المحتوى
مقدمة
الحمد لله، ونُصلي ونُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي "أُسس التربية" من قناتكم قناة "زاد العلمية".
حينما نتحدث عن التربية فنحن نتحدث عن صميم بناء الأجيال، ومن ذلك ما يتعلق بشُمولية تربيتهم.
وفي هذه الليلة لقاؤنا -بإذن الله - عن التربية الفكرية في المنهج النبوي، وكيف ربَّى النبي أصحابه فكريًّا؟
وضيف هذا اللقاء فضيلة الشيخ: عبدالله بن صالح العجيري، المشرف العام على مركز "تكوين"، والباحث في قضايا الفكر المعاصر، وله عددٌ من المُؤلفات والمُحاضرات العلمية المختلفة في مُحاربة الإلحاد ونقد الأفكار المُنحرفة وردّها، وفي بناء الفكر السليم.
فحيَّاك الله شيخ عبدالله، يا مرحبًا بك.
الضيف: الله يُحييك ويُسعدك.
المحاور: أسعدتنا بحضورك، وبارك الله فيكم.
الضيف: الله يُسلمك.
سبب اختيار العنوان
المحاور: لماذا هذا العنوان أولًا يا شيخ عبدالله، جزاك الله خيرًا؟
الضيف: طبعًا في ضوء الاهتمام الذاتي المُتعلق بالمجال الفكري بشكلٍ عامٍّ بدأ الإنسان يحاول أن يُفتش عن الخيط الناظم الذي يخلق حالة انحرافه، وتشتمل على عامَّة الانحرافات الموجودة في المجال الفكري المعاصر، فوجدتُ من خلال ملاحظة الكثير من مظاهر وصور الانحراف أنه يمكن إحالته وإعادته لمُكونين أساسيين، وهما مُعطيان خطيران:
المُعطى الأول: هيمنة نموذج ثقافي مُخالف للخط الشرعي والإسلامي، وأنا أُعبر عنه بغلبة المِزاج الليبرالي في هذا الزمان الذي نعيش فيه.
المُعطى الثاني: ضعف مبدأ الانقياد والتسليم والخضوع والتعظيم لمُعطيات الوحي.
فإذا حصلت هذه المُزاوجة، وهي: أن الإنسان هيمنت عليه ثقافةٌ معينةٌ، وضعف عنده تعظيم الواجب لمُعطيات الوحي، وتعظيم الواجب لسنة النبي والقرآن الكريم، والتسليم لله ولرسوله ؛ سيُفرز إشكاليةً كبيرةً جدًّا في المجال الفكري، وتجد ظاهرةً هي: إعادة ترتيب الإنسان للمنظومة الشرعية الإسلامية التي تتوافق مع المُعطيات الحضارية التي وقع تحت سُطوتها وضغطها.
ويبدأ الإنسان يُفتش عن الحلول والعلاجات المتعلقة بهذه القضية، فلاحظ أن أحد الامتيازات الكبرى التي وُجدت عند جيل صحابة النبي مُقارنةً بأجيال المسلمين التالية هي أحد المبادئ الأساسية التي خلقت عندهم حالةً من الحصانة في المجال الفكري على الوجه الخاص.
المحاور: إذن لا بد من قضية الحصانة الفكرية للأجيال؟
الضيف: ما في شكٍّ، ويمكن أن يأتي في ثنايا الحلقة ما يؤكد على أهمية البُعد التربوي وتخليق هذه الحالة.
المحاور: طيب، لماذا يا أستاذ عبدالله التركيز على قضية الحصانة؟ أليس هناك أيضًا بناءٌ فكريٌّ يلزمنا؟ أليس هناك تحليةٌ مقابل التخلية كذلك؟
الضيف: في الحقيقة ستُلاحظ أني لما ذكرتُ الإشكالين وأن عندنا غلبة المِزاج الليبرالي، والتعظيم الواجب الوحيد، فإذا استطعنا أن نخلق هذه الحالة البنائية فهذا الذي أُعبر عنه.
المحاور: في تعظيم الوحي.
الضيف: في تعظيم الوحي والتسليم والخضوع له، وهذا مبدأٌ شرعيٌّ بنائيٌّ أصيلٌ ينبغي ألا يكون المسلم مسلمًا إلا إذا حظي به، وتفاوت مراتب أهل الإيمان إنما هو في تحقيق مثل هذا المُعطى، فهي من واجهةٍ معينةٍ قضيةٌ بنائيةٌ، وهذه القضية البنائية تتضمن في طيَّاتها قضية الحصانة التي يمكن أن تخلقها من الرضوخ للمُعطى الحاضر الآخر.
وهذا الذي يلمسه الإنسان حين ينظر لحال صحابة النبي ، فمثلما نحن في هذا الزمان واقعون تحت هيمنة النمو الثقافي المُخالف للثقافة الشرعية الإسلامية بحكم التَّمدد الحضاري للمجتمعات الغربية وبقيمةٍ ليبراليةٍ، فلما تنظر لحال صحابة النبي تُلاحظ أن صحابة النبي لمَّا بدؤوا يتماسُّون مع المُعطيات الحضارية للآخرين في زمانهم: فارس أو الروم، وتُلاحظ أن غلبة القوى المادية كانت لصالح الفرس والروم مُقارنةً بالطبيعة الحضارية على المستوى المادي البسيط الساذج الذي كان موجودًا عند الأمة المسلمة في تلك الحقبة التاريخية.
المحاور: وهذا أثَّر بلا شكٍّ.
الضيف: فالمُلاحظ الغريب: أن صحابة النبي لم تتخلَّق عندهم حالةٌ من حالات الانبهار بالمُعطى الحضاري الموجود عند فارس والروم.
المحاور: مع أن مُعطيات الانبهار موجودةٌ.
الضيف: المُفترض أنها موجودةٌ، لكن مَن الذي حصَّنهم من الانبهار الذي يجرُّهم إلى منطقة الانحراف؟
المحاور: إذن القضية هنا مُرتبطةٌ بالتخلية التي لا بد أن نُمارسها في مقابل التَّحلية.
أسباب انحراف الفكر المعاصر اليوم
طيب، حينما نأتي إلى قضية التصور المُرتبط بالانحراف الفكري في وجهة نظرك يا أستاذ عبدالله، ما أسباب انحراف الفكر المعاصر اليوم؟
لو نُركز بشكلٍ واضحٍ حتى تفهم الأُسَر والناس والأجيال والقائمون على التربية.
الضيف: طبعًا الأسباب مُتكاثرةٌ ومتعددةٌ جدًّا، وأحد التَّنبيهات التي ينبغي أن يُلاحظها ويُراعيها الإنسان: أن المسألة ليست عائدةً بالضرورة إلى مُعطًى واحدٍ، وكون القضية مُندرجة تحت الأصول والقضايا الفكرية لا يعني أن المعامل المعرفي أو المعامل الفكري في حدِّ ذاته هو المُعطى الأكثر تأثيرًا، لا؛ لأن الكائن البشري كائنٌ مُعقَّدٌ، يتكون من العقل والعاطفة، وبالتالي كثيرٌ من خيارات الإنسان الفكرية والأشياء التي تُحدد هُويته ليست بالضرورة عائدةً إلى المعامل المعرفي فقط، وإنما هي عائدةٌ كذلك إلى مُعاملاتٍ متعددةٍ.
المعامل المعرفي له تأثيرٌ؛ فقد يُسبب الانحراف الفكري عند كثيرٍ من أبنائنا، وكذا قضية الجهل بحقائق الإسلام قد تُولِّد بطبيعة الحال انحرافًا، لكن قد يكون الأمر عائدًا إلى اعتباراتٍ أخرى تتسم بقدرٍ من البساطة والسَّذاجة، لكن قد يكون هو العامل الحاسم والمُؤثر في شخصية الإنسان الفكرية: كمعامل الكِبْر على سبيل المثال، ومعامل العصبية.
يعني: لما يُفتش الإنسان -مثلًا- عن معامل المحبة للجاه وللمال، ولغير مُعطياته، ولما يتأمل الإنسان في واقع الانحرافات التي واجهها النبي فكريًّا من قومه قريش -على سبيل المثال- يجد أن معامل العصبية كان عاملًا حاسمًا مُؤثرًا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22].
المحاور: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].
الضيف: ولما تنظر مثلًا إلى حال اليهود: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، طيب، ما الإشكال؟
ليس في المعامل المعرفي، وإنما قضية الحسد على سبيل المثال، ومَلِك الروم هرقل في زمانه لما ننظر في القصة المُطولة التي حكاها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه في لقائه مع هرقل يكتشف كخلاصةٍ ونتيجةٍ: أن الرجل على مستوى المعامل المعرفي مُقتنعٌ بصدق هذا النبي الذي أُوحي إليه، وأُرسل إلى العرب، لكن إشكاليته كانت المُحافظة على الجاه والمال والمنصب.
المحاور: يعني: هناك عاملٌ آخر هو الذي أثَّر في جانب الانحراف؟
الضيف: نعم، فمن الضروري ألا نحصره في إطارٍ معينٍ، ويُدرك الإنسان أن المُعاملات العاطفية مُؤثرةٌ في حياة الإنسان الفكرية كتأثير المعامل الفكري، وأن المسألة ليست خاضعةً بالضرورة إلى الجهل بالحقائق؛ لأن عند المُنحرفين فكريًّا ليس معامل الجهل هو المُؤثر، وإنما للمُعاملات الأخرى تأثيرٌ.
المحاور: وهذا الكلام الذي تقوله أستاذ عبدالله يُؤكد ما نطرحه في هذا البرنامج في عدة مراتٍ، وهو ما يتعلق بخصائص المنهج الإسلامي بالنسبة للنظر للنفس البشرية، وأن هناك شموليةً وتكامُليةً، فالجانب المعرفي يُؤثر في الجانب الوجداني، والمشاعري يُؤثر في المهاري، وغير ذلك من الأمور.
طيب، جميلٌ، إذن أنت أشرتَ إشارةً إلى قضية الرضوخ إلى النماذج الثقافية المُهيمنة، هل هذا كان موجودًا في القديم أيضًا كذلك؟ وما الإشكالية في هذا الموضوع في القديم والحديث؟
الضيف: والله دعنا ننطلق من عبارةٍ جميلةٍ جدًّا ومشهورةٍ جدًّا نُقِلت عن ابن خلدون في "المقدمة" لما قال: "إن المغلوب مُولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب"[1]"مقدمة ابن خلدون" (ص73).، فهذه النزعة الموجودة عند البشر يبدو أنها نزعةٌ مُعاصرةٌ، وهي نزعةٌ يستطيع الإنسان أن يتلمس آثارها في التاريخ.
يعني: خذ على سبيل المثال في السياق التاريخي: من الأشياء التي لفتت نظري وأنا أقرأ في كتابٍ لابن تيمية -عليه رحمة الله تعالى- بعنوان "الجواب الصحيح" أو الإمام ابن القيم "هداية الحيارى" كانت تقع بينهم وبين بعض النصارى واليهود مُناظراتٌ، والأمر الغريب واللافت للنظر: أنه في خِضَم قراءة الإنسان لهذه المُناظرة يُدرك أن الطرف الكتابي -اليهودي أو النصراني- كان يُسلِّم بصدقية نبوة نبينا ، وأنه نبيٌّ مُرسلٌ من عند الله ، وأن منطقة الخلاف بين النصراني واليهودي في ذلك الزمان وبين الأمة المسلمة ليست في صدقية هذا النبي وحُسن مُتابعته، وإنما هل هو رسولٌ أُوحي إليه وأُرسل إلى العرب فقط، أم أنه أُرسل إلى الناس كافَّةً؟ وهي منطقة الخلاف الموجودة بين الدائرتين.
ولما ينظر الإنسان إلى واقع الأمة النصرانية واليهودية اليوم يجد عندهم هذا النَّفَس المَرِن والمُتسامح في التعاطي مع الفكرة الإسلامية، ومع نبي الإسلام، فعامَّة النصارى واليهود الموجودين بهذا الزمان يتَّهمون النبي بالكذب، فما الذي حصل في تلك اللحظة التاريخية؟
أنا أزعم أن أحد المُعطيات الأساسية: أن اليهودي والنصراني كان ينظر إلى الإسلام نظرة الأمة المُتغلبة والمُنتصرة والواعية، ولا يستطيع أن يتصور النصراني أو اليهودي أن هذه الأمة العظيمة كانت تتبع رجلًا كاذبًا، فأعادوا ترتيب موقفهم من نبي الإسلام ومن دين الإسلام؛ ليتوافق مع هيمنة النمو الحضاري الإسلامي، هذا مثلًا في حقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ.
ولما يقرأ الإنسان -مثلًا- في واقع ضغط الحضارة وهيمنة النموذج الحضاري الإسلامي على أوروبا مُمثَّلًا في الحضارة الإسلامية الموجودة في بلاد الأندلس يجد تضجرًا من القساوسة والرهبان من جنس تضجر كثيرٍ من دُعاة الإسلام اليوم من هيمنة النموذج الحضاري الغربي على الأمة المسلمة، وتأثر الكثير من شبابنا بمثل هذه الحضارة.
المحاور: هل تقصد أن الانحراف الفكري كان أقلَّ منه الآن بناءً على هذا المُعطى؟
الضيف: يعني: إلى حدٍّ ما نعم، لكن هذا لا يعني أنه ما كانت هناك إشكالياتٌ أو انحرافاتٌ في المجال الفكري، وجزءٌ منها كذلك عائدٌ إلى ذات المُعطى، يعني: خذ على سبيل المثال: الإمام أبو حامد الغزالي -عليه رحمة الله- لما ألَّف كتاب "تهافت الفلاسفة"، كم من الإشكاليات التي تكلم فيها أن ثمَّة ظاهرةً وُجدت عند بعض المُنتسبين للإسلام بالانبهار بالفلسفة اليونانية والإغريقية، وإعادة تنظيم المنظومة الإسلامية؛ حتى تتوافق مع مُعطيات الفلسفة، حتى إن بعض المسلمين صار يتزين ويتمدح بالكفر، أو يُظهر نَفَسًا من نَفَس الكفر؛ لأنه يشعر أن هذا الذي يجعله أرقى، فنفس المُعطى.
والنبي لما يتكلم عن ظاهرة التَّشبه وتحريم مظاهره، جزءٌ من المعاني المُدخلة تحت مفهوم التَّشبه: مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم[2]أخرجه أبو داود (4031)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".، والذي هو تخليق حالة الحصانة من الذوبان بالأمة المُتشبِّهة.
وفي سياق التاريخ المُتقدم يجد الإنسان مثلًا في كثيرٍ من الأمم والشعوب اليوم أن الناس يُحكمون بحالة التَّضجر من هيمنة النموذج الحضاري خاصةً، وتجد الفرنسيين والثقافة الفرنسية -على سبيل المثال- تتضجر من هيمنة النموذج الثقافي الأمريكي، واليابان -على سبيل المثال- يتكلمون عن حجم التَّنازلات التي يُقدمها شبابهم من حضارتهم ليكونوا مُتشبهين ومُتوافقين مع المُعطى الحضاري الموجود عند الأمة الأمريكية.
ونفس الإشكالية يُعاني منها كثيرٌ من دُعاة الإسلام مع كثيرٍ من شبابنا، وهي: أنه صارت عندهم حالةٌ من حالات التنازل عن الكثير من القيم الشرعية؛ ليكونوا أكثر توافُقًا مع القيم والمفاهيم الغالبة على المِزاج العالمي اليوم، وهي مُنخرطةٌ إلى حدٍّ ما في ضوء القيم الليبرالية.
المحاور: وحقيقةً تردنا أسئلةٌ واستشاراتٌ كثيرةٌ في هذا البرنامج، وكذلك الإخوة والأُسر المسلمة التي تعيش في الخارج، وكيف تستطيع أن تُحافظ على هوية أبنائها، خاصةً الذين يدرسون في تلك المدارس الأجنبية؟
والآن مع وسائل التواصل الاجتماعي التي قرَّبت الثقافات أصبحت القضية أيضًا أكثر إشكاليةٍ، وهذا الموضوع لما نطرحه نحن نطرحه من باب أن نعرف كيف نبني أجيالنا بحيث يحملون الفكر السليم والعقيدة السليمة؟ وكذلك كيف نُحصِّنهم ونَقِيهم من أن ينحرفوا ذات اليمين وذات الشمال في الجانب الفكري؟ فكما نهتم كثيرًا بانحرافهم الأخلاقي كذلك هناك انحرافٌ فكريٌّ، وهو أخطر من الجانب الأخلاقي.
تعظيم الصحابة للوحي
لو أردنا أن نذهب إلى الجيل الرائع، وهو جيل الصحابة يا شيخ عبدالله، وحال هؤلاء الصحابة فيما يتعلق بقضية ما ذكرتَه أنت حول تعظيمهم وتقديسهم للوحي، هل يمكن من إطلالةٍ حول هذا المعنى؛ لعلَّ أجيالنا وأُسرنا تنتبه لمثل هذا الأمر؟
الضيف: جميلٌ، فلنُقربها بالمُقاربة الآتية: نحن ذكرنا فيما سبق أن إحدى الإشكاليات المُولِّدة لحالة الانحراف: الرضوخ لهيمنة نموذجٍ حضاريٍّ آخر، فدعنا نُركز على ما يتعلق بصحابة النبي لما وقعت منهم لحظة التماس الحضاري مع الأمم الأخرى مُمثَّلةً بفارس والروم، وتبرز لحظات التماس والاحتكاك عبر بوابات الجهاد والفتوحات الإسلامية، فخذ النموذج المُبهر والعجيب والذي يستطيع الإنسان أن يتلمس أصداءه من خلال التاريخ: لما يقف ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه مُواجهًا لرستم قائد الفرس في معركة القادسية، ويسأله رستم: ما الذي أخرجكم؟ وما الذي ابتعثكم؟ يعني: عند رستم نظرةٌ مُحتقِرةٌ للعرب، فيستغرب منهم هذا الخروج، وعرض عليهم مطالب: إذا كان الذي أخرجكم الجوع فنحن مُستعدون أن نُطعمكم، أو تريدون مالًا نُعطيكم مالًا، أو تريدون نوعًا من أنواع الإمارة على منطقةٍ معينةٍ نُعطيكم هذه الإمارة.
فكيف كانت إجابة ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه؟
قال له: "الله جاء بنا لنُخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام"[3]"المنتظم" (1/ 475)، و"تاريخ الرسل والملوك" (2/ 400)، و"البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (7/ 46)..
فتُلاحظ أن العبارة مُزلزلةٌ وقويةٌ، وتُعبر عن حالةٍ من حالات الاعتزاز بالقيم الشرعية والإسلامية في مقابل عدم الانبهار بالبَهْرَجة الموجودة في الحضارة المُقابلة.
ولما يستعرض الإنسان أحد الجوانب المُحصنة التي خلقت حالة الاعتزاز عند ربعي بن عامر: أن هناك نوعًا من أنواع الشعور بأن المُتَّكآت المعنوية الموجودة في الحضارة المسلمة المُتمثلة في مُعطيات الوحي لا تستحقّ أن يُتنازل عنها من أجل بَهْرَجَة بعض المظاهر الدنيوية الزائفة.
المحاور: وكان بإمكانه أن يتنازل لو أراد.
الضيف: وكان بإمكانه أن يتنازل.
فهذه النماذج العجيبة في صحابة النبي هي التي تبعث هذا المعنى في نفوس المسلمين، وتخلق حالةً من حالات الحصانة عند التصدي لكثرة الوافدات الأخرى، وهي مبدأ تعظيم الوحي والتسليم لله.
فترسيخ هذا المبدأ في غاية الأهمية، وأنا أزعم أن هذه الأهمية أحد المبادئ الأساسية المُميزة لجيل صحابة النبي مُقارنةً بكل أجيال المسلمين التالية.
يعني: خذ مثالًا على المستوى الاجتماعي العام لصحابة النبي : ينزل تحريم الخمر: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91]، فتجد الاستجابة الاجتماعية العامَّة لخطاب الوحي فيما يتَّصل بهذه القضية.
المحاور: والسريعة.
الضيف: السريعة والمُباشرة، ومثلًا: تنزل آية الحجاب آمرةً أمهات ونساء المؤمنين بالتَّحجب، فتجد الاستجابة العامَّة: فخرجن كأنما على رؤوسهن الغِربان، فمُباشرةً تحصل الاستجابة.
هذا يَنُمُّ عن مستوًى رفيعٍ جدًّا من الانقياد والتسليم وتعظيم الوحي، بحيث إذا أتى الوحي مُخبرًا عن قضيةٍ معينةٍ فمُباشرةً يتلقاها الصحابة بالتصديق، وإذا أتى الوحي بالأمر بقضيةٍ معينةٍ يستجيبون لهذا الأمر مُباشرةً بالاستجابة والتنفيذ له، وإذا نهى عن شيءٍ معينٍ ينتهون عنه مُباشرةً.
وإذا نزلنا إلى مستوى تفاصيل ما يتعلق بأحوال صحابة النبي على مستوى الأفراد نجد ظاهرة الاستجابة لله وتعظيم الوحي حاضرةً كذلك.
فمن القصص الطريفة -يعني: يمكن أن أذكر قصتين أو ثلاثًا-:
الأولى: قصةٌ عجيبةٌ تجري للصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم المؤمنين عائشة، فالنبي يدخل عليها الدار يومًا بأسيرٍ ويأمرها أن تحرس هذا الأسير وتحفظه، ويخرج النبي من الدار، فتدخل مجموعةٌ من النسوة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فيُغافلها الأسير ويهرب من البيت، فيرجع النبي وينظر في زاوية البيت فلا يجد الأسير، فيسأل عائشة رضي الله عنها وأرضاها: يا عائشة، أين أسيركِ؟ فتقول له بكامل البراءة: يا رسول الله، نسوةٌ دخلنَ عليَّ فلهينني عنه حتى خرج. فقال لها النبي مُغضبًا: ما لكِ؟! قطع الله يدكِ، وخرج النبي من الدار، واستدعى المؤمنين فقبضوا على الأسير، ورجع النبي بعد فترةٍ زمنيةٍ إلى عائشة، فوجدها تُمارس فعلًا في غاية العجب؛ فكانت تقلب كفَّيها وتنظر فيهما، فاستغرب النبي من هذا المشهد الذي وقع من زوجه، فقال: ما لكِ يا عائشة؟! أجُننتِ؟! فقالت له بكامل البراءة: يا رسول الله، دعوتَ عليَّ، فأنا أنتظر أي يدي تُقطع أولًا[4]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (24259)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين"..
فتلاحظ: كأن النبي ما دام قد قال هذا الأمر فلا بد أنه يقع.
وليس الأمر أنها -مثلًا- تناولت سكينًا وقطعت يدها، وإنما كانت تشعر أنه يمكن أن يقع أمرٌ خارقٌ للعادة، فكانت تنتظر أن تسقط اليد بما يُشبه الإعجاز، أو بأمرٍ خارقٍ للعادة.
الثانية: قصةٌ أخرى لأحد صحابة النبي ، وقد يجهل اسمه كثيرٌ من أبناء المسلمين، وهو موقفٌ رفيعٌ وعجيبٌ جدًّا، وأصعب المواقف التي تُرغم الإنسان على تسليم نفسه لله ، وما يتماس مع الأعراف والعادات والضغوط الاجتماعية.
رجلٌ اسمه: معقل بن يسار رضي الله عنه وأرضاه زوَّج أخته لرجلٍ، فجلست عنده فترةً زمنيةً معينةً ثم طلَّقها تطليقةً، ولم يُراجعها في أثناء العِدَّة حتى بانت منه بالكلية بعد فترةٍ زمنيةٍ، فالذي حصل أنه تقدم لهذه المرأة مجموعةٌ من الخُطَّاب، والغريب جدًّا أن يتقدم لها الزوج السابق ويضع يديه مع الخُطَّاب، فالذي طلَّقها بعد انقضاء العِدَّة يحتاج أن يُحدث عقدًا جديدًا، فطرق باب معقل بن يسار طالبًا أن يُزوجه أخته للمرة الثانية، فردَّة فعل معقل بن يسار مُتفهَّمةٌ تمامًا في ضوء الطبيعة الإنسانية البشرية، فقال له: يا لُكَع! أكرمتُك بها وزوجتكها فطلَّقتها! والله لا ترجع إليك أبدًا آخر ما عليك. يستحيل أن ترجع لك أختي مرةً أخرى.
فالذي حصل أن الله علم بعد ذلك حاجته إليها وحاجتها إلى بَعْلها، فأنزل الله : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:232]، فيأمر الله إذا حصل نوعٌ من أنواع الإصلاح بين الطرفين، وهناك رغبةٌ مُتبادلةٌ من الزوجين اللذين وقع بينهما الطلاق السابق أن يعودا؛ فلا تَعْضُلوهن، ولا تقفوا حجر عَثْرَةٍ في إعادة هذا النكاح.
فداس معقل بن يسار رضي الله عنه وأرضاه على كل مشاعره الإنسانية البشرية وقال في البداية: سمعًا لربي وطاعةً. ثم دعاه فقال: أُزوجك وأُكرمك[5]أخرجه الترمذي (2981)، وصححه الألباني..
فهذا موقفٌ عجيبٌ ومُبْهِرٌ حقيقةً.
المحاور: وهو نفسه لم يكن بين هذا وذاك ...
الضيف: لم يكن إلا نزول الآية، يعني: الذي خلق حالة الفرق هو مجرد نزول الآية، فهناك تربيةٌ مُسبقةٌ أنتجت هذا المنتج.
الثالثة: القصة الأخيرة لامرأةٍ عجوزٍ لا نعرف اسمها، يُمازحها النبي يومًا، فتأتيه فتقول له رضي الله عنها وأرضاها: يا رسول الله، ادعُ الله أن يُدخلني الجنة. فيقول لها النبي : ارجعي، فإن الجنة لا يدخلها عجوزٌ[6]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5545)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2987).، يقول لها ذلك مُداعبًا مُمازحًا.
والعجيب أن المرأة تلقَّت هذا الخطاب النبوي بكامل التصديق والإذعان والتسليم له، فكانت ردَّة فعلها عجيبةً، وهي البكاء، فقامت تبكي؛ لأنها صارت محرومةً من الجنة.
أنا أزعم أن مثل هذا الخطاب لو أُلقي على كثيرٍ من أبناء الإسلام اليوم -وأنا منهم- فأول معنًى يهجس في النفس، وأول خاطرٍ يخطر في البال هو: أن هذا ظلمٌ، ما المُوجب أن أُحرم من الجنة؟!
ما تجد هذا الخطاب أبدًا حصل منها، الذي حصل منها مجرد البكاء؛ لأن هذا هو المُتاح المُمكن في تلقي هذه البلية، فبيَّن لها النبي بعد ذلك فقال: أخبروها أنها لا تدخل يومئذٍ وهي عجوزٌ: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35، 36].
فالتسليم لما ذكره النبي من خلال مُداعبته التي ظنَّت أنها حقيقةٌ، ولا يستطيع الإنسان أن يُقيِّم كل ردود أفعال صحابة النبي مع مِزاح النبي ، يجد أنها كلها مُستخرجةٌ عبر هذه البوابة مهما بدا الخطاب غريبًا.
فالمعنى الذي أريد التأكيد عليه وتأسيسه هو قضية: أن الامتياز الأكبر الذي وُجد عند صحابة النبي ، والذي ولَّد عندهم حالة الحصانة من الرضوخ لهيمنة النماذج الحضارية المُهيمنة في أزمنتهم كان حجم التعظيم والتسليم والانقياد لله ولرسوله ، والحوادث والقصص في هذا المجال مُتعددةٌ وكثيرةٌ.
المحاور: وهي قصصٌ ومواقف جميلةٌ، ونحتاجها حقيقةً.
وأنت أشرتَ إلى قصة ربعي ، وأشرتَ إلى قصة الخمر وما حصل من التفصيلات العجيبة حتى سالت منها سكك المدينة، وقصة الحجاب مع النسوة، وكذلك قصة عائشة الجميلة، ومعقل بن يسار، والعجوز، جزاك الله خيرًا.
ولعلنا الآن نأخذ الفاصل يا أستاذ عبدالله، ونُكمل القصص، ثم ندخل إلى هذه التربية النبوية التي فعلًا أوجدت مثل هذه النماذج.
أيها الإخوة الأكارم، كونوا معنا بعد الفاصل، وجزاكم الله خيرًا.
الفاصل:
ما لا يسعك جهله في العقيدة
للإيمان أركانٌ لا يتم إلا بها، فإذا سقط منها ركنٌ لم يكن الإنسان مؤمنًا، وهي ستةٌ: الإيمان بالله، ويشمل: الإيمان بربوبيته، أي: بأنه الخالق، المالك، المُدبر، وبألوهيته: فلا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وكل معبودٍ سواه باطلٌ، وبأسمائه وصفاته، فله الأسماء الحسنى والصفات العليا.
ونؤمن بالملائكة، وأنهم مخلوقون من النور، وأنهم عابدون لله مُطيعون: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19، 20]، ولهم أعمالٌ كُلِّفوا بها: فجبريل مُوكلٌ بالوحي، وميكائيل بالمطر والنَّبات، وإسرافيل بالنَّفخ في الصور.
ونؤمن بالكتب، أنزلها الله على رسله حُجَّةً على العالمين، ومحَجَّةً للعاملين، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، ومنها التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وأعظمها وخاتمها القرآن العظيم: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48].
ونؤمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة، ونؤمن بما فيه من البعث، والحشر، وصحائف الأعمال، والميزان، والحساب، والصراط، والحوض، والشفاعة، والجنة والنار.
ونؤمن بالقدر: خيره وشرِّه، وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وله أربع مراتب: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.
فثَبِّت إيمانك بالعلم والعمل، واحذر من شُبهات المُشككين: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53].
تعامل الصحابة مع الأحداث نتاج تربية النبي لهم
المحاور: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا حميدًا مع التربية الفكرية عند رسول الله .
وحيَّاك الله أستاذ عبدالله، كنا قد حلَّقنا معك مع هذه النماذج على المستوى الفردي والجماعي في ذلك الجيل العظيم، وذكرنا مجموعةً من القصص الرائعة.
وهناك شيءٌ نريد أن نعرفه، وهو: كيف وصل هذا الجيل إلى هذا المستوى من الانقياد والاستسلام لله ؟
الضيف: طبعًا هذه الفقرة تُعتبر هي الألصق بعنوان هذه الحلقة: الجوانب الفكرية عند النبي ، والمعنى الذي أريد التأكيد عليه: أن هذه القصص والأحداث إنما هي نتاج تربيةٍ مُطولةٍ مارسها النبي على صحابته حتى وصلوا إلى هذه التربية، فهي تربيةٌ مُطولةٌ زمانيًّا، فما كانت القضية ضربة لازبٍ.
المحاور: إذن ليست القضية نزول الوحي وانتهاء الموضوع.
الضيف: لا، وإنما هي تربيةٌ مُطولةٌ خلقت حالةً من تعظيم الوحي، بحيث عندما تنزل الآية تحصل الاستجابة مُباشرةً، وعائشة كانت تُعبر عن هذا المعنى رضي الله عنها وأرضاها فتقول: "إنما نزل أول ما نزل منه سورةٌ من المُفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمدٍ وإني لجاريةٌ ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"[7]أخرجه البخاري (4993)..
فكان هذا مُلاحظٌ عند الصحابة، وكانوا مُدركين هذا المعنى إلى حدٍّ لا بأس به، فكيف لو فتَّش الإنسان ونظر في سيرة النبي وفي أحاديث النبي في كيفية تعاطيه ومحاولة ابتعاث هذا الملف التربوي في نفوس صحابته ؟ أظن أنه يستطيع أن يرصد مسارين أساسيين كان النبي يُمارسهما بكثافةٍ كبيرةٍ جدًّا في محاولة تخليق هذه الحالة.
المحاور: قبل أن تبدأ المسارين يا شيخ عبدالله، جاءت في ذهني قضيةٌ لصيقةٌ بما نجده في الاستشارات الأُسرية، ألا وهي: أن الكثير يقول: أنا أنصدم بواقع الابن، وأنصدم بالقضية الفلانية، وتفاجأتُ بهذا الموضوع، وما أشرتَ إليه قبل قليلٍ في التربية المُطولة في الحقيقة نقول: أين نحن من هذه التربية في فتراتنا؟ وأين نحن من هذه التربية في مرحلة الطفولة التي ربما نزهد بها، ثم عندما تأتي مرحلةٌ بعد ذلك نقول: إننا نتفاجأ، حتى وإن فعلنا شيئًا إيجابيًّا لا بأس به؟
أقول: أيها الإخوة والأخوات، هذه القضية تُؤكد المعنى المتعلق بالواجب الذي ينبغي أن نقوم به: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21].
فجزاك الله خيرًا، لقد نبَّهتنا على التربية المُطولة التي نحن بأمسِّ الحاجة إليها.
الضيف: وتأكيدًا على كلامكم يا دكتور أننا أحيانًا نطلب من المدعووين ومن أبنائنا مراتب إيمانيةٍ رفيعةً جدًّا من غير أن نُسهم في تشكيل قاعدةٍ تربويةٍ يمكن أن تُنتج لنا مثل هذه المقامات الإيمانية التي حصلت للصحابة، ومشكلتنا أحيانًا أننا ننظر إلى مجرد المقامات الإيمانية من غير مُلاحظة الفعل التربوي النبوي الذي ولَّد هذه الحالة.
قد نذكر المسارين سريعًا:
الأول: التربية بالقدوة.
والثاني: التربية بالأحداث.
فالقُدوة نستطيع أن نُفرعها إلى فرعين في شخص النبي ، فقد كان يُبهر صحابته بمقامه هو في تعظيم الوحي والتسليم لله ، وغير ذلك، يعني: خذ هذا الحديث الجميل الطريف الذي ذكره النبي : أتاه رجلٌ يشتكي أن أخاه يشكو بطنه، فجاء للنبي يشتكي إليه، فقال له النبي : اسقِهِ عسلًا، فذهب الرجل وسقاه عسلًا، ولم يُشْفَ حاله، فرجع وقال: ما زال يشكو بطنه. فقال: اسقِهِ عسلًا، ففعل الفعل مرةً ثانيةً وما حصل على نتيجةٍ، ورجع للنبي في المرة الثالثة فقال: قد فعلتُ يا رسول الله، فلم يزده إلا استطلاقًا! فقال: صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقِهِ عسلًا[8]أخرجه البخاري (5684)، ومسلم (2217).، فلفظة النبي : صدق الله كأنها مُوحيةٌ أن النبي تلقَّى هذا الأمر من القرآن الكريم، وما دام الله قد قال: إن العسل فيه شفاءٌ، فصدق الله، وكذب بطن أخيك، فلما سقاه في الثالثة حصلت البركة الإلهية؛ فشُفِيَ.
فتُلاحظ شخص النبي كأنه يُلقن ويُربي الصحابة على هذا المستوى من التسليم لله ورسوله .
ويحكي قصةً عجيبةً: أن ذئبًا يتكلم، وبقرةً تتكلم، فيقول النبي لصحابته بعد أن سبَّحوا وقالوا: سبحان الله! وكأن هناك نوعًا من أنواع الاستغراب، فقال: آمنتُ به أنا وأبو بكر وعمر[9]أخرجه البخاري (2324)، ومسلم (2388).، وكرر: إني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر، مع أن الاستغراب واقعٌ منكم إلا أنا، أُظهر لكم من شخصي الذي هو مرتبة القدوة فيما يتعلق بتعظيم الوحي والتسليم لله .
المسار الثاني: وهو حكاية النماذج والقصص والأخبار التي تُشكل النماذج القدوة، يعني: كل ما ذكرناه على سبيل المثال من قصص الصحابة قبل قليلٍ ومقامات النبي هي من جنس الحكاية والقصص لتخليق حالة القدوة لأجيالنا، فكيف ينبغي أن يُتابعوا في تحقيق هذا المقام؟
وخذ على سبيل المثال: ما يتعلق بقصة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ يرى في رؤيا من الله -وهي وحيٌ- أنه مأمورٌ بقتل ولده، فكيف يحصل تسليم إبراهيم لهذه البلية والمصيبة الكبيرة التي يأمر الله بها؟!
وموسى عليه الصلاة والسلام لما قال قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، الآن انتهى الأمر، أُحيط بنا، جيش فرعون اقترب، وسار على مرمى البصر منا، فيقول موسى بكامل الثقة والطمأنينة بمواعيد الله له: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
ولما نستعرض طبيعة الآية القرآنية المتعلقة بخبر موسى عليه الصلاة والسلام نرى أنه ما كانت عنده تفاصيل الخطة الإلهية في النَّجاة، يعني: في تلك اللحظة عنده ثقةٌ وطمأنينةٌ أن الله مُنجيه، من غير أن يعرف تفاصيل، وبعدها تُلاحظ الآيات: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى تُفيد التَّعقيب المباشر أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63].
والعجيب في الموضوع أيضًا: أن موسى كان كذلك يتصور أن إنجاء الله له أنه يضرب العصا فيمرّ، وكان في ظنِّه وتقديره أنه إذا وصل للضفة الثانية يضرب مرةً ثانيةً على أساس أن يفصل البحر بينه وبين فرعون وجنده، لكن الله قد خبَّأ له أمرًا أعظم من ذلك، فقال له: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24]، لا تضربه الضربة العائدة الأخرى لتُعيده؛ لأن الله يريد أن يُغرق عدو موسى عليه الصلاة والسلام.
فتُلاحظ أن هذه تدل فعلًا على أنه ما كانت عنده تفاصيل تستوجب حالة الطمأنينة والثقة بموعود الله له، وكان ذلك محض تعلُّقٍ بالله خلق عنده هذه الحالة.
المحاور: وقصة أبي بكرٍ في الإسراء والمعراج.
الضيف: هذه بالأحداث.
المحاور: يعني: تقصد يا شيخ عبدالله أن النبي كان يتمثل قضية الاستسلام والانقياد لأوامر الله ومحض الانقياد حتى يكونوا هم كذلك؟
الضيف: وهم يُتابعون ذلك.
المحاور: بالضبط، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وقد يقول البعض: إن شخص النبي ليس موجودًا الآن في وقتنا المعاصر!
فتأتي هنا أهمية الاستلهام من سيرة النبي في مثل هذه المواقف، وهي تدخل في الجانب الآخر المُتعلق بالقصص والمواقف والحكايات التي تكون فعلًا من النماذج لأجيالنا، وأجيالنا فعلًا في حاجةٍ إلى أن نعرض عليهم النماذج والقدوات الحسنة في هذا الجانب الذي فيه حمايةٌ لأفكارهم.
ودائمًا النفس البشرية لديها انسجامٌ مع مواقف القصص، فالواحد يضع نفسه في موقف أبي بكر، أو في موقف معقل بن يسار، وهكذا كما يقول أهل الاختصاص في هذا الجانب.
الضيف: فائدة القدوة في المسارات النبوية تكون على مسارين: الأب أو المُربي أو الأم تستطيع أن تُربي أطفالها عبر بوابة القدوة في ذاتها؛ فتُشعر أبناءها بحجم تعظيمها لله ولرسوله ، وإذا وقع الأب أو الأم في خطأ مُخالفٍ لأمر الله ولرسوله ، فنبَّههما الابن على ذلك، فما أجمل أن يقولا: صدقتَ يا بُني. ويرجعا إلى أمر الله ورسوله ، فهذه ستُثمر القدوة الحسنة، وهذا هو أحد المعاني المتعلقة بالقدوة، إضافةً إلى إشاعة مثل هذه القصص والأخبار، وهي تُمثل حالات قدواتٍ معينةٍ تُقدَّم لأبنائنا.
وإذا كان القدوة -الأب أو المعلم- عنده خللٌ، وهو يعرف أنه محل قدوةٍ فيقول: لا تقتدوا بي فيما أنا فيه من خطأ. فقد يكون الأب يشرب الدخان مثلًا، أو عنده تقصيرٌ في شيءٍ معينٍ، لكنه حريصٌ على ألا يكون أبناؤه مثله، فهو يقول: هذه الصور لا تتمثلوها، لكن عليكم بالنماذج الإيجابية. وعندئذٍ ستكون القضية لها -كما يُقال- بُعْدٌ إيجابيٌّ، بإذن الله.
التربية بالأحداث
المحاور: ننتقل إلى قضية التربية بالأحداث.
الضيف: التربية بالأحداث:
لما نستعرض تفاصيل ما يتعلق بقصص صحابة النبي نجد أن الله قدَّر لصحابة نبيه جملةً من الأحداث التي كانت مقصودةً، والحكمة الإلهية الأساسية من إحداث هذه الأحداث هي: تربيتهم على مبدأ التسليم لله والخضوع للوحي، وتعظيم الوحي، وكثيرةٌ هي القصص والأخبار، لكن تتمثل في ذهني ثلاث حوادث مِفْصَلية كُبرى، كان الغرض الأكبر لإحداث هذه الحوادث في السياق التاريخي هو: تربية أصحاب النبي على هذه المقامات.
الإسراء والمعراج
الحدث الأول: هو الذي أشرتم إليه، وهو: حدث الإسراء والمعراج، فقدَّر الله حدث الإسراء والمعراج لحِكَمٍ مُتعددةٍ، لكن من ضمن الحِكَم التي نصَّ الله عليها في القرآن الكريم في قوله: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] الابتلاء والاختبار، فقد رأى النبي أمورًا عجيبةً في حادثة الإسراء والمعراج، فجعل الله هذه الأمور العجيبة وإخبار الناس بها فتنةً للناس، وهذا الذي يتحقق في أرض الواقع، يعني: يُقدر الله لنبيه أن أول رجلٍ يمر عليه بعدما عاد من الإسراء والمعراج إلى مكة: أبو جهل، فلما رأى النبي مهمومًا حزينًا لمعرفته بحجم الخبر الذي وجب عليه أن يُبلغه للناس، ويتوقع ردود أفعال الناس، فأبو جهل يُخاطب النبي كالساخر به: هل كان من شيءٍ؟ يعني: هل عندك خبرٌ جديدٌ، أو وحيٌ جديدٌ، أو قصةٌ جديدةٌ؟ فقال: نعم، فقال: وما ذاك؟ قال: أُسْرِي بي الليلة إلى بيت المقدس، فأبو جهل ما جعل النبي يُكمل جملته: وعُرِجَ بي إلى السماء، قال: أُسْرِي بي الليلة إلى بيت المقدس، فما أحبَّ أن يُظهر له التكذيب، فقال: يا ابن أخي -ولاحظ تغير النغم في تعاطيه-، إن جمعتُ لك القوم أتُحدثهم بالذي حدَّثتني به؟ هذا خبرٌ عجيبٌ، أتُحدثهم به؟ قال: نعم، قال: يا معشر كعب بن لؤي، ويا معشر قريش. وجمع القرشيين حول النبي ، فقال: يا ابن أخي، حدِّثهم بالذي حدَّثتني به. فقال النبي : إنه قد أُسْري بي الليلة إلى بيت المقدس، فقال له الجمع المُلتف حوله: وعدتَ من ليلتك؟! وكان أبو جهل قد قال ذلك، فهذا أمرٌ عجيبٌ وغريبٌ، فكيف يقع هذا الأمر؟! قال: نعم، فيقول راوي الحديث: فما بين ضاربٍ كفًّا بكفٍّ، وبين واضعٍ كفَّه على رأسه.
فالذي يضرب كفًّا بكفٍّ يقول: الرجل من الواضح أنه مجنونٌ. والذي يضع كفَّيه على رأسه كأنه يقول: هذه كذبةٌ لا تُطاق، وهذا أمرٌ عجيبٌ وغريبٌ جدًّا.
فأحد مواطن الشاهد الآن هو: هذا الحدث المِفْصَلي الذي يحتاج فعلًا نزعةً إيمانيةً كبيرةً جدًّا حتى يُصدق الإنسان بهذا الخبر، خاصةً إذا استحضر الإنسان الجانب الفني التقني لذلك الزمان، فنحن نعيش في زمنٍ فيه الطائرات ووسائل المواصلات الحديثة، ولا نستشعر الإبهار والعجب المُتعلق بهذا الحدث، فالإنسان ينتقل من نقطةٍ جغرافيةٍ إلى أخرى تبعد عنها آلاف الكيلومترات ويعود من ليلته، فيجب أن يضع الإنسان نفسه في ذلك السياق الزمني.
فخرج سرعانٌ من الناس إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه، وقالوا له: أما تدري ما قال صاحبك؟ قال: "وما قال؟" قالوا: يزعم أنه قد أُسْري به الليلة إلى بيت المقدس، وعاد من ليلته! قال: "لئن كان قاله فقد صدق".
وهذه العبارة المنهجية التي تُمثل ما يُشبه الشعار لهذه الحلقة: "لئن كان قاله فقد صدق"، فالقضية وما فيها أنه إذا كان هذا الكلام قد خرج من شفتي النبي فهو صدقٌ.
المحاور: ليس لديه معلومةٌ بعدُ، يعني: لو كان سمع الوحي انتهت القضية، يُقال: لها مُبررها، ... إلى آخره، لكن هنا ...
الضيف: القضية مُعلَّقةٌ على صدقية الأمر، بغض النظر عن غرابة هذا الأمر.
قالوا: عجبًا لك يا أبا بكر! أتُصدقه في مثل هذا؟! قال: "إني أُصدقه في أعظم من هذا، أُصدقه في خبر السماء في غدوةٍ أو روحةٍ"[10]"تهذيب الآثار" للطبري -مسند عبدالله بن عباس- (1/ 461)..
فهذا حدثٌ، والحدث حتى نستشعر عظمته ...
المحاور: لكن عفوًا، المُنتج هنا المُتعلق بأبي بكر يختلف عن المُنتجات الأخرى التي لم تتشرب الإيمان.
الضيف: لا شكَّ؛ لذا لُقِّب على إثر هذا الحادث بـ"الصديق" رضي الله عنه وأرضاه.
ولذا حتى نتعقل وقع هذا الخبر والفارق بين صحابة النبي فيما يتعلق بالصديق: أن بعض الصحابة الذين كانوا قد آمنوا بالنبي ارتدوا عن الإسلام في تلك اللحظة، لمَّا سمع الواحد منهم بهذا الحدث ارتدَّ عن الإسلام وتركه!
فهذا يؤكد فعلًا على الحاجة إلى مستوًى إيمانيٍّ معينٍ يمكن أن يتشرب الإنسان من خلاله هذه المواقف.
المحاور: هذه النقطة الأخيرة يا شيخ عبدالله كأنك تُشير بها إلى أن الانبهار يمكن أن يكون سببًا للانتكاسة الفكرية لدى الأجيال إذا لم يكن هناك تحصيلٌ إيمانيٌّ وتصديقيٌّ لهذا الأمر، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
تحويل القبلة
الضيف: هناك حدثٌ آخر مِفْصَليٌّ أيضًا، وكبيرٌ جدًّا، وهو: حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، في سياق الآية يقول الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143].
المحاور: نستأذنك يا أستاذ عبدالله معنا اتِّصالٌ من السودان من الأخ يوسف، مرحبًا.
المتصل: سلامٌ عليكم، معك يوسف، أريد منك شرح محاضرةٍ بسيطةٍ عن سيدنا مصعب بن عمير وصُحبته مع رسول الله .
المحاور: بإذن الله، واضحٌ يا شيخ، أبشر يا أستاذ يوسف، وشكرًا لك على هذه المُداخلة الطيبة، وبارك الله فيك.
الضيف: الحدث الثاني الذي ذكرناه هو: حدث تحويل القبلة، والقصد منه أن الله قد رتَّب هذا الحدث كما أخبر في سياق الآيات: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، فالحكمة من إحداث هذا الحدث هي: قياس المستوى الإيماني الذي وصل إليه الصحابة، والتأكد والاطمئنان عبر التربية بالأحداث على أداء واجب التسليم، والآيات عجيبةٌ فيما يتعلق بهذا الحديث.
المحاور: لو سألناك سؤالًا يا أستاذ عبدالله: أيّهما أعمق: السابق أم هذا؟ يعني: تحويل القبلة أم الإسراء والمعراج؟
الضيف: والله كل واحدٍ له امتيازٌ، يعني: الأول عجيبٌ على مستوى القيم المادية، والثاني كان عجيبًا في تصور الصحابة على مستوى القيمة الدينية الشرعية.
وقد يستغرب الإنسان حين يجد آياتٍ تُغطي تقريبًا صفحةً ونصفًا من المصحف في محاولة تخليق حالة القناعة عند صحابة النبي بالانصراف من قبلةٍ لأخرى، في حين أنني أزعم أن كثيرًا من أبناء المسلمين اليوم تجد نفوسهم مُطمئنةً لتحويل القبلة، وما تجد فيها كبير إشكالٍ.
يعني: انظر إلى التَّوطئة الإلهية: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، تجد استشكال الصحابة هو قولهم: مَن صلَّى إلى بيت المقدس ما الذي يحصل في صلاته؟ فقال الله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، ويقول الله : فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] يعني: ألا تجعلوا خشية الناس في طاعتهم بعدم الاستجابة لأمري مُوجبًا لكم، بل تكرار الله : فَلَنُوَلِّيَنَّكَ [البقرة:144]، فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:144] مُتكررةٌ خمس أو ست مرات في سياق الآيات، فما المُوجب في هذه الحالة؟
هناك أمرٌ عجيبٌ وجديدٌ وغريبٌ، وهو ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، يعني: ما تشكَّلت بعدُ في الوعي الأصولي في تلك اللحظة عند صحابة النبي قضية الناسخ والمنسوخ، وبالتالي كانوا مُستشكلين جدًّا أن الله يأمر بأمرٍ معينٍ، ثم يأمر بأمرٍ آخر.
فالأول عجيبٌ وغريبٌ على مستوى القيم المادية، وكيف ينتقل الإنسان من نقطةٍ لأخرى؟!
والثاني بالنسبة للصحابة في تلك اللحظة كان غريبًا على مستوى الطبيعة الدينية، وأنه كيف أن الله يأمر بأمرٍ، ثم يأمر بأمرٍ آخر؟!
ومع ذلك حقق جمهور صحابة النبي نجاحًا في العملية التربوية الأولى والثانية.
صُلْح الحُدَيبية
نأتي للموقف الثالث والأخير، وهو أعجب المواقف وأوسعها وأظهرها في الحكمة الإلهية في تربية الصحابة على هذا المدى وهو: صُلْح الحُدَيبية، فصُلْح الحُدَيبية طبعًا يمكن أن تُخصص حلقةٌ كاملةٌ للحديث عنه، والتفاصيل التربوية المتعلقة بصُلْح الحُدَيبية، لكن دعنا فقط نلتقط الإشارة من آخر صُلح الحُديبية.
فلما يقرأ الإنسان يجد أن صُلح الحُديبية كان يُمثل حرب أعصابٍ من الدرجة الأولى كما يُقال، وبلغت المسألة ذِروتها في اللحظات الأخيرة من صُلْح الحُديبية لما جرت المُفاوضات بين النبي وبين سُهيل بن عمرو رئيس الوفد المُوفد للنبي للمُفاوضة على بنود الصلح، فيأمر النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن يكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فيقول له سهيل بن عمرو: والله لا نعرف أنه "الرحمن الرحيم"، لكن اكتب: "باسمك اللهم"، فيلتفت النبي لعليٍّ ويقول له: اكتب: باسمك اللهم، فيكتب: "باسمك اللهم"، فيرتفع مستوى التوتر والانزعاج من صحابة النبي مما يجري إلى مستوًى معينٍ.
ثم يقول له النبي : "هذا ما صالح عليه رسول الله قريشًا على كذا وكذا"، فيقول سهيل بن عمرو: والله لو نعلم أنك رسوله ما قاتلناك، لكن اكتب: محمد بن عبدالله. فيرتفع مستوى التوتر عند صحابة رسول الله: لماذا يرضى النبي بهذا؟!
ويأمر النبي أن يكتب: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله"، فقال: "على أن ندخلها عُمَّارًا"، فيقول له سهيل بن عمرو -وهنا تأتي الصدمة والفاجعة لصحابة رسول الله -: والله لا تتحدث العرب أنكم قد أخذتُمونا غصبًا علينا إذا دخلتم مكة الآن، ولكنكم تعودون من بعد.
وقد كان الصحابة على شوقٍ إلى مكة، وتوقعات، ورؤيا رآها النبي مُبَشِّرًا صحابته أنه سيدخل مكة مُعتمرًا، ومع ذلك يُفاجؤون بهذا الشرط المُجْحِف، فكانوا يتوقعون أن النبي سيرفض، ففُوجئوا أن النبي وافق على هذا الشرط، وبلغت المسألة ذِروتها.
ثم جاء بعد ذلك شرطٌ أشبه بالكارثي، وهو الذي خلق حالة الانزعاج والتوتر بين صحابة النبي ، وهو الشرط العجيب المُجْحِف: أنه إذا ارتدَّ أحد المسلمين عن الإسلام والتحق بقريشٍ فليس على قريشٍ بأسٌ ألا تردَّه، وإذا التحق أحد المسلمين من أهل مكة بالنبي فواجبٌ عليه أن يردَّه!
هنا بلغت المسألة -كما يُقال- ذِروتها؛ لأن هذا الشرط غريبٌ ومُجْحِفٌ.
ويُقدِّر الله من أحداث صُلح الحُديبية: أن أبا جندل يسمع أن المعسكر الإسلامي موجودٌ على أطراف مكة في الحُديبية، فيُلقي بثقله -بأغلاله وأصفاده- في معسكر المسلمين مُستشعرًا أنه قد نجا في تلك اللحظة، فيقول سهيل بن عمرو مُلتفتًا إليه: هذا أول مَن أُقاضيك عليه. هذا أول رجلٍ نُطبق عليه الشرط الذي وضعناه. فيقول له النبي : "إنا لم نفرغ من كتابة الكتاب إلى الآن"، وهذا العقد الحاصل بيني وبينك ليس بأثرٍ رجعيٍّ كما يُقال، ولكنه بأثرٍ مُستأنفٍ، فهذا الرجل لا علاقةَ له بهذا الموضوع. فقال: إذن لا صُلْحَ بيننا. والنبي ساعٍ في إحداث هذا الصلح، قال: فهبه لي. أنا أُخاطب فيك العربي الكريم الشَّهم صاحب المروءة، هَبْهُ لي، فقال له: والله لا أفعل. فيقول له النبي : بلى لتفعلنَّ. فيقول له: والله لا أفعلنَّ، لا صُلْحَ بيننا. ويقوم سهيل بن عمرو إلى ابنه أبي جندل، ويأخذه من تَلابيبه، ويلطمه أمام الناس!
هنا تبلغ حالة الانزعاج والتوتر ذِروتها، والصحابة ينظرون، وما هم بمُصدقين!
وعمر بن الخطاب كان نموذجًا مُعبرًا عن حالة الاحتقان التي كانت تَعْصِف بالجيش الإسلامي، فيقترب من أبي جندل رضي الله عنه وأرضاه ويُدني إليه ذُباب سيفه ويقول: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فوالله ما قتل أولئك المشركين والكلب إلا شيءٌ واحدٌ. ويُدني ذُباب سيفه، يعني: كأن لسان حاله يقول: خذ السيف واقتل سهيل بن عمرو.
وانتهى الموضوع بأمر النبي لأبي جندل بالعودة ومُواساته له، وينتهي العقد بين الطرفين على هذا الشكل الغريب المُجْحِف، والصحابة غير مُتعقلين ولا مُتفهمين ما الذي جرى؟ إلى درجة أن النبي يأمر صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم بأنهم في حكم المُحْصَر الآن، ويجب عليهم أن يحلقوا شعورهم، وأن يذبحوا هديهم، يقول أحدهم: فوالله ما تحرك منا رجلٌ واحدٌ. فدخل على أم سلمة، فقالت: لا تُكلم أحدًا منهم، وادعُ الحلَّاق يحلق شعرك واذبح. فلما فعل ذلك فعل الصحابة ذلك مُتابعةً للنبي .
والعجيب أن عمر بن الخطاب نفسه عبر عن حالة الاحتقان التي كانت تعتلج في نفوس صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى النبي فقال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلِمَ نُعْطِي الدَّنِية في ديننا إذن؟! فقال له النبي : إني رسول الله، ولستُ أعصيه، وهو ناصري، فقال له: ألم تَعِدْنا أننا سندخلها عُمَّارًا؟! فقال له النبي : بلى، فأخبرتُك أنا نأتيه العام؟.
والعجيب أن عمر بن الخطاب لم يكتفِ بما قاله النبي ، بل ذهب إلى أبي بكر فقال له: يا أبا بكر، ألسنا على حقٍّ؟ قال: بلى. قال: أليسوا على باطلٍ؟ قال: بلى. قال: فلِمَ نُعْطِي الدَّنِية في ديننا إذن؟! فقال له أبو بكر، وهنا اللفتة الإيمانية العجيبة وحالة التوافق الروحي العجيب، حتى إن ابن القيم في كتابه المشهور "روضة المُحبين" يتكلم عن حالة الشفافية الروحية والتقارب الروحي بحيث تتطابق الكلمات بين أبي بكرٍ والنبي من غير تحضيرٍ مُسبقٍ[11]"روضة المحبين ونزهة المشتاقين" (ص285).، فقال: إنه رسول الله، وإنه ناصره، وإنه لا يعصيه. زاد كلمة: "فاستمسك بغَرْزِه"[12]أخرجه البخاري (2731).، يعني: استمسك بما كان عليه ، فقال له: ألم يَعِدنا أننا ندخلها عُمَّارًا؟! قال: أزعم لك أنك تدخلها في عامك هذا؟ فإنك طائفٌ بها ومُعتمرٌ.
والعجيب في الموضوع أن الحادثة حصلت وانفضَّت المعركة، وفي حالة التوتر والانزعاج في العودة يُنزل الله مُطمئنًا صحابة النبي : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فمع كل الأحداث، ومع الاستشكال العظيم الذي حصل فيها فهي فتحٌ من الله .
دعنا نأخذ درسًا من الحُديبية من خلال عبارةٍ مُكثَّفةٍ أطلقها أحد صحابة النبي يوم الجمل -بعد سنواتٍ في زمن علي بن أبي طالب- الذي هو سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه، حيث يقول -وانظر إلى العبارة المنهجية الجميلة جدًّا، فالآن يلتقط لنا الدرس الأكبر من صُلح الحُديبية-: يا معشر التابعين، اتَّهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أقدر أن أردَّ أمر النبي لرددتُه، لكن الله ورسوله أعلم[13]أخرجه البخاري (4189)..
ولماذا قال: الله ورسوله أعلم؟
يقول: لاحظ أن الموانع النفسية التي تخلَّقت عندنا من حدث صُلح الحُديبية اكتشفنا بعد ذلك لما طال الزمن قليلًا أن البركة كلها في هذا الصلح، فصُلح الحُديبية هو الذي حقق للمسلمين الاعتراف الرسمي عند المعسكر الآخر، وأنه معسكرٌ مُتمثلٌ حقيقيٌّ في جزيرة العرب، وهو الذي أوجد الذريعة لفتح مكة بعد ذلك، فعدد المسلمين الدَّاخلين ما بين صُلح الحُديبية إلى فتح مكة أكثر من عدد المسلمين الداخلين من بعثة النبي إلى صُلح الحُديبية، فقد فتح للنبي مجال الدعوة العالمية، فبعده بدأ يدعو.
فكل هذه البركات حصلت، وسهل بن حنيف لاحظ هذه الملاحظات، وقال: انظروا إلى البركات العظيمة التي لو تابعَنا النبيُّ في رأينا ما الذي كان سيحصل؟ لن تتحقق هذه البركات الإلهية، فالخير كله في طاعة الله ورسوله، وبالتالي تطبَّعت نفوسهم بحيث التقطوا هذا الدرس.
فمهما وقعت في نفسك معارضةٌ لكتاب الله وسنة رسوله فينبغي أن تكون مُستيقنًا أن الخطأ منك وليس من الوحي.
هذا المعنى التربوي العميق الذي تخلَّق عند صحابة النبي خلال هذا الحدث، وقراءة صُلح الحُديبية كفيلةٌ باستلهام دروسٍ وعبرٍ وعظاتٍ متعددةٍ في هذا المسار وحده الذي هو قضية التسليم لله .
المحاور: خاتمةٌ طيبةٌ جدًّا يا أستاذ عبدالله.
نسأل الله لنا ولكم وللأجيال الانقياد والاستسلام لأوامر الله .
ونشكرك شكرًا جزيلًا، وكنا نتمنى أن يكون الوقت أكثر من ذلك.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد.
أيها الإخوة والأخوات، كنا في حلقةٍ خاصةٍ مع الأستاذ الشيخ عبدالله العجيري حول تربية النبي الفكرية لأصحابه، وأخذنا نماذج عظيمةً على مستوى الأفراد والجماعات في تلك المرحلة العظيمة، وتناولنا التربية بالأحداث والقُدوة الفاضلة.
أسأل الله أن يحفظ أجيالنا وأجيالكم بحفظه، وأن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وكونوا معنا الأسبوع القادم، بإذن الله.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
↑1 | "مقدمة ابن خلدون" (ص73). |
---|---|
↑2 | أخرجه أبو داود (4031)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ". |
↑3 | "المنتظم" (1/ 475)، و"تاريخ الرسل والملوك" (2/ 400)، و"البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (7/ 46). |
↑4 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (24259)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين". |
↑5 | أخرجه الترمذي (2981)، وصححه الألباني. |
↑6 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5545)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2987). |
↑7 | أخرجه البخاري (4993). |
↑8 | أخرجه البخاري (5684)، ومسلم (2217). |
↑9 | أخرجه البخاري (2324)، ومسلم (2388). |
↑10 | "تهذيب الآثار" للطبري -مسند عبدالله بن عباس- (1/ 461). |
↑11 | "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" (ص285). |
↑12 | أخرجه البخاري (2731). |
↑13 | أخرجه البخاري (4189). |