المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي المباشر "أُسس التربية" من قناتكم قناة "زاد العلمية".
الكثير منا يتساءل: كيف يمكن أن أكون ناجحًا في التواصل مع الآخرين؟ وكيف أعطانا النبي نموذجَ القدوة فيما يتعلق بقضية التواصل مع الآخرين؛ حتى نكون ناجحين، ونُوصل رسالتنا التربوية بطريقةٍ صحيحةٍ؟
فحلقتنا اليوم -أيها الإخوة والأخوات الأكارم- عن "التواصل التربوي في المنهج النبوي"، ونستضيف فيها سعادة الدكتور أسامة بن عبدالله عطا، المشرف التربوي والأكاديمي والمختص بالدعوة وطرق التدريس في (الماجستير) و(الدكتوراة)، وكانت رسالته في (الماجستير) بعنوان: "أساليب التواصل الدعوية في منهاج خير البرية".
حياك الله دكتور أسامة.
الضيف: الله يُحييك، ويبارك فيك.
المحاور: يا مرحبًا، الله يحفظك.
الضيف: بعد حمد الله ، والصلاة على رسول الله ، أشكر هذه القناة على ما تقوم به من دعوةٍ إلى الله، ومن تبصيرٍ بأساليب التربية الخاصة، وأشكر استضافتكم دكتور خالد، حفظكم الله ورعاكم.
سبب اختيار العنوان
المحاور: أكرمك الله، لماذا اخترت هذا العنوان من عناوين أخرى؟
الضيف: أساليب التواصل الدعوية والتربوية تحتاج إلى تأصيلٍ؛ لأهمية التواصل في هذا العصر خاصةً، فالمُتَتَبع لمجالات التربية يجد أن التواصل أصبح علمًا الآن، له مُقوماته، وعناصره، وأهدافه.
المحاور: صحيحٌ، نحن في الجامعة عندنا مقرر "مهارات الاتصال" إجباريٌّ على كل طلاب الجامعة في جميع التخصصات.
الضيف: نعم، صحيحٌ، فعلم التواصل لعله الآن يعتمد في كثيرٍ من مراجعه على النظريات الغربية، ويتناسى الكثيرون أن التأصيل لهذا العلم وُجد في سيرة النبي ؛ ولذلك كان الاختيار لهذا الموضوع.
المحاور: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وتدخل في ذلك هذه القضايا، فالإنسان مدنيٌّ بطبعه كما قال ابن خلدون، فهو اجتماعيٌّ، وعندئذٍ يحتاج إلى أن يعرف: كيف يتواصل مع الآخرين؟ ويمكن أن نستفيد من النظريات الغربية، لكن لدينا معينٌ سابقٌ لهذه النظريات، فنحتاج أن نُبرز ما نحن بأمس الحاجة إليه.
ولا نريد أن نُشْغِل جمهورنا من الأسر باللغة الأكاديمية، فالتواصل له نوعان: التواصل اللفظي، وغير اللفظي.
فلو أخذنا إطلالةً سريعةً جدًّا حول هذين القسمين من خلال مشكاة النبوة؛ حتى نستطيع أن نرى ما يمكننا أن نُطبقه في ميدان الأسرة خاصةً، وميدان التعليم والمجتمعات، فتفضلوا.
التواصل نوعان
الضيف: نعم، كما تفضلت -حفظك الله ورعاك- التواصل على قسمين: تواصل لفظي، وتواصل غير لفظي.
فالتواصل اللفظي يعتمد على الكلمة المنطوقة، أو المرسومة -الرمز المرسوم- سواءٌ كان الحديث أو الكتاب.
والتواصل غير اللفظي لا يُقصد به التواصل الحركي فقط، أو لغة الجسد، أو اللغة الرمزية، أو اللغة الأُسرية، وإنما يندرج تحت التواصل غير اللفظي أنواعٌ أخرى كثيرةٌ من التواصل، ومن ذلك: التواصل الحركي، والعاطفي، والعقلي، والحسي، والتخيلي.
المحاور: وهذا كله سيأتي معنا، إن شاء الله.
الضيف: وكلها لها شواهد.
أولًا: التواصل اللفظي
المحاور: لعلنا نبدأ بشواهد ما يتعلق بالتواصل اللفظي دكتورنا، ونحاول أيضًا أن ننتبه للوقت، فلو أبحرت بنا حول شواهد التواصل اللفظي، وكيف يُمكن أن نستفيد من هدي النبي في ذلك؟
الضيف: نعم، التواصل اللفظي هو: اللغة الملفوظة والمكتوبة، ومعلومٌ أن مهارات اللغة تنقسم إلى أربعة أقسامٍ: الاستماع، والحديث، والقراءة، والكتابة، فكيف استثمر النبي هذا النوع من التواصل في دعوة الناس وتربية أصحابه، وفي إرشاد مَن يحتاجون إلى إرشادٍ وتوجيهٍ؟
مهارة الاستماع
أول هذه المهارات: مهارة الاستماع، فلقد كان النبي مُستمعًا جيدًا، وهذا يا دكتور ما نحتاج إليه في مدارسنا وبيوتنا، وفي المؤسسات التربوية المختلفة.
المحاور: أن يكون المُربي مستمعًا للمُتربي.
الضيف: أن يكون المربي مستمعًا للمُتربي.
المحاور: وعندئذٍ لا بد من بيئةٍ حواريةٍ.
الضيف: بالضبط، وخاصةً أن الاستماع له فوائد كبيرةٌ وكثيرةٌ.
المحاور: هل يمكن أن تُعطينا شواهد لهذه القضية؟
الضيف: يعني: من أهم الشواهد في مسألة الاستماع الجيد الذي يؤدي إلى استجابةٍ جيدةٍ قول الله : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]، فأدى الاستماع الجيد إلى الاستجابة الجيدة.
المحاور: من مدعووين غير مسلمين إلى دُعاةٍ.
الضيف: إلى دعاةٍ، ومنها قول الله : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، والله بَيَّنَ ذلك: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف:204]، ويؤكد ذلك أيضًا كثيرٌ من الآيات التي تُقدِّم السمع على سائر الأعضاء والحواس الأخرى.
المحاور: جميلٌ، طيب، ومِن هدي النبي ؟
الضيف: مِن هدي النبي أنه كان يستمع إلى مَن يستفسر ويسأل، فمَن يجيء متعلمًا من الصحابة أو من غيرهم، سائلًا عن الدين، ومُتعلمًا ومُستفهمًا؛ يُرعيه أُذنه، ويستمع له جيدًا، فذلك الرجل الذي جاء يسأل عن الإسلام: "أيُّكم محمدٌ؟" فأشاروا إليه، فيسأل ويُقسم عليه بالله: "أَأَلله أرسلك إلينا؟" ثم يسأل بعد ذلك: "بما أمرك؟" والرسول يستمع إليه، ويُجيب عليه .
وكذلك الاستماع الجيد إلى مَن يرى الناس أنه لا يجب الاستماع إليه؛ كالشاب الذي جاء يستأذن النبي في الزنا، فنهروه[1]أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال محققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح"..
المحاور: وأشد منه عُتبة بن ربيعة أبو الوليد، وهو يُفاوِض النبي على ترك الرسالة والنبوة، والرسول يستمع له، حتى قال له: "أفرغت يا أبا الوليد؟"[2]"البداية والنهاية" ط. هجر (4/ 159)..
هل لديك شيءٌ آخر أيضًا؟
هذه صورةٌ من صور عمق الاستماع حقيقةً.
الضيف: وأيضًا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1].
المحاور: إذن هذا ما يتعلق بالاستماع، وكما يُقال: المستمع الجيد متحدِّثٌ جيدٌ؛ ولذلك النبي في قصة أبي الوليد حاوره حتى رجع بغير الوجه الذي أتى به، فبعدما استنفد كل ما عنده بدأ النبي يُوجهه بما لديه، وكما ذكرتم في قصة الشاب وغيره.
الضيف: وأنا أقول يا دكتور: إذا لم نستمع لأبنائنا فأين سيذهبون؟!
فالشاب يريد أن يُعبر عن أحاسيسه ومشاعره، وبعض الآباء في ظل الانشغال بأمور الحياة قد لا يستمع كثيرًا إلى ابنه.
المحاور: وسيذهبون إلى مَن يستمع إليهم.
الضيف: وربما يكون ذلك الذي يذهب إليه ليس بالناصح الأمين، وربما أفشى سرًّا، وربما ...
المحاور: هذا الكلام جميلٌ، بارك الله فيك.
إذا كان هناك شيءٌ من التواصل اللفظي كشواهد، ومن خلال مواقف النبي أيضًا، نركز عليها أكثر، فالمنهج القرآني واضحٌ جدًّا، وبَيِّنٌ، ومهمٌّ، وقد ذكرنا مثلًا شاهدًا من القرآن، لكن نريد المنهج النبوي كذلك، وما يتعلق بالتحدث والكتابة والقراءة، فهل هناك ما يتعلق بهذا؟
مهارة التحدث
الضيف: فيما يتعلق بالتحدث: النبي عُرِفَ بجوامع الكلم، فكان يُنَوِّع في أساليبه، وقد امتلك أفانين الكلام خيرُ الأنام ، فنوَّع في حديثه بين الاستفهام، والتعجب، والترغيب، والترهيب.
المحاور: لو عندك شيءٌ من الشواهد يكون جيدًا.
الضيف: وذكر القصص والمواعظ التي تحمل العِبَر والعِظات مما يُؤثر على السامعين؛ ومن ذلك مثلًا قصة أصحاب الغار، فهذه القصة كنا نسمعها ونحن صغارٌ فنُرعيها الأُذن، ونُنصت، ونتفاعل مع أحداثها وكأننا نعيش مع أصحاب الكهف في كهفهم.
وحينما يذكر النبي ذاك الرجل الذي بدأ يدعو بصالح أعماله، فتنفرج الصخرة، فتقول: سيخرجون، ثم إذا بالحديث يقول: لكنها انفرجت فرجةً لا يستطيعون الخروج منها! فنعيش مع الحدث، فيدعو الآخر، فنقول: لعلهم يخرجون، ونتمنى أن يُنقذهم الله من هذه الكربة التي هم فيها، وهكذا إلى الثالث؛ فنفرح ونسعد، ونعيش الحدث مع القصة.
فكان النبي مُصورًا بليغًا، يستخدم أفانين الكلام في التعبير لجذب السامعين، ويُنوِّع الكلام بما يتوافق مع ميول المتعلمين ورغباتهم واختلافهم والفروق الفردية بينهم.
المحاور: ولذلك من المهم جدًّا اطلاع المربين عمومًا على القصص النبوي مثلما يطلعون على القصص القرآني؛ لأن في القصة مثلما تفضلت جانبًا تشويقيًّا، والإنسان يُنزِّل نفسه في شخصيات هذه القصة، وسيكون لها أثرٌ في قضية الاستجابة والتفاعل معها.
وأنت ذكرت قضيتين أساسيتين:
القضية الأولى: ما يتعلق بطريقة النبي ، وأنه كان يستخدم جوامع الكلم، وتجنب كثرة الكلام هديٌ نحتاج أن نقف معه، فالناس يملون من كثرة الكلام.
الجانب الآخر: التنوع في الأساليب، وذكرت من الأساليب المهمة ما يتعلق بقضية القصة كمثالٍ، وأيضًا ما يتعلق بالتحدث.
فهل بقي شيءٌ فيما يتعلق بالتواصل اللفظي دكتورنا؟
مهارة الكتابة
الضيف: تبقى مسألة الكتابة، وإن كان العلماء اختلفوا في مسألة: هل كتب النبي بعد اقْرَأْ [العلق:1]، أم لم يكتب؟ لكن النبي أرسل عامة الرسائل مكتوبةً.
المحاور: وأمر بعض الصحابة بتعلم اللغات، وكما تفضلت راسل الملوك.
إذن نخرج من هذا الكلام بأن يكون الإنسان المربي مستمعًا جيدًا للمتربي، بحيث يُحقق الهدف المنشود.
الضيف: لفتةٌ بسيطةٌ دكتور: الكتابة رمزٌ مرئيٌّ وثابتٌ، له أثره، وربما الكلمة ينساها الإنسان، أو يبقى أثرها كثيرًا، لكن الكتابة أثرها باقٍ؛ ولذلك نغفل كثيرًا عن كتابة وإرسال الكلمات الجميلة لأولادنا، خاصةً في وسائل التواصل.
وأنا أسألك، وأسأل نفسي الآن، وأسأل الإخوة المستمعين: مَن منا أرسل اليوم لابنه رسالةً مكتوبةً جميلةً ورائعةً، كتبها بأسلوبه الرائع، وختمها بـ"ابني الحبيب"، وبدأها بـ"ابني الحبيب"؟ ستبقى هذه الرسالة.
المحاور: أنت تكشف عوارنا هكذا.
الضيف: الله يحفظك، ويجزيك خيرًا.
المحاور: صحيحٌ، هذه لفتةٌ مهمةٌ، فحين نأتي إلى قضية الكتابة: كيف نستطيع أن نستثمرها برسائل؟ والله لا تكلفنا شيئًا.
الضيف: في مسألة الكتابة يا دكتور: أذكر أني كنتُ قد حضرتُ حصةً تطبيقيةً عند أحد الزملاء، فلما رأيته في الحصة أخذه نوعٌ من التوتر والقلق كتبتُ له رسالةً قصيرةً في قصاصةٍ صغيرةٍ، وقلتُ له: أنت معلمٌ متميزٌ.
المحاور: أنت مشرفٌ يا دكتور؟
الضيف: في حالة إشرافٍ، فطويتُ الورقة وأرسلتها مع طالبٍ كان يجلس بجواري، فلما قرأها تبسم، وازداد ثقةً بنفسه، وزال عنه توتره، وكذلك في مجال التعزيز أيضًا.
المحاور: واحتمال يا دكتور أن تجد شخصًا مثلًا في هذا الموقف ربما يسكت، وعندئذٍ ستتأخر قضية التعديل في الموقف، وقد يتحدث بالتوجيه اللفظي فتحدث مشكلةٌ وإحراجٌ، لكن فعلًا هنا الكتابة في محلها الصحيح، جزاك الله خيرًا.
دكتور، لعلنا نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بالتواصل اللفظي، وقبل أن نأخذ فاصلًا دكتورنا الكريم: كيف استثمر النبي التواصل غير اللفظي في تربيته ودعوته وإصلاح الناس؟
ثانيًا: التواصل غير اللفظي: التواصل الحركي
الضيف: التواصل غير اللفظي نبدأه بالتواصل الحركي، فالتواصل الحركي له أثرٌ كبيرٌ جدًّا في السامع، وإثارة ذهنه، وتأكيد المعنى، وقد يكون في كثيرٍ من الأحيان بديلًا عن الكلمة المنطوقة.
المحاور: ماذا تقصد بالحركة يا دكتور؟
الضيف: الحركي هو: لغة الجسد، والإيماءات، والإشارات، وتعبيرات الوجه التي تدل على الغضب أو الحزن.
المحاور: الصورة والشكل.
الضيف: والهيئة العامة من حُسن الهندام.
المحاور: خطَّ رسول الله خطًّا. هل هذه داخلةٌ فيه؟
الضيف: لا، هذه تدخل في التواصل الحسي، أما هنا فيوجد إغماض العينين، أو جحوظ العينين، وتحديق النظر.
المحاور: إذن لغة البكاء، ولغة الجسد: وقوفًا، وحركةً، وجلوسًا، ولغة العين.
الضيف: بالضبط.
المحاور: إشارة، وما شابه ذلك، ... إلى آخره، هاتِ بعض الأمثلة.
الضيف: الأمثلة كثيرةٌ في هذا الجانب في حياة النبي ؛ لأنه في كثيرٍ من الأحيان قد تُغْني لغة الجسد عن المعنى، من ذلك مثلًا قول النبي : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وقرن بين أصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام[3]أخرجه أبو داود (5150)، وصححه الألباني.، وفرَّق بين أصابعه قليلًا، ولم يذكر شيئًا آخر.
المحاور: أبلغ.
الضيف: هذه أبلغ، ونُقِلَت بهذه الصورة، وكذلك: بُعِثْتُ والساعة كهاتين[4]أخرجه البخاري (4936)، ومسلم (2950)..
المحاور: من شدة التقارب.
الضيف: وكان مُتَّكئًا فجلس، وقال: ألا وقول الزور[5]أخرجه البخاري (6274)..
المحاور: من قوة الموقف.
الضيف: من قوة الموقف، يعني: نقل لهم بشاعة الجُرم بهذه الحركة.
المحاور: وهذا الموقف جمع بين اللفظي وغير اللفظي.
الضيف: بالضبط.
المحاور: لكن بدأ بغير اللفظي؟
الضيف: بالحركي: كان متكئًا فجلس.
المحاور: الذي أثار الصحابة.
الضيف: فأثار الصحابة، نعم.
المحاور: ثم قال لهم: ألا وقول الزور حتى قالوا: "ليته سكت".
الضيف: والإشارة كثيرةٌ في حياة النبي ، فقد ذكر أنه في آخر الزمان يكثر الهرج، قالوا: وما الهرج؟ فأشار بيده هكذا إلى القتل[6]أخرجه البخاري (85).، ما تكلَّم، فأغنت الإشارة عن المعنى، ونُقِلَت بهذه الصورة.
المحاور: فكيف يُمكن أن نُكيف هذا في واقع الأسرة يا دكتور؟ يعني: اجتهادًا.
الضيف: في واقع الأسرة.
المحاور: متى يحتاج الأب إلى مثل هذه المعاني؟
فالكثير منا ربما يستخدم الجانب اللفظي والتوجيه المباشر، بغض النظر عن النقاط التي ذكرناها في الأساليب الأخرى، لكن دعنا من هذا اللفظي وما يتعلَّق به، فكيف يمكن أن أحتاج إلى غير اللفظي؟
أقنعني يا دكتور بأن ذلك سيكون أبلغ مع أبنائي.
الضيف: لو كان الوالد يُتقن هذه، ويجب أن يُتقنها ويتدرب على التواصل غير اللفظي، أو التواصل الحركي؛ لما له من أثرٍ، فلو أنه يعظ ابنه ويُرشده وينصحه، ثم ضمَّه إليه، أو قال له: ادنُ مني، أو دنا هو منه، وتحرك إليه، أو أمسك بيده، فهذا تحركٌ أيضًا.
المحاور: كما فعل النبي مع الشاب قبل أن يُحاوره، وهذا هو الجانب الحركي الذي هو القرب الجسدي.
الضيف: القرب الجسدي والمكاني، ومما يُميِّز كلام النبي وأفعاله: أن الدليل الواحد يُستخدم في أكثر من شاهدٍ، فهذا يُستخدم في التواصل الحركي، ويُستخدم في التواصل العاطفي، ويُستخدم في التواصل الحسي.
المحاور: كما سيأتي معنا، جميلٌ.
وأيضًا ما يظهر من العين، فبإمكان الابن أن يقرأ ما في عين أبيه: أنه مثلًا مسرورٌ، أو أنه ليس كذلك؛ ولذلك قد لا يحتاج إلى أن يتحدث الأب ويُعطي الكلمات والعبارات، لكنه كما يقال: "واللبيب بالإشارة يفهمُ"، فقد تكفي إشارة اليد، أو إشارة العين، أو ما شابه ذلك.
لعلك تأذن لنا بفاصلٍ دكتورنا الكريم، ونعود إليك، بإذن الله.
كونوا معنا أيها الإخوة.
الفاصل:
الإنسان في هذه الحياة يمر بأطوارٍ مختلفةٍ، فأطفال اليوم هم شباب الغد، وشباب اليوم هم شيوخ الغد.
وقد جاء الإسلام بآدابٍ شرعيةٍ تُناسِب تقلُّب الإنسان في هذه الأطوار، ومن أجلِّ هذه الآداب: توقير الكبير، ورحمة الصغير، يقول النبي : إنَّ من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم[7]أخرجه أبو داود (4843)، وحسنه الألباني..
فكبير السن في الإسلام مُوَقَّرٌ، مُكَرَّمٌ، ومن مظاهر توقيره وإكرامه: إظهار الأدب عند الحديث معه: من خفض الصوت، واختيار أحسن الكلمات، ومُناداته بأحب الألقاب إليه، وطلب مشورته ورأيه، والإصغاء إليه، وإبداء الاهتمام بما يقول، وتقديمه في الأمور بما يُظهر إجلاله: كتقديمه عند الدخول والخروج، والطعام والشراب، والكلام، ونحو ذلك، وتفقُّد حاجاته، ودفع الأذى عنه، خاصةً إنْ كان مريضًا، ولا سيما الأقارب وذوو الأرحام، والحرص على زيارته، وتأليف قلبه، والتقرب إليه بما يتيسر من الهدايا.
وأما الرحمة بالصغير: فقد ضرب أروع الأمثلة فيها، فعن أبي هريرة : أن الأقرع بن حابس أبصر النبي يُقَبِّل الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال: "إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ واحدًا منهم"، فقال رسول الله : مَن لا يَرحم لا يُرحم[8]أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318)..
ومن مظاهر الرحمة بالصغير: العطف عليه، والشفقة به، خاصةً إذا كان يتيمًا، ومُلاعبته، ومُلاطفته، وإدخال السرور عليه، والعناية بطعامه وشرابه ولباسه بما يتناسَب مع عمره، ومشاركته في اهتماماته وإنْ كانت بسيطةً وصغيرةً دون ضجرٍ، أو ضيقٍ، أو تهكمٍ، وتجنيبه كل ما فيه ضررٌ عليه في دينه، أو خلقه، أو بدنه، وتحبيبه في الخير، وتحذيره من الشر، وعدم تحميله فوق طاقته من خلافاتٍ أُسريةٍ مما يُشوش ذهنه، ويُفْقِدُه الإحساس بالأمان والهدوء النفسي، قال رسول الله : ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويُوقِّر كبيرنا[9]أخرجه الترمذي (1919)، وصححه الألباني..
المحاور: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات ومرحبًا بكم، وعودًا مع الاتصال التربوي بالمنهج النبوي، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.
مرحبًا بك دكتورنا الكريم، وعودًا إليك -الله يحفظك-، وكنا قد وقفنا عند الجانب الحركي كنموذجٍ من نماذج التواصل غير اللفظي، ولعلنا أيضًا حتى نستثمر وقتنا ندخل في التواصل العقلي.
وقبل هذا نُذكِّر الإخوة بأن مَن أراد المداخلة أو الإرسال فالعناوين تخرج لكم على الشاشة، بإذن الله .
أين هذه الشواهد المتعلقة بحاجتنا نحن كمربين في قضية إقناع الآخرين فيما يتعلَّق بقضية مخاطبة العقل؟
التواصل العقلي
الضيف: التواصل العقلي لا شك أنه يُخاطِب العقل، ويقوم على تقديم المقدمات، واستخلاص النتائج، ويقوم على الأدلة العقلية والمنطقية.
المحاور: نأخذ شاهدًا يا دكتور، ونستنبط منه.
الضيف: الشاهد: لو قلنا مثلًا: حديث النبي في المرأة التي جاءت إلى النبي تقول: إنَّ أمي ماتت ونذرت أن تحج، أفأحج عنها؟ فكان من الممكن أن يقول النبي : نعم، حُجِّي عنها. ووصلت الرسالة، لكن النبي قال لها: أرأيتِ لو كان على أمك دَينٌ؟ أكنتِ قاضيةً؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء[10]أخرجه البخاري (1852)، ومسلم (1148).، فنقلها النبي إلى قضيةٍ منطقيةٍ؛ لتكون قاعدةً عامةً، وليس لها فقط.
المحاور: ولتزداد القناعة.
الضيف: وتزداد القناعة، ولو أنه أجاب عليها فقط لجاء آخر يقول: إن أمي فعلت كذا، أأقضي عنها؟ وهكذا تأتي الأسئلة الكثيرة، لكن بهذا النقل العقلي أجاب على الجميع.
المحاور: يمكن القياس عليه.
الضيف: يمكن القياس عليه، وهذه من القواعد الأساسية في التربية، فالرسول لما يقول: وفي بُضْع أحدكم صدقةٌ، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها صدقةٌ؟! أيضًا استدلالٌ عقليٌّ منهم، لا بد أن يُواجه بالعقل والحُجَّة، فقال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ[11]أخرجه مسلم (1006)..
المحاور: وأنا أقول: إن النفوس البشرية دكتورنا -كما تعرف- تتكون من مجموعةٍ من المجالات، منها: المجال العقلي.
الضيف: فالمجال العقلي لا يُهمل.
المحاور: هناك حاجاتٌ معينةٌ لا بد منها للإنسان: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]؛ ولذلك ظهرت بعض الأشياء فيها حكمٌ، وبعض الأشياء ما ظهر فيها حكمٌ؛ لكي يستسلم الإنسان.
فالشاب الذي جاء يستأذن النبي في الزنا استخدم النبي معه المنطق، ولم يقل له: إنه حرامٌ؛ لأنه يدرك أنه حرامٌ، لكن قال: أتُحبه لأمك؟[12]أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال محققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح".، فالشاب يتصور الآن أن أمه يُزنى بها، فقال: لا، جعلني الله فداك. فقال: وهكذا الناس لا يُحبونه لأمهاتهم.
وفي ظل الشبهات التي قد تتخطف الأجيال ذات اليمين وذات الشمال نحن بحاجةٍ إلى التدرب على التواصل العقلي؛ من أجل تكسير هذه القضايا.
ما أدري إذا كان لك تعليقٌ على هذه النقطة.
الضيف: الشبهات الآن تتطلب من الآباء والمعلمين أن يتدربوا على الحُجج العقلية والمنطقية؛ لإقناع الشباب؛ لأن كثيرًا من الأمور والمواقف لا تحتاج إلى إقناعٍ بالأدلة القرآنية، فقد يكون البعض متشككًا في بعض الأمور، فلا بد من تقديم الأدلة المنطقية التي تقوده بما يتحدث هو به، وبما يعتقده من تقديم العقل على النقل.
وأذكر يا دكتور -الله يحفظك- أنه كان هناك درسٌ لبعض الجاليات، وكنتُ أتحدث فيه، فكان من بينهم رجلٌ يبدو أنه يحضر فقط للتشكيك وإثارة الشبهات، فسأل سؤالًا.
المحاور: وقد يكون ليس هذا هدفه.
الضيف: ممكن، لكن تكررت منه أكثر من مرةٍ تلك الشبهات، ومن بين الأسئلة التي طرحها، قال: كيف يقوم ملك الموت بقبض أرواح مئات الناس، وفي نفس الوقت في مكانٍ آخر؟ يعني: يموت أناسٌ آخرون، وهكذا آلاف الناس، بل أحيانًا أكثر من ذلك يموتون في لحظةٍ واحدةٍ، وفي وقتٍ واحدٍ! فكيف يتصور هذا؟!
الحقيقة أن الله ألهمني إجابةً فوريةً، أنا أعتبرها توفيقًا من الله بلا شكٍّ، فقلتُ: أرأيت (الإيميلات) التي تُرسَل؟ (الإيميل) الواحد يمكن أن تجمع فيه عشرات ومئات الناس، وبضغطةٍ واحدةٍ يصل للجميع: في أمريكا، وإفريقيا، وآسيا.
المحاور: والله توفيقٌ يا دكتور.
الضيف: أي والله، في لحظةٍ واحدةٍ يصل إلى آلاف الناس، وفي أماكن متفرقةٍ، أليس كذلك؟ ومَن الذي صنع هذا؟ بشرٌ. أنت تُحدِّث الآن عن قدرة الخالق .
المحاور: الله، فماذا قال؟
الضيف: سكت، حتى إن الجميع كانوا ينتظرون الإجابة، وربما كانت في أعينهم تلك الشكوك، فتبسم الجميع مما يُعبر عن الرضا.
المحاور: إذن هذا من التواصل العقلي المهم، يعني تصور: لو كان الإنسان لا يملك هذا، فالتوفيق من الله، وربما تعلق بهذه الشبهة بعض الموجودين والحاضرين، حتى لو قلنا: إنه -مثلًا- لا يُريد الحق، سيبقى أن هذه الشبهات خطَّافةٌ؛ ولهذا تجب العناية بهذا الموضوع.
الضيف: دكتور، نقطةٌ أخيرةٌ فقط بعد إذنك، رجلٌ أعرابيٌّ جاء للنبي من فَزارة، يقول: يا رسول الله، إنه قد وُلِدَ له ولدٌ أسود! وفي روايةٍ يقولون: يُريد أن ينفيه. ونفي الولد فيه اتِّهامٌ كبيرٌ، وقذفٌ بدون دليلٍ.
هذا الموقف ما يتطلب موعظةً، فلم يقل له: لا تتحدث عن زوجتك، ولا تجعل للشيطان مدخلًا إلى قلبك، وزوجتك هذه أم أولادك. فهذا الأمر لا يصلح معه إلا المنطق العقلي، فهنا كان جواب النبي في ذلك.
المحاور: اللهم صلِّ وسلم على محمدٍ.
الضيف: هل لك من إبلٍ؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمر، قال: هل فيها من أورقٍ؟ يعني: يميل للسواد، بل إنه في روايةٍ قال: إن فيها لورقًا[13]أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500).، يعني: أكثر، جمعٌ، قال: فأنَّى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرقٌ، قال: فلعل ابنك هذا نزعه[14]أخرجه البخاري (5305).، يميل إلى بعض الجينات القديمة من الأجداد وغيرهم.
المحاور: الله أكبر، اللهم صلِّ وسلم على محمدٍ.
الضيف: فذهب هذا الرجل وهو مرتاح النفس.
المحاور: لا شكَّ.
الضيف: قضيةٌ عقليةٌ منطقيةٌ.
المحاور: وانتهت.
الضيف: وانتهت.
المحاور: وانتهت المشكلة في الذهن؛ ولذلك دائمًا نقول أيها الإخوة والأخوات: إن الإنسان ينشد الاستقرار في حياته، وطبيعة النفس البشرية تردها أشياء يَمنةً ويَسرةً، وليس أحدٌ منا معصومًا من الشهوات والشبهات، لكن لما يأتي هذا التواصل الإيجابي من المؤثرين سيكون نافعًا؛ ولذلك تنبغي العناية بالاستفادة من الذين يُوجهوننا في مثل هذه الجوانب؛ حتى نستطيع أن نكون في حالةٍ من الاستقرار.
لعلنا ننتقل دكتورنا الكريم إلى التواصل العاطفي أو الحسي.
التواصل الحسي
الضيف: طبعًا الحواس هي مصدر تلقٍّ، بل في العملية التعليمية كلما شارك المتعلم بأكثر من حاسةٍ كان التعلم أكثر إدراكًا ومتعةً وأثرًا؛ لذلك يقول الله : قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23]، فالحواس لها دورٌ كبيرٌ في تلقي التعلم، والرسول حرَّك الحواس في كثيرٍ من الأحيان.
يرسم النبي خطًّا مستقيمًا على الأرض، ويرسم مِن حوله خطوطًا أخرى، ثم يتلو قول الله : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ [الأنعام:153][15]أخرجه ابن ماجه (11)، وصححه الألباني..
ومن حُسْن تربيته أنه لم يرسم الخطوط الأخرى مستقيمةً، بل رسمها مُتعرِّجةً بهذه الصورة الحسية.
المحاور: وعلى رأس كل خطٍّ شيطانٌ.
الضيف: أي نعم، ورسم النبي مربعًا، ورسم في وسطه خطًّا مستقيمًا يمتد إلى خارج المربع، ثم أشار إلى أن هذا المربع هو الإنسان، وهذا الخط المستقيم هو أمله، ثم رسم حول الخط المستقيم خطوطًا أخرى، قال: هذه الأعراض، إن نجا من هذا ينهشه هذا[16]أخرجه الترمذي (2454)، وصححه الألباني.، يُبيِّن بذلك أن هذا الخط المستقيم الخارج من المربع هو أمل الإنسان الذي لا ينتهي، ولا يُمكن أنْ يُحقِّق آماله في الحياة، فإن عمره قصيرٌ، والأمل الذي يستطيع أن يُحقِّقه هو أن يسعى إلى مرضاة الله .
المحاور: والله هذا درسٌ، فالتواصل ليس تواصلًا مرتبطًا بالجانب اللفظي فحسب، فالنبي بهذه الصورة الحسية لما بيَّن للإنسان أجله وأمله، وأيضًا الصراط المستقيم في جانبٍ، لكن وجود هذه الوسيلة الإضافية زادت من قضية الإدراك، وهذا مما يزيد من قضية التأثير.
الضيف: نظرية الذكاءات المتعددة لـ(جاردنر) قام بتنظيرها معتمدًا على ما لدى الإنسان من حواس، فصنف المتعلمين إلى: مُتعلِّم بصري، ومُتعلِّم منطقي، ومُتعلِّم لفظي، وأشار إلى ضرورة التنويع في العملية التعليمية بين هذه الثلاثة، وهذا هو مصدر سيرة النبي .
المحاور: جميلٌ، هذا ما يتعلَّق بالتواصل الحسي الملموس والمادي، بقي معنا دكتورنا: التواصل العاطفي والتخيلي، فماذا تقصد بالتواصل العاطفي، بارك الله فيك؟
التواصل العاطفي
الضيف: التواصل العاطفي هو: التواصل المعتمد على الميول والقلب والعواطف والأحاسيس والمشاعر، وهذه لها أثرها الكبير في استجابة المدعو، فإذا أحسن المُربي والمُعلم الولوج إلى قلب المُتعلم والمُتربي فقد أحسن العمل، وحقق الهدف.
المحاور: إذن نحن نُخاطب في التواصل العقلي الجانب العقلي، ونُخاطب هنا في الجانب الحسي جانب المشاعر.
لعلنا نأخذ الشواهد يا دكتور بعد الفاصل، حفظكم الله.
كونوا معنا أيها الإخوة.
الفاصل:
هل تشعر بالقلق حيال تصفح أولادك لشبكة (الإنترنت) وإبحارهم عبر وسائل الاتصال الحديثة؟
وهل ينتابك الخوف من أن تتصيدهم الشياطين الإلكترونية؛ فتنحرف بهم عن النهج القويم والطريق المستقيم؟
وهل ما زلت حائرًا بين منعهم من ذلك، أو السماح لهم به؟
إن كنت كذلك فكُن مطمئنًّا، كل ما عليك هو الالتزام ببعض النصائح التربوية والقوانين الإلكترونية التي تجعلك مطمئنًّا لتصفح أولادك لشبكة (الإنترنت).
لا تمنع أولادك من تصفح (الإنترنت)، ولكن كن واضحًا معهم بوضع قوانين في التعامل معه:
لا تسمح لهم بتصفح الشبكة ليلًا، واحرص على أن تقطع الاتصال بالشبكة وقت النوم، واحرص على تفعيل برامج الأمان في أجهزة الاتصال؛ كي لا يقع أبناؤك فريسةً للمواقع المُخلة بالآداب، أو المواقع المُدمرة للفكر والاعتقاد.
صادِق أبناءك على شبكة التواصل الاجتماعي، وتابع حواراتهم ومشاركاتهم مع أصدقائهم.
تحدَّث مع أبنائك حول سلبيات (الإنترنت)، وما قد يُرتكب فيه من جرائم إلكترونيةٍ وأخلاقيةٍ، فعليهم ألَّا يُصدِّقوا كل ما يقرؤونه عبر (الإنترنت)، وأنْ يتثبتوا منه إن أمكنهم ذلك، فعلى صفحات الشبكة الكثير من المعلومات والأخبار غير الصادقة.
كما أن عليهم ألَّا يستجيبوا لمَن يطلب منهم الصداقة عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلَّا إذا كانوا يعرفونه جيدًا، وألَّا يقوموا بنشر أو إفشاء أي معلوماتٍ تخصُّهم، أو تخص عائلتهم: كأسمائهم الكاملة، أو أرقام هواتفهم، أو حساباتهم البنكية، أو غير ذلك من معلوماتٍ قد يقع الضرر بانتشارها.
وألَّا ينقروا أي رابطٍ إلكترونيٍّ غير مألوفٍ قد يجدونه في حسابهم، أو بريدهم الإلكتروني، خاصةً إذا كان المرسل مجهولًا، وألَّا يُمارسوا عبر الشبكة بيعًا أو شراءً إلَّا بعد إبلاغ الوالدين بهذا القرار، وألَّا يخرجوا للقاء أحدٍ من أصدقاء (الإنترنت) خارج المنزل إلَّا بموافقتكم أو صُحبتكم.
حفظ الله أبناءنا، وجنَّبهم كل سوءٍ ومكروهٍ.
المحاور: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات.
لاحظنا في الفاصل ما يتعلَّق بهذه القضية الكبيرة المرتبطة بـ(الإنترنت) وتعامُل الأبناء معه، وكيف تظهر حاجتنا لجانب التواصل مع الأبناء فيما يرتبط بهذه القضية التي يشتكي منها الكثير؟ وماذا نفعل مع أبنائنا فيما يتعلَّق بوسائل التواصل الاجتماعي، وقضايا التقنية، وما شابه ذلك؟
ليس لنا إلَّا أن نكون قريبين جدًّا منهم، ومتواصلين معهم.
وقد أشار هذا المقطع إشاراتٍ جميلةً جدًّا حول أهمية التحدث والمناقشة والحوار، وهذا تأكيدٌ على قضية: أن نستمع إلى الأبناء، ويستمعوا لنا؛ حتى نستطيع أن نصل معهم إلى نظامٍ، أما ترك الحبل على الغارب، أو عكس ذلك تمامًا؛ فهذه لا شك أنها لا تُجدي.
وكنا قد وقفنا دكتورنا الكريم عند ما يتعلَّق بالتواصل العاطفي، فلو أبحرت بنا مع شواهد من مواقف النبي حول هذه القضية؛ نكن لك شاكرين.
شواهد التواصل العاطفي
الضيف: التواصل العاطفي له أثره الكبير على استجابة المتعلم والمتربي؛ ولذلك كان قول الله : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
لاحظ معي كيف عبَّر الله عن خشوع القلب وخضوعه بقوله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ؟
المحاور: حتى قال ابن مسعودٍ : "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إلا أربع سنين"[17]أخرجه مسلم (3027)..
الضيف: نعم، صحيحٌ، فخضوع القلب وخشوعه يؤدي إلى اتِّباع الحق، وما نزل من الحق، وقساوة القلب تؤدي إلى النفور والفسق: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، فقساوة القلب تؤدي إلى الفسق.
المحاور: إذن العناية بقلوب الأبناء ومشاعرهم مهمةٌ جدًّا، والدكتور عبدالكريم بكار في سلسلته الثالثة من سلسلته الرائعة "التربية الرشيدة" كان يتحدث عن مجموعة دراساتٍ دلَّت على أن ضعف إشباع الجانب العاطفي مما يُفسِّر انهماك الأبناء في التقنية وانشغالهم بها، ناهيك عن تجاوز الخطوط الحمراء في استخدامات التقنية.
وهذه قضيةٌ نحتاج أنْ نتنبَّه لها؛ ولذلك إشباع هذا الجانب مهمٌّ، فنُريد شواهد.
الضيف: الشواهد من حياة النبي كثيرةٌ، يعني: استمالة القلب بالكلمة الطيبة يؤدي إلى خشوع القلب واستجابته، وإذا استجاب القلب استجابت الجوارح.
فالنبي قال لعبدالله: نِعْم الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل[18]أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).، فمدحه، ثم أرشده إلى نقطة الخلل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلًا.
وجاء النبيَّ وفدُ عبد القيس، فقال لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يُحبهما الله: الحلم، والأناة[19]أخرجه مسلم (17).، لمَّا نتخيل كيف كان فرح وسرور أشج عبد القيس من هذا المدح الرائع؟ حتى إنه قال: "يا رسول الله، هي -يعني- جبلةٌ جُبِلتُ عليها، أم خلقٌ تخلَّقتُ به؟" يعني: ردَّة الفعل السريعة هذه تُنبئك عن الأثر الذي وجده في قلبه من هذه الكلمة.
وكان رجلٌ يُسمَّى: عبدالله، ويُلَقَّب بحمار، وكان يُضحِك النبي ، وأُتِيَ به فجُلِدَ في الشراب، فقال رجلٌ: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي .
المحاور: اللهم صلِّ وسلم على محمدٍ.
الضيف: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنه يُحب الله ورسوله[20]أخرجه البخاري (6780).، طبعًا هذا أسلوبٌ بلاغيٌّ، أي: علمت عنه أنه يُحب الله ورسوله .
المحاور: وقال قبلها: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم[21]أخرجه البخاري (6781)..
الضيف: فهذه الكلمة حين يسمعها هذا الرجل: أنه يُحب الله ورسوله، هل نتوقع بعد ذلك أن يعود لهذه المعصية مرةً أخرى؟
حبُّ الله ورسوله سيمنعه بلا شكٍّ، وهذه شهادةٌ من النبي .
ونحن أحيانًا نعرف بعض الأبناء، وخاصةً في المدارس، وسلوكياتهم، وربما استُدعِيَ الأب أكثر من مرةٍ إلى المدرسة، لكن حينما أكون في المجالس، أو ضيفًا عندهم في البيت، ويأتي هذا الابن ويقوم بصبِّ القهوة، وما إلى ذلك، تجد الأب يقول: "هذا ولدي فلان، هذا متميزٌ، ما أعلم عنه إلَّا الخُلق الطيب"، ويمدحه أمام الجميع.
وسبحان الله! أنا يمكن أن أكون الوحيد بين الجالسين الذي يعلم هذا الولد، لكن هذا الأسلوب يجعلني فعلًا أُكْبِرُ الآباء الذين يستخدمون تلك الكلمات الجميلة التي يستحي أمامها الابن أن يأتي بمنقصةٍ أو عيبٍ.
المحاور: يا سلام! لأن هذا الابن يشعر بالأمن النفسي والراحة والطمأنينة، وهذا لا يُمكن أن يتأتى إلَّا من خلال التعامل الحسن: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فهذا الذي يحتاجه الإنسان فعلًا ليشبع عاطفة الأبناء، فهل هناك شيءٌ آخر دكتورنا؟
الضيف: نحن نقول: مدح المتربي يفعل فيه فعل السحر في البدن، يعني: سواءٌ كان صغيرًا أو كبيرًا، يعني: نحن حينما نُمدَح ونحن على ما نحن فيه من العمر يسرنا ذلك المدح أحيانًا، وأيضًا يدفعنا إلى مزيدٍ من العمل.
المحاور: أحسنت دكتورنا، أيضًا على سبيل المثال في قضايا بعض التصرفات والسلوكيات، كما جاء في الحديث: أن النبي كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها، فأخذ بيدها، وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده، فقبَّلته، وأجلسته في مجلسها"[22]أخرجه أبو داود (5217)، وصححه الألباني.، أي مشاعر ستكون عليها فاطمة دكتورنا؟
ستكون في حالةٍ من الراحة النفسية الكبيرة، حتى جاء في نفس الحديث: أن فاطمة كانت تفعل هذا مع النبي ، فإذا دخل عليها قامت إليه، وقبَّلته، وأخذت بيده ، ورحَّبت به، وأجلسته مكانها رضي الله عنها وأرضاها.
فهذا السلوك التبادلي الذي حصل من البنت لا يمكن أن يحصل إلَّا بالتأثر بالسلوك الأول، وهذا فيه إشباعٌ حقيقةً، والدراسات تؤكد ذلك.
الضيف: وهنا لفتةٌ تربويةٌ جميلةٌ أيضًا.
المحاور: وهي؟
الضيف: ربما نعلم جميعًا موعد زيارة الأبناء لآبائهم، أو البنات المتزوجات لبيوت آبائهم وأمهاتهم، وينشغل البعض، ويعتذر البعض عن الجلوس بحجة أنه مشغولٌ، أو أنَّ لديه مواعيد مع بعض الأصدقاء!
فجلوسك أيها الأب لابنك أو بنتك اللذين ترك كل واحدٍ منهما بيته، وجاء في وقتٍ محدَّدٍ مهمٌّ جدًّا، فلا بد أن تجلس معه، وتُحدثه، وتُشْعِره بالأبوة والحنان.
المحاور: جميلٌ، طيب، دكتورنا، بقيت معنا دقيقتان تقريبًا، وبقي معنا ما أسميته: بالتواصل التخيلي، فسريعًا جدًّا أعطنا الشاهد ونحن سنستنبط معك الجانب التخيلي.
التواصل التخيلي
الضيف: والله يا دكتور الجانب التخيلي كبيرٌ وجديدٌ؛ لأن طرقَه قليلٌ.
المحاور: أنا حقيقةً بالنسبة إليَّ مُتفاجئٌ، فهو عنوانٌ جديدٌ.
الضيف: نعم.
المحاور: لكن لعلنا نأخذه في حلقةٍ، بإذن الله.
الضيف: إن شاء الله، ونحن لا نتحدث عن الخيال الذي يُمكن وقوعه.
المحاور: أعطنا شاهدًا من مواقف النبي على أساس الوقت دكتور؛ حتى نفهم ما تقصد.
الضيف: أنا أعطيك شاهدًا من حديث النبي : لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح[23]أخرجه مسلم (2747)..
فهذا الخطأ هل هو مُتخيلٌ؟ وهل هذا يُمكن أن يقع؟
يعني: ما سمعنا أنه وقع، وهذا نُسميه: الخيال الثاني، والخيال الأول هو الذي يحتمل وقوعه، فأحيانًا نقول مثلًا ...
المحاور: يعني: وقوعه نادرٌ جدًّا.
الضيف: وقوعه نادرٌ جدًّا، فكيف استخدمه النبي بهذه البلاغة وهذه الفصاحة؟
المحاور: والهدف التربوي من هذه القصة ما هو؟
الضيف: الهدف التربوي هو: إيصال المعنى من خلال استخدام الخيال، فكلما يئس الإنسان من التوبة تذكر: لله أشد فرحًا، وتذكر هذا الموقف في الصحراء، وأصبح -يعني- مُجسدًا في ذهنه ومُخيلته، سبحان الله!
المحاور: الوقت انتهى يا دكتور، لكن المقصود هنا فيما يتعلَّق بجانب التواصل التخيلي -حسب اجتهادكم- أنه شيءٌ يُحدثه الإنسان في مجال العقل: جانبٌ استثنائيٌّ، لكن له عمقه الحقيقي الكبير في جانب التأثير؛ لكونه شيئًا نادرًا.
الضيف: وقد استشكل بعضهم قوله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]، فقالوا: إنما يقع الوعد والإيعاد بما عُرف مثله، وهذا لم يُعرف!
فردَّ بعضهم: إنما كلَّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي | ومسنُونةٌ زُرْقٌ كأنياب أَغْوَالِ[24]"تفسير الثعالبي= الجواهر الحسان في تفسير القرآن" (1/ 87)، والبيت في "ديوان امرئ القيس" ت: المصطاوي (ص12). |
فخوفنا من الغول ونحن لم نرها هو من الخيال الثاني الذي يُصبح مُتجسدًا في أذهاننا.
المحاور: شكرًا دكتور أسامة على الإطلالات الجميلة.
الضيف: الله يبارك فيك.
المحاور: وعلى هذه الجوانب المتعلقة بالتواصل، وأسأل الله أن ينفعنا بها.
الضيف: اللهم آمين.
المحاور: وشكرًا لمجيئك معنا، وإطلالاتك الطيبة، وشكرًا لكم أيها الإخوة على متابعة هذه الحلقة.
وأسأل الله أن يوفقنا لكل خيرٍ، ونلتقي على خيرٍ، بإذن الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال محققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح". |
---|---|
↑2 | "البداية والنهاية" ط. هجر (4/ 159). |
↑3 | أخرجه أبو داود (5150)، وصححه الألباني. |
↑4 | أخرجه البخاري (4936)، ومسلم (2950). |
↑5 | أخرجه البخاري (6274). |
↑6 | أخرجه البخاري (85). |
↑7 | أخرجه أبو داود (4843)، وحسنه الألباني. |
↑8 | أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318). |
↑9 | أخرجه الترمذي (1919)، وصححه الألباني. |
↑10 | أخرجه البخاري (1852)، ومسلم (1148). |
↑11 | أخرجه مسلم (1006). |
↑12 | أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال محققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح". |
↑13 | أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500). |
↑14 | أخرجه البخاري (5305). |
↑15 | أخرجه ابن ماجه (11)، وصححه الألباني. |
↑16 | أخرجه الترمذي (2454)، وصححه الألباني. |
↑17 | أخرجه مسلم (3027). |
↑18 | أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479). |
↑19 | أخرجه مسلم (17). |
↑20 | أخرجه البخاري (6780). |
↑21 | أخرجه البخاري (6781). |
↑22 | أخرجه أبو داود (5217)، وصححه الألباني. |
↑23 | أخرجه مسلم (2747). |
↑24 | "تفسير الثعالبي= الجواهر الحسان في تفسير القرآن" (1/ 87)، والبيت في "ديوان امرئ القيس" ت: المصطاوي (ص12). |