المحتوى
مقدمة
الحمد لله، ونُصلي ونُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات مع حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي المباشر في دروس التربية، ومن قناتكم قناة "زاد العلمية".
عنوان حلقتنا لهذه الليلة "المنهج النبوي في تعديل السلوك"، حيث سنتحدث في هذه الحلقة -بإذن الله - عن طريقة النبي في تعديل السلوك، وحاجتنا إلى أن نعود للنبي ؛ لأنه القدوة في ذلك، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، خاصةً فيما يتعلق بتعديل السلوك الذي اشترك عُقلاء العالم في حاجتنا إلى مثل هذه القضية.
فلعلنا نتحدث عن خصائص وسمات المنهج النبوي في تعديل السلوك، ثم نتحدث عن مواقف نبويةٍ في تعديل السلوك، مع قراءة مُداخلاتكم -بإذن الله - فكونوا معنا، فاصلٌ ونواصل.
الفاصل:
لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب، هكذا كررها النبي مرارًا تأكيدًا لأهمية اجتناب الغضب ودفع أسبابه، فالغضب نارٌ في القلب، وشَرَرٌ في العين، وتوترٌ في الأعصاب، وسرعةٌ في الانتقام، وسُوءٌ في التصرف.
وكم مزَّق الغضب من صِلاتٍ، وقطع من أرحامٍ، وأشعل من عداواتٍ؟!
والمسلم العاقل يُبادر إلى إطفاء نار الغضب قبل اشتعالها، وقد جاءت السنة والآداب الإسلامية بأسبابٍ تُعين على ذلك، منها:
- السكوت.
- ذكر الله ، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم؛ لقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]؛ ولقوله في رجلٍ رآه غاضبًا: إني لأعلم كلمةً لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان؛ ذهب عنه ما يجد[1]أخرجه البخاري (3282)، ومسلم (2610)..
- تغيير الهيئة بالجلوس والاضطجاع؛ لقوله : إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع[2]أخرجه أبو داود (4782)، وصححه الألباني..
- تذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم وسوء العاقبة.
- استحضار ثواب مَن كظم غيظه، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حُسن الخلق في كلمةٍ. فقال: ترك الغضب. قال النبي : ليس الشديد بالصُّرْعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[3]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609)..
من خصائص المنهج النبوي في تعديل السلوك
الدكتور خالد: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا حميدًا، ونؤكد على أن قضيتنا هي المنهج النبوي في تعديل السلوك، وهي قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وتُبين هذه القضية المرجعية، وهي طريقة النبي في تعديل السلوك، أيًّا كان هذا السلوك، سواءٌ كان سلوكًا سلبيًّا نُحوله إلى إيجابيٍّ، أو سلوكًا إيجابيًّا نُوجده، أو سلوكًا إيجابيًّا موجودًا نُعززه، أو سلوكًا سلبيًّا نَقِي الناس من الوقوع فيه في أُسرنا، ومدارسنا، ومجتمعنا، ووظيفتنا، ... إلى آخره، فنحن بأمَسِّ الحاجة إلى أن نعرف منهج النبي في تعديله للسلوك.
الربانية والعبودية لله
من خصائص طريقة النبي ومنهجه في تعديل السلوك وسمات ذلك: أن النبي كان يستحضر الجانب المُتعلق بالربانية والعبودية لله ، نحن نُعبِّد الناس لله ، فحينما نعدل سلوك أبنائنا وزوجاتنا وأنفسنا والآخرين نريد أن نتقرب إلى الله أكثر، وليس فقط كي نعيش حياةً دنيويةً سعيدةً، فلا بد أن نستحضر هذه القضية، والله تعالى يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً أي: في الدنيا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] أي: في الآخرة.
فهذه القضية مهمةٌ؛ ولذلك في توجيه النبي للغِلمان كما حصل لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما وهو معه ورديفه على الدابة يقول له: يا غلام، إني أُعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله ... إلى آخر الحديث المشهور في هذا التوجيه النبوي العظيم[4]أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني..
إذن لا بد أن نجعل تعديل السلوك لأنفسنا ولغيرنا عبادةً مُستحضرةً، وأن نُدرك أننا بذلك نتقرب إلى الله في التعديل، وكذلك نُؤثر في الطرف الآخر حتى يكون أقرب إلى الله .
أيها الإخوة والأخوات، هذه القضية مهمةٌ جدًّا، وهي فارقٌ كبيرٌ بين المنهج الرباني الذي ارتضاه الله لخلقه، والمناهج الوضعية؛ ففي المناهج الوضعية بعض الاجتهادات، أو بعض الأساليب التي يمكن أن نستفيد منها، والحكمة ضالَّة المسلم، أنَّى وجدها فهو أحق بها، لكن منهج النبي يستحضر هذه القضية الروحية والإيمانية والربانية والعبودية حتى يُحقق قول الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولذلك أي وسيلةٍ لتعديل السلوك لا بد أن تكون ضمن هذا الإطار، فلا يمكن أن تكون الوسيلة مُحرمةً، ولا يمكن أن يكون الأسلوب مُحرمًا، فهذه قضيةٌ من القضايا المهمة جدًّا.
والبعض مثلًا يريد أن يُنَفِّس عن نفسه؛ لأنه يشعر بضيقٍ، أو يريد أن يُنَفِّس عن الآخرين، فيُمكن أن يُمارس الترفيه الذي لا يرضاه الله : فيسمع -مثلًا- الأغاني، وينظر إلى مشاهد لا يرضاها الله ، ويقوم بالتواصل مع الجنس الآخر، وما شابه ذلك، فهذا كله لا شكَّ أنه يتجاوز حدَّ الربانية، وحدَّ الجوانب الإيمانية والعبودية التي ارتضاها الله لخلقه، فنحن بأمَسِّ الحاجة إلى ذلك.
أيها الإخوة والأخوات، مَن أراد أن يتواصل معنا فسوف تظهر لكم على الشاشة أرقام التواصل، حتى نستمع إلى مُداخلاتكم وأسئلتكم في هذا الموضوع وفي غيره، بإذن الله .
الشمولية
الخاصية الأخرى أحبتي هي: ما يتعلق بقضية الشمولية، فمما يظهر في طريقة النبي في تعديل السلوك: أنه كان شاملًا لمجالات الحياة، وشاملًا للدنيا والآخرة من حيث الارتباط، وكذلك شاملٌ للنفس البشرية في الجانب العقلي والوجداني والمهاري، وشاملٌ كذلك للمراحل العمرية: الطفل، والرجل، والمرأة، والمُراهق، والشاب، والكبير، وكذلك شاملٌ لكلا الجنسين: الذكر والأنثى، فهذا المنهج مهمٌّ جدًّا.
فتعديل السلوك لا ينحصر بعمرٍ معينٍ دون عمرٍ، ولا ينحصر بجنسٍ دون جنسٍ، ولا ينحصر في جانبٍ دون جانبٍ، فنقول: والله نحن نُعدل السلوك المُتعلق بالمهارات الحركية والحياتية، وننسى تعديل السلوك المتعلق بقضية الأفكار، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
نعم، نحن نحتاج إلى مهاراتٍ في الحياة: كيف نقود السيارة؟ وكيف نُذاكر المُذاكرة الصحيحة؟ ولكن نحتاج كذلك أن نعرف كيف نُفكر تفكيرًا صحيحًا؟ وكيف نُكوِّن القيم؟ وكيف نتبنَّى القيم؟ وهكذا؛ ولذلك القضية فيها شموليةٌ، وهذا ظاهرٌ جدًّا أيضًا في طريقة تعامل النبي في تعديل السلوك بشكلٍ شموليٍّ.
التكاملية
وأيضًا هذا المنهج يتَّسم بالتكاملية، يعني: أن هذه الأجزاء بينها تداخلٌ: ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[5]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، فهناك تقاطعاتٌ وتداخلاتٌ وتأثيرٌ بين هذه القضايا التي نحتاجها في بناء الشخصية، وفي تعديل سلوك الشخصية؛ لأنه يُؤثر بعضها على بعضٍ، فلا بد من النظر لهذا التأثير، فربما يكون الجانب العقلي مُؤثرًا في الجانب الوجداني، وأيضًا الجانب الوجداني ربما يُؤثر في الجانب العقلي، ألا تلحظون مثلًا قول النبي : لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا هو يُدافعه الأَخْبَثان[6]أخرجه مسلم (560).، فلا نتصور صلاةً كاملةً بخشوعٍ وهو يُفكر في الأكل، وهو جائعٌ، أو أنه يُدافع البول والغائط، وما شابه ذلك.
فلذلك ينبغي أن نُدرك أن الجانب العضوي مُؤثرٌ على الجانب النفسي، والجانب العقلي على الجانب الوجداني والمهاري، وهذا يمكن أن نُسميه: التكاملية؛ ولذلك الإنسان وحدةٌ متكاملةٌ نأخذها بشموليتها، ونأخذها كذلك بأجزائها وترابط أجزائها بعضها مع بعضٍ.
التوازن
وأيضًا من الخصائص والسمات في المنهج النبوي لتعديل السلوك: ما يرتبط بالتوازن، يعني: أن هذه القضايا التي ذكرناها كلها مطلوبةٌ، لكن هل معنى ذلك أنها ستُقسم بالتساوي؟ لا، لن تُقسم بالتساوي، يعني: الإنسان مثلًا حينما يحتاج أن يُربَّى في أعمال القلوب على محبة الله ، وعلى الرجاء بما عند الله من أجورٍ وخيراتٍ وإحسانٍ في الدنيا والآخرة، وأيضًا الخوف من وعيد الله ، فهذه الأمور الثلاثة شبَّهها العلماء بالطائر: رأسه المحبة، وجناحاه: الرجاء والخوف، مما يجعله يسير باتِّجاهٍ مُتوازٍ، لكن في بعض الأحيان يحتاج إلى أن يزيد من الرجاء؛ لأن عنده شيئًا من التَّشاؤم مثلًا، ويحتاج أن يزيد من الخوف؛ لأن عنده شيئًا من التفاؤل الزائد، وهكذا، فالإنسان عند موته يُعظم الرجاء وحُسن الظن بالله .
معنا الآن اتِّصالٌ من الأخت عزيزة من هولندا.
حيَّاكم الله أخت عزيزة.
للأسف انقطع الاتِّصال.
نعود فنقول: إن التوازن مطلوبٌ، فمثلًا: الشخص الذي لديه ضعفٌ في الجانب المعرفي في القراءة والاطلاع، وضعفٌ في تأسيس الجانب الشرعي، وفي مجال تخصصه كمثالٍ، لكن عنده مهاراتٌ جيدةٌ في حياته، فلديه قيمٌ رائعةٌ جدًّا، فأنا سأُركز في تعديل سلوك هذا الإنسان على الجانب المعرفي والمعلوماتي والعلمي أكثر من غيره، مع بقاء الجانب الآخر أيضًا يُهتمُّ به، وهو جزءٌ من الشمولية والتكامُلية كما قلنا، ولكن أيضًا جانبٌ من التوازن، وهكذا، فيمكن أن تكون بعد ذلك النسبة أقلّ في جانبٍ، وأكثر في جانبٍ آخر، فنحتاج إلى هذا الوعي، فهذا مهمٌّ، كما جاء في الحديث: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقَّه[7]أخرجه البخاري (1968).، فهذا فيه جانب الشمولية والتكاملية من وجهٍ، ولكن فيه جانب التوازن واضحٌ أيضًا بشكلٍ كبيرٍ.
المثالية الواقعية
ومن السمات والخصائص في طريقة النبي في تعديل السلوك ما يمكن أن نُسميه: المثالية الواقعية، يعني: الشيء المثالي الذي نريد أن نصل إليه في تعديل سلوك الابن والطالب والنفس، فهناك شيءٌ مثاليٌّ أتمنى أن أصل إليه، لكنه أيضًا واقعيٌّ يمكن الوصول إليه، وليس خياليًّا، وإنما مثاليٌّ واقعيٌّ.
وهذا الفرق بين المثالية في مدارس تعديل السلوك الغربية، وبين المثالية في المنهج الإسلامي والنبوي، فهي مثاليةٌ واقعيةٌ قابلةٌ للتطبيق؛ ولذلك تنبغي العناية بهذا الأمر، فننقل الإنسان من واقعه الحالي إلى تحقيق المثالية، وعندئذٍ تكون القضية قابلةً للتحقيق والحصول والوقوع، فهي مثاليةٌ واقعيةٌ.
فالنبي أثَّر في أصحابه، وأوجد أشياء في أصحابه ما كانت موجودةً من قبل، وحقق أهدافًا وأوجد علمًا وقِيَمًا في هؤلاء الرجال وفي هذا الجيل العظيم، ومهاراتٍ كبيرةً، فخذ مثلًا حديث النبي : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، فانظر إلى هذا الجانب المُتعلق بقضية القيم والوجدان: وأشدُّهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت ... إلى آخر الحديث[8]أخرجه ابن ماجه (154)، والترمذي (3790)، وصححه الألباني.، وقال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[9]أخرجه البخاري (3374)، ومسلم (2378).؛ ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الله فيقول: اللهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب[10]أخرجه الترمذي (3681)، وصححه الألباني.، فأسلم عمر؛ ولذلك لما أسلم كان هذا رصيدًا عظيمًا جدًّا، فعمر أشدّهم في الحق؛ ولذلك لو سلك عمر بن الخطاب طريقًا لسلك الشيطان طريقًا آخر، فمَن ذا الذي أوجد هذه الشخصيات؟
إنه النبي -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك هنيئًا لمَن يبني في الأمة رجالًا وعُظماء، وربما يكونون خيرًا منا عند الله وعند خلقه؛ ولذلك ينبغي أن نهتم بهذه القضية.
كل سلوكٍ قابلٌ للتعديل
وأيضًا من الخصائص أيها الأحبة الأكارم الفضلاء: أن نُدرك أن المنهج النبوي في تعديل السلوك يُعطينا حقيقةً هي: أن كل سلوكٍ قابلٌ للتعديل، فإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، فليس من المنطق ولا من الشرع ولا من طريقة النبي مقولة: "إن هذا مُستحيلٌ، أو لا يمكن أن أتغير"، فالله يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
إذن كل سلوكٍ قابلٌ للتعديل، نعم قد يكون بالنسبة لي تعديل هذا السلوك مُتعبًا، ويأخذ وقتًا، وهو بالنسبة للآخر أسهل، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، وهو ما يُسمى: بالفروق الفردية، كما سيأتي معنا، ولكن لا بد أن نؤمن بهذه الحقيقة حتى نستبعد قضية أني لا أستطيع أو لا أقدر، وما شابه ذلك من العبارات التي نسمعها، فتتكلم مثلًا مع شخصٍ مُدخِّنٍ، فيقول: حاولتُ، لكن ما استطعتُ! طيب، ماذا تتوقع؟ فيقول: ما أظن أن ذلك في إمكاني.
وشخصٌ آخر مُبتلى بالمواقع الإباحية، فيقول: أنا ابتُليتُ بهذا، وجدتُ نفسي لا أستطيع!
فكل سلوكٍ قابلٌ للتعديل مهما كانت صفحتك سوداء من قبل، ومهما كنت ضعيفًا في الجانب المعرفي أو الوجداني والقِيمي والحركي المهاري، أو أي قضية، سواءٌ كانت خاصةً بينك وبين الله، أو مع الناس، أو ما شابه ذلك، فهي قابلةٌ للتعديل والتغيير؛ ولذلك لا بد أن نؤمن بذلك.
فالنبي كان مُؤثرًا في الآخرين؛ لأن أي سلوكٍ يريد أن يُؤثر فيه يقبل التعديل، لكن هل تَعدَّل كل سلوكٍ حاول النبي أن يُعدله؟ لا، أبدًا، فالنبي حاول مع عمه أبي طالب -وهو أقرب الناس إليه- أن ينطق قبل أن يموت بـ"لا إله إلا الله"، لكن لم يتحقق ذلك، والرسول حاول، بينما هناك محاولاتٌ أخرى نجحت مع كفارٍ، وأصبحوا مسلمين، وارتقوا بأنفسهم، وسنعرض بعد قليلٍ بعض النماذج النبوية في تعديل سلوك الآخرين.
مراعاة الفروق الفردية ومعرفة القدرات والميول
هذه قضيةٌ واضحةٌ كما ذكرناها قبل قليلٍ في التعليق على حديث النبي : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر.
بناتي يشاركن في حفلات النصارى
لعل الأخت عزيزة معنا الآن على الهاتف من هولندا.
تفضلي أخت عزيزة.
المتصلة: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصلة: عندي سؤالٌ يا شيخ: بناتي يُشاركن في عيد (الكريسماس) بحفلات النصارى.
المحاور: سؤالٌ شرعيٌّ.
المتصلة: في هذه الحفلات يُشارك الأطفال المسلمون في المدرسة أولاد النصارى.
المحاور: أخت عزيزة، لعل الإخوة في (الكنترول) يُساعدون الأخت عزيزة فيُحيلونها إلى أحد المشايخ، أو أحد الدروس المتعلقة بالجانب الشرعي الفقهي، بارك الله فيها.
على أية حالٍ شكرًا لها ولغيرتها وحرصها على أبنائها.
ونحن في برنامج "أسس التربية" نقول: إن مثل هذه الأم هي من الأمهات اللاتي يُعتزُّ بهن، ويُتشرَّف بهن، خاصةً إذا كانت في تلك الأماكن.
وسؤالها إذا كان من الناحية التربوية فأنا أُجيب عنه الآن فأقول: لا شكَّ أن المُخالطة لمثل هذه القضايا أول شيءٍ من الناحية الشرعية، فتحتاج إلى الأخذ بالتصور الشرعي وما يتعلق بالاندماج مع المجتمع غير المسلم، ناهيك عن بعض طقوسهم، وما شابه ذلك، فهذه من القضايا الخطيرة، وينبغي أن يُسأل فيها من الناحية الشرعية؛ حتى تكون هناك قناعةٌ أكبر فيما يتعلق بمُشاركتهم في أعيادهم وانفتاحهم في مجالات اللباس والعادات، وما شابه ذلك.
فعلى أية حالٍ هذه قضيةٌ شرعيةٌ، ولا أتكلم فيها، لكن أتحدث عن المسلمين الذين يعيشون في تلك البلاد، فنحن نحتاج إلى مثل هذه الأم.
فعلى الذين ابتُلوا بالبقاء في تلك البلاد لسببٍ أو لآخر أن يكون عندهم هذا الشعور؛ حتى يُحافظوا على هُوية أبنائهم في مثل هذا المجتمع.
ولا شكَّ أنهم ما داموا يدرسون في تلك المدارس فهذا سيكون له أثره، ويحتاج إلى مُتابعةٍ جيدةٍ من الأسرة؛ لأجل التعويض، ومحاولة تمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ لدى الأبناء، وإذا كان بالإمكان الانتقال إلى مدارس أخرى يتَّجهون إليها، وهي أقلّ إشكاليةً، وفي نفس الوقت موجودةٌ، ومن خلال اتِّجاهٍ إسلاميٍّ أو أناسٍ مسلمين؛ فهذا لا شكَّ أنه مطلوبٌ، وأظن أنه قد يكون للجانب الشرعي رأيٌ حينما يكون البديل موجودًا.
لكن من المهم جدًّا للأُسر المسلمة أن تتعاون فيما بينها، وتجد على الأقل بديلًا ولو في البيوت، ولو في بعض المراكز على الأقلّ؛ لأجل رعاية هؤلاء الأبناء والأجيال، حتى تقلَّ الشرور التي يُعانون منها.
وأنا أعرف -من خلال ما ورد إليَّ من أسئلةٍ واستشاراتٍ- مَن يقوم بمثل هذا الإجراء؛ ولذلك تجد أن أبناءهم أقرب إلى البُعد عن مثل هذه المشكلات التي قد ترد من خلال الاختلاط بأصحاب الديانات الأخرى والبيئات التعليمية وغيرها.
نعود إلى الكلام عن مراعاة الفروق الفردية، وكما قلنا في الحديث: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الحق عمر ... إلى آخره، فقد حدد النبي من كبار الصحابة، حتى قال: ولكل أمةٍ أمينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فكيف عرف النبي ذلك؟
فمن المهم جدًّا أن يعرف مَن يريد أن يُعدل سلوك الآخرين الفروق بين الذكر والأنثى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى [آل عمران:36]، والفروق بين الطفل والشاب، وبين الكبير والصغير، والفروق التي تكون أيضًا بين اثنين في عمرٍ واحدٍ، حتى لو كانا توأمًا، فهذا له قُدراتٌ وميولٌ، وهذا له قُدراتٌ وميولٌ.
والنبي فرَّق من خلال المُعايشة وقُربه من أصحابه، حتى استطاع عليه الصلاة والسلام أن يكتشف مثل هذه القضايا والصفات، وأيضًا توظيفها بما يكون مُناسبًا للشخص نفسه، وكذلك للأمة.
وخذوا مثالًا مما صحَّ عن النبي : أنه أتى إليه رجلٌ فسأله: أي الإسلام خيرٌ، أو أعظم، أو أفضل؟ وجاء شخصٌ آخر أيضًا في حديثٍ آخر بنفس السؤال، وكانت إجابة النبي للأول تختلف عن الثاني، فمرةً قال: الجهاد في سبيل الله[11]أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83).، ثم يُعدد أشياء أخرى، ومرةً قال: الصلاة على وقتها[12]أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85). في حديثٍ آخر وعدد، فقدَّم لشخصٍ الصلاة في وقتها، وقدَّم لشخصٍ الجهاد في سبيل الله، وما شابه ذلك.
ويذكر العلماء أن هذا الاختلاف في التوجيه مبنيٌّ على معرفة النبي للطرف الآخر، والفرق بينه وبين الشخص الآخر، وهذه من اللفتات المهمة جدًّا.
فهنا مُراعاةٌ أيضًا لخصائص المرحلة وظروف الشخصين كما قلنا، مثلًا: إقامة الصلاة على وقتها، أو الجهاد في سبيل الله، أو غير ذلك من أمورٍ.
ولذلك في بعض الأحيان يأتي الإنسان سؤالٌ، أو مثلًا يقول له شخصٌ: انصحني. أو ابنك يأتي ويقول: انصحني. أو يأتيك طالبٌ ويقول: انصحني، أو ما الذي تُوجهني إليه؟ فيُوجَّه بناءً على معرفة ما يحتاج إليه أكثر، بينما يأتي نفس هذا الطلب من شخصٍ آخر، فأُجيبه إجابةً أخرى مبنيةً على هذه السمة والخاصية في طريقة النبي ، واستقراء هذه الطرائق عن النبي في تعديل السلوك.
استغلال الفرص
هذه أيضًا من الخصائص الواضحة فيما يتعلق بالمنهج النبوي لتعديل السلوك، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يستغلّ الفرص، ولا يُضيع الفرص عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك يلزم علينا البيان، وإذا كان هذا البيان من المصلحة أن يُؤجل -مع أن الفرصة مُواتيةٌ- فعندئذٍ لا يكون إشكالٌ في ذلك، لكن لا نُؤخر البيان عن وقت الحاجة، وهو حينما يكون الأمر لازمًا منه الآن: كإنسانٍ يرى شخصًا أمامه ربما يسقط، فلا ينبغي له أن يسكت ولا يتكلم معه في شيءٍ، وإنما يقول له: انتبه، أمامك حفرة. وهكذا ينبغي الانتباه لمثل هذه القضايا وما يتعلق بها.
وخذ مثالًا: النبي في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كان رديفه وهو غلامٌ، والغلام في اللغة هو: مَن لم يتجاوز تسع سنوات، وتصور هذا الغلام الصغير يركب مع النبي ، فالنبي استغلَّ هذه الفرصة، وانظروا فِيمَ استغلَّها؟
استغلَّ هذه الفرصة في تعليم هذا الغلام قضايا مهمةً وكبيرةً نحتاج نحن الكبار أن ننتبه لها، فكيف حينما يكون هذا التعليم للصغار؟ وربما لا يُدركون كما يُدرك الكبار، ومع ذلك الرسول علَّم هذا الصغير هذه القضايا الكبيرة، فقال له: يا غلام، إني أُعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت ... إلى آخر الحديث[13]أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني..
فالرسول يُعلم هذا الغلام وهو صغيرٌ، ويستغلّ فرصة وجود هذا الغلام بهذا التوجيه العقدي الرائع العظيم الذي يجعل الإنسان مُرتبطًا بالله ؛ حتى لا يزيغ، وينشأ على مثل هذه القضية.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا | على ما كان عوَّده أبوه[14]"ديوان أبي العلاء المعري" (ص1760). |
ولاحظوا النبي في قصة عجوز بني إسرائيل المشهورة، ولعلنا نذكر هذه القصة وما نقصده من استغلال الفرصة فيها بعد أن نستمع إلى مُداخلة الأخ أبي أنس من السعودية.
حيَّاك الله يا أبا أنس.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: يُعطيكم العافية سيدي.
المحاور: تفضل.
المتصل: شيخي، أنا عندي سؤالٌ: هل المفروض أن نجعل أطفالنا يحفظون سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ومنهجه وحياته حفظًا، أو مجرد الاطلاع والتعلم فقط؟
المحاور: ماذا تقصد بسؤالك بالضبط يا أخي؟ ما الإشكالية التي في ذهنك حتى سألتَ هذا السؤال؟
المتصل: الإشكالية التي في ذهني: أنه في السنوات الأخيرة يخرج المذيع في كثيرٍ من البرامج أحيانًا ويسأل الناس أسئلةً عامَّةً، والناس تُجاوبه، سواء في كرة القدم، أو في أي شيءٍ من مناحي الحياة، ولكن حين يسألوهم أحيانًا عن معلومةٍ عن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، أو عن أمرٍ معينٍ في حياته لا تُعرف الإجابة.
المحاور: قصدك من الناحية الثقافية المعرفية؟
المتصل: نعم، تمامًا، وبالتالي نجد أناسًا يقولون: إن هؤلاء الناس مُقصِّرون في دينهم، وهم حافظون لحياة الرسول ، فالناس تعرف -مثلًا- أسماء زوجات الرسول ، أو أسماء أبنائه، أو شيئًا من تفصيلات السيرة النبوية.
فهنا السؤال شيخي الكريم: هل من الواجب أن نُطلعهم عليها، أم لا بد أن يحفظوها حفظًا؟
المحاور: على أية حالٍ جزاك الله خيرًا، ونحن لو أطلعناهم عليها، وحرصنا على أن يطَّلعوا عليها، وكانت لنا برامج في هذا داخل الأسرة وغيرها؛ فهذه نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا، وليس المقصود قضية الحفظ، وإن كان الطفل الصغير قد يكون أكثر قُدرةً على الحفظ من غيره، لكن لا بد من الاهتمام به من الآباء والمُربين.
ولا شكَّ أن هناك مواقف شاهدناها وسمعناها وقرأنا عنها، وبعض الدراسات العلمية الاجتماعية والمسحية فيها جانبٌ من هذه القضية واضحٌ جدًّا، وربما لو كانت هناك مسابقةٌ ثقافيةٌ ستجد أن هناك نزوعًا إلى قضية الجانب الكروي والفني، وربما تجد المعلومات فيها أنضج وأكثر -للأسف- في مقابل الجانب الديني أو شيءٍ من هذا القبيل، وما شابه ذلك.
ولذلك لا بد أن نربط الجيل بهذا القدوة، وهو النبي ، فيكسب ثقافةً ومعلوماتٍ صحيحةً، ويعرف إلى مَن ينتمي بالضبط، ويصير النموذج واضحًا بالنسبة إليه، ويُميز بين هذا النموذج الذي يجب الاقتداء به والنماذج الأخرى السلبية المُعاكسة، أو ما شابه ذلك، فيستطيع أن يكون عنده تمييزٌ، وأيضًا يتمثَّل بالنبي ، ويجعله قدوةً.
فلا شكَّ أن هناك مصالح كثيرةً، ونحتاج إلى هذه اللفتة مع أبنائنا، جزاك الله خيرًا.
قصة عجوز بني إسرائيل
نرجع إلى قضية استغلال الفرص الموجودة كسمةٍ من سمات المنهج النبوي في تعديل السلوك، ففي استقراء طريقة النبي نجد قصة الأعرابي الذي أتى إليه النبي ، فأكرمه، فقال له: ائتنا، فأتاه، فقال له رسول الله : سَلْ حاجتك، قال: ناقةً نركبها، وأَعْنُزًا يحلبها أهلي. فقال رسول الله : أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟! قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلُّوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا مَوثِقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عِظامه معنا، قال: فمَن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوزٌ من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته، فقال: دُليني على قبر يوسف، قالت: حتى تُعطيني حُكْمِي، قال: وما حُكْمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يُعطيها ذلك، فأوحى الله إليه: أن أعطها حُكْمها، فانطلقت بهم إلى بحيرةٍ -موضع مُستنقع ماء- فقالت: أَنْضِبوا هذا الماء، فأَنْضَبوه، فقالت: احتَفِروا، فاحتَفَروا، فاستخرجوا عظام يوسف، فلما أَقَلُّوها إلى الأرض، وإذا الطريق مثل ضوء النهار[15]أخرجه ابن حبان (723)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (3523)، وأبو يعلى في "مسنده" (7254)، وصححه الألباني في … Continue reading.
فلماذا لا تكونوا مثل العجوز التي سألت موسى أن تكون معه في الجنة؟
فهذا الأعرابي ضيَّع على نفسه فرصةً لما سأل النبي الدنيا، ونسي الآخرة.
فهذه قضيةٌ من القضايا المهمة جدًّا، فالرسول كان يستغل هذه المواقف في التوجيه، ويجعل القضية حاضرةً في ذهن الآخرين.
الانحراف مُرتبطٌ بجانب الدين
أيضًا من السمات والخصائص المهمة في طريقة النبي في تعديل السلوك: أن الانحراف الحاصل فيما يتعلق بقضية الشخصية هو مرتبطٌ بالدرجة الأولى بالانحراف في الجانب الديني، ولا بد أيها الإخوة أن نضع هذه القضية في أذهاننا.
ولعلنا أيها الإخوة نُؤكد على هذه القضية تأكيدًا مهمًّا جدًّا، فالسبب في ذلك: أن المادية المعاصرة اليوم جعلت التفسيرات ماديةً بحتةً.
نحن لا نُنكر أن هناك أسبابًا ومُسبباتٍ، وهناك نتائج، وهناك سُننًا كونيةً قدَّرها الله ، وهناك تجارب في الحياة، ولكن لا بد أن نُدرك أن هناك أيضًا علاقةً بين الخالق والمخلوق، فالله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
فخذ هذا الوصف -أخي الكريم، أختي الكريمة-: لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا أي: معيشة التوتر والضيق والقلق، ضَنْكًا لا يكاد يشعر براحةٍ في التنفس والنفس؛ ولذلك هو يشعر بهذا الضَّنْك والضيق والكدر؛ لأنه أعرض عن ذكر الله .
أين هذا في أبجديات تعديل السلوك في النظريات غير الإسلامية والنظريات الغربية مثلًا؟
لا يوجد هذا الكلام أبدًا أيها الإخوة -للأسف-؛ لأنهم يستبعدون الجانب الديني تمامًا، ناهيك عن نظريات أسوأ عند هؤلاء، وما شابه ذلك، لكن المنهج الإسلامي يُؤكد على هذه القضية؛ ولذلك نحتاج عند تعديل السلوك إلى الربانية والعبودية.
كذلك نقول: لا بد أن نعرف أن هناك إشكاليةً، وقد سألتُ اليوم أحد الذين عندهم انحرافٌ، وعمره 18 عامًا، قابلتُه مُقابلةً شخصيةً في هذا اليوم عصرًا، فكانت إشكاليته أن عنده مشكلةً في المخدرات، ولقيته في إحدى الجهات التي تحتضن هؤلاء أصحاب هذه المشكلة، فأخذتُ هذا الشخص على انفرادٍ وتحدثتُ معه كجانب إرشادٍ فرديٍّ لتعديل السلوك، فكنتُ أقول له: هل كنت تُصلي؟ قال لي: لا والله، لا أُصلي أبدًا!
فهذا الإنسان قطع العلاقة بينه وبين ربه، فكان لهذا أثرٌ في شدة الانحراف؛ ولذلك لو استقمنا مع الصلاة لساعدتنا على أشياء عديدةٍ، يقول الله : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[16]أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني.، فهي راحةٌ، وقال : وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة[17]أخرجه أحمد في "المسند" (14037) وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ".، فكان النبي يشعر بالطمأنينة والراحة حينما يُصلي ويقف بين يدي الله .
وكان إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة، ونحن إذا حَزَبَنا أمرٌ البعض يفزع إلى التَّرفيه، وإلى الدخان، وإلى العلاقات المُحرمة، وغيرها.
فربط القضية بالجانب الديني قضيةٌ مهمةٌ، فلا بد أن نكون مُعتزين بهُويتنا، حتى في تفسير الانحراف السلوكي نُرجع ذلك إلى الانحراف الديني.
الإنسان خَيِّرٌ بطبعه
النقطة قبل الأخيرة، ولعلنا نختم بها هذه الحلقة فيما يتعلق بالسمات والخصائص، ونُعاود معكم في الأسبوع القادم -بإذن الله - مع مواقف نبويةٍ في تعديل السلوك، وأيضًا نقرأ مُشاركاتكم في السؤال التفاعلي الذي يستمر -إن شاء الله تعالى- إلى الأسبوع القادم، بإذن الله .
هذه السمة: أن الإنسان خَيِّرٌ بطبعه؛ ولذلك يقول النبي : ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جَمْعاء، هل تحسُّون فيها من جَدْعاء؟[18]أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658)..
فهنا يظهر أثر البيئة إلى مستوى التغيير في العقيدة؛ ولذلك هو ينشأ أول ما ينشأ على التوحيد، ثم يحصل إما خيرٌ يستمر عليه، وإما شرٌّ ينحرف إليه، والعياذ بالله.
ولذلك أنظر إلى الإنسان الذي أمامي الذي عنده انحرافٌ وخطأٌ من ناحية أن فيه خيرًا بطبعه، والجانب السلبي طارئٌ، ولا يمكن للطارئ أن يُصبح هو الأصل؛ ولذلك ما دام أنه طارئٌ فيُمكن أن نُبعده؛ ولذلك قال النبي : إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[19]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10739)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" … Continue reading.
ولذلك فالإنسان كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، فهو قادرٌ على أن يعود، ولدينا قُدرةٌ على أن نُعيده إلى خيريته؛ لأن الأصل فيه الخير، وليس غير ذلك، والنظر للإنسان الذي نريد أن نُعدل سلوكه على أنه خَيِّرٌ، ونُناشد الفطرة التي في نفسه، لا شكَّ أن هذا له أثرٌ كبيرٌ في العلاقات مع الآخرين في هذا الجانب، والنِّقاش معهم يدل على هذا الجانب.
فهذا الشخص الذي ناقشته اليوم وغيره من أصحابه الذين تكلمتُ معهم كنتُ أتحدث عن هذه القضية، يقول: أنا أعرف أني مُخطئٌ، وأن هذا الأمر طارئٌ عليَّ، وإن شاء الله تعالى أستفيد من هذا الدرس.
معنا اتِّصالٌ من الأخ عمر من السعودية.
حيَّاك الله أخ عمر.
المتصل: الله يُحييك يا رب.
المحاور: تفضل حبيبنا سريعًا.
المتصل: الله يُعطيك العافية، قصة النبي مع أبي ذرٍّ الغفاري لما عيَّر أحد الصحابة -ولعله بلال- وقال له: يا ابن السوداء[20]أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).، فمن توجيه الرسول نستفيد في هذا العصر مُحاربة العنصرية المُنتشرة في المجتمعات، ما توجيهك لهذا؟
المحاور: جزاك الله خيرًا، هذه القصة أيضًا ذكرها أحد الإخوة وشارك فيها.
شكرًا لك أخ عمر، وسنتكلم عنها في الأسبوع القادم، لكن باختصارٍ شديدٍ ما دمتَ قد سألتَ نقول: لا شكَّ أن القضية هنا أن الإنسان بطبعه يحصل عنده خطأٌ، فالنبي لم يسكت على خطأ، فمثلًا: الذي حصل من أبي ذرٍّ لبلالٍ قال عنه عليه الصلاة والسلام: إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ[21]أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).، فكانت القضية تستدعي جانبًا من إرجاع المُخطئ لهذا الأسلوب، حتى يقطع قضية الجاهلية التي ربما كانت مُنتنةً وموجودةً في جاهلية العرب آنذاك في مقابل غيرهم.
ولذلك تجدون أثرًا ترتب على هذا التوجيه وأمثاله، فكان له شيءٌ عظيمٌ، بحيث يضع أبو ذرٍّ خدَّه على الأرض ويقول: وَيْحَ أمي إن لم يغفر الله لي. وما شابه ذلك.
هكذا يكون الأثر الكبير الذي يفعله النبي في توجيهه، ولنا عودةٌ إلى هذه القصة -بإذن الله -، لكن هذا من الأساليب التي ترتبط بقطع هذه القضية بأسلوب تحريك المكامن التي في النفس البشرية غير السَّوية؛ حتى ينفر منها الإنسان ويَشْمَئِز، خاصةً أن مثل هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قد تأصَّلت العقيدة ومحبة الله في قلوبهم، فهم أجدر أن ينصاعوا، وقد انصاعوا رضوان الله عليهم أجمعين.
المُعايشة
آخر نقطةٍ أيها الإخوة في الخصائص والسمات التي تمثَّلت في طريقة النبي : هي المُعايشة والاقتداء، وهذه القضية مُلفتةٌ للنظر بشكلٍ كبيرٍ، وهي درسٌ للمُربين والآباء والمعلمين، ولا يمكن أن يكون الإنسان مُعدِّلًا لسلوك الآخرين ومُؤثرًا في سلوكهم إذا تكلم من أبراجٍ عاجيةٍ، أو يُراسل من (واتس آب)، أو ما شابه ذلك، وإنما لا بد أن يُعايشهم؛ ولهذا نسمع دائمًا: دخل النبي وأبو بكر وعمر، وخرج النبي وأبو بكر وعمر، وكنا مع النبي في سفرٍ، كما يقول أحد الصحابة، وهكذا.
فكانوا يُخالطون النبي ، فيدخل عليهم كما قلنا في قصة عجوز بني إسرائيل قبل قليلٍ، فهو الذي أتى الأعرابي وزاره في مكانه، وهذا من تواضع النبي ، فكان النبي يُعايش أصحابه، ويذهب إلى القوم في أسواقهم .
فنحن بأمَسِّ الحاجة إلى مثل هذه المُعايشة التي تُحقق عددًا من السمات والخصائص التي ذكرناها مثل: قضية معرفة الأشخاص؛ حتى نُراعي الفروق الفردية بينهم.
فهذه المُعايشة تُحقق هذا الاستقراء للشخصيات حتى تعرف كيف تستطيع أن تُؤثر في (أ) من الناس؟ وكيف تستطيع أن تُؤثر في (ب) من الناس؟
وللعلم قد تكون لدى (أ) و(ب) نفس المشكلة، لكن الطريقة التي ينبغي أن نُعالج بها (أ) تختلف عن الطريقة التي ينبغي أن نُعالج بها (ب)؛ لاختلاف الشخصيات، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال المُعايشة.
والمُعايشة تُوجد الودّ والقُرب، وعندئذٍ يوجد الشعور بالمحبة والطاعة.
وكذلك تحصل من خلال المُعايشة قضيةٌ مهمةٌ جدًّا يحسُن أن نختم بها لقاءنا هذه الليلة، ألا وهي: قضية الاقتداء، فهم يرون النبي أمامهم، وينظرون إليه كيف يُصلي؟ فينقلون ذلك.
فنحن بأمَسِّ الحاجة إلى هذه القضايا، وإخراج جانب القدوة للمُربين -آباء ومعلمين وغيرهم- من خلال المُعايشة الحقيقية والقُرب من الأجيال.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل منهج النبي هو منهجنا فعلًا في حياتنا، وتعديل سلوكنا لأنفسنا ولغيرنا.
ولنا -بإذن الله - موعدٌ في الحلقة القادمة مع مواقف نبويةٍ في تعديل السلوك، وقراءةٍ لما كتبتُموه ولما سيكتبه الآخرون في السؤال التفاعلي -بإذن الله - وتحياتي لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (3282)، ومسلم (2610). |
---|---|
↑2 | أخرجه أبو داود (4782)، وصححه الألباني. |
↑3 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑4 | أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني. |
↑5 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑6 | أخرجه مسلم (560). |
↑7 | أخرجه البخاري (1968). |
↑8 | أخرجه ابن ماجه (154)، والترمذي (3790)، وصححه الألباني. |
↑9 | أخرجه البخاري (3374)، ومسلم (2378). |
↑10 | أخرجه الترمذي (3681)، وصححه الألباني. |
↑11 | أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83). |
↑12 | أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85). |
↑13 | أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني. |
↑14 | "ديوان أبي العلاء المعري" (ص1760). |
↑15 | أخرجه ابن حبان (723)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (3523)، وأبو يعلى في "مسنده" (7254)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1/ 312). |
↑16 | أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني. |
↑17 | أخرجه أحمد في "المسند" (14037) وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ". |
↑18 | أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658). |
↑19 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10739)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (903)، وحسنه الألباني. |
↑20 | أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661). |
↑21 | أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661). |