قضايا المسلمين، وما شابه ذلك في قضايا واضحةٍ جدًّا، وقد يكيلون بمكيالين؛ فتجد العدل بين أوطانهم وشعوبهم، بينما الظلم مع غيرهم! هكذا هي المصالح.
ولكن عند المسلمين اقرأوا مثلًا في حروبنا كما قال الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- في كتابه: "أخلاقنا الاجتماعية"، تحدث عن: كيف كانت التوجيهات الإسلامية في المنهج الإسلامي قائمةً على أنه: لا يُقتل وليدٌ، ولا امرأةٌ، ولا شيخٌ، ولا تُقطع شجرةٌ، ... إلى آخر تلك الأمور؟ وكيف كانت الرحمة في بعض فتوحات الإسلام: صلاح الدين، وغيره، حينما فتح هو وغيره في حالاتٍ معينةٍ ديارًا، وكانوا أرحم بأهل الديار من النصارى أصحاب ديانتهم أنفسهم، وكان أهل تلك البلاد يتمنون أن ينتصر مثل هذا القائد أو ذاك القائد المسلم؛ لأن هناك قِيَمًا ثابتةً يعلمونها ويرونها في أرض الميدان والواقع؟
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا: أن يتربى الجيل على القيم الثابتة؛ فيعرف الصدق دائمًا فلا يكذب، ويعرف الأمانة دائمًا فلا يخون، ويعرف التعاون دائمًا فلا تنفرد عنده الذاتية وتتضخم، ... إلى آخره، هذه قضيةٌ مهمةٌ.
كذلك ما يتعلق بسُلَّم القِيَم، يعني: القيم قد تتعارض في بعض الأحيان في مواقف معينةٍ، فتأتي خصوصية المنهج الإسلامي التربوي فتقول: إن هذه القيمة أهم من هذه القيمة، وهذه القيمة أولى من هذه القيمة، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهذا يظهر عندما يكون هناك تعارضٌ بين الأمر الواجب شرعًا والأمر المُستحب، فلا يمكن أن يُقدم المُستحب على الواجب.
يعني: دعنا نقول مثلًا: إنسانٌ يسهر في الليل في أمرٍ مُستحبٍّ، مثلًا: يقرأ، يطلب العلم، يفعل أشياء لوالديه من الأمور المُستحبة، لكن ذلك على حساب صلاة الفجر الواجبة، فتأتي القضية في سُلَّم القيم ويُقال: لا يمكن أن يكون هذا الأمر حتى لو كان طاعةً، حتى لو كان صلاة قيام ليلٍ، فإنه إذا كان سيُؤثر هذا على الواجب، سيكون قيام الليل فيه إثمٌ؛ لأنه هنا أثَّر على الجانب الواجب، وقُدِّم المُستحب على الواجب، وهذا فيه اختلالٌ.
فسُلم القيم أيضًا جزءٌ من الجوانب التي يمكن أن ننظر لخصوصيتنا فيها.
معنا الأخ عبدالرحمن من الجزائر.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: بارك الله فيك شيخنا الفاضل، عندي بنتٌ تقرأ في الثانوية يا شيخ، ولكن يوجد اختلاطٌ، والاختلاط عَمَّ وطَمَّ يا شيخ، وإذا تركناهم بدون علمٍ قالوا: هؤلاء مُتشددون! وإذا تركناهم نخاف عليهم يا شيخ!
يا شيخ، انصح، ووجِّه، وأرشد، ما هي توجيهاتك يا شيخ؟ وما حكم الدراسة في مدارس مُختلطةٍ؟
وأطلب منك الدعاء لبنتي أن يحفظها الله، واسمها فاطمة، بارك الله فيك.
المحاور: جزاك الله خيرًا أخي عبدالرحمن، وأسأل الله أن يقرَّ عينك ببنتك فاطمة وببنات المسلمين جميعًا، وأن يحفظهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أما ما يتعلق بالحكم الشرعي فاعذرني؛ فهذا البرنامج ليس إفتاءً، وليس هذا مجالي، فلعلك -بإذن الله - تسأل مَن يُفيدك في هذا الأمر.
أما ما يتعلق بالناحية التربوية: فلا شكَّ أن الدراسات أكَّدت ... حتى الغربية وغيرها، وتصدر حتى ...، وقد اطلعتُ على أشياء جديدةٍ فيما يتعلق بالجامعات الأمريكية والجامعات البريطانية كلها، ولعل تأتينا مُناسبات -بإذن الله- في لقاءٍ نذكر فيه هذه القضايا بشكل أرقام وإحصاءات، وما يتعلق بقضية خطورة هذا الوضع وما يرتبط به وأثره.
فالأثر الأخلاقي هذه قضيةٌ واضحةٌ جدًّا، لا نقاش فيها، ولا يُنكر هذا إلا مَن لا عقلَ له، أو يكذب في إنكار وجود مثل هذه القضية، ويعرف أن الأمر ليس كذلك، إنما الأمر فيه أثرٌ على الجانب الأخلاقي، هذه قضيةٌ واضحةٌ جدًّا.
لكن دلَّت الدراسات حتى في القضايا العلمية، والقضايا المتعلقة بجانب المُذاكرة، والقضايا المتعلقة بالمنتج التعليمي، وما يتعلق بالدرجات أن لذلك أثرًا كبيرًا فيما يرتبط بوجود الجنسين مع بعضٍ.
وأيضًا عُملت لها دراسات في غير البيئات المسلمة، وكانت النتائج: أن البيئات المُنفصلة في الدراسة بين الجنسين تُعطي مجالًا أكبر في قضايا التركيز، ومجالًا أكبر في قضايا الإنتاج، وفي المستوى الأكاديمي الجيد.
أنا أدعو الأخ عبدالرحمن فيما يتعلق بهذا الجانب -فيما يرتبط بالقضايا التربوية- أن يقرأ للباحث السوداني إبراهيم الأزرق، فله بحثٌ ممتازٌ مطبوعٌ، طُبِع في مركز "باحثات لدراسات المرأة" بعنوان: "الاختلاط في التعليم"، وهو من أفضل ما رأيتُ وقرأتُ؛ لأنه تحدث عن دراساتٍ عديدةٍ جدًّا ومُوثَّقةٍ وعلميةٍ ومحليةٍ وإقليميةٍ وعالميةٍ فيما يرتبط بقضية الاختلاط في التعليم وأثره على مجالاتٍ عديدةٍ جدًّا.
فنحتاج أن نُدرك هذه القضية؛ لنتَّخذ قراراتنا، وننظر في أمورنا وما يتعلق بذلك.
وأُوصي هذا الأخ أيضًا وغيره أن يلجؤوا إلى الله ويدعوا لأبنائهم، كما نُوصيهم بأن يسألوا أهل الذكر فيما يتعلق بحكم ذلك، وما يتعلق بالمخارج المتعلقة بموضوع الاختلاط، وماذا يجب عليهم أن يفعلوا؟
أنا لا أدخل في هذا الجانب، ولكنني أقول قاعدةً عامَّةً: كلما استطعتم أن تجدوا بيئاتٍ أخرى غير مُختلطةٍ بأي طريقةٍ من خلال تعليمٍ أهليٍّ، أو تعليمٍ ذاتيٍّ -خاصةً بالنسبة للبنات- وما يرتبط بذلك كلما أمكن ذلك.
أما قول الناس: أنت مُتشدد، ... إلى آخره. فهذه قضيةٌ لا تشغل بالك بها ما دمتَ تتخذ قرارك باستشارةٍ ونظرةٍ، دون انفراديةٍ في الرأي، وإنما باستشارةٍ شرعيةٍ وتربويةٍ، وما شابه ذلك.
وتستطيع أن تجد البدائل، أو على أية حالٍ حتى لو بقيت ابنتك، وكانت القضية فيها نظرةٌ شرعيةٌ، وسألتَ أهل الشريعة، والله حمى البنت، وكانت بوضعٍ معينٍ، ... إلى آخره، فهذه لا أدخل فيها من الناحية الشرعية، لكنني أقول: كلما استطعنا أن تكون القضايا أقلّ مفاسد كلما كان هذا أدعى لحماية البنت وعِرْضِها.
وإن كانت مثل هذه القضايا -الاختلاط- تأتينا فيها استشاراتٌ كثيرةٌ، ومن مناطق كثيرةٍ، وقد رأيتُ أن البلاد العربية التي فيها الاختلاط في مراحل التعليم كلها، فإن الوضع المتعلق بالعِفَّة وقضية الشرف والثقة بين الرجل والمرأة والقضايا الأخلاقية أسوأ من البلاد التي يكون فيها الاختلاط في بعض المراحل، مثل: الجامعية، لكن ليس هناك اختلاطٌ في المراحل التي تكون قبل ذلك.
وتجد أن تلك البلدان التي فيها اختلاطٌ في بعض المراحل أقلّ انتشارًا للفواحش وللانحرافات الأخلاقية، .. إلى آخره، والبيئات التي وُفِّقت إلى ألَّا يكون فيها اختلاطٌ -وإن كانت نادرةً في عالم اليوم أو قليلةً- لا شكَّ أن هؤلاء أكثر وأكثر.
وأنت مَلِك أُسرتك، وتستطيع أن تنظر من خلال المشورة، فابحث -بإذن الله - يُوفقك الله : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
النقطة الأخيرة قبل أن نختم حول ما يتعلق بالخصوصية، ولها علاقةٌ بمقطع الفاصل الذي سبق قبل قليلٍ فيما يرتبط بالتقنية وما يتعلق بها، والكلام الجميل الذي ذُكر في المقطع، وهو ما يتعلق بأنه في ظلِّ هذا الانفتاح على العالم وكوننا جزءًا من العالم لا بد أن نعتني بجيل التقنية بما ذُكر قبل قليلٍ من توجيهاتٍ.
وكذلك ربما نكون قد أشرنا إليها سابقًا في أمورٍ، وربما تأتينا -إن شاء الله تعالى- عندما نتحدث عن التربية والعولمة في لقاءاتٍ ربما تأتي في مستقبل الأيام، بإذن الله .
لا بد من المُقاومة والاستثمار في ظلِّ الانفتاح على العالم، لا بد أن نُعين جيل التقنية الذي أصبح جيلًا يدخل على العالم بضغطة زِرٍّ، وأصبحت كل الأدوات موجودةً بين يديه، لا بد من العناية بتربية هذا الجيل تربيةً إيجابيةً بالمقاومة، نُقاوم ما نستطيع أن نُقاومه، ونُوجد ضابطًا من خلال نظامٍ، ونُوجد فرصًا للتوجيه لأجل استثمار التقنية بشكلٍ جيدٍ، ونُبعدها عنهم بواسطة بعض برامج الحماية، ومُراعاة الفروق في الجانب العمري، وكذلك: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى [آل عمران:36]، وكذلك ما يتعلق بوجود نظامٍ في الأسرة في التعامل مع التقنية، والجوانب الإيجابية من الناحية الدينية والدنيوية في التعامل مع التقنية.
كل هذه القضايا حزمةٌ كاملةٌ نستطيع من خلالها -بإذن الله - أن نكون جزءًا من العالم وإيجابيين في التعامل مع هذه التقنية.
وسيكون لنا -بإذن الله- وقفاتٌ مهمةٌ جدًّا حول ما يتعلق بالتربية في عصر التقنية والإعلام الجديد، وأيضًا خارطة الطريق، وبنود معينة مهمة لا بد أن تأخذها الأسرة في الاعتبار؛ ليستطيع جيل التقنية أن ينشأ بطريقةٍ سليمةٍ في هذا العالم وهو جزءٌ منه.
أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم، وأن يجعل هذه القضية -وهي ما يرتبط بخصوصيتنا في التربية- هي محل اهتمامنا، ومحل عنايتنا، ومحل الدعوة إليها في أوساط الأُسر وأوساط المجتمعات والبيئات التربوية.
ونحن بحاجةٍ شديدةٍ للاعتزاز بهذه الخصوصية في تربيتنا؛ لنستطيع أن نُنشئ جيلًا يعتزُّ بهذه الخصوصية التي يُمثلها المنهج التربوي الإسلامي.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، ونلتقي على خيرٍ في الأسبوع القادم، بإذن الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | انظر: "وفيات الأعيان" (2/ 365)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (7/ 477). |
---|---|
↑2 | أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع" (4301). |
↑3 | أخرجه أحمد في "المسند" (23482)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ". |
↑4 | أخرجه الترمذي (3502)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (1268). |
↑5 | أخرجه البخاري (1968). |
↑6 | أخرجه مسلم (746). |