WARNING: unbalanced footnote start tag short code found.
If this warning is irrelevant, please disable the syntax validation feature in the dashboard under General settings > Footnote start and end short codes > Check for balanced shortcodes.
Unbalanced start tag short code found before:
“”
المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذا هو الدرس الثالث من المجموعة الحادية عشر من سلسلة التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة، وهذه الدورة خاصة بتفسير سورتي الحجرات والتحريم من كلام العلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى، ونسأل الله التوفيق والإعانة.
يقول الشيخ رحمه الله عند قول الله : إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:4-5]: "نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب، الذين وصفهم الله بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا وافدين على رسول الله ﷺ ، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، أي: اخرج إلينا، فذمهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه، كما أن من العقل استعمال الأدب، فأدب العبد عنوان عقله، وأن الله مريد به الخير، ولهذا قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 5]، أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب، والإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلات" ((تفسير السعدي (ص: 799).)).
في هذا الكلام مجموعة من الدروس التي نريد أن نقف عندها سريعًا:
أولاً: ما يتعلق بالتربية الأخلاقية، وما يرتبط بالتربية على الأدب، فهؤلاء كان بإمكانهم أنهم يتريثوا حتى يخرج النبي ﷺ ، لكنهم استعجلوا فحصل ما حصل، وأيضًا نادوا النبي ﷺ بما لا يليق به عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن هذا الأمر فيما يتعلق بالنبي ﷺ يعتبر من الجفاء، وقد استفاد بعض أهل العلم من مثل هذا الموقف كما ذكر أبو عبيد: "ما دققت بابًا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه" ((الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 359).))، يعني من شدة استفادتهم أيضًا من هذه التربية القرآنية لأمة محمد، من هذا الموقف الذي حصل من هؤلاء مع النبي ﷺ؛ أن أنزلوا هذا الأدب مع الأساتذة والعلماء حتى لا يحرج أحدٌ أستاذه وعالمه وشيخه.
فينبغي الانتباه في تأديب الأبناء، وتأديب النفس في تعاملها مع العلماء، ومع أهل العلم، يعني هذا يستنبط من مثل هذه المواقف، ولا شك أن أمر النبي ﷺ أعظم من ذلك، ولكن ينبغي أن ينزل الناس منازلهم، وهذا من التربية الأخلاقية والأدب إذا كان أبو عبيد من العلماء الزهاد المعروفين يقف ولا يطرق الباب حتى يخرج العالم من بيته تأدبًا معه، وأيضًا حتى لا يرهقه ولا يحرجه، فلا بد أن تراعى هذه الأمور عند الاستفتاء وعند اللقاء بأهل العلم وأهل الفضل، ألا نرهقهم ولا نحرجهم، ويربى الأبناء على مثل ذلك.
التربية على معاني الأسماء والصفات
ثانيًا: التربية على معاني الأسماء والصفات: وهذه من القضايا المهمة أيضًا حينما تذيل الآيات بقول الله تعالى بعد هذا الموقف: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 5]، قال الشيخ: "غفور لما صدر عن عباده من الذنوب، والإخلال بالآداب"، وكل منا مُعْرّض للتقصير مع حرصه على أن يتأدب مثلاً مع عالم أو من هو أكبر منه، فالله غفور، رحيم أن الله يرحمنا فلا يعجل بعقوبتنا، فهذه من الأمور التي نستفيدها فيما يتعلق بالتربية على الأسماء والصفات ومعانيها العظيمة في سياقها، فهذا أعظم ما يقال في مثل هذا السياق هو وصف الله غفور رحيم، وليس من المناسب أن يكون هنا الوصف عزيز حكيم، أو قوي عظيم، فهي مرتبطة بالسياق، فالتربية على معاني الأسماء والصفات والتعلق بها، وهذا نعرفها من خلال التفسير، مثل كلام الشيخ الآن وتفسيره لهذه الآية نتعرف على مثل هذه المعاني المتعلقة بالأسماء والصفات.
والمقصود هنا في التوجيه التربية على معاني الأسماء والصفات، وتوجد كتب خاصة في معاني أسماء الله وصفاته، وهذا من الأهمية بمكان لأنه يربى الجيل، والله سميع عليم، يربى أن الله سميع، وأن الله عليم، فالله يسمع ما نتحدث به، ويعلم ما نُخفي.
فكل هذه المعاني المتعلقة بهذه الصفات وهذه الأسماء تستخدم في مجال التوجيه وحين ينصح الأب ابنه، وينصح المرشد من يسترشده، فيقال: الله مطلع عليك، الله رقيب، الله يسمع ويرى كل شيء، قال الله: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]، كل هذه القضايا تجعل هناك مجال؛ لترتبط القلوب بالله ، وأيضًا تتفاعل مع حقيقة الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.
ثم يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6].
يقول الشيخ: "وهذا أيضًا من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ أي خبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حُكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عُمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كُذّب ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا"((تفسير السعدي (ص: 800).)).
هذا تفصيل جميل من الشيخ فيما يتعلق بالنداء الثالث في هذه السورة، النداء الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ [الحجرات: 1]، وهذا نداء خاص بالمصدر، تلقي من الله ورسوله ﷺ ، ثم الآية التي تليها: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ [الحجرات: 2]، هذا ما يتعلق بالتأدب، ثم النداء الثالث المتعلق بالتأكد من الأخبار والروايات، وأنه لا بد من منهج التثبت والتأكد من صحة ذلك الخبر.
والتقسيم الذي ذكره الشيخ تقسيم مهم جدًا، فلا يمكن أن نقول: إنه لا يقبل أي خبر بحال من الأحوال، فعندنا الصادق لا بد أن يقبل خبره، والأدلة على ذلك واضحة، فلا يقال: المنع لكل خبر يرد، إنما هنا: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ [الحجرات: 6]، هنا الفاسق فيه احتمالين:
إما أن يكون صادقًا بما يقول فيقبل، فيكون مثل: خبر الصادق.
وإما أن يكون كاذبًا فيرفض، فيكون مثل: خبر الكاذب، فصار عندنا ثلاث حالات:
حالة قبول بلا نزاع، وحالة الرفض بلا نزاع، وحالة التوقف والتمييز على حسب صحة الخبر والتأكد.
وهذا الحالة الثالثة هي الحالة المقصودة في هذه الآية، ولذلك ينبغي أن نعرف الناس، فمستحيل يكون مجهول عبر قناة فضائية أو عبر واتسآب أو عبر أي وسيلة من وسائل التواصل أن أقبل خبره مباشرة؛ لأن حال الإنسان مجهولة لنا.
وأي إنسان له ثلاثة أحوال: إما صادق فعندئذ خبره الأصل أنه صادق.
وإما أن يكون كاذبًا، فهذا كاذب ولا يجوز أخذ خبره.
وإما أن يكون الثالثة فهنا يتأكد ويتبين من حاله.
والتربية على مثل هذه الأشياء في زمن الإشاعات الحقيقة من القضايا المهمة جدًا؛ لأن الوسائل التي أصبحت كثيرة اليوم، ومصدر من مصادر الإشاعات تجعلنا في محل العناية والاهتمام في مثل هذا الأدب العظيم وهو التثبت والتبين.
أهمية العدل
ومن الدروس المستفادة أيضًا العدل، وأن الحق يقبل حتى ولو من فاسق إن كان صادقًا، وكما قال الشيخ: "وكان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج، المعروفين بالصدق"((تفسير السعدي (ص: 800).))، وهذا من العدل، وبعض الناس يرفض قبول الحق من الصادق؛ لموقف شخصي بينه وبينه، وهذه قضية خطيرة، يتنبه الآباء والمعلمون والمسؤولون والمديرون، والذين يقفون موقف التوجيه والتأثير أنهم يكونون بمثل هذه المثابة مع من يتأثر بهم ويقتدي بهم، بأنه يرفض الأمر لموقف ونزاع شخصي وخصومة، وقد يكون الحق معه، لذلك التواضع للحق وقبول الحق حتى لو كان من عدو: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة: 8]، قال: اعْدِلُوا ، أمر، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]، فيجب قبول العدل، فهذا لا بد يتربى عليه الأجيال، يا بني مهما اختلف معك الآخر، ومهما أساء إليك الآخر، وما كان عدوك، إذا كان هذا الشخص عدوك فما دام أنه قال الحق فاقبله، وما دام أنه نصح بحق فاقبل، هذه القضية مهمة جدًّا، مهمة جدًّا، ولذلك ينبغي الأستاذ يقبل الحق مِن تلميذه، والأب يقبل الحق مِن ابنه، عدد من الآباء لا يقبلون أن يأخذوا من أبنائهم، أو يأخذوا من زوجاتهم، والمعلمين لا يأخذون من طلابهم، وهذه قضية من القضايا الشائكة التي تعطيك مؤشر الكبر، مؤشر النفوس المتكبرة التي لا تعرف رصيدها من الصواب والحق، وفي قصة أبي هريرة مع الشيطان، وهي قصة مشهورة، والنبي ﷺ أثبت هذا المنهج، فحين أتى أبو هريرة للنبي ﷺ وقص عليه ما حصل له ما حدث قال عليه الصلاة والسلام: صدقك وهو كذوب((أخرجه البخاري (2311).))، حين نصحه بقراءة آية الكرسي، فأثبت أنه كذوب، والأصل فيه الكذب، وهو كذوب بصيغة فعول، ولكنه في هذا الموقف صدق، فإثبات هذه المنهجية في التربية من القضايا المهمة جدًّا لأجيالنا.
يقول الله : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 7-8].
يقول الشيخ رحمه الله: "أي: ليكن لديكم معلومًا أن رسول الله ﷺ ، بين أظهركم، وهو الرسول الكريم، البار، الراشد الذي يريد بكم الخير وينصح لكم، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة، ما لا يوافقكم الرسول عليه، ولو يطيعكم في كثير من الأمر لشق عليكم وأعنتكم، ولكن الرسول يرشدكم، والله تعالى يحبب إليكم الإيمان، ويزينه في قلوبكم، بما أودع في قلوبكم من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الشواهد، والأدلة الدالة على صحته، وقبول القلوب والفِطر له، وبما يفعله تعالى بكم، من توفيقه للإنابة إليه، ويكرِّه إليكم الكفر، والفسوق، أي: الذنوب الكبار، والعصيان: أي الذنوب الصغار، بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده، ومضرته، وعدم قبول الفطر له، وبما يجعله الله من الكراهة في القلوب له.
أُولَئِكَ أي: الذين زين الله الإيمان في قلوبهم، وحببه إليهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] أي: الذين صلحت علومهم وأعمالهم" ((((تفسير السعدي (ص: 800).)))).
فالذين اتصفوا بكل ما سبق، من قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ [الحجرات: 7]، يعني لو ترك الأمر لخياركم، ليس خيار الله أو خيار النبي ﷺ ، الذي جاء في بداية السورة التأكيد على لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، يعني خذوا مما جاءكم من الله، من أمر الله ورسوله ﷺ ، فهو خير لكم، من خياركم أنتم أنفسكم: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 7].
ثم قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 7]، أن هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات، هم الراشدون الذين صلحت علومهم وأعمالهم، فحبذا نعرض هذا الكلام على أنفسنا، ونُنزّله على من نعول، ومن نحن مسؤولون عن تربيتهم، أين نحن من هذه الأوصاف؟ وأين أجيالنا من هذه الأوصاف؟ وما أيضًا شرحه الشيخ في التفسير في قوله: "هؤلاء الراشدون الذين صلحت علومهم وأعمالهم"، يعني فيه علوم وأعمال لكنها صالحة؛ لأنه فيه علوم فاسدة، وفي أعمال فاسدة.
وقال رحمه الله: "واستقاموا على الدين القويم، والصراط المستقيم.
وضدهم الغاوون الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم الإيمان، والذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب الله أفئدتهم.
وقوله: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات: 8]، أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل الله عليهم وإحسانه، لا بحولهم وقوتهم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 8] أي: عليم بمن يشكر النعمة، فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، ولا تليق به، فيضع فضله، حيث تقتضيه حكمته"((تفسير السعدي (ص: 800).)).
لعلنا نقف وقفات من خلال الآيتين، ومن كلام الشيخ رحمه الله، ونختم ببعض الدروس التربوية والنفسية التي يمكن نستفيد منها في حياتنا الأسرية وغيرها:
مؤشرات الرشاد والتوفيق
أولى هذه القضايا: ما يتعلق بمؤشرات الرشاد والتوفيق للنفس البشرية، وهذه لا شك أن التربية الأسرية والأسرة والبيئة التعليمية والمجتمعية، كلها تحتاج إلى الانتباه لهذه المؤشرات، وهي مؤشرات ثلاث:
المؤشر الأول:
الإيمان: لكن ما أجمله، كما قال الله : وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7]، ولذلك في حديث أبي سفيان قبل إسلامه مع هرقل حين سأله عن النبي ﷺ : فقال هرقل لترجمانه: "قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: وايم الله، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت، ثم قال: لترجمانه، سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قال: قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم، قال: يزيدون أو ينقصون؟ قال: قلت لا بل يزيدون، قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه، قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها، قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا، ثم قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك: هل كان في آبائه ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم، فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب،..."((أخرجه البخاري(4553)، ومسلم (1773).)).
فإذا أردنا وأجيالنا الثبات على دين الله إلى أن نلقى الله فعلينا أن نجعل الإيمان يخالط القلوب ببشاشته، فلذلك عودًا إلى القضية الكبرى المستديمة التي نذكرها دائمًا وهي أهمية أعمال القلوب والتربية الإيمانية، لا بد من مراجعة الأسرة لوضعها في هذه القضايا، لا من حيث التخلية، ولا من حيث التحلية، لا من حيث منغصات الإيمان، ومنغصات أعمال القلوب، عكسها مما يتلقاه الأجيال عبر أجهزة الإعلام، وعبر الأجهزة الذكية، وعبر الأصدقاء،...، فلا بد من التخلية، ولا بد من التحلية في وجود برامج ووجود أشياء تجعل القلوب أكثر قربًا من الله .
المؤشر الثاني:
كره الكفر، والفسوق، والعصيان: كره الكفر، والذنوب، الكره، لأنه يوجد أناس كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور: 19]، قال: يحبون، قد لا يمارسون، وإنما يحبون، فتوعدهم الله بوعيد شديد، فلذلك الكره وإظهاره مهم، فهذا المؤشر الثاني للرشاد والتوفيق للنفس البشرية.
المؤشر الثالث:
الاتباع: والاتباع هذا عدم الرفض لما جاء به الله ، والرسول ﷺ ، وعدم الابتداع، بالإتيان بشيء لم يأت به الله ورسوله ﷺ ، لذلك كما قال النبي ﷺ : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى((أخرجه البخاري (7280).)).
كنت بالأمس في سيارة أجرة من مكة إلى جدة في المطار، وشاب خريج إحدى كليات جامعة أم القرى، شاب لطيف ومثقف، وليس متدين، واضحة ثقافته وعلمه وكذا غيرته، فكان الكلام معه أثناء الطريق الطويل عن لوثة الإلحاد عند الشباب، فكان يتحدث عن زملائه، فيقول: زملائي يتحدثون في هذه القضايا، ويتحدثون في قضايا الآن أنا أريد أن أقتنع بأن هذا الأمر سليم، وعقلي يؤمن بالقضية هذه، فسألته: الله قاله؟ والرسول ﷺ قاله؟
قال: هذا أول، لكن الآن لا، فأي نفس بشرية ستشعر بالسعادة إذا هي رفضت أمر الله ، وأمر رسوله ﷺ ، أو ابتدعت في دين الله ، فلا بد أن تنشأ التربية الإسلامية على هذه المحاور الثلاث، مؤشرات الرشاد والتوفيق للنفس البشرية.
ثانيًا: المحافظة على الفطرة
اهتمام التربية بالمحافظة على الفطرة، ونداء الفطرة، الفطرة التي فطر الله سبحانه الناس عليها باقية موجودة، لذلك قال الرسول ﷺ : ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه((أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).))، هنا البيئة وأثرها، فلذلك ينبغي حماية الفطرة ورعايتها والمحافظة عليها، والمقصود بها الفطرة السليمة بلا شك؛ لأنه لا يمكن أن تكون فطرة ليست سليمة، الفطرة هي التوحيد، وجاء رواية من روايات هذا الحديث: كل مولود يولد على الملة ((أخرجه الترمذي (2138)، وأحمد في المسند (10241)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4560).))، يعني هي التوحيد والدين، ولذلك يجب العناية بهذه الفطرة، وتعزيزها، والتربية عليها، وهي القائمة على قبول الخير ورفض الشر، كما جاء في الآية: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 7]، هذا من الفطرة، لكن لما نحبب إلى أجيالنا الذنوب والفسوق والعصيان، نحببه بتصرفاتنا وبتوجيهاتنا سنغير الفطرة، وحين نُعقد عليهم تحبيب الإيمان نعقد عليهم الإيمان، وللأسف الشديد الآن يوجد من يربط بين الإيمان والإرهاب، بعض مسالك الإيمان والإرهاب وينشأ الطفل أو يُنشأ الابن على هذه الحالة، أو يُنشأ على الفسوق والعصيان بسبب أنه فيه قول، وفيه من يجيز هذه القضايا، وفيه من يقول بجوازها، ...، فيصبح الإنسان لا ترى منه مسلك الإيمان، ولا ترى منه إلا الولوغ في المعاصي والذنوب، ولذلك حماية الفطرة أمر مهم جدًّا، ومن أهم ما ينبغي: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس((أخرجه مسلم (2553).)).
هذه هي الفطرة، فالفطرة، تشعره بالشيء المقبول والمردود كما قال بعض شراح هذا الحديث، وهذا من معرفة ومن دلائل ومؤشرات: الإثم ما حاك في نفسك ، يعني نفسك لم ترتح إليه، وكرهت أن يطلع عليه الناس، فهنا ليس دليلًا شرعيًّا، وإنما يبين الشيء المفطور عليه الإنسان، الشيء الذي يُقبل، فالخير مقبول، والشر مذموم، فهذا لابد من رعايته، وهذا قد يكون في اللباس، وقد يكون في الكلام، وقد يكون في الأفكار، وقد يكون في السلوك، قد يكون في المشاعر.
فممكن تجد لباس يوافق الفطرة، ولباس آخر يخالف الفطرة، مثل الألبسة المتعلقة الإنسان يتشبه رجل يتشبه بالنساء، أو النساء يتشبهن بالرجال، وهذا من مخالفات الفطرة كمثال، ومثل ما يتعلق بالسلوكيات البويات، والنساء المتشبهات، والجنس الثالث، الرجال الشبيهين بالنساء، والمسترجلات،...، فهذا خلاف الفطرة في الأفكار، الإلحاد والقضايا المتعلقة بالشرك، والمتعلقة بالبدع، وتحيكم العقل على الدين، فهو يريد أن يؤمن عقله ويفهمه، عقله يقتنع أولًا ثم يقبل أمر الله ، لا أقبل أمر الله ثم أبحث عن الأمر إن استطعت: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]، عقلنا دون إرادة الله ، عقلنا محدود، وأمر الله عظيم، عبدة الشياطين، أصحاب أفكار عبدة الشياطين، الذين يستحلون الدماء كالدواعش، وغيرهم، كل هذا من الأشياء التي تخالف الفطرة، فيصبح الإنسان يقتل أخاه وأهله، ويقتل المسلم، ويقول: يتقرب إلى الله ، أي فطرة هذه الفطرة؟
هذه انتكاسة للفطرة، وما شابه ذلك.
وحب الفواحش، وحب المعاصي، وكره الخير وأهل الخير، هذه كلها من خلاف الفطرة المتعلقة بالمشاعر، وننتبه لمثل هذه القضية، فنداء الفطرة واجب، على أهل التربية والمربين رعاية الأجيال في بقاء فطرهم على فِطرهم التي فَطرهم الله عليها.
ثالثًا: إسناد الفضل لله سبحانه
الدرس الأخير: الذي لما قال الله : فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ [الحجرات: 8]، الله يرزقنا وإياكم هذه النعمة وهذا الفضل، فلله الفضل والمنّ، فهو الذي يوفق الإنسان للخير أيًّا كان هذا الخير فكرًا أو سلوكًا أو عملاً، أو توفيقًا هو من أمر الله ، فحينما يوفق الله الإنسان العبد أو الابن أو الزوجة، ويوفق من يحب إلى الإيمان وإلى تزيينه في القلب وتكريه الكفر، وكما قال العلماء: هذا فيه تأكيد على الاستسلام، هذا خيار الله، وخيار محمد ﷺ ، أمر الله، وأمر محمد ﷺ هو خير لنا، فالخير لنا أن نستسلم؛ لأن هذا الفضل ليس بقوتنا وحولنا، ولذلك يُنتبه لمثل هذه القضايا، وإسناد الفضل والأمر لله وحده.
ولذلك ما أجمل الذي يتربى على هذا الفضل، وهذا من فضل الله، الحمد لله، هذا الذي وفق الله، ما شاء الله، ابنك متدين، ابني حافظ لكتاب الله، الفضل لله وحده، فرق بين هذا وبين الذي يقول: ولدي تعبنا عليه وربيناه، وأتينا له بمعلم، ...، وينسى أن يقول: الفضل لله ، لذلك ينبغي العناية بهذا الأمر.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.