المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات مع حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي "أسس التربية"، ومن قناتكم قناة "زاد" العلمية، وما زلنا معكم مع سلسلةٍ حول التربية بالقيم، وهذه الحلقة الثالثة، ونرجو أن يُيسر الله وتكون الأخيرة؛ حتى نستثمر اللقاء القادم -إن كتب الله - في موضوعٍ له علاقةٌ برمضان، وهو "رمضان والتربية الإيمانية"، فدعونا نستكمل ما يرتبط بقضية خصائص القيم في المنهج الإسلامي.
تتمة خصائص القِيَم في المنهج الإسلامي
وقد تحدثنا أن هذه القيم تُعد صفةً من الصفات الإنسانية، وكل فردٍ يسعى للمُحافظة عليها؛ لأنها أساسًا تُمثل شخصيته.
وكذلك من الخصائص: أن هناك قيمًا -كما قلنا- إيجابيةً، وقيمًا سلبيةً، وهي كذلك تُصنف على أساس ما يتعلق بنظرة الناس لهذه القيم؛ ولذلك ينبغي أن تكون المرجعية ليس ما يرتبط بالمعيار الاجتماعي، كما تحدثنا عن قضية الشذوذ في المجتمع الغربي بعد أن كان منبوذًا أصبح مقبولًا، وإنما يرتبط هذا بالثوابت وبالمنهج الإسلامي الذي يرتبط بالقيم الثابتة وما يتعلق بذلك.
ومن خصائص هذه القيم والأخلاقيات أيضًا: أنها تجعل الإنسان يتصرف وفقًا لسلوكٍ معينٍ، فحينما تكون هذه القيم التي نريد أن يتبناها الأجيال واضحةً، فنحن في الحقيقة نتصرف وفق هذه المنظومة من القيم، فهي التي تُوجه لقضية بناء السلوك المعين، فعندما نقول: قيمة الصدق، فنحن نحرص على أن نكون صادقين، حتى لو كان الصدق ربما يُضيع علينا مصلحةً شخصيةً؛ ولذلك ينبغي أن نؤكد على التربية بالقيم؛ لأنها هي المُوجهة لقضية السلوك.
وأيضًا في مقابل ذلك تمنع هذه القيم الإنسانَ من أن يسلك ما يُضاد القيم الحسنة، وهي القيم السالبة، وكما يُقال: "وبضدها تتميز الأشياء"، والتخلية: الابتعاد عن الجانب السلبي، وهو مُقدَّمٌ على التحلية، وهي: التلبس بالجانب الإيجابي، وإبعاد النفس عن القيم السالبة، لا بد أن يكون سابقًا لاكتساب القيم الحميدة؛ ولذلك في مجال التربية على القيم هناك قضيتان أساسيتان:
القضية الأولى: أن نبتعد عن كل تصرفٍ يُسيء للقيم الحسنة.
القضية الثانية: أن نسلك السلوك الذي له ارتباطٌ بالقيم الحسنة.
فلو تحقق لدينا هذان الاتجاهان نكون فعلًا قد نجحنا في التربية بالقيم.
ومن خصائصها أيضًا: أنها تكتسب خاصية الاستمرارية والثبوتية؛ ولذلك يحرص العقلاء من الناس على المحافظة عليها، ولا يمكن أبدًا بحالٍ من الأحوال أن تكون القيمة مُرتبطةً بسلوكٍ واحدٍ؛ ولذلك كما ذكر فيما يتعلق بالقدوة: أنه لا بد من توفر مبدأ من المبادئ الأساسية، وهو مبدأ التكرار، فلا يمكن أن يكون الإنسان -مثلًا- قدوةً في الانضباط في الوقت وهو ينضبط أحيانًا، ويترك أحيانًا، ولا يمكن أن يكون قدوةً في التبكير للصلاة وهو يُبَكِّر أحيانًا، ويتأخر أحيانًا، وإنما لا بد أن يكون هذا سلوكًا مُستمرًّا بالنسبة له، وهذا مما يُساعد على التطبيق والتأثير في الناس في هذا الجانب.
ومن خصائص القيم أيضًا: أنها تختلف، فليس لها مستوى واحدٌ في التأثير؛ ولذلك فهي على حسب ما يحتاجه الفرد والأسرة والمجتمع والوقت والمكان والحال؛ ولذلك تختلف -كما قلنا- دعوة الأنبياء بعضها عن بعضٍ فيما يتعلق بقضية الفروع، أو ما يرتبط بقضية الاهتمامات في بعض الجوانب السلوكية، وما يرتبط ببعض التوجيهات، بينما الكل يشترك فيما يتعلق بقضية الدعوة إلى التوحيد.
وأيضًا القيم تُبرز السلوك الذي يتبعه الشخص أثناء التعامل مع الأشخاص الآخرين، وهذا له علاقةٌ بالنقطة السابقة التي تحدثنا عنها، فالإنسان حينما يريد أن يتعامل مع الآخرين سيحكم التواصل الإيجابي مع الآخرين، وسيتبع السلوك الذي يُحقق القيم الإيجابية، وسيبتعد عن السلوك الذي يُحقق القيم السالبة، وسيتعامل مع الآخر بناءً على منظومة القيم؛ ولهذا لما سُئلت عائشة عن خُلُق الرسول قالت: "كان خُلُقه القرآن"[1]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (24601)، وقال مُحققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ".، وهكذا علاقة الإنسان بربه، فهناك قيمٌ مُرتبطةٌ بمراقبة الإنسان لله ، فالإنسان مُدركٌ أن الله يُراقبه، وأنه مُطلعٌ عليه، فتتولد من ذلك قيم: الأمانة، والمحافظة على الصلاة، والتوحيد -وهي أعظم قيمةٍ-، وما شابه ذلك من أمورٍ.
فمنظومة التعامل مع الناس تتولد منها قيم: التعاون، وحب الخير للآخرين، والتواضع، والبذل، والتضحية، والإيثار، وغيرها من القيم.
ومن خصائص القيم أيضًا: أن قضية الأخلاق هي أهم أنواع القيم البشرية كما يقولون؛ ولذلك إذا أردنا أن نتربى على قضية القيم فعلينا أن نبحث عن قضية الأخلاق؛ ولذلك البعض يقول: القيم تُساوي الأخلاق، والأخلاق تُساوي القيم.
وبغض النظر عن النِّقاشات العلمية في هذا الجانب فهناك إبراز أهمية التربية الأخلاقية بالنسبة للنفس البشرية، ودعونا نأخذ مثلًا ما يتعلق بخلق قيمة الطاعة، فلما يعمل الإنسان أمرًا أمر الله به، بخلاف ما يُخالف هذا السلوك الذي يتوافق مع القيمة الإيجابية، وهو أن يعصي الله ، فتأتي قيمةٌ أخلاقيةٌ مهمةٌ تمسح هذا السلوك السلبي، ألا وهي قيمة التوبة كمثالٍ.
ولذلك هذا المنهج الرباني لا تكاد تجده في المناهج البشرية، فلما يقول الله مثلًا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، فهم أَسْرَفُوا يعني: مارسوا من السلوكيات المُخالفة للقيم الإيجابية التي يرضاها الله، والتي تُنافي التعامل الحسن مع الناس والتوافق الذاتي، فماذا يحصل عند الإنسان؟
ربما يحصل عنده قنوطٌ؛ فيشعر أنه منبوذٌ أولًا من الله ، ومنبوذٌ من المجتمع، فهنا تبرز قضية قيمة التوبة في المنهج الإسلامي: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
لذلك ينبغي إدراك هذه المعاني؛ حتى نجعل النفس البشرية تسلك هذه الحياة بأريحيةٍ، فالنفس البشرية تُقصِّر وتعصي، ولكي تستمر في الحياة بإيجابيةٍ لا بد أنها كلما أذنبت تابت، هكذا ينبغي، ففرقٌ بين الذي يُذنب ولا يتوب، والذي يُذنب ويتوب، وفرقٌ بين الذي يُذنب ويستمرئ في الذنب، وبين الذي يُذنب وهو يشعر بالذنب، وفرقٌ بين الذي يبتعد عن الذنب وهو راغبٌ فيه، وبين الذي يبتعد عن الذنب وليس راغبًا فيه، وهذا كله كما قال الله : أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3]، فكلما كانت المُجاهدة والتعب لأجل إرضاء الله ، وسلوك المسلك الإيجابي؛ كان الإنسان أجره عند الله أعظم.
فهذا ما يتعلق بقضية خصائص القيم، فلا بد أن نُبرز أهميتها للمجتمعات البشرية كافَّة.
أهمية القِيَم
كل الحضارات تتبنى قضية القيم، وأصبحت الانحرافات البشرية التي تلحظها في المجتمعات -أيًّا كانت: سلوكية، أو فكرية- بناء على المنهج الذي يسلكونه، لا بد أن تأتي الحماية في نظر كل هؤلاء من خلال القيم، لكن يبقى كما قلنا: مَن الذي يُوفَّق للقيم الشاملة ذات النظرة الشمولية والتكاملية والمتوازنة التي هي قيمٌ ربانيةٌ من عند الله .
ولا يوجد أحدٌ أبدًا يختلف في أثر هذه القيم ودورها في الحياة البشرية، فشتان بين الذي يسلك القيم الإيجابية ومَن لا يسلكها؛ ولذلك لا يوجد عاقلٌ إلا ويُدرك أن الإثم ما حاك في صدرك، وكرهتَ أن يطلع عليه الناس[2]أخرجه مسلم (2553).، يعني: هذا مُؤشرٌ من مُؤشرات معرفة قضية: هل هي إثمٌ أم لا؟ هو التردد الذي تجده في نفسك؛ لأنك صاحب نظرةٍ أو فطرةٍ سوية الأصل: وكرهتَ أن يطلع عليه الناس، طيب، لماذا تكره أن ينظر الناس إليك هذه النظرة؟ لأن هذا الأمر غير مقبولٍ، وهكذا حينما تكون الفطر سليمةً، والعقول راجحةً.
ومن فوائد هذه القيم وأهميتها: أنها تُساعد النفس البشرية على التغيير من السلوك السيئ إلى السلوك الإيجابي، وهذه كما قلنا قبل قليلٍ في موضوع التخلية والتحلية، ويكفي في ذلك أن الإنسان حينما يجد لديه -مثلًا- قيمة الكسل، وهي قيمةٌ سلبيةٌ، في مقابل قيمة الإنتاج والبذل والعمل، وهي قيمةٌ إيجابيةٌ، فهو حينما يرى هذه النماذج الإيجابية، ويرى الناس يتقدمون وهو يتأخر، وعنده عقلٌ، وهناك مُؤثراتٌ داخليةٌ وخارجيةٌ، فلا يمكن أن يبقى على ما هو عليه.
تأتي التربية بالقيم من خلال سماع محاضرةٍ، وحضور دورةٍ تدريبيةٍ، وقراءة كتابٍ، وسماع خطبة جمعةٍ، أو كلمةٍ عابرةٍ، أو رسالةٍ في (الواتس آب) ربما قرأها، فقد تُغير هذه القيمة الإيجابية سلوكه السلبي إلى سلوكٍ إيجابيٍّ.
ولذلك ينبغي ألا نيأس من تغيير النفوس البشرية، وخذوا مثالًا: لو استثمرنا ما يتعلق بقضية (الواتس آب)، وقد ثبت في الدراسات المحلية والإقليمية والعالمية أن رقم واحدٍ استخدامًا بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي هو (الواتس آب)، فلو استُثمر (الواتس آب) استثمارًا فعليًّا لأثر في غرس القيم.
وفرقٌ بين الرسالة القصيرة النصية، وبين الرسالة الطويلة التي بمجرد أن يراها الإنسان طويلةً يبتعد عنها، لكن الرسائل القصيرة التي هي عبارةٌ عن خمس أو عشر كلمات على الأكثر يقرأها الإنسان سريعًا، ويكون لها دورٌ فيما يتعلق بالتوجيه إلى القيم الفاضلة، وهكذا بالنسبة للصورة المُعبرة.
وسنجد بعد قليلٍ في نهاية هذه الحلقة صورةً ونُعلق عليها، وكذلك (فيديو) مثلًا في خلال دقيقةٍ ودقيقتين.
وهكذا تنبغي العناية بالتقنية والتواصل الاجتماعي في نفع الآخرين فيما يتعلق بالتربية على قضية القيم.
ومن أهمية القيم أيضًا: أنها ترتبط بالإرادة البشرية، وهذا يدفع الإنسان للالتزام بالقيم، ومهمٌّ جدًّا تفعيل: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، فلا نتوقع أن التربية بالقيم ستكون بمعزلٍ عن التربية الذاتية، أو ما يرتبط بقضية الإرادة البشرية، وإنما لا بد من تفعيل الإرادة، وهي تحتاج إلى مُؤثراتٍ تساعد على تفعيل هذه الإرادة البشرية؛ حتى يلتزم الإنسان بعد ذلك بالقيم، فلو ترك الإنسان لنفسه الخيار، وبقي على ما هو عليه؛ عندئذٍ ستُصبح قضية القيم السالبة عادةً.
ولذلك ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- فيما يرتبط بتكوين العادات والسلوكيات: أن القضية بخاطرةٍ إن استغرق فيها انتقلت إلى فكرةٍ، فإن تمكنت لديه انتقلت إلى إرادةٍ، فإن استوعبها أكثر انتقلت إلى عملٍ، وإن تشربها أكثر أصبحت عادةً[3]بنحوه في "مفتاح دار السعادة" (1/ 183).، وهذا أجمل ما يكون فيما يرتبط بقضية اكتساب القيم الإيجابية؛ لأنها تبدأ بخاطرةٍ، يُفكر لماذا لا أكون صادقًا؟ ولماذا لا أنشط مثل غيري؟ ولماذا لا أحرص على برِّ والدي؟ ولماذا لا أستثمر وقتي؟ وما شابه ذلك، فهي خاطرةٌ، لكن يمكن أن تكون خاطرة وتذهب، وعندئذٍ لا تنتقل إلى المرحلة الثانية، ألا وهي الفكرة، لكن لو استوعب الخاطرة أكثر وفكَّر أكثر أصبحت فكرةً مُتمكنةً في ذهنه، وعندئذٍ ستعقبها الإرادة، ثم العمل، ثم العادة.
ولذلك في مقابل ذلك: اكتساب القيم السالبة بنفس الاتجاه، فهي خاطرةٌ سلبيةٌ، ثم استمرأها حتى أصبحت فكرةً سلبيةً، ثم أصبحت بعد ذلك إرادةً سلبيةً، ثم عملًا سلبيًّا، حتى أصبحت عادةً سلبيةً؛ ولذلك تنبغي العناية بهذه المنظومة التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- فيما يتعلق باكتساب العادات والقيم الإيجابية والسلبية.
نحن في شوقٍ لمُداخلةٍ من أستاذنا الكريم الدكتور: عبدالعزيز بن عبدالرحمن المحيميد، أستاذ أصول التربية الإسلامية بجامعة الإمام.
مرحبًا بك يا دكتورنا الكريم.
المتصل: حيَّاك الله يا دكتور خالد، أهلًا وسهلًا.
المحاور: الله يُحييك أستاذي الكريم.
المتصل: الله يُسلمك، ويُبارك فيك.
المحاور: نسعد بك، تلاميذٌ لك من قديمٍ، ونحن في هذه اللحظة نتتلمذ على أيديكم.
المتصل: مشاعر مُتبادلةٌ يا دكتور.
المحاور: الحمد لله على سلامتكم أبا يوسف، والله يحفظكم، وجزاكم الله خيرًا.
المتصل: الله يُبارك فيك.
المحاور: نحن ما زلنا نتحدث -حفظكم الله وبارك فيكم وفي أبنائكم ووقتكم وعلمكم- عن قضية التربية بالقيم، وهذه الحلقة الثالثة، ماذا تقولون حول هذا الموضوع؟ وما هي أهم القيم التي ينبغي العناية بها يا دكتور مع الأجيال في زمننا الحاضر؟
المتصل: جزاك الله خيرًا يا دكتور خالد، الحقيقة شدَّني الكلام الذي ذكرتَ عن ابن القيم -رحمه الله-، هذا الكلام الجميل جدًّا والمهم جدًّا فيما يتعلق بتطبيع السلوك الممدوح والمرغوب فيه.
طبعًا بالنسبة للتربية بالقيم لدينا مفهومان مُتمايزان، وإن كانا في الواقع مُتداخلين، لكن من المهم التفريق بينهما:
الأول: هو التربية على القيم.
الثاني: هو التربية بالقيم.
المحاور: جميلٌ.
المتصل: فبالنسبة للتربية على القيم فتعني: أن يتناول المُربي قيمةً واحدةً يُربيها عند الناشئ أو المُتربي على يديه، ويتعاهدها بالغرس والسَّقي والتنمية حتى تكتمل ويُصبح لها انعكاسٌ تامٌّ في سلوكه، وهذا يتطلب في البداية توجيهًا مصحوبًا بالجانب المعرفي حول مكانة القيم، وأهميتها، وضرورتها، وفائدتها العملية، وهذا الجانب أحيانًا يغيب عن بال المُربي، فيريد من الصغير مثلًا أن يسلك أحسن مسلكٍ، ولم يُقدم له الجانب المعرفي لكي يقتنع، ثم يأتي بعد ذلك: تنمية الجانب الوجداني حيال هذه القيمة؛ لكي يقوى الميل والنزوع نحو القيام بها إذا كانت قيمةً إيجابيةً، أو يقوى النفور منها إذا كانت قيمةً سلبيةً، ثم يأتي بعد ذلك الأداء.
وهذه كلها مراحل مع بعضها، لا تنفصل عن بعضها، فيمكن أن نتذكر بهذا الخصوص مثالًا من الهدي النبوي الكريم، وذلك حينما مرَّ النبي بغلامٍ يذبح شاةً وهو يُعاني منها، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يُربي فيه قيمة الإتقان، وهي قيمةٌ مهمةٌ جدًّا في الحياة، وفي أمور الدنيا والآخرة، وفي شؤون الفرد والمجتمع، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يُربي فيه هذه القيمة في هذا العمل الذي هو مُنهمكٌ فيه فعلًا، فقال له : تَنَحَّ حتى أُريك، فأدخل رسول الله يده بين الجلد واللحم، فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، وقال: يا غلام، هكذا فاسلخ[4]أخرجه ابن ماجه (3179)، وصححه الألباني.، فلم يُقدم له النبي فقط المعرفة، ولكن قدَّم له قيمة الإتقان، وكان يمكن أن يتركه النبي يُعاني منها حتى يتعلم عن طريق المحاولة والخطأ، أو ما إلى ذلك، لكن قيمة الإتقان مهمةٌ في هذا الجانب، فهذا المثال يتعلق بالتربية على القيمة.
والتربية بالقيم تعني: أن تكون القيم هي نفسها أيضًا لها دورٌ في السلوك، يعني: نغرسها بحيث يكون لها انعكاسٌ على السلوك والجوارح.
والتربية بالقيم تأخذ مدى أشمل وأرحب في السلوك، يعني: يقصد منها أن يكون لها امتدادٌ أفقيٌّ في حياة الإنسان وتصرفاته وما يتعلق بذلك، وهي أيضًا مطلوبٌ فيها الجوانب الثلاثة التي ذكرناها: جانب ما يتعلق بالمعرفة، وما يتعلق بالترغيب والتحبيب.
المحاور: الوجدان.
المتصل: وجذب الناس إلى هذه القيمة، وأيضًا ما يتعلق بالجانب العملي، فلا بد من توافر هذه الجوانب كلها في التربية على القيم؛ لكي تُؤتي التربية بالقيم ثمارها، وتنعكس آثارها على السلوك، وهذه أيضًا أذكر لها مثالًا يا دكتور خالد.
المحاور: يعني: يا دكتور عبدالعزيز -حفظك الله- لو أخذناها بمعنى الحروف اللغوية: التربية على القيم، هنا كأن القيم جاءت نتيجةً للتربية، والتربية بالقيم كأن القيم هي مُقدمةٌ للتربية، كذا؟
المتصل: إي نعم، هي تكون فاعلةً يا دكتور خالد.
المحاور: ممتاز.
المتصل: تكون فاعلةً في التربية، أمرٌ مُساعدٌ على التربية.
المحاور: ممتاز، واضحٌ جدًّا.
المتصل: يعني مثلًا: إذا استحضرنا المثال السابق الذي ذكرته: يا غلام، هكذا فاسلخ، الآن نستحضر حديث النبي حينما يقول بشكلٍ عامٍّ عن الإتقان: إن الله يُحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه[5]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (897)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1880).، بشكلٍ عامٍّ ليست خاصةً بهذه المهمة وبهذه المهنة، وإنما في كل شؤون الحياة: إن الله يُحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه، فالنبي الكريم في هذا الحديث لا يقف عند موضوعٍ محددٍ، أو أداء مهمةٍ معينةٍ، وإنما يبني اتِّجاهًا عامًّا في نفس الإنسان، يبني قيمةً تظل ثابتةً وراسخةً في النفس، وتكون لها آثارها على السلوك فيما بعد، واضحٌ يا دكتور خالد؟
المحاور: واضحٌ، جزاك الله خيرًا.
الآن يا دكتور عبدالعزيز -حفظك الله- أنت ذكرت لنا معنًى جديدًا، وهو مهمٌّ حقيقةً، وهو ارتباط القيم بالتربية، والتربية بالقيم، وهذه إضافةٌ رائعةٌ جدًّا.
لو تُفيدنا أيضًا عن رؤيتك لجيل اليوم، وأهم القيم التي تنبغي العناية بها، بارك الله فيكم.
الرقابة الذاتية وأجيالنا المعاصرة
المتصل: والله يا دكتور خالد بالنسبة للتربية الإسلامية طبعًا فيها قيمٌ خالدةٌ وصالحةٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، وقريبٌ من هذا الحديث الذي مرَّ معنا: حديث الإحسان، كما ورد في الحديث: أن جبريل عليه السلام سأل النبي : ما الإحسان؟ فقال النبي : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[6]أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8).، وهذا معنًى عميقٌ جدًّا في النفس، وهو معنى الرقابة الذاتية.
ونحتاج إلى هذا المعنى في الوقت الحاضر بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا، خاصةً لما ذكرت يا دكتور الحياة المُعاصرة، وما فيها من سهولة وسائل الاتصال، وكثرة المُؤثرات، وتعرض الكبار والصغار لمُؤثراتٍ كثيرةٍ، وما إلى ذلك، فأحيانًا هذه الوسائل تكون خارجةً عن السيطرة، ولا تستطيع أنت كوالدٍ أن تمنع هذا، لكن تُربي جانب الرقابة الذاتية، وأن يشعر بمعية ورقابة الله له، وأنه في كل حالٍ مكشوفٌ لله ؛ لأنه إذا شعر بهذه الرقابة فهناك أشياء كثيرةٌ سيردع نفسه عنها، وهذا الارتداع النفسي هو المهم في التربية؛ لأن الرقيب يغيب، فالوالد والوالدة والمعلم والمُربي لا يكون مع الإنسان في كل حالاته، لكن لما نزرع رقابةً ذاتيةً داخل نفس الإنسان فهذه مهمةٌ جدًّا.
المحاور: جزاك الله خيرًا.
المتصل: فمثل هذه المعاني -كالرقابة الذاتية، ومعنى الإحسان والإتقان- مهمةٌ في التربية، ولدينا أيضًا معانٍ أخرى نجدها في آياتٍ وأحاديث كثيرةٍ.
المحاور: سبحان الله! كأنك تتقاطع مع بعض المُداخلين لنا في الحلقات الماضية حول بعض هذه القيم: كالرقابة الذاتية، فهناك اتِّفاقٌ على أهمية مثل هذه القيمة في وقتنا المعاصر، أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لذلك.
شكرًا لك يا دكتور عبدالعزيز.
المتصل: الله يُسلمك.
المحاور: ومنكم نستفيد.
المتصل: الله يُثيبك -إن شاء الله- على هذه البرامج النافعة.
المحاور: الله يحفظكم، ودعواتكم.
المتصل: الله يُحييك.
المحاور: شكرًا لكم يا دكتور عبدالعزيز، وبارك الله فيكم.
كان معنا الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن المحيميد، أستاذ أصول التربية الإسلامية بجامعة الإمام، شاكرين له هذه المشاركة والإضافة الرائعة.
أيها الإخوة والأخوات فاصلٌ ونواصل -بإذن الله - فكونوا معنا.
الفاصل:
لقد بُعث النبي لتزكية النفوس وإتمام صالح الأخلاق، ومنها: الوفاء.
والوفاء من صفات الله ، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].
والوفاء من أعمال البرِّ وشُعب الإيمان، وهو من صفات الأنبياء، قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37].
وأوجب الوفاء الوفاء مع الله، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
ومن الوفاء: عرفان الجميل، والمكافأة على المعروف، قال النبي : لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس.
ومن الوفاء: رعاية الأرحام والأصدقاء والإحسان إليهم، وأداء كلٍّ من الزوجين حق الآخر، ورعايته لو مرض أو كبر سنه.
ومنه: أداء الأمانات حتى للكفار، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58].
ومنه: تنفيذ العهود والعقود حتى مع الأعداء، وتنجيز الوعود في أوقاتها دون مُماطلةٍ، فإن من صفات المنافق أنه إذا وعد أخلف.
فاحرص على الوفاء لتكون ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:8- 11].
الدكتور خالد: كانت معنا قبل الفاصل مُداخلةٌ كريمةٌ من أستاذنا الدكتور عبدالعزيز المحيميد، وقد أضاف إضافةً رائعةً جدًّا -شكر الله له- حول قضية القيم، وهي: أننا نُربي حتى نصل بالمُتربي إلى تحقيق هذه القيم، وكذلك نُربي من خلال القيم، ثم ذكر ما يتعلق بقضية الإتقان والإحسان والرقابة الذاتية كأمثلةٍ بالنسبة للتربية بالقيم.
دعونا نُكمل ما يتعلق بقضية التربية بالقيم، وبقيت معنا عوامل تنمية القيم، ثم سنقف مع سؤالكم التفاعلي في نهاية الحلقة، بإذن الله .
عوامل تنمية القِيَم
هنا ثلاث نقاطٍ أساسيةٌ مهمةٌ جدًّا:
الأولى: لا بد أن يكون لدى الأسرة اتفاقٌ من خلال أعمدة التربية في الأسرة -وهما الأب والأم- حول أهمية إكساب الأبناء والعناية بالإيجابية، واتِّخاذ الأساليب والتدابير المختلفة -المباشرة وغير المباشرة- في قضية القدوة التي يتمثلها الوالدان في هذا الموضوع.
وقد أكَّدنا في اللقاء الماضي على أن كل إجابات القرَّاء اتَّفقت على قضية القدوة، وهذا يدل على أهميتها.
الثانية: أهمية التعليم، وهذا ما يتعلق بالمحضن الآخر، وهو المحضن التعليمي التربوي، فينبغي أن يكون المعلم الأب مُربيًا، وكذلك المعلم ينبغي أن يكون مُربيًا، وفرقٌ بين المعلم والمعلمة المُربيين والمعلم والمعلمة اللذين لا يُربيان؛ ولذلك فالتعليم ينبغي ألا يكون عبارةً عن معلوماتٍ تخصصيةٍ بعيدةٍ عن حقيقة بناء القيم.
الثالثة: كم نحن وأجيالنا بأمس الحاجة إلى إيجاد قدواتٍ في البيوت والمحاضن التعليمية؛ حتى ينشأ الأبناء والطلاب على اكتساب مثل هذه القيم، فلا بد من الاهتمام بهاتين المؤسستين والبيئتين: البيئة الأُسرية، والمدرسة أو التعليمية أيًّا كانت: مدرسية، أو جامعية، ومحاولة إعادة تأهيل المُربين: آباء ومعلمين، ذكورًا وإناثًا؛ لأجل اكتساب الأخلاقيات المتعلقة ببناء الشخصية، وامتثال هؤلاء للقيم، فهذا من أعظم ما يكون في التربية.
وأخيرًا ما يتعلق بالعوامل والبيئة المحيطة، ويدخل في ذلك الأصدقاء والإعلام والمجتمع.
عرض إجابات السؤال التفاعلي
دعونا الآن نقف عند إجاباتكم حول السؤال التفاعلي، وهو ما يرتبط بقضية تجارب أو مواقف تؤكد التربية على القيم، وإن كانت بعض الإجابات قد نحت منحى التجربة؛ ولذلك نحن سنقوم بقراءة كل ما وردنا سريعًا، وهي ليست كثيرةً، بحمد الله.
الأخ فودة يقول: القناعة كنزٌ لا يفنى، عوِّدوا أبناءكم على القناعة، فكل ما هو متاحٌ فهو لك، فقل: الحمد لله على كل شيءٍ.
الدكتور خالد: وكأنه يقول: إن الأبناء حينما يرون أن لدينا القناعة بما رزقنا الله وأعطانا ...، فرقٌ بين هذا وبين الشخصيات القلقة التي ربما تعيش عدم القناعة، وقد يكون لديها الكفاف في هذه الحياة، لكنها غير مُقتنعةٍ، فالذين ينشؤون في البيئة الأولى غير الذين ينشؤون في البيئة الثانية بلا شكٍّ.
وهناك الأخ الكريم ريزار حسن يقول: أنا متزوجٌ، وليس لي أولادٌ، أرجو أن تدعوا لي بالذرية الصالحة.
الدكتور خالد: نسأل الله أن يرزقك الذرية الصالحة.
يقول: لي ابن أخٍ عمره ست سنواتٍ، ويذهب معي إلى مسجد الحي، عند دخول المسجد نُسلم -أي: يُسلمون على أهل المسجد- ونصلي تحية المسجد، ونجلس في انتظار الإقامة، ولا نتكلم مع أحدٍ، وهذا بعدما قلت له في أول مرةٍ ذهب معي: يجب ألا نتحدث مع أحدٍ داخل المسجد، وإنما نُسلم ونجلس، والدعاء لله تعالى.
الدكتور خالد: هذه صورةٌ من الصور وأسلوبٌ قام به هذا الأخ مع ابن أخيه، وهو ابن ست سنوات، حيث عوَّده على مثل هذا الأمر الحسن، وهو الذهاب إلى المسجد، والسلام على الآخرين، والجلوس والانتظار ودعاء الله ، فهذا أمرٌ جيدٌ لا شكَّ فيه، وكان له بمثابة القدوة.
لكن مسألة: ألا يتحدث ولا يتكلم في المسجد ينبغي أن نُدركها على وجهها السليم؛ حتى لا نفهم منها -مثلًا- شيئًا غير صحيحٍ.
فالمعنى: أنه لا يتكلم حتى لا يُزعج المصلين، وخاصةً الطفل، فالناس غالبًا ينظرون إليه على أنه مصدر إزعاجٍ، وما شابه ذلك، لكن لو حصل أن تكلم مع أبيه، أو مع عمه، وما شابه ذلك، فهذا أمرٌ لا إشكالَ فيه، هو أمرٌ طبعيٌّ -والحمد لله- فيه سعةٌ.
أهمية الصدق وعلاقته بالأمن النفسي
وهذه أم أيمن تقول: الأهم أن يكون ابني صادقًا، فإذا أخطأ أقول له: تكلم بصدقٍ، ووعدٌ مني: لن أحاسبك، اصدقني القول. فيقول الحقيقة، ولا أُعاتبه، المهم ألا يُنكر ما فعل، ولا بد أن يرى من الأم والأب الصدق.
الدكتور خالد: هذه القضية التي ذكرتها الأخت أم أيمن فيها جانبان: جانب القدوة، وهذا تأكيدٌ أيضًا على اتِّجاه القدوة وأثرها بلا شكٍّ، والجانب الآخر: هو الصراحة والوضوح من المُربي مع المُتربي.
أنا يُعجبني هذا الاتجاه، وهو أن يُعطى للابن الأمن النفسي بأن يقال له: أنت اصدق، أو إذا صدقت أبدًا لن يكون لك الخيار حتى لو كان ضدك.
فلو تعامل الآباء مع الأبناء، والمعلمون مع الطلاب بهذا الأسلوب لأوجدنا للطرف الآخر -وهو المُتربي- الأمن النفسي؛ لأنه أحيانًا يكون السبب أمرًا أخطأ فيه، أو خطأً مارسه، فيخاف أن يبين الحقيقة؛ ولذلك أحيانًا يأتي الابن ويتكلم مع أبيه، والبنت تتكلم مع أمها -مثلًا- في اختبارٍ من اختبارات المدرسة، وتُعطي صورةً غير الواقع، والسبب في ذلك أنها تعرف أنها لو بيَّنت الحقيقة بأنها أخطأت، أو لم تفعل شيئًا جيدًا في الاختبار؛ أنها ستكون عُرضةً للإساءة من قِبَل الأب، أو من قِبَل الأم.
فهذه قضيةٌ من المهم جدًّا أن يُدركها المُربون، ألا وهي ما يتعلق بإيجاد بيئة الأمن النفسي للمُتربي؛ حتى يشعر بالأمان، ومن ذلك ما كانت تقوله أم أيمن -مثلًا- لابنها: تكلم بصدقٍ، حتى لو كانت القضية على غير ما نريد، ولن يمسَّك شيءٌ، وإنما اطمئن، فهذا من الأمور المهمة التي تُساعد على بناء القيم كالصدق.
وهذا الأخ منذر يقول: أذكر أنني كنتُ أُعلم ابنتي تشميت العاطس كما علَّمنا نبينا ، فعطستُ مُتصنعًا للعطاس -وهذا يُعدُّ من التمثيل حتى يدخل في مجال التجربة والتطبيق- وقلت: الحمد لله، فقالت ببراءة الأطفال: كيف حالك؟ فضحكتُ حتى بدت النواجذ!
الدكتور خالد: على أية حالٍ، صورةٌ جميلةٌ، وفيها لطافةٌ، وتحكي تجربةً رائعةً على الحرص على هذا المسلك وهذه القيمة.
وقضية العطاس قد لا نلتفت إليها، ونرى أنها من المُبكر تعليمها للأطفال، مع أنه كما سبق في حديث عمر بن أبي سلمة لما كانت يده تطيش في الصَّحْفة بين يدي النبي ، فيأكل من هنا، ومن هنا، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يتركه، ولم يسكت، وأيضًا لم ينهره عليه الصلاة والسلام، وإنما قال: يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[7]أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).، فعلَّمه النبي .
فالجانب التعليمي مهمٌّ جدًّا حتى نُكسب الأبناء قضية القيم.
وهذه الأخت حياة تقول: الصلاة أول شيءٍ، وهذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، وعدم الكذب، وحب الناس.
الدكتور خالد: يعني: هذه أيضًا قيمٌ تؤكد عليها الأخت الكريمة.
والأخت آيات تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أولادي أعمارهم: البنت ثماني سنوات، والولد ست سنوات، ولاحظت أن المعلمات في المدرسة يُكررن كلمة: إذا فعلت هذا الله يُدخلك النار، والله يُعذبك يوم القيامة! والأولى تعليمهم حُسن الظن بالله، وأنهم في سنٍّ لا يُحاسبون فيه ... إلى آخر كلامها.
الدكتور خالد: لا شك أن الطريقة التي اجتهدت فيها الأخوات المعلمات ليست مناسبةً بلا شكٍّ، وليست هي المنهج الذي كان عليه محمدٌ ، خاصةً مع هذه الفئة العمرية التي نريد أن نُؤسس فيها السلوك الإيجابي، فنحتاج -كما ذكرت الأخت- إلى التوجيه بالطريقة الإيجابية.
الدعاء للأبناء وعدم سبهم عند الغضب
والأخت رنيم تقول: من أهم الأسس التربوية: عدم سب الأبناء مهما بلغت درجة الغضب، وعدم الدعاء عليهم، بل العكس في تلك اللحظة التي يبلغ الآباء فيها منتهى الغضب، ويفور القلب والعقل، ادعُ لهم. وتقول: إن تأثيرها عجيبٌ -بفضل الله- في هداية الأبناء وكرم ربي.
الدكتور خالد: كأنها تحكي عن واقعها فيما يظهر من عباراتها وكلامها، فهنيئًا لها، فكون الإنسان في حالة الثوران والانفعال يضبط نفسه فهذا شيءٌ طيبٌ، والانفعال وجوده أمرٌ طبعيٌّ من حيث الأصل، فلا يمكن أن يكون هناك إنسانٌ إلا ولديه انفعالٌ، لكن الكلام فيما يتعلق بالتعامل مع هذا الانفعال وضبطه؛ ولذلك فالمُربي إذا ترك انفعاله من غير ضبطٍ ستكون مصيبة، وسنكون قُدواتٍ سلبيةً، لكن حينما ندعو لهم في هذه الحالة فهذا لا شك أنه سيُعلمهم السلوك الحسن، وضبط الانفعال، ويُعلمهم الكلام الطيب، وكيف أن الإنسان يلجأ إلى الله ويدعوه.
بينما السب ورفع الصوت سيُعلمهم مواقف سلبيةً؛ ولذلك مما يُفسِّر بعض الحالات التي يقع فيها الأبناء من رفع الصوت والشِّجار والصُّراخ الذي يحصل: أن الآباء كذلك يفعلون، فهم تلقوا هذا من آبائهم، وهذا سيُساعد على فهم قضية الانطباع.
الصراحة وعدم الكذب
وهذا الأخ منذر يقول: من التجارب التي مررتُ بها: عدم الكذب على الأطفال، والصراحة؛ ولذلك لا بد أن نُعودهم على الصدق، فحينما نكون صادقين، ولن نكون كذلك إلا حينما نكون صادقين ولو على أنفسنا، فما أجمل أن يقول الأب: والله أنا فعلتُ هذا الفعل، وهذا الذي حصل؛ ولذلك أنا أعتذر مما حصل.
الدكتور خالد: هذه صورةٌ من الصور الرائعة.
أهمية الرسائل الإيجابية ونبذ الرسائل السلبية
وهنا استشارةٌ سريعةٌ جدًّا وردت تقول: أنا ناهزتُ خمسة عشر من عمري، ولكن ما عندي ثقة في نفسي، ودائمًا أشعر أني وحيدةٌ، مع أني أسكن مع أسرتي، لكن لا أشعر أني جزءٌ منهم، هل من نصيحةٍ وتوجيهٍ؟
لا شك أنك بحاجةٍ إلى الاهتمام بالنظرة الإيجابية للحياة والعلاقات مع الآخرين، وقبل ذلك العلاقة مع الله ، وألا تستسلم هذه الأخت في هذه المرحلة خاصةً بهذه الطريقة.
والواضح أن هناك رسائل سلبيةً تزرع فيها الشعور بالإحباط، فتحتاج أن تُزاحمها برسائل إيجابيةٍ، فأعطِ لنفسك رسائل إيجابيةً عكس الرسائل التي تُوحي لك بأن الناس لا يحترمونك، أو أنك لست جزءًا منهم، أو لا يُقدرونك، وما شابه ذلك؛ لأن هذه التصورات في الغالب تصوراتٌ مغلوطةٌ؛ ولذلك من الخطأ أن تبقى الفكرة الخاطئة اللاعقلانية هي المُتحكمة فينا؛ ولذلك ينبغي أن ندرك أن بقاء هذه الفكرة الخاطئة سببٌ في استمرارية الضيق لدى النفس البشرية، فلذلك لا بد من إيقافها، وأن تحلَّ محلها الفكرة الصحيحة: أن هؤلاء أسرتي ويُحبونني.
ولذلك لو نظرنا إلى قول النبي : لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر، أو قال: غيره[8]أخرجه مسلم (1469)..
فانظري للجوانب الإيجابية لأسرتك، وستجدين جوانب كثيرةً إيجابيةً، والحمد لله؛ ولذلك أعطِ لنفسك الصورة الإيجابية من ناحية الأفكار الإيجابية مقابل الأفكار الخاطئة، وكذلك أعطِ لنفسك الدافعية بالرسائل الإيجابية في مقابل الرسائل السالبة، وادمجي نفسك مع أسرتك من خلال تحمل بعض المسؤوليات، وابحثي عن القرينات والصديقات الجيدات اللاتي يُعيننك على ذلك، وتوكلي على الله ، والله سيُعينك، بإذن الله.
أمٌّ مُبدعةٌ صنعت مسجدًا
دعونا ننظر الآن إلى مثل هذه الصورة، وأظنها (تغريدة)، هذه تقول: أمٌّ صنعت لابنها مسجدًا من الكرتون؛ ليعتاد حب المكوث في المسجد والعبادة فيه، اختصرت سنين من التربية، هكذا تبدأ التنشئة الصحيحة من البيت.
لاحظوا هذه الأم، هذا الولد لا يذهب إلى المسجد، ولكن صنعت له المثيل والصورة القريبة؛ من أجل أن يبدأ في التعود على المسجد.
والبعض يُعاني من أن ابنه لا يذهب إلى المسجد، خاصةً إذا كان التوجيه متأخرًا، ولم نأخذ بحديث النبي : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر[9]أخرجه أبو داود (495)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ"..
فلا شك أن هذه الصورة من الصور التي تُساعد في زرع القيم في وقتٍ مبكرٍ، فهو يذهب إلى المسجد، ويضع -أكرمكم الله- حذاءه ويذهب ليتوضأ، ويقف في المكان المناسب، ويتجه إلى القبلة، ويقرأ القرآن، ويدعو الله ، ويُصلي، مع استخدام التعزيز، وما شابه ذلك.
فهذه صورةٌ لا شك أنها تدل على أمٍّ مُوفَّقةٍ في بناء هذه القيمة الرائعة، فنحتاج إلى الاهتمام أكثر، ولا يمكن للمُربي أن يكون مُربيًا إذا لم يكن هناك عناءٌ وتعبٌ، ومشكلة الكسل ربما من العقبات الكبيرة في جانب التأثير التربوي في النفس البشرية، لا بد من تعبٍ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، هذا الكدح واضحٌ في الحياة المادية: في الكسب، والوظيفة، والعمل، والدراسة، وبناء البيوت، وما شابه ذلك، هذا أمرٌ واضحٌ، لكن أين هو فيما يتعلق بقضية القيم؟
لا بد أن يكون أكثر اهتمامًا ووضوحًا عند العقلاء من الناس؛ ولذلك تنبغي العناية بمثل هذا الجانب، فهذه الأم التي مارست هذا الدور لا شك أنها بدأت بخاطرةٍ كما ذكر ابن القيم، ثم صارت عندها إرادةٌ، فدفعت مالًا وعملت حتى أصبح هذا السلوك بالنسبة لها سلوكًا تفعله مع الابن الأول والثاني والثالث، حتى أصبح عادةً، فهكذا تنبغي العناية.
وأنا أدعو الإخوة والأخوات ركني التربية في الأسرة خاصةً، وكذلك الإخوة والأخوات أركان التربية في البيئات التعليمية: أن يُعطوا أجيالنا جهدًا، وأن يُروا الله من أنفسهم خيرًا، وأن يشعروا بمسؤوليتهم تجاه هذا الجيل، فالجيل بأمس الحاجة لكم، ونحن بأمس الحاجة إلى المُربين الذين يعملون ولا يتوانون في العمل، ولا يكسلون فيه، بل يشعر الواحد منهم بمتعةٍ وهو يبني الجيل، حتى لو كان يدفع مالًا ويبذل وقتًا وجهدًا، ويقلّ نومه ... إلى آخره، فهذا هو المُربي الفعال الذي نحتاج إليه بشكلٍ كبيرٍ أيها الإخوة والأخوات.
ابني كثير التذمر
في نهاية الحلقة هذه استشارةٌ واردةٌ من الأردن من خلال (الواتس آب) من الأخ أبي زيد، يقول: ابني سبع سنوات، يحفظ تسعة أجزاء من القرآن -ما شاء الله، تبارك الله- لكنه يتذمر، فكيف أُحببه في القرآن؟
على أية حالٍ أتمنى أن يُفتش الأخ أبو زيد عن سبب التذمر، هل هو من النوع الذي -مثلًا- لا يتحمل المسؤولية في البيت؟ وعندئذٍ لا بد أن تُراجعوا أنفسكم في تحميله المسؤولية، أو أن هناك قسوةً وشدةً في التعامل، وعندئذٍ لم يقبل التوجيه في قضية القرآن.
فلا بد أن تُراجعوا أنفسكم في التعامل معه؛ لأن الراحة النفسية والأمن النفسي يُساعدكم في قبول الابن للاستمرار في العمل الإيجابي.
وعليكم بالتعزيز والتشجيع خاصةً في هذا العمر، فهذا العمر من الأعمار التي تتأثر جدًّا بقضية التعزيز.
وعليكم بفورية التعزيز، ولا تُؤخرونه إلى وقتٍ بعيدٍ، وإنما يكون مُباشرًا.
وعليكم بتنوع التعزيز، ولا تجعلونه تشجيعًا على طريقةٍ واحدةٍ: إما تشجيعٌ لفظيٌّ فقط بطريقةٍ معينةٍ، أو شهاداتٌ فقط، أو مالٌ فقط، أو ألعابٌ، وما شابه ذلك، وإنما يكون مُنوَّعًا.
وكذلك أن يُنظر إلى حاجته هو في موضوع التعزيز، ويمكن أن يُستخدم لذلك ما يُسمى: بالتدعيم الرمزي، وهو ما يُعرف باستخدام النجوم، فكلما جمع مجموعةً من ذلك وأنجز المهمة بعد فترةٍ من الزمن كانت هديته أكثر وأقدر، بإذن الله .
أيها الإخوة والأخوات، بهذا نكون قد ختمنا الحلقة الثالثة -بحمد الله وتوفيقه- في هذا الموضوع الكبير والمهم جدًّا: التربية بالقيم، سائلًا ربي أن يُعينني وإياكم على تربية أنفسنا وأجيالنا على هذه القيم التي يُحبها الله ، والتي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام.
ونحن مُقبلون في الأسبوع القادم على مدرسةٍ عظيمةٍ، وجامعةٍ قِيَميةٍ رائعةٍ جدًّا، وهي: شهر رمضان الكريم الذي هو فرصةٌ في تربية الأبناء على القيم الإيجابية، وإبعادهم عن القيم السلبية.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (24601)، وقال مُحققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ". |
---|---|
↑2 | أخرجه مسلم (2553). |
↑3 | بنحوه في "مفتاح دار السعادة" (1/ 183). |
↑4 | أخرجه ابن ماجه (3179)، وصححه الألباني. |
↑5 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (897)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1880). |
↑6 | أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8). |
↑7 | أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). |
↑8 | أخرجه مسلم (1469). |
↑9 | أخرجه أبو داود (495)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ". |