المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، أيها الإخوة والأخوات، حياكم الله في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم المباشر "أُسس التربية"، ومن قناتكم قناة "زاد" العلمية.
وهذا اللقاء سيكون بعنوان: "الوضوح التربوي"، فأي علاقةٍ تربويةٍ -أيها الإخوة والأخوات- تحتاج أن تُبنى على شيءٍ واضحٍ وبيِّنٍ، فنحن نعرف حديث النبي الذي يقول فيه: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما[1]أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).، فإذا كان هذا في قضية البيع والشراء والعلاقات المالية، وأن البركة تكون في الصدق والبيان، فما بالكم بالعلاقات القائمة بين أفراد الأسرة: من الزوجين، والآباء، والأبناء، والمُربين، والمُتربين؟ لا بد أن تكون قائمةً على الوضوح والصدق والبيان، وألا تكون قائمةً على الكذب، أو الغموض، أو الألغاز، فلا تكون عبارةً عن حياةٍ فيها ألغازٌ وغموضٌ.
فهذا هو مقصودنا في هذه الحلقة، وهو ما يتعلق بقضية الوضوح التربوي في وضع الأسرة الحالي، ومن مُؤشرات عدم وجود هذا الوضوح التربوي: اختلاف الزوجين والآباء والأمهات فيما يتعلق بقضية وضع الأسرة، فتجد أن أحدهما يُقيم وضع الأسرة بشكلٍ إيجابيٍّ، والآخر يُقيمه بشكلٍ سلبيٍّ، فهنا إشكاليةٌ في الوضوح: إما عند كليهما، أو عند أحدهما.
والوضع الحالي للأسرة يتطلب العناية بشكلٍ كبيرٍ بقضية الصدق والوضوح والبيان والإفصاح عن حقيقة الأمر، ولا بد من الانسجام والتَّفاهم بين الوالدين، فهذه قضيةٌ من القضايا الشائكة جدًّا.
أهمية الانسجام والتفاهم بين القائمين بالتربية
يُحذر التربويون أيّما تحذيرٍ من أن تكون مواقف الأب والأم مُتعارضةً أمام الأبناء، فالأب يقول للابن: افعل. والأم تقول: لا تفعل. والأب يقول للابن: هذا الذي تفعله صحيحٌ. والأم تقول: هذا الذي تفعله ليس صحيحًا. والأب يقول: القرار السليم هو كذا. والأم تقول: القرار السليم ليس كذلك.
يعني: لا إشكالَ في وجود اختلاف وجهات النظر بين الآباء والأمهات، لكن لا بد أن يتمَّ هذا من خلال نقاشٍ بينهما؛ حتى يخرجا بقرارٍ مناسبٍ، أما أن يظهر الخلاف وتظهر القرارات والآراء المُتعارضة أمام الأبناء، فهذا دليلٌ على عدم وجود وضوحٍ تربويٍّ بين الوالدين من حيث التفاهم على الأسلوب التربوي المُناسب؛ لذلك ماذا نفعل بالابن الذي قصَّر في الصلاة؟ وماذا نفعل بالابن الضعيف في دراسته؟ والبنت التي لها علاقاتٌ مُحرَّمةٌ؟ والبنت التي لا ترتدي الحجاب، أو التي لا تقوم بأعمال البيت وتُساعد أمها؟
هذا كله لا بد فيه من عملية تفاهمٍ بين الوالدين في الأسلوب التربوي المُناسب؛ ولذلك الأسرة التي يحصل فيها تفاهمٌ بين الزوجين في هذه القضايا المتعلقة بأساليب تربية الأبناء وحلّ مُشكلاتهم وما شابه ذلك يحصل هناك انسجامٌ رائعٌ بين أعمدة التربية فيها من المُربين والآباء والأمهات، وهكذا بالنسبة للمعلمين والبيئات التربوية عمومًا.
وأيضًا المشرفون التربويون والمعلمون القائمون على بيئةٍ تربويةٍ معينةٍ يُحتاج أن يكون بينهم تفاهمٌ.
وأنا تأتيني حالاتٌ معينةٌ في بعض الأُسر، وواضحٌ جدًّا فيها التعارض بين الآباء والأمهات -للأسف الشديد-، وهذا ضعفٌ في الوضوح التربوي، وأيضًا في بعض البيئات المدرسية تجد المعلمة الفلانية مثلًا تُعارض باقي المعلمات، وتحصل هناك إشكاليةٌ، خاصةً إذا كان الأمر فيه مجالٌ للاجتهاد، فلا بد من التنازل، وهكذا بين الآباء والأمهات لا بد أن يصلوا للقرار والأسلوب المناسب في جوانب الاجتهادات في الرؤى، يعني: كيف نُربي أبناءنا؟ وكيف نحلُّ مشكلة الابن في ضعف دافعيته للدراسة، وضعف دافعية البنت في العمل في البيت، وما شابه ذلك؟
فالذي يُساعد على ذلك هو التفاهم بين الآباء والأمهات، ولا بد من تنازل أحدهما من أجل الآخر، أو تنازل كليهما لأجل الآخر، هذا هو الوضوح التربوي المطلوب.
إذن نحن الآن أشرنا إلى قضيتين أساسيتين: الوضوح في الوضع الحالي للأسرة وتقييمها: هل هي أسرةٌ رائعةٌ ممتازةٌ، أم أنها أسرةٌ ليست كذلك؟ وهل هي أسرةٌ كما يُقال: تقييمها جيدٌ جدًّا ومُرتفعٌ، أم أنها أسرةٌ تقييمها مقبولٌ؟
فقد تجد حال الأسرة غير مستقيمٍ، فلا توجد معايير، ولا تفاهم بين الآباء والأمهات على أي أساسٍ يُقيِّمُون؟ تقول الأم مثلًا: وضع الولد طبيعيٌّ يا أبا محمد. ويقول أبو محمد: ليس طبيعيًّا. فلم يتفاهما ما هو الشيء الطبيعي وغير الطبيعي؟ ولم يحصل وضوحٌ في قضايا المعايير التي تقوم عليها التربية، ويتفاهمان حتى على الأسلوب التربوي المناسب في التعامل.
وكذلك الوضوح في مفهوم التدين، فتسمع مثلًا: الابن الفلاني -ما شاء الله- مُتدين. وتسمع الرأي الآخر عكس ذلك، فهذا الاختلاف في درجة التدين إشكالية بين الزوجين، وفي البيئة التربوية، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
حتى إنه لما يحدث التقييم في المجال التربوي عن طالبٍ من الطلاب، أو عن شخصٍ من الأشخاص، فيقول: والله شخصٌ -ما شاء الله- تدينه جيدٌ. وآخر يحكم بأنه ليس كذلك، فما السبب في ذلك؟
السبب: عدم وجود وضوحٍ في الرؤية بين هؤلاء المُشرفين والمُقَيِّمِين التربويين، يعني: ضعف الوضوح التربوي بينهم.
وكذلك من حيث الوضع الإيجابي والمُريح للأسرة، هذه أيضًا قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فربما تسأل: كيف وضع الأسرة عندك يا أخ عبدالله؟ فيقول: والله -ما شاء الله، تبارك الله- المناخ إيجابي، والجو صحي، والجو طيبٌ داخل الأسرة، والأمور حسنةٌ، والجو مُريحٌ. وتسمع من الزوجة ربما غير ذلك!
فهذه إشكاليةٌ أخرى أيضًا، ومُؤشرٌ آخر يُعطي دلائل على عدم وجود الوضوح بين الطرفين.
فهذه عبارةٌ عن مُؤشراتٍ تُعطينا دلائل على قوة الوضوح من عدمه، أو ضعفه.
وهناك أشياء وآليات تُساعدنا على قضية الوضوح، وهي: أن نحاول التحاور فيما بيننا في أركان الأسرة الواحدة، والبيئة التربوية الواحدة حول هذه القضايا وما يتعلق بها.
يعني: خذ مثالًا للوضوح في الجانب الصحي والناحية العضوية للأبناء، تجد مثلًا الأب يقول: والله أنا الحظُّ أن الابن الفلاني كأنه مُتعبٌ ومُرهقٌ، وأنَّ هذا مُتكررٌ، ألا تُلاحظين ذلك يا أم فلان؟ فتقول له الزوجة: نعم أُلاحظ. فهذا مثالٌ على الوضوح فيما يرتبط بالتقييم الصحي.
وقد يكون العكس، فتقول الزوجة مثلًا: بالعكس، صحته جيدةٌ، وأصبح نشيطًا، ونفسيته أصبحت طيبةً، وأصبح شخصًا إيجابيًّا ورائعًا بعد أن كان سلبيًّا.
وهكذا القائمون على التربية في المحاضن والبيئات التربوية.
فنحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه القضايا -أيها الإخوة والأخوات-، وكلها من المجالات المُساعدة على قضية الوضوح التربوي.
معنا الآن مُداخلةٌ كريمةٌ من أخينا الدكتور: ياسر شلبي، الحاصل على (دكتوراه) في مجال علم نفس الأسرة.
حيَّاك الله يا دكتور ياسر.
المتصل: حيَّاكم الله يا دكتور، وحيَّا الله الإخوة المُختصين، أهلًا وسهلًا.
المحاور: يا مرحبًا بكم، وسُعداء بكم، وأنتم تُحدثونا من تركيا، بارك الله فيكم وفي جهودكم.
المتصل: الله يُبارك فيكم ويُكرمكم.
المحاور: وسعيدون بكم، وأنت مُختصٌّ بهذا المجال الدَّقيق المهم -وهو علم نفس الأسرة- ماذا تقول عن قضية الوضوح التربوي الأُسري بين الزوجين؟
تفضل دكتورنا.
وضع نظامٍ داخل الأسرة
المتصل: بسم الله الرحمن الرحيم.
والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ، أخي الكريم، تتضح أهمية الوضوح في التربية فيما يتعلق بالتعامل مع الأبناء: أنه يُساهم بشكلٍ كبيرٍ في تسهيل عملية تربية الأبناء، كما أنه يُساهم في عملية تعديل السلوك دون اللجوء إلى الأخطاء التربوية أو إزعاج النفس.
ومن الجوانب المهمة التي يمكن أن تدخل تحت مُسمى "الوضوح في التربية": وضع نظامٍ داخل الأسرة يسير عليه ويلتزم به جميع أفراد الأسرة بمَن فيهم الوالدان، حتى الطفل الصغير.
المحاور: يا سلام! اجعلنا يا دكتور ياسر في هذه الجزئية، وهي: وضع نظامٍ يُتَّفق عليه، فهذا لا شكَّ أنه مُؤشرٌ قويٌّ لقضية الوضوح بين أطراف الأسرة، هل هذا صحيحٌ أم لا يا دكتور؟
المتصل: نعم، وهذا نأخذه من سيرة النبي وسيرة الصحابة، فالصحابي أبو الدرداء عندما تزوج زوجته قال لها: "إذا رأيتيني غضبتُ فترضِّيني، وإن رأيتُكِ غضبتِ ترضَّيتكِ، وإلا لم نصطحب"[2]"العقد الفريد" (7/ 131)..
فمن البداية كانت هناك اتِّفاقيةٌ ووضوحٌ بينهما في كيفية التعامل، حتى لا تحدث مُشكلات، وكل شخصٍ يعرف الحدود والحقوق والواجبات التي له، والتي عليه.
المحاور: أين الشاهد فيما ذكرتَ يا دكتور ياسر لو تكرمت؟
المتصل: وضَّح لها كيف تتعامل معه أثناء الغضب، فحينما يغضب هو، وحينما تغضب هي، ما الآلية التي يتعامل بها كل شخصٍ مع الطرف الآخر بشكلٍ واضحٍ؛ حتى لا يحدث خلافٌ في هذا الأمر؟
المحاور: جميلٌ، إذن هنا قضيةٌ أساسيةٌ في الوضوح التربوي داخل الأسرة، وهو وجود نظامٍ يُتَّفق عليه بين الأطراف، حتى تقلَّ مجالات الخلاف، ويحصل هناك اتِّفاقٌ.
المتصل: نعم، حتى مع الطفل الصغير، فيُمكن بالنسبة للطفل الصغير أن نرسم له جدولًا، ونضع عليه من خلال بعض الصور الرمزية كيفية التعامل في جوانب الحياة المختلفة، فهذا يُسهل على الطفل أن يعرف ما له وما عليه، وكيف يسير داخل الأسرة؟
المحاور: أنت ذكَّرتني يا دكتور ياسر -حفظك الله- بمقرر عندي في هذا الفصل اسمه: "تعديل السلوك"، وأعطيتُ للطلاب خلال فصلٍ دراسيٍّ كاملٍ حالات فردية يُتابعونها، وكان من الحالات التي سمعتها قبل أيامٍ من أحد الطلاب: أنه قام بمُتابعة حالةٍ لأحد إخوانه الصغار، وكانت القضية عنده هي النوم المُتأخر، واستخدم معه العقد التبادلي السلوكي، وهو وجود اتفاقية كتبها، مع وجود حوافز، ويقول: وقَّع عليها أخوه الصغير. ويقول: بفضل الله اكتفيتُ بهذه الوسيلة التي كانت مُساعدةً جدًّا لي، فأصبح أخي الصغير بعد أن كان ينام الساعة الثانية عشرة ليلًا، أصبح ينام الساعة العاشرة، بحمد الله .
المتصل: نعم، فهذه الطريقة تُعلم الأبناء النظام، وتُربي داخلهم الرقابة الذاتية، كما تُعودهم على تحمل عواقب أفعالهم، سواء الحسنة، أو الخاطئة، فيُصبح هو المسؤول عن أفعاله.
طبعًا هنا لا بد أن نُربي داخل الأسرة ونؤكد على أهمية تعويد الأبناء على الحوار ومُناقشة آرائهم بكل حريةٍ وتجردٍ وبحدود الأدب، حتى نستطيع أن نقعد معهم تلك الاتفاقيات.
المحاور: جميلٌ؛ لأنه لا يمكن أن تصلح هذه الأنظمة والاتفاقيات في بيئةٍ مشحونةٍ وغير صحيةٍ، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فالبعض يقول: أنا أفعل هذا، أو أُحاول أن أفعله، لكن لا أجد قابليةً! فالمشكلة هنا أن القابلية تأتي في البيئة الصحية التي فيها ودٌّ ورحمةٌ وعلاقاتٌ إيجابيةٌ.
وغير ذلك يا دكتور، حفظك الله.
المتصل: من الأمور المهمة أيضًا التي تدخل في الوضوح: احترام التسلسل الإداري داخل المنزل، وتوزيع الأعمال بالصلاحيات بشكلٍ واضحٍ، فهذا يُساعد على بناء الاحترام داخل المنزل، ويُجنب الفوضى، فلو شعر الابن أن والده يضرب بكلام أمه عرض الحائط؛ فإنه يُصاب بالحيرة والارتباك، وعندما يكبر هذا الابن قليلًا يتعلم التَّمرد وعدم الاحترام.
المحاور: أحسنتَ جدًّا، وهذا قد أشرنا إليه، وقضية الصلاحيات ماذا تقترح لها يا دكتور؟
فالبعض يقول: هل نحن شركة حتى نُوجد هذه المهام والصلاحيات ... إلى آخره؟!
يعتبرون هذه القضايا من قبيل التعقيد، فأنتم بهذا تُعقِّدون لنا الوضع الأُسري!
ما رأيك في هذه القضية يا دكتور؟
المتصل: أولًا: الزواج هو شراكةٌ ومؤسسةٌ ومسؤوليةٌ كبيرةٌ جدًّا، ويجب أن يكون جميع أفراد الأسرة في نظامٍ، حتى نُنتج نحن جيلًا رائعًا ومُبدعًا يُعتمد عليه، أما إذا كانت الأسرة تعمُّ فيها الفوضى فسوف ينتج لنا جيلٌ لا يتحمل المسؤولية، ولا يمكن أن نعقد عليه الآمال.
المحاور: جميلٌ، آخر شيءٍ يا دكتور يمكن أن تختموا به حول هذا الموضوع المهم.
المتصل: من الأمور المهمة: تفسير ما نطلبه من الطفل، سواءٌ بالفعل أو الترك، فعندما نكون غامضين بشأن ما نريد من الطفل لا يمكن أن نطلب منه أن يُغير سلوكه ببساطةٍ؛ وذلك لأنه لم يفهم ما نريد.
المحاور: لأن المصطلح غير واضحٍ له.
المتصل: نعم، فلو قلنا له: أنت يجب عليك أن تحسم موقفك. فهو لم يفهم ما الموقف الذي نريد أن يحسمه، فيجب أن نُوضح له بطريقةٍ محددةٍ ما السلوك الذي نريد منه؛ لكي يتعامل معه بطريقةٍ إيجابيةٍ؟
المحاور: بل حتى يا دكتور ياسر الكبار والشباب والمُراهقون، أُعطيك مثالًا -وهذا مثلًا يحصل عند الأُسر واختلاف الآباء مع الأبناء فيها- حينما يقول له: لا تتأخر في الرجوع إلى البيت دون تحديدٍ للوقت. فهو يعود مثلًا الساعة الثانية عشرة، أو يقول له: لماذا تأخَّرتَ؟ يقول: أنا ما تأخَّرت، الثانية عشرة هذا أمرٌ طبيعيٌّ.
فأصبحت قضية "لا تتأخر" مختلفةً رؤيتها عند الأب والابن؛ لأن الأبناء لهم عمرهم، ولهم مُراهقتهم، فإذا لم يحصل تحديدٌ لمثل هذا الأمر ستُصبح هناك إشكاليةٌ.
المتصل: نعم، الله يُعطيكم العافية، وهنا أمرٌ أود أو أُريد أن أختم به.
المحاور: تفضل.
المتصل: وهو أمرٌ يتعلق بحالتنا، نحن -كما ذكرت- في تركيا الآن، من الأمور المهمة: الوضوح في الإجابة عن أسئلة الأبناء في جميع الأمور الحياتية، سواء الطبيعية، أو الطارئة، فلا يصلح أن نذكر لطفلٍ مثلًا فقد والده أن والده مُسافرٌ، وسوف يعود بعد ذلك، فذلك سوف يُؤثر بشكلٍ سلبيٍّ وكبيرٍ على نفسية هذا الطفل في المستقبل.
المحاور: أنت تقصد أحوال إخواننا في سوريا، كونك من سوريا، بارك الله فيك؟
المتصل: نعم، الله يُبارك فيك.
المحاور: أسأل الله أن يلطف بإخواننا، وأن يُعيدكم إلى سوريا شامخين أعزَّةً.
فأنت تُشير هنا إلى قضية: أنه من الوضوح ألا نُعطيه إجابات خاطئة مغلوطة، وبإمكاننا أن نُعطيه إجابات واضحة، لكن نُهيئه إليها، ونتدرج بها معه، أليس كذلك يا دكتور؟
المتصل: بلى، هذا هو المقصود.
المحاور: شكر الله لكم، وبارك الله فيكم، وسُعداء بكم.
المتصل: حيَّاكم الله.
المحاور: ولعلكم تكونون قريبًا عندنا هنا حتى نحظى بكم في (الاستديو) -إن شاء الله- يا دكتور ياسر.
المتصل: بإذن الله، حيَّاكم الله، وشكرًا لكم.
المحاور: شكرًا على إيجابيتكم، وبارك الله فيكم، وأسأل الله أن يُوفقكم لكل خيرٍ.
كان معنا الأخ الكريم الدكتور: ياسر شلبي، (دكتوراه) في علم نفس الأسرة، وهو من بلاد الشام المُباركة، أسأل الله أن يحفظ أهلها، ويُعيدهم إلى ديارهم، ويُمكِّن لهم من أعدائهم، اللهم آمين.
وقد أشار إشاراتٍ رائعةً جدًّا في قضية الوضوح وما يرتبط بجانب النظام والاتفاقيات والتوجيهات ووضوح المصطلحات، وركَّز على قضية الأطفال كمثالٍ، وما شابه ذلك من أمورٍ، وسيأتي بعضها -بإذن الله - فيما يتبقى لنا في مثل هذه الحلقة.
تجديد الأعراف والأنظمة داخل الأسرة
أيها الإخوة، ومن القضايا المهمة في قضية الوضوح التربوي، وهي تأكيدٌ لما ذكره الدكتور ياسر، وهي: قضية تجديد الأعراف والأنظمة داخل الأسرة، فهذه من قضايا الوضوح، وقد أشار الدكتور ياسر إلى وجود اتفاقيةٍ، وهذا مهمٌّ جدًّا، ففرقٌ بين الأسرة التي عندها اتفاقيةٌ ونظامٌ وغيرها.
فالآن حتى في الأُسر والشركات والمؤسسات الأسرية وشركات الأسرة يتَّجهون إلى ما يُسمى بـ: دستور الأسرة، أو الدستور الأُسري، وهو: أن يكون هناك نظامٌ يُكْتَب للأسرة، ويُتعرف على كل ما يحتاجه أفراد الأسرة من خلال هذا النظام، حتى إنني سمعتُ بأسرةٍ تمَّ فيها إنشاء دساتير وأنظمة تُنظم العلاقات بين الآباء والأبناء، مع أن العلاقات بينهم قويةٌ جدًّا، ومع ذلك كانوا مُصرين على إيجاد نظامٍ ودستورٍ مكتوبٍ يتَّفق عليه، ويسمع آراء الجميع فيه، فكان الأمر حقيقةً مُدهشًا.
والسبب في ذلك: أن الآباء لا يريدون خلافات بين الأبناء في المستقبل، وكذلك الأبناء يريدون أيضًا أن تظل علاقاتهم الإيجابية فيما بينهم في وقت وجود آبائهم كما هي في الأوقات الأخرى، وهذا الأمر يُساعد عليه الوضوح في النظام، ومعرفة ما لهم وما عليهم.
ولذلك تعددت المواقف والقصص فيما يتعلق بهذه الجوانب، خاصةً أن الجانب المالي ولو صغر يحتاج إلى الانتباه له حتى لا يقع خلافٌ بين الأبناء، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال إدراك بعض الجوانب التي يمكن أن يتَّفق عليها من خلال وجود نظامٍ أُسريٍّ مُتفاعلٍ، ووضوحٍ بين أفراد الأسرة عن طريق بعض الأنظمة والأعراف وبعض الجوانب الشرعية التي جاءت في الشريعة.
وقد تكون هناك أشياء ألفتها الأسرة سابقًا، فتجديدها ومُراجعتها والنِّقاش حولها مهمٌّ جدًّا، وقد يكون هناك نظامٌ حصل في السابق، فيمكن أن يُراجع هذا النظام، وهذا كله من الوضوح في التربية: كقرارٍ -مثلًا- اتُّخِذَ من أجل رحلةٍ، أو من أجل إمضاء إجازةٍ معينةٍ، أو من أجل شراء شيءٍ معينٍ، فمن الوضوح حينما يكون هناك تجديدٌ أو تغييرٌ لمثل هذه القضايا بين أفراد الأسرة أن تُعلم.
فهذه كلها من قضايا الوضوح، وهذا يتطلب سماعًا من الزوجة والأبناء، وهذه القضايا تحتاج إلى تعبٍ: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، وكما قال النبي : حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات[3]أخرجه مسلم (2822).، فطرق النار سهلةٌ، لكن الذي يريد طريق الجنة لا بد له من تعبٍ، ومن ذلك: التعب في الجانب التربوي، فهذا يتطلب منه وقتًا واستماعًا، وتحمُّلًا وصبرًا.
وأيضًا ماذا ينبغي أن نعمل؟ وكيف نعمل؟
فهذه من القضايا التي ينبغي أن يكون فيها وضوحٌ، وهذا يتأتى من خلال وجود خطةٍ وتخطيطٍ أيضًا، يعني: حينما يريد أن يتحدث مع الأبناء فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا ينبغي أن يُخطط لها الأب والأم، والبعض يتكلم مع الأبناء تلقائيًّا، وينتهي الموقف، ولا يخرج بشيءٍ واضحٍ!
وأعرف أحد الآباء يقول: والله أنا لا بد أن أكون مع أبنائي لمدة ساعةٍ يوميًّا، بعضها جماعية، وبعضها فردية. فأقول له: هل تُخطط قبل ذلك؟ قال: نعم، أعرف فيما سأتكلم مع هذا، ومع هذا، وعندي هدفٌ معينٌ.
فهذا الشخص من الناس المُوفَّقين، وعنده قضية الوضوح التربوي لازمةٌ؛ ولذلك يُحقق نتائج رائعةً جدًّا، وقد شعرتُ من كلامه بالأُنْس والطمأنينة، مع أنه يعمل ساعاتٍ طويلةً في وظيفته، ولكن عمله التربوي الأُسري عنده أهمُّ وألَحُّ من عمله الوظيفي؛ ولذلك يُضحِّي من أجله.
وأيضًا عند حل المشكلات لا بد من وضع خطةٍ واضحةٍ لحل المشكلة، وفرقٌ بين مَن يُسير الأمور بأي طريقةٍ، وربما -للأسف الشديد- تبقى المشكلة كما هي، وقد تزداد المشكلة، وكما يُقال: يزيد الطين بِلَّةً. وبين مَن يُخطط للحل، ويكون واضحًا في خطته؛ فلا شكَّ أن هذا يُساعد على حل المشكلات.
الرسائل التربوية
من القضايا المهمة للوصول إلى الوضوح التربوي: ما يتعلق بقضية الرسائل التي يُرسلها المُربي إلى المُتربي، فالرسائل أيًّا كانت -لفظية، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما شابه ذلك- لا بد ألا تكون طويلةً وغامضةً، فهذه قضيةٌ لا بد أن نعتني بها، وأن تكون رسائلنا قصيرةً وواضحةً.
وقد أشرنا قبل قليلٍ إلى قضية المُراهقين، فلا بد أن تكون الأوامر والتوجيهات المُوجهة إليهم واضحةً، فلا يُقال للمُراهق مثلًا: لا بد أن تعود إلى البيت مُبكرًا. فهو لو رجع في ساعةٍ معينةٍ يرى أنها مُبكرةٌ، والأب لا يرى أنها مُبكرةٌ، إذن هناك إشكاليةٌ في قضية الغموض، فلا بد من وضوح موضوع الوقت، هذا مهمٌّ جدًّا.
وحتى في الإنجاز يمكن أن يقول الأب مثلًا: الحمد لله، أنا أنجزتُ مع أبنائي وأُسرتي بشكلٍ جيدٍ. بينما الأم تقول: لا، والله هو مُقصِّرٌ. لماذا؟
لأنهما اختلفا في القضية، وليس بينهما قضيةٌ ومعياريةٌ واضحةٌ: ما الشيء الذي ينبغي أن يكون عليه الأب؟
فقد يرى الأب أن كونه يتغدَّى مع أسرته مرةً واحدةً في الأسبوع أن هذا كافٍ، والأم تقول: لا، يحتاج أن يخرج معنا في رحلةٍ، ويحتاج أن تكون وجباته معنا بنسبة 50%، 75% مثلًا. فاختلفا في قضية التقييم بسبب عدم وضوح هذه القضية.
معنا من اليمن الأخ عوض.
حيَّاك الله يا أخ عوض.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: جزاكم الله خيرًا يا دكتور على هذا البرنامج.
المحاور: مرحبًا.
المتصل: لدي سؤالان:
الأول: ما الآثار السلبية لعدم الوضوح الأُسري أو التربوي في الأسرة؟
والثاني: هل هناك أحوالٌ قد لا يكون الوضوح فيها واجبًا عليَّ؟
للتوضيح: أنا في الجانب المالي قد لا أستطيع -مثلًا- أن أُوضح كل شيءٍ لأسرتي، فقد لا أستطيع في الوقت الحالي أن أكون واضحًا في بعض الأشياء -مثلًا- لظروف العمل، أو غير ذلك.
المحاور: واضحٌ، جزاك الله خيرًا، شكرًا أخي عوض من اليمن.
لا شك أن عدم الوضوح سيُسبب الخلاف بين الآراء والمواقف، وهذا سيُسبب تنازعًا بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء، وظهور الخلاف بين الزوجين عند الأبناء، وهكذا، لكن أيضًا لا يلزم من هذا أن يكون الوضوح في كل شيءٍ، وأن أكون كتابًا مفتوحًا، فالمطلوب الوضوح في الغالب.
وأيضًا الزوج لا بد أن يُفضي إلى الزوجة ببعض الأمور التي يقولها من باب أن يطمئن الطرف الآخر، ناهيك عن أمورٍ أساسيةٍ لا بد أن تكون الزوجة شريكةً فيها.
وهكذا بالنسبة للأبناء، فإذا كانت هذه البيئة صحيةً، والتربية قائمةً على هذه القضية، فأنا أتصور أن الزوجة ستعذر الزوج، أو الزوج سيعذر الزوجة في بعض الأمور التي لا تُذكر، ولا يرغب الطرف الآخر أن يذكرها ما دامت الثقة موجودةً بينهما، خاصةً بين الزوجين.
فمثل القضايا المالية وما شابه ذلك إذا كان الأمر مُفسرًا مُبررًا، والبيئة صحيةً إيجابيةً، فهذا الأمر مُقدَّرٌ -بإذن الله -، والعقل والدين موجودٌ، الحمد لله رب العالمين.
أما إذا كان الأمر ليس كذلك، والعلاقات ليست إيجابيةً، والغموض هو السائد؛ هنا ستُصبح القضية عبارةً عن تراكُماتٍ ستُؤثر سلبًا في واقع الأسرة.
فرسائلنا للمُراهقين -أيها الإخوة- لا بد أن تكون قصيرةً، واضحةً.
وأيضًا ما ذكره الدكتور ياسر بالنسبة للمصطلحات: فالطفل لا يُدركها كما يُدرك المُراهق، فالمُراهق تتولد لديه تراكُمات معرفية، ونشأ على معرفة مصطلحاتٍ عديدةٍ جدًّا، والطفل لم يُدرك هذه القضية؛ نظرًا لأنه ما زال بحاجةٍ إلى مزيدٍ من النُّضج العقلي، فنحتاج إلى بيان المصطلح للطفل، حتى إننا عندما نُحاسبه مثلًا أو نُؤاخذه يكون قد أدرك المصطلح، وليس غامضًا لديه.
وأشرنا إلى قضية القوانين داخل الأسرة، فهذه مهمةٌ جدًّا، ولا بد أن تكون واضحةً بيِّنةً.
وأنا أعرف أسرةً أبناءها يجلسون ساعتين وثلاثًا في حل الواجبات، ويُراجعون حفظ القرآن الذي لديهم، وما شابه ذلك، حسب نظام الأسرة، ويجلسون ساعتين على بعض الألعاب الإلكترونية المُنتقاة، وعلى الجوَّالات، وما شابه ذلك، ثم تنتهي الساعتان أو الثلاث ويعودون إلى وضعهم، وينامون مُبكرين، وما شابه ذلك.
فتوجد أُسرٌ ناجحةٌ فعلًا؛ لأنها نشأت بزوجين جيدين كما قلنا في لقاء "المناخ الأُسري"، وتربَّت منذ نعومة أظفارها على أنظمةٍ وبيئةٍ إيجابيةٍ مُريحةٍ ومرحةٍ في آنٍ واحدٍ.
فكتابة بعض العقود الواضحة هذه أيضًا قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فكثيرٌ من القضايا المالية، والشركات، وإنجاز بعض الأمور، كثيرٌ من الناس يعتمدون على المُشافهة، وسبحان الواحد الأحد الذي يقول: فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، فأمر الله بالكتابة لأجل أنه إذا اختلف الطرفان سيكون المكتوب الواضح هو المرجع؛ ولذلك لا يحتاج أن يُراجع، وهذا ما ذكرناه وقصدناه في قضية الدستور الأُسري.
فحبذا أن نُعود أنفسنا على قضية الكتابة قدر المُستطاع، حتى نستطيع أن نسير في حياتنا بطريقةٍ سليمةٍ، ويُصبح هذا شيئًا يتناقله الأجيال، ويُصبح الدستور الأُسري أو دستور ونظام الأسرة مرجعًا للأسرة، يأخذه الأصاغر عن الأكابر، ويتناقل إلى الأجيال القادمة، فتسير أهداف الأسرة والجيل وكل ما يتعلق بحماية الأسرة ووقايتها ونمائها بصورةٍ صحيحةٍ.
وقد استعرضنا في الحلقات الماضية الحالات التي قاموا باختيارها ومُتابعتها وتطبيق بعض مهارات تعديل السلوك عليها، وكان منها ثلاثٌ تقريبًا كلها أخذت مهارة التعاقد على تعديل السلوك، وهو كتابة عقدٍ واتِّفاقٍ بين الطرفين، يعني: الأخ مع أخيه الصغير، أو الأخ مع ابن عمه، أو مع أخته، وما شابه ذلك، مع وجود حوافز.
فلا شكَّ أن هذه القضايا مفيدةٌ ونافعةٌ، ونحتاج أن نتدرب عليها ونُطبقها، ولو كان فيها شيءٌ من الصعوبة بسبب أننا لم نعتد عليها.
فكل ما قلناه -ومنه الوضوح- سيُحقق لنا مُنتجًا واضحًا، وأهدافًا واضحةً، فالتربية القائمة على الوضوح ستُحقق الأهداف، وسيكون المنتج منتجًا واضح المعالم، والتربية التي تقوم على الغموض ستكون الأهداف فيها غامضةً، ومُختلفًا فيها؛ فبعضهم يرى أننا على خيرٍ وأمورنا طيبةٌ، وبعضهم يرى غير ذلك، فالحال التي عليها الأبناء ليست بالصورة المطلوبة التي فعلًا يُقال فيها: والله إنها مُنتجاتٌ واضحة المعالم والمواصفات والسمات.
فهذا الوضوح الذي تحدثنا عنه سيُنتج لنا أبناء صالحين في ذواتهم، ومُنتمين للأمة.
وهنا إشكالٌ، وهو: أن بعضنا يجعل الأهداف المادية الدنيوية هي الهدف الطاغي بالنسبة له في تربية أبنائه، فيقول لابنه الطفل الصغير: أُريدك أن تكون مُهندسًا، أو طبيبًا. أو يقول له: يا طيَّار المستقبل. وينسى الهدف الأساسي، وهو: أن يكون صالحًا.
وقد كنتُ في لقاءٍ قريبٍ عن قول النبي : إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، ثم قال: هي النخلة[4]أخرجه البخاري )61)، ومسلم (2811).، فأراد النبي أن يضرب مثلًا للمؤمن بالنخلة، فالنخلة أي شيءٍ تأخذه منها فهو نافعٌ، والنوع من الشجر وأمثاله يرميه الناس بالحجر ويُعطيهم الثَّمر، فالمؤمن كذلك ينفع في كل وقتٍ وزمانٍ، وفي كل حالٍ، بل حتى بعد وفاته؛ لأن عنده عملًا صالحًا من صدقةٍ جاريةٍ، أو ولدٍ صالحٍ ربَّاه يدعو له ... إلى آخره.
فهكذا المؤمن، وهكذا النخلة؛ ولذلك فالأبناء ينشؤون صالحين؛ لأنهم رُبُّوا على الصلاح، فالطفل يسمع منذ نعومة أظفاره: الله يُصلحك، الله يهديك، إن شاء الله تصير من أهل الخير، ومن أهل الدعوة، ومن الذين يعملون الخير ويَبَرُّون آباءهم، ... إلى آخره.
فهكذا يسمع هذه الأشياء، ويسمع الصلاح والهدى والتُّقى، وكلمات تُؤثر على القلوب قبل الآذان، فليس الهدف ماديًّا فقط، فقد يتخرج مهندسًا، وطبيبًا، وإداريًّا، وطيَّارًا ... إلى آخره، لكنه ليس صالحًا، ماذا نستفيد؟!
نعم سنستفيد من الناحية المادية فقط، لكن أين هذه القضية فيما يتعلق بالمشهد الأُخروي يوم القيامة: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أيها الإخوة، فاصلٌ ونعود إليكم، بارك الله فيكم.
الفاصل:
فائدة اليوم
أحيانًا يتصل عليَّ زوجٌ أو زوجةٌ، ويذكر صفةً في شريك حياته يُبدي تضايقه الشديد منها، لكني لما أتأمل هذه الصفة أجد أنها ليست بهذا السُّوء الكبير الذي يذكره، لكني عندما أتأمل أجد أنه نتيجةٌ لتركيزه الشديد، وكون هذه الصفة يتأملها كثيرًا، وملأت عليه ذهنه وتوسَّعت، في الوقت الذي نسي كثيرًا من الصفات التي قد تكون جميلةً!
صحيحٌ أن الإنسان قد يتضايق من صفةٍ معينةٍ في شريك حياته، لكن الأجمل أن يرى الصفات الأخرى الجميلة، حتى لا يُمعن كثيرًا في النُّفور، أو في توسيع رُقعة هذه الصفة السلبية لدى شريك حياته.
التعليق على الفاصل
كنا مع دُرَّةٍ من دُرر هذا الأستاذ الفاضل الدكتور: عبدالعزيز المقبل -وفَّقه الله-، وما ذكره هو من الوضوح التربوي المهم جدًّا، فلا بد أن يُدرك كلا الزوجين أو الطرفين أن هناك أشياء قد يراها خطأً، وفي ثناياها أمورٌ إيجابيةٌ قد يُدركها على أنها خطأٌ وأمورٌ سلبيةٌ، وهناك أمورٌ أخرى إيجابيةٌ، بل قد يُضخم هذا الخطأ مع أنه محدود الإطار، وصدق النبي إذ يقول: لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً أي: لا يكره مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخر[5]أخرجه مسلم )1469)..
أيها الإخوة، يُحقق لنا الوضوح التربوي أبناء صالحين ينتمون لهذه الأمة؛ لأنهم رُبُّوا على هذا؛ لأنه هدفٌ أساسيٌّ في أمة محمدٍ : أن نُربي الأبناء على مثل ذلك -أيها الإخوة والأخوات-، وكذلك يكون عنده اعتزازٌ وتقديرٌ لذاته، ويشعر بكيانه، وأن عنده ما يُقدمه.
بينما تجد الشخصيات التي لم تَعِش الوضوح بالصورة المطلوبة من المنظور الإسلامي يحصل لديها عكس ذلك: من عدم الانتماء للأمة، ويكون تفكيره في نفسه فقط، وقضية الصلاح عنده ضعيفةٌ، وعنده مشاكل كبيرةٌ في الصلاة، ويُعاني الآباء والأمهات في قضية صلاة الأبناء، والحجاب، وأشياء كثيرةٍ تأتينا تشعر معها أنه تنبغي مُراجعة الكيانات التربوية لهذه الأُسر.
وأيضًا قد لا يكون عنده اعتزازٌ بنفسه، فهو إمَّعَةٌ يتبع السلوك الغربي، ومُتأثرٌ بالتقليد، ولا يشعر أنه يمكن أن يكون شخصًا يحمل المسؤولية؛ فيشعر بضعفه، ويحقر ذاته، وما شابه ذلك.
فهذه كلها من المنتجات السلبية لعدم وجود الوضوح التربوي الذي يُساعد على عكس ذلك.
وتشرُّب الأخلاق والقيم من خلال الاحتكاك بالكبار، وهذه من القضايا المهمة جدًّا التي تُنتجها لنا قضية الأهداف والوضوح التربوي.
ففرقٌ بين الذي يُربي أبناءه ليكونوا صالحين، والذي ليست هذه القضية واضحةً بالنسبة له، فالأول عنده وضوحٌ في المنهج الإسلامي التربوي، وأنه ينتمي للأمة، فهو حينما ينظر لإخواننا في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وغيرها، فإنه يعيش آلام الأمة، ويجد أباه وأمه يُعانيان وترتبط مشاعرهما بمثل هؤلاء الإخوة في الله ، وما شابه ذلك؛ فيتأثر بذلك.
وكذلك حين يكون عنده هدفٌ، وهو الاعتزاز بالنفس بشكلٍ إيجابيٍّ، وشعورٌ بتقدير هذه النفس، وأنها قادرةٌ على تحمل المسؤولية، فأيضًا هذا من الوضوح في قضية الأهداف التربوية، وستتحقق حينما يحصل هذا الوضوح التربوي من خلال فهم المنظور التربوي الإسلامي.
وحينما يُصاحب الكبار يتعود على القيم الاجتماعية: كالاحترام، والأدب، والتعبير عن الرأي، وأخذ الخبرة، والمنطق، والحوار، ... إلى آخره؛ وذلك حينما يكون هؤلاء الكبار فعلًا هم مدرسة في ذلك، فلا شكَّ أن هذه القضايا مُساعدةٌ ومُعينةٌ.
والصدق أيضًا من القضايا المهمة، وهو هدفٌ أساسيٌّ لما تقوم عليه الأسرة، لكن لما يتصل أحد الأشخاص ويقول: أين الوالد؟ فيُؤشِّر له أبوه أن يقول: غير موجودٍ. فيتربى الابن على قضية الكذب!
نعم قد يكون الأب مشغولًا ومُنزعجًا من هذا الشخص، وقد يكون فعلًا لا يستحق أن يُعطي وقته لهذا الشخص، قد تكون كل هذه الاحتمالات، حتى لو أخذناها من ناحيةٍ إيجابيةٍ، وهي: عدم مناسبة الأب في أن يتواصل مع هذا الذي يبحث عنه، لكن ما ذنب الابن الذي وجد الصورة غير الإيجابية بسبب كذب الأب على ذاك الرجل؟!
فهذه قضايا لا بد أن ننتبه لها أيها الإخوة.
والشجاعة الأدبية أيضًا هدفٌ تربويٌّ مهمٌّ جدًّا، لا بد أن يكون ضمن الاهتمام والعناية، فيتعود الإنسان على الجرأة والتعبير عن رأيه.
وكذلك الحوار قضيةٌ أيضًا مهمةٌ، فلا يمكن أبدًا بحالٍ من الأحوال أن نصل لقضية الوضوح داخل الأسرة إذا لم يكن الإنسان عنده فرصة في أن يُحاور ويتحاور مع الآخرين، فالآباء الناجحون والأمهات الناجحات هم الذين يُعطون بيئةً خصبةً للحوار، حتى لو سمعوا من الأبناء ما لا يسرُّهم، أو يُخالف رأيهم، فهنا يأتي التوجيه، ولكن أن نخاف وعندئذٍ نُغلق باب الحوار، كما يخاف المعلم أو المعلمة حتى لا يسأل الطالبُ سؤالًا لا يعرفه، أو ما عنده وقتٌ بسبب ثِقل المادة الدراسية، فليس صوابًا.
فلا بد من فتح البيئة الحوارية في هذا المجال، فهذه من القضايا المهمة التي ينبغي أن تكون واضحةً لدينا في تربية الأجيال، فلأن ينشأ الابن وهو محاورٌ غير أن ينشأ وهو ليس محاورًا، وينشأ الابن وعنده شجاعةٌ غير أن ينشأ وهو خائفٌ، وينشأ الابن وعنده صدقٌ غير أن ينشأ على الكذب؛ فيكذب على والده، ومديره، وأستاذه، ويغشّ، فهذه من القضايا الخطيرة جدًّا.
وأيضًا من القضايا المهمة في قضية الوضوح التربوي: عمل الخير، والعطاء، ومُساعدة الآخرين، فهذه من القضايا المهمة جدًّا، فالشخص لا يعيش لنفسه فقط، وإنما يعيش لغيره، فهو أصبح صالحًا، وله خصائص وسمات في شخصيته، وأصبح مُهتمًّا بالأخلاق والقيم، وعنده صدقٌ ومجالاتٌ للحوار، لكن كذلك هو يُعطي الخير ويبذل للآخرين، وفي الحديث: خير الناس أنفعهم للناس[6]أخرجه الشهاب القضاعي في "مسنده" (129)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289)..
فلا بد أن تكون هذه القضية والهدف واضحًا في تربيتنا، وعندئذٍ سيكون المنتج في أبنائنا مُتَّصفًا بهذه الصفات، ولا نرجع ونقول: أبناؤنا ما استفادوا شيئًا من المدرسة! فهل نريد أن تُخرج المدرسة أبناء يُحبون العمل الخيري والتطوع ومُساعدة الآخرين؟!
صحيحٌ قد تكون المدرسة مُقصِّرةً، لكن أيضًا الابن جاء ابتداءً من البيت، فأين الوضوح التربوي ابتداءً منذ نعومة أظفار الابن في التربية على قضية مُساعدة الآخرين وحبِّ الخير والعطاء لهم؟!
يعني: لما تُوضَع حصَّالة أموالٍ صغيرةٌ، ويُقال للابن: ضَعْ فيها ريالًا، أو نصفه، فهذا سيذهب لأسرةٍ مسكينةٍ. فيتعود على مثل هذا الجانب.
ورمضان مُقبلٌ -نسأل الله أن يُبلغنا وإياكم- فلما نأخذ بعض الأطعمة والمشروبات ونُعطيها لشخصٍ فقيرٍ، أو أسرةٍ فقيرةٍ، ويقوم الأب مع أبنائه ويُمارس هذه القضية، ويجعل ذلك في متناول أيديهم، فيتربون على مثل هذا العطاء ومُساعدة الآخرين؛ لأنه هدفٌ واضحٌ.
وحين لا يكون هذا هدفًا واضحًا، أو غيرها من القضايا التي ذكرناها: من صلاحٍ للأبناء، وانتمائهم للأمة، وإدراك الاعتزاز بالنفس إيجابيًّا، وإدراك هوية الإنسان، وتحمل المسؤولية، والتصرف بالأخلاق والقيم: كالصدق، والشجاعة الأدبية، والحوار، ومساعدة الآخرين، فحينما لا تكون هذه أهدافًا واضحةً ستضيع التربية، فلا بد من الوضوح في مثل هذه الأهداف حتى يكون المُنتج فعلًا مُنتجًا واضحًا.
أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم إلى الوضوح التربوي، وأن يُعيننا وإياكم على تربية أنفسنا وأبنائنا وأهلينا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.