المحتوى
مقدمة
الحمد لله، ونُصلي ونُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي المباشر "أسس التربية" من قناتكم قناة "زاد" العلمية.
عنوان حلقة هذه الليلة: "وقفاتٌ تربويةٌ مع سورة الحجرات"، ومع ضيفنا الكريم الشيخ الدكتور: طارق الفارس، وفَّقه الله.
حيَّاك الله دكتور طارق.
الضيف: أهلًا وسهلًا، الله يُحييك يا دكتور خالد، وأُحيي المُشاهدين والمُشاهدات في هذه القناة المباركة قناة "زاد".
المحاور: الله يحفظكم ويُبارك فيكم، بحكم اختصاصكم في التفسير وعلوم القرآن؛ لماذا اخترتم هذه السورة فيما يتعلق بسلسلتنا في "أسس التربية" بارك الله فيكم؟
سبب اختيار موضوع اللقاء
الضيف: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا هدايات القرآن، ونورنا بنوره.
المحاور: آمين.
الضيف: القرآن بنوره هو تربيةٌ وهدايةٌ للتي هي أقوم، ولو جمعناه بمجموعه كله فهو يُؤدي إلى تربيةٍ واحدةٍ: تربية النفس، وتوحيد الله .
فسورة الحجرات جاءت بمنظومةٍ متكاملةٍ مُتسلسلةٍ فيما يتعلق بتربية النفس تربيةً راعت الأولويات وطبيعة النفس البشرية، وراعت الفرد والمجتمع، بحيث إنها أصبحت تبني إنسانًا بناءً مُتكاملًا، وفي نفس الوقت تُعلمه مهارة التعامل مع الغير، بحيث يكون هذا التعامل تعاملًا متكاملًا يُؤدي إلى الأخوة التي تؤدي إلى أن ينتظم الناس في هذه الحياة، وبالتالي يكونون مُنتجين، مُنجزين، يُحققون العبودية لله وعمارة الأرض.
المحاور: جميلٌ، حينما أسمع منك ما ذكرتَ يا شيخ طارق أتذكر المسارات الثلاثة التي كنا قد تحدثنا عنها في عددٍ من اللقاءات في حلقات التربية، وهي:
- علاقة الإنسان مع الله.
- وعلاقة الإنسان مع نفسه.
- وعلاقة الإنسان مع الناس.
فهذه الأمور الثلاثة ظاهرةٌ جدًّا في هذه السورة حقيقةً، فتربية الإنسان نفسه فيما يتعلق بعلاقته مع الله ومع الآخرين، وعلى رأسهم النبي ، والمؤمنون وغيرهم، وحتى الكثير ممن تكلموا عن قضية التربية على القيم والمبادئ والبناء الأخلاقي والأُسري انطلقوا من سورة الحجرات بشكلٍ واضحٍ وكبيرٍ، حتى إن عددًا من المؤلفين -وأنتم أدرى بهذه القضية؛ لأن هذا مجال تخصصكم- أفردوا هذه السورة في كتبٍ مُستقلةٍ؛ لما فيها من دروسٍ وفوائد.
إذن نحن نتحدث الآن عن وقفاتٍ تربويةٍ مع سورة الحجرات، ولعلكم تُباشرون الحديث حول هذا الموضوع، خاصةً فيما يتعلق بالمسار الأول، وهو: التربية على الأدب مع الله ، ومع نبيه .
الكتاب والسنة مصدر التربية الناجحة
الضيف: أحسنت، بارك الله فيك، فعلًا إذا أردنا أن تنجح التربية فيجب أن يكون مصدرها الأول ومنبعها هو من الكتاب الذي جاء من عند الذي يعلم ما في النفوس، وهو الله ، ولن يُصلح النفوس إلا الذي خلقها، وذلك من خلال هذا الكتاب، ومن خلال سنة النبي .
المحاور: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140].
الضيف: فعلًا، هذا التسلسل هو الذي ميَّز التربية في الشريعة، وقد لا تجدها في غيرها، فلكي تصل النفس إلى التربية الحقيقية لا بد أن يكون أول أدبٍ هو مع خالقها، ورأس الأدب هو توحيده جلَّ وعلا.
فالتربية الحديثة بالوضع البشري الموجود الآن لا تتطرق إلى هذا التسلسل، فقضية توحيد الله عندهم ليست قضيةً أساسيةً، وبالتالي نجد التربية عندهم أصبحت كالتجارب، يأتي ناسٌ بأفكارٍ ثم يُغيرونها، وهكذا تتغير بين فترةٍ وفترةٍ، وليست قائمةً على قاعدةٍ صلبةٍ حقيقيةٍ من الله.
المحاور: هي قائمةٌ على شيءٍ واحدٍ، وأنا أذكر هذا في سلسلة "أسس التربية"، بالنسبة لهذه النظريات هي قائمةٌ على متعة الإنسان ولذَّته، كيف يُحقق ذلك؟
ولذلك فإن مناهجهم البشرية اختلفت من رؤى إلى رؤى، وبعضهم يسقط، وبعضهم يرد على بعضٍ، لكنهم لم يخرجوا بنظرياتٍ من خلال المنهج الرباني كالقرآن.
الضيف: وإن كان الواحد يستفيد من الدراسات الميدانية والتجارب الموجودة عندهم، لكن تبقى الأولويات مهمة؛ لأن المُتربي بدونها يفقد توازنه.
الأدب مع الله محور التربية
الآن دعنا نقول: إن محور التربية هو الأدب مع الله، فأول ما يلفت نظرنا من هذه الآيات: النداء في مطلع السورة، يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1]، فالله يُنادي عباده بأحب أوصافهم إليهم، فأنا وأنت وكل مؤمنٍ أحب وصفٍ عنده أن تقول له: أنت مؤمنٌ؛ لأن هذا يستلزم أنه مؤمنٌ بالله، وبرسوله، وبكتابه، وباليوم الآخر، هذا الوصف الذي نُوصف به نحن، ومَن المُنادي؟ الله .
وأصعب ما عند المؤمن أن تسلب منه صفة الإيمان، تقول له: يا كافر، يا فاسق؛ ولذلك جاءت في نفس السورة، وسنأتي لها: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات:11]، إنسانٌ مؤمنٌ وبعد ذلك تقول له: لا، أنت غير مؤمنٍ، أنت فاسقٌ. هذه شديدةٌ على المؤمن.
فجاء الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وهنا تتفتح أجهزة الاستقبال عند العبد؛ ولذلك انظر في القرآن كله إذا جاء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعدها إما أمرٌ، وإما نهيٌ، هذا كله في تهيئةٍ لاستقبال الأمر والنهي.
المحاور: يعني: حُسن استهلال، سبحان الله!
الضيف: أو براعة استهلالٍ، نعم، هذا يدخل في هذا.
فلما يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تنتظر الأجهزة الأمر والنهي، ولن تُعارِض، وهذا في حياتنا مسلكٌ تربويٌّ، فإذا أراد الواحد أن يأمر ابنه، أو كائنٌ مَن كان: كالمدير، والرئيس يأمر مرؤوسه، والملك يأمر مَن هم تحته، والوزير، وهكذا، فلضمان تلبية الطلب يُناديه بأفضل أوصافه، حتى نحن مع أبنائنا إذا أردت أن تأمر وتنهى تقول له: يا أبا فلان. وتُكنيه، يا بطل، يا ناجح، يا مُتفوقًا في دراسته.
المحاور: جميلٌ.
الضيف: حتى إذا وجدنا مَن هم في الطرقات أو في الشوارع وكان أحدهم على أمرٍ غير حسنٍ في لباسه، أو في سمعه، فأفضل طريقةٍ لنصحه وردعه عما هو عليه أن يُنادى بأفضل أوصافه ويُستثار: إما بغيرته، أو بقبيلته، أو بتفوقه، يُقال له: أنت فلان بن فلان، معروفٌ، كيف تفعل كذا؟! هذه سلوكياتٌ لا تليق بك، أنت الذي عرفناك في المدرسة متفوقًا، كيف تفعل هذا؟!
المحاور: وجهك يُبَشِّر بالخير الذي يشع نورًا.
الضيف: نعم، يُؤتى بمثل هذه العبارات، وهذا مسلكٌ قرآنيٌّ مُطَّردٌ، انظر الآن: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، مُطَّردٌ في الأسلوب القرآني، وحتى عند العرب، وفي السنة، وهذا من طبيعة البشر، فإذا أردت من واحدٍ أن يسمع كلامك لا تقل له: يا فاسق، سكِّر هذا، أو نزِّل الصوت، أو لا تفعل كذا. فمن الطبيعي أن تكون منه ردَّة فعلٍ.
وانظر كيف استثاروا مريم: يَا أُخْتَ هَارُونَ، استثاروها بأخيها الصالح: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، هي الآن جاءت مُتَّهمةً بالزنا والسِّفاح.
المحاور: ما نادوها باسمها، وإنما نسبوها للطهارة.
الضيف: نعم، استثاروا حميتها وقرابتها: أنتِ من عائلة كذا، كيف يحصل هذا الكلام؟! ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3] أي: يا ذُرية مَن حملنا مع نوحٍ. وكان هذا الكلام لبني إسرائيل، يُذكرهم الله : إنكم أنتم من ذُرية مَن حملنا مع نوحٍ، الذرية التي نجت، فكيف تفعلون وتنقضون العهود؟ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، أنتم ذُرية الذين حملناهم من نوحٍ، ونوحٌ كان عبدًا شكورًا، فكيف يحصل منكم نقض العهود يا بني إسرائيل؟!
فهذا الأسلوب مُطَّردٌ في القرآن والسنة.
أولًا: الاستسلام والانقياد لشرع الله
الأدب الأول: يقول الله: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] أي: إذا حكم الله بأمرٍ أو شرع شرعًا لا تُعارضوه، أو تبحثوا عن غيره، فيكون الأدب الأول مع الله .
المحاور: الاستسلام.
الضيف: الاستسلام والانقياد، وهذا -كما قلت- براعة استهلالٍ لأمورٍ أخرى ستأتي بعد ذلك؛ ولذلك لاحظ: الآن مقدمةٌ بدأت بأجمل وصفٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ثم توضيح النهي ما هو؟ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثم بعد ذلك: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1].
أنا ذكرتُ النهي وشخَّصتُ القضية: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، طيب، ما المطلوب بعد ذلك؟
لا بد أن أُعطيه حلًّا وعلاجًا: وَاتَّقُوا اللَّهَ معنى هذا: انسوا ما فات من الأخطاء، وابدؤوا الشيء الجديد بتقوى الله .
والتقوى هي: أن تجعل بينك وبين معاصي الله وقايةً من العذاب، يعني: باجتناب النواهي، هذا معناها العام، لكن هنا المراد بها معناها الخاص: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وإذا علمنا أن هذه السورة لها سبب نزولٍ، وهو: أنه حصلت حادثةٌ معينةٌ، فأنزل الله هذا الأمر يُربي فيه المؤمنين آنذاك، وإلى يوم القيامة.
المحاور: يعني: الذي أفهمه من كلامك -حفظك الله- أن لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هذا الأمر وهو عدم الاستجابة للنهي لا يمكن أن يتأتى إلا إذا اتَّقيتم الله.
الضيف: نعم، هذا ربطٌ جميلٌ.
طيب، إذا نهيت الناس عن أمرٍ خطأ لا تُعلِّقهم، وإنما تُعطيهم الحلَّ والعلاج الصحيح فيما بعد، ثم تجعل هناك حافزًا ودافعًا ذاتيًّا، الذي هو: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، فإذا فعلتم هذا الخير إن الله سميعٌ عليمٌ به، وفي المُقابل تهديدٌ للذي لا يؤدي هذا الأمر.
طبعًا سبب النزول هو ما حصل في وفد بني تميم الذين جاءوا إلى النبي ، فقال أبو بكرٍ : أمِّر عليهم القعقاع بن زرارة. وقال عمر : لا، بل أمِّر عليهم الأقرع بن حابس. فقال أبو بكرٍ: ما أردتَ إلا خلافي. قال عمر: ما أردت إلا خلافي[1]أخرجه البخاري (4367).، هذا الكلام يحصل بحضور النبي .
المحاور: بشرية الصحابة، سبحان الله!
الضيف: حتى يُقال: تقابلت وجوههما فتلاحيا، يعني: من شدة الأمر، يعني: لحاهما أصبحت قريبةً من بعضٍ.
المحاور: سبحان الله العظيم!
الضيف: لكن انظر الآن فضل هؤلاء الناس، القرآن يُحاكيهم ويُسايرهم، هم يفعلون، ثم بعد ذلك لما نزلت هذه الآيات ارتدع أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، فكان عمر بن الخطاب بعد ذلك إذا تكلم عند النبي لم يسمع كلامه حتى يستفهمه[2]أخرجه البخاري (4367).؛ مخافة أن يتقدم بين يدي الله ورسوله .
فهذا هو المحور الأول للتربية مع الله ، وإذا قلنا: مع النبي فهو مُشَرِّعٌ تبعًا لشرع الله .
المحاور: ومن خلال ما حصل من أبي بكر وعمر في هذا الموقف، سبحان الله العظيم! هذا يؤكد قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فحصلت الاستجابة السريعة.
الضيف: لِمَ؟
المحاور: لما يُحييكم الله.
الضيف: فإذا أردتم الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة فعليكم بالاستجابة لله ولرسوله .
المحاور: نحن عندنا في مجال التخصص: تُعدّ الأمراض النفسية وما يتعلق بجوانب الاضطراب المُرتبطة بالقلق والتوتر والاكتئاب ... إلى آخره عالميًّا رقم واحدٍ، مع أنك تجد أن هؤلاء يتلذذون ويتنعمون بالمُتع ذات اليمين وذات الشمال، لكن فعلًا لم يصلوا إلى قول الله : لِمَا يُحْيِيكُمْ.
فإذا أردنا الحياة الحقيقية كما قال الله في آيةٍ أخرى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فعلى الإنسان أن يستجيب لأمر الله ورسوله ، وهذه ظاهرةٌ في سورة الحجرات.
تفضل يا شيخ، الله يحفظكم.
ثانيًا: التربية مع النبي
الضيف: المحور الثاني: التربية مع النبي ، وأيضًا تكرار النِّداء، ولا شك أن هذا من باب الشَّفقة، والقاعدة في القرآن تقول: إن التأسيس مُقدَّمٌ على التأكيد، فيقول الله مرةً أخرى في ذكر الأدب مع النبي : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:2]، ولا يزال الخطاب للمؤمنين آنذاك، وللأمة من بعدهم.
وهنا فيه نهيٌ أيضًا: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] هذا واحدٌ، والثاني: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] يعني: في حياته إذا تكلم لا أحدَ يرفع صوته، وبعد مماته إذا سمعنا أحدًا يقرأ سيرته لا نرفع أصواتنا، أو إذا جاءنا أمرٌ أو حكمٌ من عنده لا نرفع أصواتنا فوق صوته فنرد حكمه.
المحاور: وهذا الذي يهمنا نحن.
الضيف: هذا المهم من ناحية تقرير ما نعتقده، وأيضًا الجانب الثاني جانبٌ سلوكيٌّ، وقد ذُكِرَ عن العلماء والسلف شيءٌ عجيبٌ في التعامل مع النبي ، فلا يليق بإنسانٍ يجلس في مجلسٍ يقرأ أحاديث النبي في مسجدٍ، أو في أي محضنٍ تعليميٍّ، أو أي مكانٍ يقرأ كتابه، أو يقرأ أحاديث النبي وهو يتكلم.
كان الإمام مالك -رحمه الله- يقول: إن هذا يدخل تحت قوله: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فهو كمال توقيرٍ لهذا النبي .
المحاور: وكان بعضهم يتهيأ لمجلس الحديث الذي يُحدِّث به عن النبي .
الضيف: يتزين ويتطيب كالإمام مالكٍ وغيره.
المحاور: وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله : لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل، فقال ابنٌ لعبدالله بن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دَغَلًا. قال: فزَبَرَه ابن عمر، وقال: أقول: قال رسول الله ، وتقول: لا ندعهن![3]أخرجه مسلم (442)..
وعن عبدالله بن مغفل : أنه رأى رجلًا يخذف، فقال له: لا تخذف؛ فإن رسول الله نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف، وقال: إنه لا يُصاد به صيدٌ، ولا ينكى به عدوٌّ، ولكنها قد تكسر السنَّ، وتفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أُحدثك عن رسول الله أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف، وأنت تخذف! لا أُكلمك كذا وكذا[4]أخرجه البخاري (5479)، ومسلم (1954)..
فهذا أيضًا أمرٌ عظيمٌ جدًّا، مع أن الواحد ربما يكون فيه سلك التدين، ولكنه يضل في جانب الاستسلام الحقيقي والأدب مع الله ومع رسوله .
الضيف: وأيضًا لا زالت الآيات تُحاكي هؤلاء القوم العِظام؛ لأنهم يعيشون في حياةٍ أي تصرفٍ منهم ينزل عليهم وحيٌ من الله، ولا شك أن هذا يدل على علو النفس لهؤلاء الناس.
فانظر الآن وصل الأدب إلى درجة أننا لا نرفع أصواتنا فوق صوت النبي ، وطبعًا الأثر المُترتب على هذا: أن نُعطي أهل العلم والفضل والمكانة العالية مكانتهم واحترامهم، ولا نرفع أصواتنا فوق أصواتهم، فهذا الذي ينعكس علينا، وإن كان النبي يختلف؛ لكونه مُشَرِّعًا، وغيره غير معصومٍ، لكنه أدبٌ، فلا يُستساغ أن يُتكلم مع إنسانٍ له مكانته وفضله، سواءٌ في العلم، أو السياسة، أو غير ذلك ويُرفع الصوت أمامه، ويُنادى باسمه المُجرد: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2]، فأنا يمكن أن أقول لك: يا خالد، وأنت تقول لي: يا طارق، ومع ذلك الأليق أننا لا نُنادي بعضنا إلا مثلًا: بأبي فلان، وكذا.
فالنبي لا يليق أن يُقال له: محمد، ولا يليق أن يُقال: عن أبي هريرة ، قال محمدٌ: كذا. نفوسنا ما تتحمل، وقلوبنا حسَّاسةٌ، ولا نستطيع أن نقولها أبدًا؛ لأننا نخشى أننا أنزلناه من قدره .
وهذا ثابت بن قيس بن شماس، وهذا يهمنا، وهو مسلكٌ تربويٌّ مهمٌّ.
المحاور: يا ليتنا ننتبه للوقت يا شيخنا.
الضيف: ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه كان صوته جهوريًّا، فلما نزلت هذه الآية: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، والنتيجة: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ يعني: لئلا تحبط أعمالكم: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، وحبط الأعمال معناه: أنه يُلاقي الله كافرًا، من أهل النار، فهذا الصحابي ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه مرض، ولزم بيته، فافتقده النبي .
المحاور: تأثرًا بالآية.
الضيف: ظن أنه المقصود بهذه الآية، فالنبي افتقده، فأرسل اثنين من الصحابة، قال: اسألاه. فرأياه مُصفرًّا مريضًا، فقالا له: ما لك يا ثابت؟! قال: لقد حبط عملي. قالا: وما ذاك؟ قال: كنتُ أرفع صوتي. فرجعا إلى النبي ، فذكرا له الكلام، فقال: بل هو من أهل الجنة[5]أخرجه مسلم (119)..
فالمقصد هنا: انظر القلوب الحسَّاسة، ونحن الواحد منا يسمع مواعظ ولا يتأثر، وهذا كان في المدينة، وفيها يهودٌ ونصارى ومنافقون، فما قال: إن الذين فعلوا هذا هم اليهود والنصارى. وإنما قال: أنا، وأنزلها على نفسه؛ ولهذا انظر النتيجة: بشَّره النبي بالجنة.
المحاور: يعني: لم يفعل كما يفعل البعض؛ يسمع للتوجيهات ويقول: لستُ أنا المقصود، هذا فلانٌ المقصود.
الضيف: نعم، يُوزع، فإذا سمع شيئًا في خطبةٍ أو في موعظةٍ أو شيءٍ قال: يقصد فلانًا. لا، أول مسلكٍ سلكه هذا الصحابي أنه أنزلها على نفسه مُباشرةً؛ ولهذا بشَّره النبي بالجنة.
المحاور: فأَرْعِ لها سمعك؛ إما أمرٌ تُؤمر به، وإما نهيٌ تُنهى عنه، سبحان الله!
جميلٌ، قبل الفاصل هل بقي شيءٌ حول ما يتعلق بالأدبين مع الله ورسوله ؟
الضيف: جزئياتٌ بسيطةٌ: انظر إلى المنظومة الكاملة في الإقناع، يعني: بعدما جاءت الآية بهذا الترتيب: نداءٌ بأحب الأوصاف، ثم تشخيصٌ، ثم ذكر العلاج، ثم ذكر المثوبة، انظر الآن الله قال هنا -وهذا من باب المثوبة-: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، ماذا لهم؟ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3]، فغض الصوت عند رسول الله يؤدي إلى المغفرة والأجر العظيم.
ثم نلاحظ: امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ يعني: هؤلاء الذين غَضُّوا أصواتهم، وتربوا على هذا، الله امتحن قلوبهم، أي: صفاءها ونقاءها، فأصبحت محلًّا لتقبل التقوى والأوامر والنواهي.
وأصل الامتحان: الاختبار، كما يُختبر الذهب بالنار فيخرج رديئه، ويبقى جيده، فهكذا أصبحت قلوب هؤلاء الناس؛ لأنهم عظَّموا هذا الرجل ، فأصبحت النتيجة أن قلوبهم مُهيَّأةٌ.
ثم ضرب الله مثالًا -نختم به هذا المحور- أيضًا للإقناع والإشباع النفسي بأخذ هذه المنظومة: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4]، فهذا خطأٌ، والقرآن لا يتركك هكذا، وإنما يُعلمك ما هو الصحيح؛ ولهذا قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات:5]، وهذه نزلت في وفد بني تميم عندما جاءوا إلى حُجرات زوجات النبي يضربون الأبواب ويُنادون: يا محمد، يا محمد. والنبي يسمع ولا يُجيبهم؛ تربيةً لهم، حتى إن أحدهم قال: يا محمد، اخرج -يعرف أنه موجودٌ- إن حمدي زينٌ، وإن ذَمِّي شَينٌ. يعني: لو قلتُ فيك شعرًا فإن مدحي زينٌ، وذمِّي شَينٌ. فقال : ذاك الله [6]أخرجه الترمذي (3267)، وصححه الألباني.، الذي مدحه زينٌ وذمُّه شَينٌ ذاك الله، ولستَ أنت.
المحاور: لم يكونوا مسلمين؟
الضيف: لا، قبل إسلامهم، هذا وفد بني تميم، ومنهم: الأقرع بن حابس، وأُسيد بن حُضَير، فسبحان الله! كيف ربَّاهم النبي حتى أصبحوا بعد ذلك قادةً؟!
المحاور: جزاك الله خيرًا على هذه السباحة في هذا البحر الخضم، وبإذن الله نعود معكم بعد الفاصل أيها الإخوة، فكونوا معنا.
آداب تلاوة القرآن
الفاصل:
القرآن كنزٌ عامرٌ بالفضائل والخيرات، وللوصول إلى فوائد هذا الكنز لا بد من استعمال مفاتيحه، وهي آداب تلاوة القرآن:
- فمنها: إخلاص النية لله تعالى: فقد أخبر النبي أن من أوائل مَن تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة: قارئًا للقرآن، يُقال له: قرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئٌ[7]أخرجه مسلم (1905)..
- ومنها: التَّسوك والتَّطهر من الحدث الأصغر.
- واستقبال القبلة.
- وعند البدء بالتلاوة يستعيذ بالله من الشيطان، قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98].
- ويُرتل القرآن بتمهلٍ وتبيينٍ للحروف، وكان ابن عباسٍ يقول: "لأن أقرأ سورةً أُرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله"[8]"التفسير الوسيط" للواحدي (4/ 372)، و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (1/ 54)..
- ويُستحب تحسين الصوت بالقرآن من غير تكلُّفٍ ولا تمطيطٍ يخرج عن حدِّ القراءة، قال النبي : زيِّنوا القرآن بأصواتكم[9]أخرجه ابن ماجه (1342)، وأبو داود (1468)، وصححه الألباني..
- وإذا مرَّ بآية رحمةٍ أن يسأل الله من فضله، وإذا مرَّ بآية عذابٍ أن يستعيذ بالله من العذاب.
- ويُستحب الاجتماع على تلاوة القرآن وتدبره وتدارسه، فقد قال : ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَن عنده[10]أخرجه مسلم (2699)..
المحاور: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا حميدًا مع وقفاتٍ تربويةٍ مع سورة الحجرات، وكنا نتحدث عن الآيات الأولى في التربية على الأدب مع الله ورسوله .
وأذكرُ شيخنا كلامًا قرأته -إن لم تخُني الذاكرة- في "تفسير ابن كثير" عند قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3]، ذكر قولًا لعمر مفاده: أنه كُتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجلٌ لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجلٌ يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ[11]"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (7/ 368).؛ ولذلك هذا أمرٌ من نِعَم الله ، فالإنسان إذا اقترف الذنب وترك وتاب، لكنه بقي يشتهي الذنب، ويُجاهد نفسه؛ فهو من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.
طيب، لعلنا نُكمل الآيات حول ما يتعلق بالتربية حول التَّثبت في نقل الأخبار، وغير ذلك من أمورٍ، حفظكم الله.
التثبت في نقل الأخبار
الضيف: أيضًا لا زال النداء بأجمل الأوصاف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، فبعد أن ربيت النفس على الأدب مع الله ورسوله ، جاء الآن بناء الشخصية الإسلامية، ووصفها أيضًا بمواصفاتٍ منها: التَّثبت في نقل الأخبار، ومُواجهة الشائعات؛ لأن الإنسان الذي يتثبت في نقل الأخبار هذا دليل التَّعقل والرزانة والاتزان.
المحاور: بلا شكٍّ.
الضيف: وفي مقابله مَن؟
المحاور: المُتهور.
الضيف: نعم، الذي لا يتثبت، وهذه علامة طيشٍ وتهورٍ، والقرآن جاء ليبني هذه النفس هذا البناء.
المحاور: لذلك قال: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ.
الضيف: طبعًا، ولم يُبين هذه الجهالة ما هي؟ لتذهب النفس كل مذهبٍ في الإصابة التي تكون ما هي؟ وأحيانًا تؤدي إلى حروبٍ وقتلٍ ودماءٍ بسبب نفسٍ طائشةٍ غير مُتزنةٍ، ما تثبتت في نقل الأخبار.
وهذه الآية أيضًا لها سببها: فقد ذكر كثيرٌ من المُفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق.
فقد جاء عند الإمام أحمد وغيره: بعث رسول الله الوليد بن عقبة إلى الحارث بن أبي ضرار الخزاعي ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ، فرجع، فأتى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث. فلما غشيهم قال لهم: إلى مَن بُعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولِمَ؟ قالوا: إن رسول الله كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله. قال: لا، والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيته بتَّةً، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله قال: منعتَ الزكاة، وأردتَ قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلتُ إلا حين احتبس عليَّ رسولُ رسولِ الله ، خشيتُ أن تكون كانت سخطةً من الله ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ إلى هذا المكان: فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:6- 8][12]أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة (18459)، وقال مُحققو "المسند": حسنٌ بشواهده..
فالنبي تثبت، أو أرسل غيره، وإلا لو أخذ بكلامه لحصلت حربٌ ودماءٌ وكارثةٌ.
فبعض الناس تأتيه مثلًا رسالةٌ في الجوَّال، فتُعجبه؛ فينشرها مُباشرةً، وقد يكون فيها نقل تفسيرٍ خاطئٍ، أو نقل أحاديث غير صحيحةٍ، أو معلوماتٍ طبيةٍ خطيرةٍ.
المحاور: تدخل في هذا يا شيخ؟
الضيف: طبعًا، هذا كله يدخل دخولًا أوَّليًّا؛ لأنه دلالةٌ على عدم التثبت: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ، فالفاسق هذا يُقصد به صحابيٌّ، وليس مقصودًا به الفسق في أخلاقه ودينه، وإنما الفسق بمعناه اللغوي: الخروج من الشيء الطبيعي، فهو في تلك اللحظة خرج من وضعه الطبيعي، فقط في تلك اللحظة.
المحاور: فمن باب أولى غيره.
الضيف: نعم، بل ذاك في زمن الصحابة الأطهار الأبرار، وعدم وجود الفتن، وجاءهم مثل هذا الخطاب، فما بالك بزماننا نحن؟!
المحاور: خاصةً مع وسائل التواصل يا شيخ.
الضيف: هو بالدرجة الأولى.
المحاور: ومن المُضحكات المُبكيات حينما تُنشر رسالةٌ بأن فلانًا قد مات، وهو لم يمت، كمثالٍ.
الضيف: وانظر أثرها على الشخص الذي موتوه.
المحاور: فالإنسان حينما يأتيه شيءٌ معينٌ -حتى لو كان من ثقةٍ- يحتاج أن يتأكد، كذا يا شيخ؟
الضيف: أكيدٌ، وهناك قاعدةٌ في نقل الأخبار والتثبت، فالخبر إما أن يأتيك من صادقٍ يُقبل خبره، أو كاذبٍ لا يُقبل خبره، أو فاسقٍ يتثبت، ولكن أحيانًا خبر الفاسق قد يكون صحيحًا.
المحاور: وخبر الصادق ليس مُؤكدًا، طيب، ما الحل؟
الضيف: التثبت: فَتَبَيَّنُوا، وفي القراءة الأخرى: "فتثبتوا"[13]وهي قراءة حمزة والكسائي كما في "السبعة في القراءات" (ص236)، و"النشر في القراءات العشر" (2/ 251)..
المحاور: وقد يكون خبر الكاذب صادقًا.
الضيف: الفاسق أو الكاذب.
نرجع إلى قضية: ما هو نوع الخبر؟
فهناك خبرٌ يستحق أن تنشره وتنفع الناس به، سواءٌ في دينهم، أو في حياتهم العامَّة، وليس أي خبرٍ، لا بد أن نتثبت فيه.
المحاور: خذ مثالًا يا شيخ الفتاوى.
الضيف: هذه خطيرةٌ فعلًا.
المحاور: خطيرةٌ، ولا بد من الاستيثاق، ونسبة القول لقائله.
إذن هنا نقول: تستوي هذه الأوجه كلها مع هذه الأصناف بالتثبت، كذا يا شيخ؟
الضيف: بلى، وأحيانًا قرائن الأحوال، يعني مثلًا: هناك شخصٌ عُرف أنه فاسقٌ، ودائمًا يكذب، وآخر صادقٌ، ومعروفٌ، ومصادره دائمًا موثوقةٌ.
المحاور: فالقرائن لها دورٌ.
الضيف: لكن القصد من هذا أن الإنسان يكون ذا شخصيةٍ مُتَّزنةٍ تدل على الرزانة والتثبت؛ لأنه بعدما أُدِّب مع الله ، ورُبِّي على الأدب مع رسوله ، جئنا لهذه التهيئة لهذه النفس.
المحاور: جميلٌ.
الالتزام بشرع الله وعدم تجاوزه
الضيف: وفي الآيات التي بعدها قال الله : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات:7] لأصبحت عليكم مشقةٌ، وهم الصحابة، كما يقول قتادة[14]"تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (22/ 291).، وهم الذين كانوا أصوب رأيًا، ومع هذا أمرهم الله ألا يُشيروا على النبي ، واليوم هؤلاء المُعارضون لشرع الله أسخف رأيًا، وأطيش عقلًا، ويريدون أن يُشرعوا شيئًا على خلاف دين رسول الله .
وقوله: لَعَنِتُّمْ أي: لو أطاعكم في كثيرٍ من الأمر لحصلت عليكم مشقةٌ؛ لأن النبي يأتي كلامه وحيًا من الله، وهو أعلم بما يُناسب الناس.
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ [الحجرات:7] بطاعتكم للرسول وللأوامر، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7]، وفي مقابله: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].
المحاور: ما المراد بذكر هذه الآية في هذا السياق يا شيخ؟ هل لها علاقةٌ بما سبق؟
الضيف: لها علاقةٌ، والمعنى: لا تتهوروا فتظنوا مصالحكم في شيءٍ فتُطالبون به.
المحاور: نعم.
الضيف: وقد يكونون يسمعون من شرائع اليهود والنصارى وغيرهم، وقد حصل مع الصحابة هذا فعلًا؛ فمعاذ لما رأى النصارى في الكنائس يُعظِّمون قساوستهم، قال للنبي : أنت أولى أن نسجد لك. وفعلًا سجد[15]أخرجه ابن ماجه (1853)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ.، وهذا أمرٌ مُحرمٌ.
فالقصد أن الربط في هذه الآية: أنتم التزموا وتأدَّبوا مع نبيكم ، فلا تُطالبوا بأشياء؛ لأنه لو أطاعكم لأصبحت عليكم مشقةٌ وعنتٌ.
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ بهذه الشرائع التي أتى بها النبي ، وهذا من بناء النفوس.
المحاور: ممتاز، لكن هذه الجزئية كيف نستفيد منها في وقتنا المعاصر؛ لكون النبي قد تُوفي؟
الضيف: هذا كما في أول السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، فقد يأتي إنسانٌ ويقول: نحتاج أن نُضيف إلى الشرع، أو نُغير، سواءٌ بالتشدد، أو بالانحلال.
يعني مثلًا: يأتي شخصٌ ويعترض على حجاب المرأة، أو قِوامة الرجل على المرأة، وبعضهم يرونه تمييزًا عُنصريًّا ضد المرأة، وبالتالي يرفعون أصواتهم، ويُقدِّمون كلامهم بين يدي الله ورسوله .
أو يقول: نظام الشريعة هذا نظامٌ مُتأخرٌ، والزمن تطور، ويجب أن نتطور معه!
فكل هذه الأشياء فيها رفع الصوت على شرع الله من خلال رد أوامر الله وأوامر رسوله .
المحاور: جزاكم الله خيرًا شيخنا، وبارك الله فيكم.
قضية الفتن التي تُواجه المسلم عمومًا لا شكَّ أنه يحتاج إلى منهجيةٍ في مواجهة هذه الفتن، فهل سورة الحجرات ربَّت المسلمين على هذا الجانب؟
لو أنكم أشرتم إلى هذا، بارك الله فيكم.
دور التربية الصحيحة في مواجهة الفتن
الضيف: وهذا جاء بعد ذلك في قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فاقتتال طائفتين له نتائج كارثيةٌ، كما يُسمونها الآن: حرب داخلية، أو حرب عصابات، وهذه الحرب الداخلية تأكل البلد أكلًا، وقد يكون أثرها أشدَّ من الحرب العسكرية الأخرى، وهي تُعتبر من النوازل والكوارث على الأمة.
طيب، مَن يتصدى لها؟ هم الذين هُيِّئوا من قبل، وتأدَّبوا مع الله ورسوله ؛ ولهذا لن يتصدى لهذه النازلة الخطيرة على الأمة إلا هؤلاء الذين اتَّصفوا بالرزانة والتعقل والتثبت في تعامُلهم مع الأخبار والشائعات بعد الأدب مع الله ورسوله .
إذن فرقٌ بين الذين يتربون على الحق والصواب والخير والمنهج الإيجابي، والذين لا يتربون على ذلك، فالذين لا يتربون سيقعون في فخ الفتن، وقد يظنون أنهم يُحسنون صنعًا، لكن الأوائل هؤلاء هم الذين يحمون أنفسهم وغيرهم.
المحاور: صحيحٌ، هذه هي نفوس الرجال الكبار الذين تربوا على ما ذكرتَ، حفظك الله.
الضيف: نتائج عملية تربوية تراكُمية، فلما جاءت المصائب لا يتصدى لها أي أحدٍ، والصلح بين اثنين فيه مشقةٌ، فما بالك بالصلح بين قبيلتين وحزبين وتوجهين، ... إلى آخره؟!
فلن يتوجه ويتصدى لكوارث الأمة إلا هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله ، وقد يكون هذا قاسمًا مُشتركًا، فنحن نقول دائمًا: دعنا نُجرب أنفسنا، إذا جاءنا الخبر -سواء شفهيًّا أو عبر مواقع التواصل- دعنا نقيس أنفسنا.
والآن نحن نفرح حين يكون لنا السبق في الخبر، ولا تعرف ما نتائجه؟ حتى لو كان صحيحًا.
فمن عدم الرزانة أن يتصدى الإنسان في الكوارث، فتلك صفات الرجال الذين يتصدون ويتحملون كل ما يأتي إليهم.
المحاور: لاحظ: هذا على مستوى القتال بين طائفتين، فكيف بمَن لا ينجح مع أبنائه؟!
يعني: ربما يحصل خلافٌ وشجارٌ معينٌ -مثلًا- بين أبٍ وزوجته، وإذا بهذا الأب يُؤجج هذا الخلاف داخل الأسرة، والسبب في ذلك: عدم وجود هذه الأرضية التي لم يتربَّ عليها؛ ولذلك نحن ندعو الإخوة والأخوات إلى أهمية التربية والعمل على قضية التعرف على ما يمكن أن يكون حدًّا للمشكلات، والنظر في قضايا منهج القرآن، ومنهج النبي ، والاستفادة -كما أشرنا أيضًا- من بعض الإجراءات والنظريات التي يُستفاد منها من الناحية العملية والإجرائية، وما شابه ذلك، فلا شك أن هذا من القضايا المهمة جدًّا؛ ولذلك فإن التربية مهمةٌ، والمنتج التربوي هو الأهم.
فنحن نربي حتى نُوجد المنتج التربوي، وهذا له دورٌ في البناء والوقاية من الوقوع في الإشكالات، والحد من المشكلات، ومن ذلك ما يحصل من الخلافات داخل الأسرة، أو في مستوى أعلى من ذلك.
نعم شيخنا.
الضيف: جاء في التهيئة لهؤلاء الرجال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي، فهذه الفئة الباغية: حَتَّى تَفِيءَ إلى ماذا؟ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاحظ: إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، ثم قال: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9].
فحتى الصلح ليس متروكًا لأهواء المُصلحين، ولا لميلهم، فبحكم الضعف البشري قد يكون الصلح على أمرٍ مُحرَّمٍ؛ ولهذا قال: حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ إلى شرع الله، ثم قال بعد ذلك: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، فكل هذه الإجراءات لها نتيجةٌ، فإن لم تأتِ بنتيجةٍ فتُقاتل الفئة الباغية.
ثم جاء بعده: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وبماذا تُوازن هذه الأخوة؟ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
وتلاحظ أن في هذه الإجراءات كلها وقايةً، فالذي يعمل على التثبت في نقل الأخبار لن يكون في يومٍ من الأيام مُتسرعًا ومُتهورًا، والذي يعمل على الإصلاح بين المسلمين لن يُفكر يومًا في أن يكون نَمَّامًا.
المحاور: جميلٌ.
الضيف: فكل هذه الأوصاف كانت وقايةً له من الوقوع في أمورٍ مُحرَّمةٍ.
المحاور: جميلٌ.
شيخنا، لعلنا نأخذ فاصلًا، وبالمناسبة: الفاصل عن الإصلاح بين الناس، فكونوا معنا أيها الإخوة.
الضيف: ما شاء الله.
الإصلاح بين الناس
الفاصل:
قال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، وقال النبي : ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة[16]أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509)، وصححه الألباني..
والإصلاح بين الناس هو وظيفة الأنبياء، وقد كان النبي يذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، ولو بَعُدَت المسافة، فقد بلغه أن بعض الناس اقتتلوا، فقال لأصحابه: اذهبوا بنا نُصلح بينهم[17]أخرجه البخاري (2693)..
وينبغي أن يتحلَّى المُصلح بالعقل والحكمة والفِطنة، فمَن تدخل في الصلح بغير هذه الصفات أفسد أكثر مما يُصلح.
ولأهمية الإصلاح بين الناس وعِظم ثمرته أباح الشرعُ الكذبَ لأجله، قال النبي : ليس الكذَّاب الذي يُصلح بين الناس، فيُنْمِي خيرًا، أو يقول خيرًا[18]أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605)..
ومن أعظم أبواب الإصلاح: الإصلاح بين الزوجين، فشأنه عظيمٌ؛ لما فيه من مُحافظةٍ على الأسرة والأولاد.
وفي الإصلاح حقنٌ للدماء، وإبقاءٌ للأخوة الإيمانية، وسببٌ لنزول الرحمة من الله سبحانه.
المحاور: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، ونحن مع نهاية هذه الحلقة حول سورة الحجرات، ودروس تربوية من هذه السورة الكريمة العظيمة.
التربية على الأخلاق
شيخنا الكريم، في آخر هذه الدقائق، ماذا عن التربية على الأخلاق؟ لا شك أن سورة الحجرات مليئةٌ بهذا الجانب.
تفضلوا بارك الله فيكم.
الضيف: نعم، وجود مَن يتصفون بمثل هذه الأوصاف المذكورة سابقًا يدل على أن المجتمع سيكون وضعه آمنًا ما دامت فيه أخوةٌ وإصلاحٌ وأناسٌ عقلاء غير مُتهورين، فهذه كلها تدل على أن المجتمع في أمنٍ.
وجاءت مُكملات التربية في الأدب مع الناس، والتخلص من بعض الأوصاف التي كانت سببًا في وجود ما يحصل من اضطرابٍ بين الناس، والله يقول أيضًا -والخطاب تكرر بأحب الأوصاف-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [الحجرات:11]، فالذي تسخر منه يمكن أن يكون أحسن منك، وقد يكون مُستقبله أحسن منك، وقد يكون أفضل من هذا الساخر إيمانًا.
فعادة القرآن أن يأتي الخطاب عامًّا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فيشمل الرجال والنساء، ولكن هنا لا، فيه خطابٌ حاصلٌ للنساء، وهذا طبعًا باب شفقةٍ ورحمةٍ من الله كي ينتبهن لذلك: وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].
المحاور: نستأذنك شيخنا الكريم، معنا اتِّصالٌ من مصر، من الأخ إسلام.
ضرورة العمل والمُجاهدة
حيَّاك الله يا أخ إسلام.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: بالنسبة لسورة الحجرات: طبعًا هي سورةٌ عظيمةٌ، والآية الأولى أنا أتعلم منها كثيرًا، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، فهذه الآية العظيمة أنا أتعلم منها: أن الإنسان يجعل حياته كلها وفق هذه الآية.
يعني: أنا أعلم أن الله هو الذي أنزل لنا هذا الوحي، ويُخبرنا بأن ما وضعه الله في هذا الوحي هو الحق والصواب، وأنا أكون على يقينٍ من هذا، فأجعل حياتي كلها وفق هذه الآية، وأجعل حياة أبنائي وفق هذه الآية؛ بأني أعلم أن كل أمرٍ أمرني به الله أو أمرني به الرسول هو الحق والصواب.
المحاور: أحسنت.
المتصل: وهو الخير لي.
المحاور: أحسنت.
المتصل: وإن كنتُ لا أستطيع أن أفعله، فأُجاهد نفسي، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
فأنا أرى أن هذه الآية تُعتبر دفعةً لي بأن أعلم أن الله هو الذي أمرني بألا أُقدِّم عليه أي شيءٍ، وأن أستمع إلى كلام الله ، وأن أحاول في حياتي كلها أن أجعل هذا هو النبراس لحياتي.
المحاور: بارك الله فيك.
المتصل: بصراحةٍ هذه آيةٌ عظيمةٌ، وأستفيد منها كثيرًا بأن أحاول أن أُغير حياتي، وأتبع ما يقوله الله ورسوله .
المحاور: أسأل الله أن يُوفقك أخي إسلام، وبارك الله فيك، واثبت على ما أنت عليه، وهذا هو التوجيه السليم، ونموذجٌ رائعٌ، بارك الله فيك.
إذا كان هناك تعليقٌ سريعٌ، واستكمال ما لديك.
الضيف: جزاه الله كل خيرٍ، وأسأل الله أن يُثبتنا وإياك، وهذا هو التعامل الحقيقي مع القرآن؛ يعمل المسلم، وإن لم يستطع فيُجاهد، فقد لخَّصها حقيقةً الأخ إسلام، جزاه الله خيرًا.
الأخلاق السيئة التي جاءت في الآيات
الآن انظر إلى الأخلاق السيئة المنهي عنها في هذه الآيات:
- السخرية: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11].
- اللَّمْز: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات:11] يعني: إخوانكم من حولكم.
- التنابز: وَلَا تَنَابَزُوا [الحجرات:11].
المحاور: لو نُعرِّف اللَّمز والتَّنابز حتى يفهم الناس أكثر.
الضيف: اللَّمْز هو: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1] الطَّعَّان، والعَيَّاب، والاغتياب للناس، والتَّنابز: وصفهم بألقابٍ لا يُحبونها وغير صحيحةٍ: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ يُقال للمؤمن: يا فاسق! وقد يقال للمؤمن: يا يهودي! يا نصراني!
ثم قال تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات:11]، إنسانٌ آمَنَ وأصبح مؤمنًا تقول له: يا فاسق! يا كافر! يا يهودي! يا نصراني! يا مُبتدع! هذه ذمَّها الله فقال: بِئْسَ مَن يقول هذا الكلام: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
فتصور معي يا أبا عبدالرحمن بيتًا طبيعة العلاقة بين أفراده قائمةٌ على السخرية واللَّمز والتنابز.
المحاور: والله تأتينا في الاستشارات أشياء كثيرةٌ من هذا، ولا نريد أن نذكر نسبةً، لكن تأتي أشياء تُؤلم النفس: من تعامل الآباء مع الأبناء، أو بين الزوجين، تفضل.
الضيف: وحتى مع الزوجين هذا كسرٌ للشخصية، فلا يمكن أن يرتقي الشخص بنفسه وهو يعيش على هذا، وتعوَّد على السخرية، فكيف يُواجه زملاءه في المدرسة؟ وكيف يُواجه المجتمع؟ وكيف يُعدُّ هذا غدًا إنسانٌ مُنتجٌ ومُوجِّهٌ وقائدٌ يقود في أي مجالٍ: في خطب الجمعة، أو التعليم، أو الإعلام؟! هذا كُسِرَ في بيته.
أضف إلى ذلك: لو كان هذا مُنتشرًا في المجتمعات، فكيف يكون الحال؟!
المحاور: بسبب سوء خلق الذي تعامل معه.
الضيف: خلاص، كُسِرَ تمامًا، هو تعوَّد، فلو أن أحدًا أثنى عليه يظن أن هذا يسخر منه، فكيف لو كان هذا وضعًا عامًّا من خلال الإعلام أو المؤسسات التربوية، وانتشرت بينها السخرية والتنابز بالألقاب واللَّمْز؟! فهذه الأشياء لا تصنع إنسانًا ناجحًا؛ ولذلك الشريعة أغلقت هذه المنافذ.
المحاور: مع أنها كلماتٌ.
الضيف: كلماتٌ يظهر أثرها.
المحاور: سبحان الله!
الضيف: طبعًا لا شكَّ أن هذه الأشياء تُنافي الأخوة.
المحاور: يا سلام!
الضيف: هكذا يأتي البناء مُتكاملًا ومُتسلسلًا.
المحاور: جميلٌ، إذن لا بد من التخلية من هذه القضايا؟
الضيف: نعم، والعبارة دائمًا تقول: التخلية ماذا؟
المحاور: قبل التحلية.
الضيف: وهذا استفدناه منك، جزاك الله خيرًا.
المحاور: وجزاك الله خيرًا، وإضافةً لذلك: الغيبة وسُوء الظن.
الضيف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، فلا تظن بأحدٍ سوءًا بمجرد التوقع، وهذا أيضًا لو أنك تعيش في نفس المجتمع، فكيف ستُصلح أعمالك وكلما فعلتَ شيئًا تحتاج أن تُبرر من أجل أن يفهمك الناس بشكلٍ صحيحٍ؟! يعني: تُصبح شخصيةً ازدواجيةً لا تُنتج.
المحاور: الثقة غير موجودةٍ، ضعيفةٌ، ومهزوزةٌ.
الضيف: الثقة غير موجودةٍ، فهذه الشريعة أغلقت كل هذه المنافذ، ثم اختصرت هذا الكلام كله بعد الخطابات المتعددة بـيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، الآن الخطاب عامٌّ: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لتتفاخروا ولتتباهوا؟ لِتَعَارَفُوا، ثم قال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
المحاور: حسمًا لهذه القضية.
الضيف: حسمًا لهذه القضية بألفاظٍ إعجازيةٍ، والخطاب القرآني يأتي بألفاظٍ قليلةٍ، ومعانٍ كثيرةٍ، وهذا نوع إعجازٍ وإيجازٍ.
المحاور: وهذا شيخنا هو غاية المنهج التربوي الإسلامي، وهذا الذي يريده الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فنريد في منهجنا التربوي الإسلامي أن نُعَبِّد الناس لله ، ونُعَبِّد أنفسنا؛ حتى نُحقق التقوى.
شكر الله لكم شيخ طارق، انتهى الوقت، وكنا والله نريد أن نستكمل.
الضيف: الجلوس معك يا أبا عبدالرحمن يمضي بسرعةٍ.
المحاور: بارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرًا.
كان معنا فضيلة الشيخ الدكتور: طارق بن أحمد الفارس، أستاذ التفسير وعلوم القرآن.
أسأل الله أن يُبارك فيما سمعنا حول هذه الآيات العظيمة، وكم نحن بأمس الحاجة أيها الإخوة إلى العودة إلى كلام الله وكلام النبي نستلهم منه لتربية أنفسنا وغيرنا.
أسأل الله لكم التوفيق والسداد.
وسلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (4367). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (4367). |
↑3 | أخرجه مسلم (442). |
↑4 | أخرجه البخاري (5479)، ومسلم (1954). |
↑5 | أخرجه مسلم (119). |
↑6 | أخرجه الترمذي (3267)، وصححه الألباني. |
↑7 | أخرجه مسلم (1905). |
↑8 | "التفسير الوسيط" للواحدي (4/ 372)، و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (1/ 54). |
↑9 | أخرجه ابن ماجه (1342)، وأبو داود (1468)، وصححه الألباني. |
↑10 | أخرجه مسلم (2699). |
↑11 | "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (7/ 368). |
↑12 | أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة (18459)، وقال مُحققو "المسند": حسنٌ بشواهده. |
↑13 | وهي قراءة حمزة والكسائي كما في "السبعة في القراءات" (ص236)، و"النشر في القراءات العشر" (2/ 251). |
↑14 | "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (22/ 291). |
↑15 | أخرجه ابن ماجه (1853)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ. |
↑16 | أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509)، وصححه الألباني. |
↑17 | أخرجه البخاري (2693). |
↑18 | أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605). |