المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذا هو الدرس الرابع من المجموعة الحادية عشر من سلسلة التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة.
ومازلنا مع كلام العلامة الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسير سورة الحجرات، نسأل الله أن ينفع ويبارك فيها، يقول الله : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9-10]
أهمية العدل في الصلح بين المختلفين
يقول الشيخ رحمه الله: "هذا متضمن لنهي المؤمنين، عن أن يبغي بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصولة إلى ذلك، فإن صلحتا، فبها ونعمت، فإن فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه، الاقتتال.
وقوله: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ [الحجرات: 9] هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما، لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات، التي تولوها، -يمكن العبارة الآن هي التي تهمنا جدًّا مع أهمية ما سبق، لكن كونها ترتبط صراحة بالتربية الأسرية-، يقول الشيخ: "حتى إنه، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله، وعياله، في أدائه حقوقهم، وفي الحديث الصحيح: المقسطون عند الله، على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا[1]أخرجه مسلم (1827)، بلفظ: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين، … Continue reading"[2]تفسير السعدي (ص: 800)..
هذه القضية لا ندخل فيها من الناحية الشرعية؛ لأن أهل الشريعة هم أحرى بالكلام حول الفئة الباغية، وما يرتبط بالأحكام الشرعية وإنما نحن نتحدث فيما يرتبط بالجانب التربوي المهم للمجتمع المسلم، والمهم للأسرة المسلمة، والمهم للبيئة التربوية أيًّا كانت هذه البيئة؛ لذلك كما جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم[3]أخرجه البخاري (2587)..
ولذلك هذه القضية مهمة جدًّا فيما يرتبط بقضية رعاية الأطراف حتى لا يقع بينهم الخصومة والاختلاف، وإنما تحقيق ما يرتبط بجانب الائتلاف والوئام، وهذا في جانب الأسرة من أهم ما يكون وعمومًا في جانب المجتمع والأرحام والجيران وما يرتبط بذلك، فإن كان الله سبحانه بين بأن قضية الاقتتال لو حصل أن وصل الاقتتال إلى أن يكون بينهم إصلاح، وهذا يدل على أنه يمكن لمن هو في مثل هذه الحال أنه يؤوب إلى الحق ويرجع إلى الصواب، ومن باب أولى الخلافات التي تحصل دون القتال كالخلاف ما بين الزوجين، والخلاف بين الأبناء بعضهم مع بعض، والإخوة والأخوات، والخلاف بين الآباء والأبناء، والخلاف بين المعلم والطلاب، وهكذا المجتمع وفرد المجتمع.
فإذا كان من يحصل بينهم الاقتتال نقوم بالإصلاح بينهم بالعدل فمن باب أولى من حيث الإمكانية للوصول للائتلاف والوئام أن نصلح في الخلافات المتعلقة داخل الأسرة، أو خارجها في البيئات المجتمعية أو التربوية من أجل إيجاد التآلف ما بين القلوب، وهذا من أهم الدروس ولا يمكن يتأتى ذلك إلا بالعدل، لذلك لا محاباة في التعامل ولا محاباة في المال، ولا في غيره.
وأحيانًا تأتيني بعض الاستشارات والشكاوى فبعض الأبناء ذكورًا وإناثًا من آبائهم أو أمهاتهم في قضية المحاباة في التعامل، والميل إلى بعض الأبناء دون بعض، وقد يكون هذا الميل مرتبطًا في التعامل وإشباع الجانب العاطفي والقرب، وقد يكون له علاقة في جانب ما يتعلق بالمال، فيحابي أحد الأبناء على البعض، ويحابي الذكور على الإناث، ويحابي الإناث على الذكور، وقد تشتكي المرأة بأن زوجها يحابي الزوجة الثانية أو الثالثة عليها، أو ما شابه ذلك.
وهكذا الطالب حينما يشتكي من أستاذه حينما لا يعدل في التعامل بين طلابه، وكذا المدير حينما لا يعدل بين الموظفين في التعامل معهم، ويحابي بعضهم على بعض، لذلك إقامة العدل مهم جدًّا، فهذا الدرس التربوي الذي نحتاج إليه، إقامة العدل واتقاء الله في هذه القيمة المهمة ألا وهي قضية العدل.
وعند وجود الخصومة والتخاصم هذا الدور التربوي المطلوب مثلاً من الآباء ومن الإخوة الكبار، من المعلمين الناجحين، من المربين الفضلاء، ومن المؤثرين في المجتمع، إلى قضية الدخول في الإصلاح بعدل حتى يتحقق المراد في التآلف والوئام ما بين أفراد المجتمع، وهذا فيه حفظ لحقوق الناس أيًّا كانوا ذكورًا وإناثًا، أو أبناء، أو أرحام، أو جيران، أو طلاب، أو أساتذة، أو ما شابه ذلك حفظًا لحقوق هؤلاء، وعندما نحفظ الحقوق سيتحقق العدل بإذن الله ، ويتحقق الوئام ما بين الأطراف، هذا ما نستفيد منه فيما يرتبط بالجانب التربوي، ولذلك قال الله: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]، فما أجمل القسط.
أعطيكم مثالًا واحدًا من الأمثلة التي تكثر مع الصغار، لأن الكبير له مكانته وشخصيته يدرك كيف يتعامل والده معه، وهكذا من باب أولى الزوجة، وهكذا الطالب في المستوى الأعلى، والموظف، فمعرفة العدل من عدمه والإجحاف واضح جدًّا.
سبب عدوانية الابن الأول بعد مجيء الثاني
فالأبناء الصغار: كثير من الأسرة تشتكي أن ابنها مثلاً الذي عمره ثلاث سنوات مثلاً ما إن أتى الابن الجديد يبدأ يتغير طبعه ويحصل منه الخصومة، والإيذاء، وما شابه ذلك.
فإذا ما ورد مثل هذا الإشكال في طريقة التعامل مع الابن الأول أو أيًّا كان ذكرًا أو أنثى بعد مجيء الابن الثاني في الغالب فيه شيء أمر طبيعي المفترض لا يؤبه به، ولا يشكل علينا أصلًا فيه، لكن فيه أمر غير طبيعي عندما يصل إلى مستوى الإيذاء لنفسه أو الإيذاء لغيره، ويكون الأب والأم متفرجين دون أن يفعلوا شيئاً.
فهذا اختطاف من الابن الجديد لأمور معينة كان يحوز عليها الابن الأول، فهو يشعر بأنه بدأ يفقدها، وهذا لا تنتبه له الأمهات ولا الآباء؛ لفرحهم بالابن الجديد، والمفترض كما يحضن الابن الجديد يحضن الابن الأول، وكما يهتم بالابن الجديد يهتم بالابن الأول، ويُقبل الابن الجديد ويُقبل الابن الأول، وهكذا.
فهذه ستخفف وهي جزء من العدل المقدور عليه، أما إذا كان غير مقدورًا عليه ولا يستطيعه الإنسان ويميزه تمامًا لعل الله يعفو عنه.
حقوق الإخوة في الله
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له، ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي ﷺ آمرًا بالأخوة الإيمانية: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره[4]أخرجه البخاري (2442 ، 6951)، ومسلم (2564)، واللفظ له.، متفق عليه.
وفيهما عن النبي ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا[5]أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585). ، وشبك بين أصابعه ﷺ .
ولقد أمر الله ورسوله ﷺ بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد، والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها وتدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم"[6]تفسير السعدي (ص: 801)..
وهذه مهمة جدًّا في التحري فيما يتعلق بتباعد القلوب بين الأسرة، أخ يخاصم إخوانه، أخ يتخاصم مع أخته، وقريب مع قريبه، وطالب مع زميله، وصديق مع صديقه، إلى آخره، مهم جدًّا تتبع مثل هذه القضايا؛ لأن التفرق في القلوب والبغض والتدابر هي من أشنع ما يكون فيما يتعلق بالأثر النفسي بسبب هذا الضعف في الجانب التواصلي، وهنا يأتي دور المربين والمصلحين فيما يتعلق بالإصلاح بالعدل بين إخوانهم، ولا شك أن الأسرة تحتل المرتبة الكبيرة في هذا الجانب، والعناية الكبرى في هذا الموضوع.
ثم أمر بالتقوى عمومًا، ورتب على القيام وبحقوق المؤمنين الرحمة فقال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] وإذا حصلت الرحمة حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة.
وهنا بعض الدروس المهمة جدًّا من هذا المقطع، وهو ما يتعلق بأهمية حفظ حقوق الإخوة في الله الذين تربط بهم الأخوة الإيمانية، وهذا هو طريق النجاة وإلا سيحصل النزاع، لذلك من الأهمية بمكان تربية الأجيال على هذه الحقوق، فلا بد من معرفة الحقوق كما يعرف الزوج حقه على زوجته، ويعرف الزوج حق زوجته عليه، وتعرف الزوجة حق زوجها عليها، وهكذا الأبناء على أبيهم، وهكذا الآباء على أبنائهم، وهكذا الإخوة فيما بينهم، وغير ذلك من الدوائر في المدرسة وفي الوظيفة وفي المجتمع، إلى آخره.
فمعرفة الحقوق مهمة جدًّا حينما تضيع الحقوق سيحصل التنازع، فإدراك الحقوق، والحمد لله أمرها سهل، والنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ومن إدراكها بالعقول الصحيحة، والأعراف الراجحة، كل هذه تعطي دلائل معينة على أداء الحقوق بشكل كبير وواضح، لا أحد يقول: ليس من حق المعلم على الطالب أن يحترمه، فهذا من الأشياء الواضحة والبيّنة كمثال في إدراك الحقوق وخاصة أن الكتب متناثرة في ذلك.
إذن لا بد من رعاية الحقوق ما بين الأجيال وإدراكها ويرى البعض أن تكون في الأسرة مكتوبة، مكتوبة في المدرسة وفي المنشأة، وبعض الجهات تضع حقوق كذا والحقوق التي له، والواجبات التي عليه، فإدراكها بغض النظر عن أسلوب إدراكها مهم جدًّا، وهذا تحصل به النجاة التي هي علامة التماسك في كيان الأسرة، أو التماسك في كيان المجتمع، أو التماسك في كيان المدرسة، أو البيئة التعليمية، إلا سيحصل النزاع، وكل سيدعي أن هذا حق له ينسى حقوق الآخرين، وما شابه ذلك، لذلك عندما يقول الله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، فهم إخوة لهم حقوق الأخوة حتى لو كان هذا الأخ لا نعرفه يبقى أن له حق الأخوة، فكيف بمن نعرفه! وكما جاء في الحديث: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا[7]أخرجه مسلم (1827).، فحينما تكون مرتبطة بحقوق الأهل ومن نحن مسؤولون عن ولايتهم أيًا كانت هذه الولاية.
ثم يقول الله : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، وهنا فيه إشارة لأثر التقوى على رحمة الله ، نريد أن الله يرحمنا، وأن يرحم أهلينا، وأن يرحم من نُحب، علينا بتقوى الله ، فالتقوى هي طريق الرحمة، والله يُحب من عباده أن يتقوه، وهذا المعْلَم الكبير الذي ينبغي أن تتربى الأجيال والأنفس عليه هو تقوى الله ، جعل بينهم وبين النار وقاية، والتعريفات في التقوى كثيرة وكلها تصب في هذا المصب، أن يتقي الإنسان نفسه وغيره يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6] أن يقع في النار وعندئذ يأتي بأوامر الله وينتهي عن نواهيه.
الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية
قال الشيخ: "وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم -يعني قوله سبحانه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ... [الحجرات: 9]، وإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ... [الحجرات: 10]-: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا، كان من أكبر الكبائر"[8]تفسير السعدي (ص: 801)..
يعني تعجب حينما تسمع مثل هذه الآيات وتنظر إلى الذين انتكست عقولهم وفطرهم من أصحاب الغلو والتطرف الذين يتقربون إلى الله ﷺ بزهق الأنفس وقتلها أنها قربة إلى الله ، قارن ما بين هذا التفكير وبين التوجيه الرباني، العدو الكافر بَيِّن عِداؤه فمهما فعل فهو عدو لا يتوقع منه إلا ذلك، لكن من يدعي أنه يتكلم باسم الشريعة ويفعل مثل هذه الأفاعيل هذا خزي وعار، وصدق ما جاء في الأثر عنهم: "كلاب أهل النار"[9]أخرجه الترمذي (3000)، بلفظ: «كلاب النار»، وقال: "هذا حديث حسن"، ابن ماجه (176)، وأحمد في المسند (19130)، ولفظه: «الخوارج … Continue reading.
فلا بد من فقه، وتوعية للأجيال؛ ليكون عندهم وقاية من مثل هذه الأفكار بغض النظر عن ملابساتها الأخرى وما يرتبط بتكوينها لهذا الفكر وما يرتبط به، لكنه لا يتعلق ببذوره ونشأته هي موجود حتى في عهد السلف الصالح، وقد عانوا منها معاناة شديدة، فكيف لا نعاني منها.
القتال بين المؤمنين من الكبائر لكن لا ينافي الإيمان
وقال الشيخ رحمه الله: "وأن الإيمان، والأخوة الإيمانية، لا يزولان مع وجود القتال"[10]تفسير السعدي (ص: 801)..
فالعدل مهم جدًّا مهما حصل من اقتتال، فالله سماهم مؤمنين: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الحجرات: 9]، وهذا من العدل، ولذلك البعض يرسب في الاختبار حتى في هذا الجانب، كما رسب هؤلاء في الولوغ في الدماء، فالبعض يريد أن يهرب من التكفير ويقع فيه، وهذه قضية خطيرة، ولذلك أمر الله بالعدل فقال: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]، فمهما كان عدوك فاعدل فلا تترك القضية لهواك، فالله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، يعودوا إلى قضية التفكير بصفة الإيمان، فنحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه القضايا وما يتعلق بها: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9]، فهم أصحاب إيمان فيجب العناية بهذا الموضوع والاهتمام به؛ لذلك هذا الجانب اليوم نحن في أمس الحاجة إليه، وعندما نقرأ ما يتعرض له إخواننا في الموصل بالعراق هذه الأيام، نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، يعني إهانات للكرامة، وإزهاق للنفوس بغير حق بحجج ساقطة أصبح يتمسك بها أعداؤنا والعياذ بالله، ثم تكون الأنفس الطاهرة هي نتاج هذا الظلم للأسف الشديد، فلما أبناؤنا وأجيالنا يتربون على الأخوة الإيمانية لمثل هؤلاء، مثل: الصومال وما تعانيه من مجاعة، ومثل: سوريا وما يتعلق بها من مأساة، والأخبار الطيبة والتقدم في بعض الأمور التي تسر المسلمين، فكل هذه معانٍ مهمة جدًّا، فلا فرح ولا حزن، حينما يعايش الأبناء والأجيال من الطلاب مثل هذه القضايا هي من دلائل التربية على ارتباط الأخوة الإيمانية، بل هي وسيلة إلى ضبط الأبناء والطلاب والأجيال إلى التوجه السليم حتى لا ينحرفوا ذات اليمين أو ذات الشمال.
فعندما تُغْذى المشاعر بشكل إيجابي وتضبط؛ لأنهم يرون المآسي ويسمعونها شئنا أم أبينا، فالطفل الصغير اليوم عبر الجوال يعرف هذه القضية وليس الكبار فقط؛ لذلك حتى التذكير بهذه القضايا وضبط العلاقة وضبط المطلوب منها منا كمسلمين يعين على تربية الأجيال بأن يأخذوا الوسطية تجاه هذه القضايا حتى لا يصبحوا إما غلاة متطرفين، وإما جفاة لا يعنيهم هذه القضايا وما يرتبط بها، وقلوبهم جامدة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذا كله من خلال التربية بهذه المعاني المتعلقة بالإخوة الإيمانية.
يقول الشيخ رحمه الله: "وأن الإيمان، والأخوة الإيمانية، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبائر، التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة"[11]تفسير السعدي (ص: 801)..
يعني: أنهم لا يكفرون بكبيرة، فلا بد يفهم الأجيال هذه القضية، وننبه بعض الذين يريدون أن يردعوا فكرة منحرفة فيقعوا هم في ردعها بأن يكفرون أصحاب هذه الفكرة المنحرفة هذا خطأ كبير جدًّا، فلا نتهم هذا الطرف بالتكفير، فنقع في التكفير؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة يضبطنا، فأهل السنة والجماعة لا يكفرون بالكبائر، لكن يُخْطّأ ويُجْرّم ويبين أن هذه جريمة من الجرائم، كما يبين الزنى والخمر أنه جريمة وأنه من الكبائر مثلًا فلا نكفرهم وهذا كله من معاني العدل.
وذكر الشيخ هنا فقال: "إن الإيمان، والأخوة الإيمانية، لا تزول مع وجود القتال، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى وجوب الإصلاح، بين المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة، حتى يرجعوا إلى أمر الله"[12]تفسير السعدي (ص: 801)..
وعلى أنهم لو رجعوا لغير أمر الله، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه، وأنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة؛ لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.
كما قلت: لن أدخل في التفاصيل الشرعية وإنما نستفيد منها وأن ندرك الهدف الأساسي هنا في هذه الحقوق كما سيأتي معنا في الآيات التالية هو: جمع الكلمة، والابتعاد عن الفرقة، ولذلك لا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بأخذ هذه الآداب والتوجيهات التي جاءت في مثل سورة الحجرات، ومنها:
لا تسخر بأخيك فعسى أن يكون خيرًا منك
قول الله : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]، يقول الشيخ رحمه الله: "وهذا أيضًا من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، ولا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه"[13]تفسير السعدي (ص: 801)..
هو يظن أن الذي يسخر كونه مثلاً غني يسخر بفقير، أو عالم يسخر بجاهل، أو أب يسخر بابن، أو أستاذ يسخر بطالب، أو مدير يسخر بموظف؛ أنه أعلى منه، لكن نظرته وميزانه ليس صوابًا.
وقال رحمه الله: "وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر، وهو الغالب الواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي ﷺ: بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم[14]أخرجه مسلم (2564)..
ثم قال: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] التوجيه في هذه الآية للمؤمنين كما في أول الآية: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات: 11]، فهذا النداء مهم لذلك إذا أردت أن تؤثر في أبنائك أو في الأجيال وفي نفسك أو في زوجتك أو من تحب، ارجعهم إلى الإيمان، وخاطبهم بخطاب الإيمان؛ لأن هذه المرجعية تجعل الإنسان يقول: أنا أنتمي للإيمان، أنتمي للمؤمنين، فتكون هي الوسيلة، إياك أن تغير وتعدل السلوك وتؤثر، فتكون القضية بعكس ذلك تتحدث وكأنه مجرم، تتحدث وكأنه خارج دائرة الإيمان وما شابه ذلك، فضبط القضية فيما يتعلق بالعدل ولو كان الإنسان صاحب كبيرة، وعن عمر بن الخطاب ، أن رجلًا على عهد النبي ﷺ كان اسمه عبدالله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله ﷺ ، وكان النبي ﷺ قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي ﷺ: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله[15]أخرجه البخاري (6780).، فسد النبي ﷺ باب الشيطان؛ لأن الرجل يقام عليه الحد، هو صاحب كبيرة ويمارسها كثيرًا، ومع ذلك النبي ﷺ شهد له بأنه: يحب الله ورسوله، بمعنى أن هناك إيجابيات موجودة، فابحث عن إيجابيات ابنك، وإيجابيات زوجتك، وإيجابيات من تتعامل معه كما جاء في الحديث: لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر[16]أخرجه مسلم (1469)..
لا تلمز نفسك فأخاك أنت
ثم قال الشيخ رحمه الله: "وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] أي: لا يعب بعضكم على بعض، اللمز بالقول، والهمز بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار.
كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] الآية، وسمى الأخ المسلم نفسًا لأخيه"[17]تفسير السعدي (ص: 801)..
فالمقصود بقوله: "وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا تلمزوا إخوانكم، لكن قال: أنفسكم وهذا وصف بليغ جدًّا، كما قال الله في بداية سورة النساء: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1]، فهي نفس واحدة، فكأنه يتحدث الزوج عن زوجته، والزوجة عن زوجها، وهكذا هنا قال: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ[الحجرات: 11]، فإذا لمزت الآخر أنت تلمز نفسك، وهذا معنى عظيم في أهمية بقاء اللحمة والوئام والوحدة داخل الأسرة والمجتمع الإسلامي، وكل هذه المعاني: السخرية واللمز والهمز تقدح وتخرم الوئام وما يتعلق به.
يقول: "وسمى الأخ المسلم نفسًا لأخيه؛ لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد؛ ولأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك"[18]تفسير السعدي (ص: 801)..
قال الله سبحانه: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات: 11] هذا التوجيه الآخر في حفظ الحقوق ورعاية كرامة الإنسان الذي يسخر بمن هو دونه أو بأي أحد، الذي يلمز فيذكر العيب بالقول أو الفعل وهو الهمز، الذي ينابز بالألقاب ويُعَيِّر بها هؤلاء لا يرعون كرامة الإنسان أيًا كان زوجًا أو أبناءً أو طلابًا أو موظفين، أو فقراء أو مساكين، أو أي فرد من أفراد المجتمع.
يقول الشيخ: "وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات: 11] أي: لا يُعَيِّر أحدكم أخاه، ويلقبه بلقب يكره أن يقال فيه"[19]تفسير السعدي (ص: 801)..
انتبه، بعض الناس عندهم هذه القضايا فيها توسع، ويقول: الطرف الثاني ما عنده إشكالية فيه، يعني أنا أقول: ليس من السهولة أبدًا أن أي إنسان ذي كرامة يقبل التنابز بالألقاب والتعيير خاصة إذا كان التعيير بمنقصة، وبالعكس هذا تعزيز لضعف الشخصية في الإنسان، لذلك حجة أنه راضٍ يُنتبه لها، لأنه أحيانًا تكون عبارة عن جانب من تضييع الحقوق فيما بين الطرفين، كل يعيّر الثاني، كما يجلس الأصدقاء ويتسابون فيما بينهم؛ لكونهم تعودوا على ذلك، لكن لا يصلح أن يُقال: هم تعودوا على ذلك من الأدب.
يقول الشيخ: "وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] أي: بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه، وما تقتضيه، بالإعراض عن أوامره ونواهيه، باسم الفسوق والعصيان، الذي هو التنابز بالألقاب"[20]تفسير السعدي (ص: 801)..
يعني: تتركون الإيمان وتذهبون للشيء الآخر، فالعودة إلى الإيمان، فهذه الأمور التي تهان فيها الكرامة، وتسبب المشاكل داخل الأسرة وغيرها كلها بسبب تخلينا عن الإيمان ومستلزماته، وذهبنا إلى الفسق والعصيان، يقول الله : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] هذه تهز الكيان، وإذا لم تهز كياننا كمربين ومتربين، وأجيال، فمتى تهز؟ إذا لم تهزك هذه الآية فإنك إذا لم تتب من مثل هذه السلوكيات والانحرافات في التعامل مع الناس وفي حفظ حقوقهم وآدابهم وحفظ كرامتهم فأنت ظالم، وإذن نحن الآباء ظلمة وهذه السلوكيات التي نتعامل بها سيكون أبناؤنا مثلنا، وإذا كنا نسخر سيكون أبناؤنا يسخرون، وإذا كنا نتنابز بالألقاب سيكون أبناؤنا كذلك، بل يقول أصحاب علم النفس: إذا كان الابن يصرخ تجد أن الآباء يتعاملون بينهم بالصراخ، فحين يطلب يطلب بصراخ، وقد جربنا هذا فوجدناه صحيح، تجد أن الأب حينما يطلب طلبًا يطلبه بالصراخ من الزوجة، والزوجة إذا طلبت طلبًا تصرخ وهكذا.
وقد جاءتني بعض الاستشارات الغربية تستشيرني إحدى النساء عبر الواتس آب تقول: لا أستطيع أن أجد حقي من زوجي إلا بالصراخ، فأصبحتُ أصرخ في وجهه، وهو شخصية ضعيفة ولا ينضبط إلا بالصراخ، فأصبحت لي شخصيتان، أنا لا أحب الصراخ، ولكن لا أنال حقي إلا به، فكيف سيصبح الأولاد؟
فَحسبُكُم هَذَا التَفاوُتُ بَينَنا | وَكُلُّ إِناءٍ بالَّذِي فيهِ يَنضَحُ[21]الدر الفريد وبيت القصيد (7/ 477). |
التوبة إلى الله واجبة على العبد
يقول الله : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] يقول الشيخ: "وهذا هو الواجب على العبد، أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله -يطلب منه الحل-، والاستغفار، والمدح له مقابلة على ذمه"[22]تفسير السعدي (ص: 801)..
فالابن حين يرى أباه يعتذر ممن أخطأ في حقه وأساء إليه، ويتصل به، ويذكره في مجلسه الذي أساء إليه بخير؛ يتربون على هذا الخُلُق، وهكذا المعلم يتربى التلاميذ، والموظف مع مديره يتربى، فهكذا يتربى الناس حينما يرون القدوات تتوب حينما تخطئ في حق الآخرين في الآداب وفي حفظ الحقوق فتستغفر وتطلب الحِل، وتمدح مقابل الذم الذي حصل.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] يقول الشيخ: "فالناس: قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، وتائب مفلح، ولا ثم قسم ثالث غيرهما"[23]تفسير السعدي (ص: 801)..
الناس إما أن تكون تائب مفلح أو ظالم نفسه غير تائب، ولا يوجد ثالث، ولا وسط، وبعض الناس دائمًا يحبون الوسط، يقول: أنا في الوسط جيد، يعني يضبط أموره في الوسطية، يصلي وعنده بعض الأخطاء فيها فيقول: أنا وسطي، فليس عنده قدرة أن يكون على منهج النبي ﷺ فيدعي الوسطية، فيقول لك مثلًا: أنا لست بتائب، ولا أنا ظالم لنفسي، فيقول: أنا وسطي أنا بين هذا وهذا، فهذا تزيين لظلم النفس وهو من أخطر ما يكون تزيين الظلم للنفس، والتوبة من القضايا المهمة جدًّا في التربية للأجيال ولأنفسنا.
فمهما كان ظلمنا، ومهما أخطأ أبناؤنا، ومهما أخطأنا، فما أجمل أن يكون الإنسان كثير التوبة والاستغفار، حتى لو رجع إلى معصيته، لكنه يتوب ثم يعود ثم يتوب، ولا أعني أن يكون هذا منهجًا له، ولكنه قد تضعف نفسه ثم يعود، فيعصي ثم يتوب خير من بقائه على معصيته بلا توبة، يعني إشعاره بهذه القضية مهم؛ لأنه لو استمرأ المعصية واستمر عليها فسيختم له بخاتمة سيئة، لكن لو أنه جعل الاستغفار والتوبة في ذهنه، فلعل الله يلطف به، فلا يلقى الله إلا وهو تائب، فالتوبة مهمة جدًّا أن ندركها ويدركها أجيالنا، فيجب علينا أن نستغفر الله ونتوب إليه.
النهي عن إساءة الظن والتجسس
يقول الله : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]
يقول الشيخ: "نهى تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي"[24]تفسير السعدي (ص: 801)..
فما دام في القلب ظن سوء وشكوك سيئة ليس لها قرائن ولا في أدلة، وإنما ظنون: أكيد يقصد كذا، ويريد كذا، والزوجة تقول: إن زوجي يقصدني بقوله كذا، ويريد أن يهينني، وهكذا الآباء والأبناء، وما شابه ذلك، وكلها ظنون سيئة ليس عليها حجة، ثم يتولد منها أقوال لا تنبغي وأفعال لا تنبغي بسبب هذه الظنون، قد تصل للطلاق ما بين الزوجين، أو قد تصل للضرب والقسوة مع الأبناء، وقد تصل للطرد، وقد يصل إلى الظلم مع الطلاب، وما شابه ذلك، ومع الموظفين، وفي ذلك إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلافها.
ثم قال: "وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، ودعوا المسلم على حاله -لا تفتش عن شيء باطن ليس ظاهرًا-، واستعملوا التغافل عن زلاته، واستعملوا التغافل عن زلاته التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي"[25]تفسير السعدي (ص: 801)..
هذا جزء مما يتعلق بالتجسس، يعني تغافل عن الزلات ولا تبحث عن شيء ليس ظاهرًا، وهذا يقع فيه بعض الآباء فيما يتعلق بالظن السوء، فيما يرتبط مثلاً بكشف أسرار الأبناء، وهي مظنة فيبدأ يأخذ الجوال وينظر ما فيه، وأسرار الشغالة والخدامة حينما تكون خارج البيت، ويدخل الغرفة ويفتش الأشياء الشخصية، وهذا لا يخفى حكمه من الناحية الشرعية وهو نوع من التجسس وقد يكون فيه كشف لعورات الناس وهذا لا يجوز، وحالات معينة استثنائية عندما تكون مثلًا شبه موقن ويحتاج أن تقطع هذا من خلال الكشف في خصوصياته وما يتعلق بذلك، هذه حالة خاصة يُستفتى فيها، والأصل هو كما قال الله : وَلَا تَجَسَّسُوا.
أما الذي سيقف مع الظنون والشكوك سيتعب ويُتعِب، حاله: ممكن زوجتي تخونني، والزوجة: ممكن زوجي يخونني، والأم: ممكن الولد ما ذهب يصلي في المسجد، كل شيء سيبقى في شك، وتوجد حلقات لبرنامج أسس التربية في قناة زاد، في لقائنا مع الدكتور/ أحمد الشركسي، بعنوان: "الوسواس القهري"، من حلقتين مهمتين حول الوسواس القهري والوساوس وما يتعلق بها، شارك فيها الشيخ المنجد، والشيخ الدكتور ناصر الحنيني، وشارك فيها الطبيب النفسي الدكتور موسى آل زعلة، فهي مهمة جدًّا، وتوجد على اليوتيوب بعنوان: "الوسواس القهري".
وإساءة الظن يوصل الإنسان إلى الوسوسة وما يرتبط بها والتعامل بشكوك، والأصل إحسان الظن، وليس إساءة الظن، فمن يسيء الظن يتعب ويُتْعِب، ويرتاح من يحسن الظن، وكما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
والشك بعد الفعل لا يؤثر | وهكذا الشكوك إذا تكثر[26]انظر: منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية (ص:10). |
يعني في قضايا العبادات وما يتعلق بها، هذه تريح الإنسان، لكن الإنسان الذي يتعامل مع الشكوك سيتعب جدًّا، وعندئذ سيصل به إلى مستوى الوسواس القهري.
يقول الشيخ: "واستعملوا التغافل عن زلاته التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا ينبغي.
وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات: 12] والغيبة، كما قال النبي ﷺ: ذكرك أخاك بما يكره[27]أخرجه مسلم (2589).، ولو كان فيه.
ثم ذكر مثلًا منفرًا عن الغيبة، فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12] شَّبَه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس غاية الكراهية باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، خصوصًا إذا كان ميتًا فاقد الروح؛ فكذلك فلتكرهوا غيبته، وأكل لحمه حيًّا.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12] والتواب: الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأنها من الكبائر؛ لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر"[28]تفسير السعدي (ص: 801)..
لا زالت الآيات في الآداب وما يرتبط برعاية الحقوق وحفظها، ورعاية كرامة الإنسان لا يسخر ولا تنابزوا، هنا قال: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات: 12]، كلها تتحدث توجيهات مهمة في التعامل، وهذه التوجيهات مهمة للأبناء، خاصة وأن الشريعة ذكرته من جملة المنهيات، وقد ورد في الحديث: ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم[29]أخرجه مسلم (1337)..
التكرار المتعلق بجانب التقوى، والتوبة
الأمر الآخر: التكرار المتعلق بجانب التقوى، والتوبة، فنقول: هذا هو المنهج الإيماني في تربية الأجيال، فاتقوا الله واتقوا الله، اتقوا الله، اتقوا الله، خافوه، لن يردعنا عن تضييع حقوق الآخرين أيًا كانوا من أهلينا أو غيرهم من غيبة، أو تجسس، أو سوء ظن، أو... إلا تقوى الله .
إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]، وهذا فيه تأكيد لقضية التوبة، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]، فالتأكيد على التقوى عند الأوامر والنواهي.
فما أجمل أن نخاطب أبناءنا بها!
فلا أحد يستطيع لا أنا ولا أنت لا أبًا ولا معلمًا ولا مربيًا ولا مديرًا أن نكون مراقبين لمن تحتنا طوال الوقت، والذي يتصور أن مركزيته ستضبط القضية فهو واهم، إنما تضبطها مراقبة الله والتربية على التقوى، وإحياء الإيمان في قلوب الأجيال، والتخويف بالله والتربية الإيمانية، هذه التي تجعله يستطيع أن يقول: معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، إني أخاف الله، حتى لو كان لوحده، فلذلك تكرار النداء بالإيمان ووصف التقوى والتوبة من القضايا المهمة.
من الأساليب تعديل السلوك
أخيرًا: يذكر أهل الاختصاص قضيتين نفسيتين تستنبطان من هذه الآية:
أولاً: ما يتعلق بأسلوب تعديل السلوك عن طريق التنفير، ويسمى أسلوب التنفير: فهنا الله نفر من الغيبة بقوله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا لحم إنسان وأخيه وميت، وكأنه أخ له من النسب فهذا يكون أعمق في التنفير بحيث يُرى هذا النفور: فَكَرِهْتُمُوهُ ، ولا يوجد عاقل إلا وسيكره هذا الأمر، فهذا أسلوب في تعديل السلوك يسمى بالتنفير ويستخدم في علاج التدخين، مثل ما يقام بالمعارض بوضع الرئة الصحيحة والرئة المدخنة، فيلاحظ أن الرئة الصحية لونها وردي صافي بينما الرئة الأخرى سوداء، فهذا تنفير شنيع، وأيضًا يقال للمدخن مثلًا: ضع السيجارة في ماء وشم رائحتها، سيشم الرائحة النتنة جدًّا.
ثانيًا: جاءت هذه الآية ويذكرها أهل الاختصاص، ويسمى بالأسلوب العقلاني الانفعالي، وهو من الأساليب الرائعة في تعديل السلوك، الأسلوب العقلاني الانفعالي، فالله عندما أراد أن يحرم الغيبة أتى بهذه الصورة العقلانية تؤثر في العقل أولاً، وتؤثر في الوجدان ثانيًا، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات: 12] إلى هذه الكلمة فالصورة في الذهن مباشرة صورة أكل لحم أخ وميت، قال: فَكَرِهْتُمُوهُ ، فهي صورة عقلانية انفعالية، وهذه من الأساليب الرائعة جدًّا والتي استخدمها النبي ﷺ في تعديل سلوك الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، قال: قال: أتحبه لأمك؟ ، قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم . قال: أفتحبه لابنتك؟ ، قال: لا. والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم . قال: أفتحبه لأختك؟ ، قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم . قال: أفتحبه لعمتك؟ ، قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم . قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم[30]أخرجه أحمد في المسند (22211)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة … Continue reading.
فهذا الأسلوب العقلاني الانفعالي رائع جدًّا فيما يتعلق بالجوانب غير الأخلاقية كالفواحش، فالشاب هذا يعرف أنه حرام؛ لذا جاء يطلب الإذن؛ فلا ينفع مع مثله بقولك له: هذا فعل محرم، بل خاطب عقله ومشاعره فقل له: ألك أم؟ ألك أخت؟ أترضى هذا لواحدة من أقاربك؟
سيقول مباشرة كما قال الشاب: لا والله لا أرضى، فهذا أسلوب عقلاني انفعالي له علاقة بالجانب التنفيري، فلنستفد من هذا في التنفير من سلوكيات سيئة؛ لتنفر منها النفس وتقتنع حتى لا تسلك هذا المسلك السيء.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه مسلم (1827)، بلفظ: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا». |
---|---|
↑2 | تفسير السعدي (ص: 800). |
↑3 | أخرجه البخاري (2587). |
↑4 | أخرجه البخاري (2442 ، 6951)، ومسلم (2564)، واللفظ له. |
↑5 | أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585). |
↑6 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑7 | أخرجه مسلم (1827). |
↑8 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑9 | أخرجه الترمذي (3000)، بلفظ: «كلاب النار»، وقال: "هذا حديث حسن"، ابن ماجه (176)، وأحمد في المسند (19130)، ولفظه: «الخوارج هم كلاب النار»، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3347). |
↑10 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑11 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑12 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑13 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑14 | أخرجه مسلم (2564). |
↑15 | أخرجه البخاري (6780). |
↑16 | أخرجه مسلم (1469). |
↑17 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑18 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑19 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑20 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑21 | الدر الفريد وبيت القصيد (7/ 477). |
↑22 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑23 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑24 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑25 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑26 | انظر: منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية (ص:10). |
↑27 | أخرجه مسلم (2589). |
↑28 | تفسير السعدي (ص: 801). |
↑29 | أخرجه مسلم (1337). |
↑30 | أخرجه أحمد في المسند (22211)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (370). |