المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه الحلقة السادسة من المجموعة الخامسة، وهو الدرس السابع والخمسون في "معالم المنهج النبوي التربوي"، وسبق الكلام عن المعلم الحادي عشر: فيما يتعلق بتعامل النبي ﷺ مع كافة الفئات، ويتعلق بالطفولة، والشباب، والكبار، والنساء، وقبلها كان المعلم العاشر حول إدراك الفروق الفردية ومراعاتها.
المعلم الثاني عشر
سيكون حول المنهج فيما يرتبط بالفكر والسلوك من حيث القضايا التي فيها بناء الإنسان، وأهل الاختصاص حينما يتكلمون عن بناء الإنسان يتكلمون عن ثلاثة مناهج، أو ثلاثة برامج:
المنهج الأول: المنهج البنائي، أو البرامج البنائية.
المنهج الثاني: الوقائي.
والثالث: العلاجي.
المقصود في هذا أن تعاملنا مع أبنائنا، وتعاملنا مع أزواجنا، وتعاملنا مع طلابنا، وتعاملنا مع المجتمع، يجب أن يكون بهذه المناهج الثلاثة؛ لأن الأصل أن تكون العلاقة التربوية معهم، وكذلك بالنسبة لبناء نفس الإنسان؛ تربيته لنفسه مبنية على البناء الإيجابي، يعني كيف نبني أنفسنا إيجابيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا؟! وكيف نبني شخصياتنا؟!
والجانب الآخر: القضية الوقائية؛ حتى لا نقع في المشكلات، كيف نحمي أنفسنا من الوقوع في المشكلات؟ كيف نحمي أبناءنا من الوقوع في المشكلات؟
الأمر الثالث: لو وقع في مشكلة كيف يعالجها؟
المنهج البنائي في التربية
وهذه القضية واضحة في منهج النبي ﷺ، فكل ما سبق في المعالم السابقة، كما في قول النبي ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج [1]أخرجه البخاري(1905و5065)، ومسلم (1400)..
واستوصوا بالنساء خيرًا [2]أخرجه مسلم (1468)..
وأفلح إن صدق [3]أخرجه البخاري(46)، ومسلم (11)..
و«وعظنا رسول الله ﷺ موعظة»[4]أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (37)..
واتقوا الله واعدلوا بين أولادكم [5]أخرجه البخاري (2587)..
وصلوا كما رأيتموني أصلي[6]أخرجه البخاري (631-6008).، فكل هذه عبارة عن توجيهات بنائية، فما سبق ذكره في الجانب الإيجابي هو بنائي، والمقصود بالجانب البنائي شيء إيجابي نكتسبه فكرًا وسلوكًا.
فالرسول ﷺ عندما قال للغلام: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك [7]أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد في المسند (2763)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).، هذا بنائي، وهو بناء المعتقد: احفظ الله يحفظك، ولا شك أن البنائي يتولد منه جانب وقائي.
فإذا ربينا أنفسنا وأهلينا وأبناءنا بشكل إيجابي ولم ننتظر وقوع مشكلة تحصل من الابن مثلًا ثم نقول: من أين جاءت المشكلة؟ أو نحاول ألّا يقع فقط في المشكلة، لا، يوجد مشروع بنائي، كيف نبني ثقافة أبنائنا؟ كيف نبني عقيدة أبنائنا؟ كيف نبني أخلاقيات أبنائنا؟
هذا مشروع بحد ذاته ضخم جدًّا، والمفترض تكون دائرة الجانب البنائي أوسع وأقوى، وللأسف الشديد هي في عالمنا أضيق!
لذلك البعض يقول: ماذا نفعل في أبنائنا؟ عندنا مشروع حضاري كبير، كل ما جاءت به أدبيات الشريعة ومنها سنة النبي ﷺ في الآداب، والقيم، والتعليم والتربية كلها مشاريع نستطيع أن نترجمها إلى واقع عمليًّا، لكن نحن تخلينا عن مسؤولية التربية، وربما أوكلناها لغيرنا؛ فأصبح المشروع البنائي ضعيفًا.
مثل قضية الغذاء بالنسبة للإنسان: تجد أنه لا يوجد تفكير في الجانب البنائي في التغذية السليمة للأبناء أو للشخص نفسه، إنما يأكل ما هب ودب، أهم شيء يكون حلالًا، فالجانب البنائي المراد به هنا الغذاء السليم، وهي ثقافة غير موجودة أو ضعيفة.
إذن الجانب البنائي ضعيف، لكن عندما يقول: انتبه لا تأكل هذا الأكل؛ لكونه سيسبب لك المشكلة كذا والمرض كذا، وإذا كان مريضًا فإن عليك الابتعاد عن كذا وكذا، وهذا هو الجانب الوقائي، يعني فيه اهتمام أكبر من الجانب البنائي.
وعندما تقع المشكلة ويصبح مريضًا بمرض السكري مثلًا، أو غيره، تبدأ بعد ذلك قضية المنع والتحفظ والترشيد والضبط في القضية الغذائية السليمة، هذا جانب علاجي.
دائرة اليوم التي أراها حسب اجتهادي عند الناس: العلاجي أكبر من الوقائي، والوقائي أكبر من البنائي، والمفترض أن تكون المعادلة عكس ذلك؛ بحيث يكون البنائي أقوى، يعني التأسيس والبناء والشيء الإيجابي واكتساب الشيء الإيجابي، عندئذ الوقائي سَيْقِل، ومن باب أولى ستقِل المشكلات وعندئذ لا نحتاج للجانب العلاجي كثيرًا.
هذه القضية بهذا المفهوم النظري في منهج النبي ﷺ في الجانب البنائي، فكل التوجيهات النبوية كانت ضمن مسار المنهج البنائي الذي فيه إكساب للفكر والعقيدة، والقيم، والآداب، والأخلاق الإيجابية، وسبق بعض النماذج في المعالم السابقة هذه كلها من قبيل البنائي.
الجانب الوقائي في التربية
والجانب الوقائي لا نقلل من قدره، لكن نؤكد على العناية الأكبر بالمشروع التربوي البنائي: كيف أجعل أولادي يقرؤون؟ كيف أجعل أولادي منتجين في الحياة؟!هذا بنائي.
وليس فقط: لم أفعل لهم شيئًا غير أني أخاف يكونوا مع أصدقاء سيئين، ممتاز! وإكسابهم الأصدقاء الطيبين أفضل من الخوف بأن يكونوا مع أصدقاء سيئين أو صديقات سيئات، فإكسابهم أصدقاء طيبين هو المنهج البنائي، والوقائي لا بد كُلٌّ يخاف من هذه القضية.
مثل ما جاء في الحديث الحسن عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أن عمر أتاه فقال: إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي [8]أخرجه أحمد في المسند (15156)، والبيهقي في شعب الإيمان (174)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (6 /34)، برقم (1589)..
فهذا منهج رائع عظيم جدًّا سطره النبي عليه الصلاة والسلام وقعّده حتى تقام علينا الحجة، وإذا كنا على طريقة النبي ﷺ فستكون الحجة لنا لا علينا، فالنبي عليه الصلاة والسلام حذَّر عمر بن الخطاب الذي وهو كما قال ﷺ عنه كما في الفروق الفردية: وأشدهم في الحق عمر [9]أخرجه الترمذي (3790)، وأحمد في المسند (13990)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (895)..
فعمر رضي الله عنه وأرضاه أشد الصحابة في الحق حذره أن ينظر في التوراة أو أن يكتب فقال: أمتهوكون، يعني محتارون، أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟، ثم بين له الطريق البنائي الرائع الناصع: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي، فهذا منهج وقائي.
وكثير من الناس في منع أبنائهم، أو أنفسهم من أشياء يرددون عبارة: "لا يصلح المنع"، وهذه كلمة تحتاج إلى نظر فنحن نمنع أنفسنا في قضايا دنيوية؛ لئلا نصاب بمرض كذا مثلًا، فيقولون هذا الكلام دون تفكير في عواقبه، وإنما هي انهزامية نفسية، عبارة ينبغي أن تُضبط، فالرسول ﷺ حذّر ووقى عمر بن الخطاب خوفًا على فكره ومعتقده، وعلى أن ترده الشبهات فيصبح من أهل الشك وأهل الحيرة وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فكيف بغيره من الأمة؟!
ففكرة المنع هذه هي الوقاية، بل حتى المناهج الغربية موجود عندهم، فالمدارس الغربية فيما يتعلق ببناء الشخصية وما يتعلق بتعديل السلوك عندهم موجودة، ولا يوجد عاقل في هذه الدنيا إلا ويؤمن بأن هناك أشياء لا بد أن تُمنع، فأمنع وأمتنع بحسب الثقافة، والفكر، والمعتقد، وما شابه ذلك من أمور، فهناك أشياء يجب عليك أن تمتنع منها، وتمنع أبناءك منها؛ لكونك مسؤولًا عنهم، وهذه قضية واضحة جدًّا لا إشكال فيها.
فإذا كان عمر خشي عليه النبي ﷺ فكيف بمن دون النبي ﷺ من المربّين كنحن وأنتم آباءً وأساتذة وغيرهم؟ وكيف من هم أقل من عمر كمتربّين رضي الله عنه وأرضاه.
الإعلام وأثره في التربية
فنحمي أفكارنا وأفكار أبنائنا، أزواجنا، وطلابنا، من الانحراف، والشبهات خطّافة، والإنسان معرّض للابتلاءات ومن الناحية الفكرية والسلوكية، والأخلاقية، والقيمية؛ فيمكن أن يعتقد اعتقادات صحيحة، ويمكن يعتقد اعتقادات منحرفة.
فنبني الفكر الصحيح، ونبني الولد، يقرأ الشيء الإيجابي، والشيء الإيجابي يُتلقى من التلفزيون ومن القنوات الفضائية، ويطالع ويشاهد القضايا الإيجابية في الحوارات، وفي النقاشات، وفي البرامج، وهذا من البناء، لكن لا يكون الجانب الآخر كما أن النبي ﷺ قطع الطريق على عمر بن الخطاب ، ويريد ﷺ قطع طريق الشيطان على أمته؛ محبةً وخوفًا عليها عليه الصلاة والسلام، والقضية مرتبطة بالتوراة ولها علاقة بدين سماوي، فكيف بالذين يفتشون اليوم في قضايا الإلحاد، وفي قضايا: هل الله موجود أو ليس بموجود؟!
فهذا الكلام هو ضريبة انفتاحنا على الإعلام، أما أن الإعلام ينفتح علينا إذا نحن عرفنا أن نقوم بما قام به النبي ﷺ مع عمر بن الخطاب استطعنا مع البناء التربوي نضبط الأمور قدر ما نستطيع، والحامي هو الله ، أما أن نستسلم لكل معطيات الثقافة العالمية والعولمة العالمية اليوم فنقول: الأبناء، الابن الصغير، سيتلقى المعتقد من خلال لمحة بسيطة في رسوم متحركة من خلال لعبة إلكترونية، فمن الذي أتى له بالرسوم المتحركة؟!
الأب هو الذي أتى له بها، هو الذي رضي له هذه القنوات عنده، وهو الذي أتى بالألعاب الإلكترونية، ولم ينظر الأب ولا الأم إلى محتوى هذه الألعاب الإلكترونية ولا يدريان ما فيها، وهما أعطياه هذه الأجهزة الذكية من وقت مبكر وهو لا يحتاج إليها، وجلس يدخل في العالم، وليس مجرد أن أحمل له بعض البرامج على هذا الجهاز، فأصبح يدخل النت، ويدخل على الأون لاين في الألعاب، ويدخل على تويتر والفيس بوك، والطفل صغير يقلّد، باستطاعته بمجرد أن يرى كيف يحرك، وسينظر إلى أشياء وأشياء، فعندما تصبح القضية فيها نضج أكبر عقلي ووجداني حينما تقدُم مرحلة المراهقة؛ ستكون أشد وأشد.
وأكبر إشكالية يقع فيها الكثيرون: في التربية الانهزامية، وادّعاء عدم القدرة، فالأب في الأمور الدنيوية الأمور المالية مثلًا يضبطها؛ لكون القلب معلقًا بالمال، وهذا بخلاف الأمور الفكرية، فلو تعلقنا بالعقيدة والفكر وأصبحت هذه قضية اهتمام سيوفق الله هذا الإنسان أيًّا كان ذكرًا أو أنثى، أولياء أمور أو معلمين، للنجاح، ووقاية الجيل من أن ينحرفوا، فالنبي ﷺ خشي أن ينحرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والكثير اليوم يدّعي بأن الانحراف بعيد على أبنائه وأنه في مأمن عليهم، ولا نخشى عليهم، وقد يُقال: تريدنا نشك في عيالنا؟ فيقال له: هذ ليس شكًّا، والنبي ﷺ لم يشك في عمر وإنما خشي عليه محبةً له، وهذا هو الجانب الوقائي.
ضرورة الاهتمام بالجانب الوقائي
فالجانب الوقائي لا بد من العناية والاهتمام به، وهذا جزء من التربية، أما أ، نقول: ولدي رجل لا خوف عليه، وابنتي كذلك لا خوف عليها، ثم لا يعلم ما الذي يصير إليه الأمر!! وتأتيني استشارات هاتفية عديدة، حالات معينة: تفاجأت ببنتي التي كنت أظن أنها كذا وكذا وإذا بها كذا وكذا، وكذا ولدي..!
وآخر: تفاجأت في زوجي الذي كنت أظن كذا وكذا، وإذا بها كذا وكذا، وبهذا تظهر أهمية وجود الوقاية وأنها جزء أساسي في هذا الموضوع، فمع ضعف الجانب البنائي وترك الحبل لهم على الغارب كما يقال، فحال بعض الأسر مثل فندق، للوجبات الغذائية، والنوم! مع ضعف المدارس، والمدارس أحيانًا أحسن من عدد كثير من الأسر مع أن الذي ينبغي أن تكون الأسر أفضل من المدارس، والمدارس عبارة عن رافد تعليمي لا يمكن أن يقف موقف البديل التربوي الأسري بحال من الأحوال، فنحتاج إلى العناية في هذا الجانب.
وفي حديث جابر عند مسلم حديث الحج في حجة النبي ﷺ في موقف النبي ﷺ حين كان في مزدلفة: "فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، رضي الله عنهما، وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا، فلما دفع رسول الله ﷺ مرت به ظُعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله ﷺ يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله ﷺ يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر،..."[10]أخرجه مسلم (1218)..
فهذا الموقف من النبي ﷺ أيضًا في تلك البيئة، وفي عبادة الحج، وفي بيئة دعاء، وفي بيئة نسوة ومتسترات عفيفات أتين للحج مع النبي ﷺ، ومع ذلك يحصل هذا الأمر الذي حصل من الفضل بن عباس والنبي ﷺ يصرفه ويقيه عليه الصلاة والسلام؛ خوفًا من أن يقع فيما حرمه الله .
فهذه صورة من صور حماية ووقاية السلوك، وحماية ووقاية القيم، كما أن الرسول ﷺ حمى ووقي الفكر وخشي على عمر بن الخطاب فيما يتعلق بجانب الفكر وجانب الاعتقاد وهو عمر، وهذا الفضل من أسرة النبي ﷺ ومن آل البيت، وابن عمه ويفعل معه النبي ﷺ هذا الفعل.
فظهر بهذا أهمية العناية بالجانب الوقائي.
ونذكر قصة مشهورة في هذا الجانب عن صفية رضي الله عنها قالت: عن صفية بنت حيي، قالت: كان رسول الله ﷺ معتكفًا فأتيت أزوره ليلًا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال النبي ﷺ: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا، أو قال: شيئا [11]أخرجه البخاري(3281)، ومسلم (2175).، فهذا منهج وقائي عظيم جدًّا.
فالنبي ﷺ فيما يتعلق بالظن والتصور، وما يتعلق بهذه القضية والحكم على الأشياء وما يرتبط بها، أراد أن يقطع ذلك كله، فلو لم يقل رسول الله ﷺ: على رسلكما، كان هناك احتمالان:
الاحتمال الأول: الشك، وهذا الأصل أنه منتفي في الرجلين من الأنصار في حق النبي ﷺ وهذا الذي قالاه: سبحان الله.
الاحتمال الثاني: الشك، فالنبي ﷺ أراد أن يقطعه مع أنه ليس واردًا في حق هذين الرجلين، لكنه منهج لهذه الأمة أن الإنسان يبعد عن نفسه مواطن الشبهات، ويقي نفسه من مواقع الشبه، ومن القيل والقال، ومن ظنون الناس.
فهذه إشارات بسيطة تتعلق بالجانب البنائي والجانب الوقائي، نكتفي بها.
الجانب العلاجي
الجانب العلاجي فيه مهارات وحل المشكلات، وفي هذا الجانب أنصح بقراءة كتاب: "كيف عاملهم" للشيخ محمد المنجد، فيما يتعلق بالمنهج النبوي في التعامل مع الأخطاء، وهو كتاب سبق فيه أهل التخصص، وأجاد في استقراء نصوص السنة فيما يتعلق بموقف النبي ﷺ من الأخطاء، وكيف عالجها وكيف تعامل معها، وذكر في ذلك مهارات عديدة جدًّا وأساليب عديدة لحل المشكلات من "المنهج النبوي في التعامل مع الأخطاء"، طبعته دار الوطن، كتاب أقررناه في بعض المناهج التعليمية في بعض البيئات التعليمية، وفي بعض معاهد الدبلوم، وكانت نتائج مثمرة، ويؤكدون على أن الكتاب جدير بالقراءة، وأنه مفيد ويقرب الصورة ويعطي فرصًا كثيرة لأساليب حل المشكلات من خلال طريقة النبي ﷺ الثابتة، وأصبح الإنسان يستطيع أن يستخدم هذه الطريقة، أو هذه الطريقة، أو هذه الطريقة وغيرها من الأمور.
ففي هذا الجانب علاج مشكلات الفكر والسلوك، فعندما تحصل مشكلة في الفكر، أو لوثات فكرية في قضايا الذات الإلهية والمعتقد، والبدع، أو مشكلات متعلقة بقضية السلوك وانحراف السلوك في القضايا الأخلاقية فننظر كيف النبي ﷺ عالج تلك المشكلات في مواقف ذُكرت في سنته عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك:
حديث أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه. مه. فقال: ادنه، فدنا منه قريبًا. قال: فجلس قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا. والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟، قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟، قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[12]أخرجه أحمد في المسند (22211)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة … Continue reading، فكان لا يلتفت إلى الزنا، بل أصبح أشد بغضًا له.
فهذا الموقف الذي حصل من شدة الرغبة والانفعال في مقابل أنه بعد ذلك ليس له حاجة فيما أتى بسببه إلى النبي ﷺ، لا شك أنه كان بسبب مجموعة من المهارات، ومجموعة من أساليب النبي ﷺ في علاج المشكلة، مثل:
تقريبه: «ادنه، فدنا منه قريبًا» جاء يستأذنه في الزنا فأدناه، بينما الموجودون صاحوا، وبهذا يظهر أهمية احتواء المشكلة، فلا تهجم عليه كما هجم هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم على الشاب غيرةً فصاحوا، فالنبي ﷺ لم يحصل منه هذا الأمر، وإنما قال: ادنه، فدنا منه قريبًا، فأصبح الآن قُرْبٌ جسدي، وهذا له أثر بخلاف البُعد؛ ففيه الأمن النفسي، ووجود القرب مع الرحمة والشفقة للشخص المقابل حتى جلس، وما قرب فقط بل جلس بين يدي النبي ﷺ.
من المهارات التي ستغلق الحوار والنقاش، أحد أمرين: إما أن يكون هو مصيبًا في فكرته أن ابنه مخطئ أو الطالب مخطئ لكنه لم يحسن طريقة الأسلوب والعلاج، وقد تبقى المشكلة حتى لو كان ظاهرها أنها انتهت، لكن حقيقة الأمر: لم تتغير قناعة الولد أو الطالب.
والمشكلة الأخرى التي قد تحصل: أن باستعجاله وعدم تريثه وفتح الحوار قد لا يظهر له أمور خفية، قد يتبين له من خلال الحوار سبب المشكلة، وهو يتوقع أن السبب هذا ثم يندم أنه استعجل وأخذ وأعطى، وقد حصل لي قريبًا مع أحد الأبناء، وكان البيت ليس فيه أحد وأكدت له الصلاة وما يتعلق بالصلاة، قال: اطمئن، فخرجت من البيت والبيت لا يوجد فيه أحد سواه، فاتصلت عليه قبل صلاة العصر يستيقظ لكنه لم يرد، أتيت الباب فإذا به قد وضع المفتاح في الباب من الداخل ومغلق حاولت الدخول لكني لم أستطع، فالصلاة ذهبت عليه أرسلت له برسالة: "أحسن الله عزاك، وعظم الله أجرك في الصلاة، لكن يا ولدي لعلك أن تتنبه أكثر وتحرص أكثر على الصلاة"، فرد عليّ الولد برسالة لم تأت بخاطري، قال: أصلحت المنبه على وقت الصلاة الساعة الثالثة لكن لم انتبه وكانت صباحًا ولم تكن مساءً، يعني المنبه سيوقظه لصلاة الفجر، فأرسلت له ممازحًا: (ههههه).
فأحيانًا قد يكون العذر للآخر ليس متصورًا فيظهر بمناقشة الموضوع بهدوء وسعة صدر؛ لذا ففتح الحوار والنقاش مهم لمعرفة الحق.
وأيضًا تعطي مجالًا للطرف الآخر أن يستمع لك وتستمع له، فالنبي ﷺ استمع لأبي الوليد عتبة بن ربيعة كما في حديث عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: "اجتمعت قريش يومًا، فأتاه عتبة بن ربيعة بن عبدشمس فقال: يا محمد، أنت خير أم عبدالله؟ فسكت رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: أفرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:1-2] حتى بلغ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13]، فقال له عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع عتبة إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا قد كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا والذي نصبها بنبيه ما فهمت شيئًا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك يكلمك رجل بالعربية، ولا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال، غير ذكر الصاعقة"[13]أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 330)، (36560)، والحاكم في المستدرك (3002)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، … Continue reading.
فهذا اليوم جيلنا في أمس الحاجة إلى الحوار والإقناع؛ لأن آليات الحوار أصبحت اليوم عبر وسائل الاتصال الحديثة، فأحدث لديهم ثقافة اسمها: ثقافة حوار، وثقافة معرفة المعلومة، وليس مثل الزمن الماضي؛ فأصبح الابن والطالب يحتاج إلى أن يفتح له هذا المجال، ولذلك لا بد من فتح هذا المجال فالقضية توافق الآراء والحمد لله مع الحق، فإذا توافقت الآراء فليس لنا إلا الحوار مثلما حاور النبي ﷺ، لكن النبي ﷺ استطاع بهذا الأسلوب العظيم أن يجعل الطرف الآخر يفكر بطريقة مؤثرة جدًّا وهي: "لا، فداك أبي وأمي"، قال: وهكذا الناس لا يرضونه لأمهاتهم [14]سبق تخريجه.، تتصور هذه الصورة البشعة التي سأل عنها لكن غفل أنه يتصورها في أمه، وفي أخته وفي عمته وفي خالته، هذا جزء من حوار لكن لو لم يقع حوار فكيف ستكون النتيجة؟
فلذلك لا بد أن نمكّن لأبنائنا وطلابنا وأهلينا فرصًا للحوار، وأن نعطيهم وقتًا للحوار والنقاش، ليتحقق الإقناع فإذا تحقق الإقناع فقد تحققت أشياء كثيرة؛ لأنه سيتعدل سلوكه في المستقبل، لكن إذا لم يتحقق الإقناع فقد تستمر المعاناة حتى لو توقف السلوك في هذه الفترة بسبب القرار الذي صدر بالتوقف عن هذا السلوك وليس عن قناعة.
ومن المواقف العجيبة التي اطلعت عليها: سألني شخص بعد أن تابع بعض البرامج التي ألقيتها وهو حديث عهد بزواج فقال: تزوجت امرأة على أنها متدينة؛ لمعلومات وصلت إليّ أن والديها متدينان، وأن لباسها ساتر وتخرج محتشمة، وبعد الزواج عانيت منها معاناة شديدة مع أني حديث عهد بزواج، هي كانت في بيئة متدينة لكنها ليست متدينة، فأصبحت الأمور التي كانت تعملها في بيت أبيها تطالب الزوج ألا يلزمها بها؛ لأن سلوكها الأول ليس عن قناعة وإنما إلزام وإجبار!
فحين تغيرت البيئة تغير السلوك ووقع لها متنفّس مع أن الشخص الذي يحدثني متدين، وأنا أعرفه، فيقول: بدأت أتنازل شيئًا فشيئًا؛ بسبب ما يلقى من الضغط الشديد، يقول حتى أنني قلت لها: كنت أتوقع أنني سأتزوج بامرأة متدينة، وهي تقول: وأنا كنت أتوقع أنني سأتزوج من رجل غير متدين، وكنت أظنك لست متدينًا وإنما محافظ، فاجتمع المتدين الراغب بالمتدينة، لكن لم يحصل المتدينة، واجتمعت المحافظة غير المتدينة الراغبة بالمحافظ؛ فأصبحت الأمور عندهم مشكلة جدًّا؛ حتى إنه حرص على ألا يقع حمل ولا ولد؛ لاحتمالية الانفصال، وهذا من حيث التفكير سليم بغض النظر عن قضية الانفصال عن عدم الانفصال، لكنه كجانب تخطيطي يعتبر شيئًا سليمًا إيجابيًّا؛ حتى لا تحصل مشكلة.
فهذه أيضًا من القضايا التي نستفيد بشأنها من هدي النبي ﷺ في الحوار والإقناع، وهذا ظاهر جدًّا، ثم بعد ذلك دعاء النبي ﷺ للذي جاء يستأذن في الزنا ووضع يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه واحصن فرجه.
فطلابنا وأبناؤنا بحاجة لقربنا الحسي، وبحاجة لقربنا المعنوي بالرحمة والحوار والنقاش، وهم بحاجة لدعائنا، وبحاجة إلى هذه المعالم الإيمانية الرائعة التي فيها من النفحات التي تجعل نفوسهم تهدأ، وبالذات مثل مرحلة الشباب؛ لأن عندهم ثورة انفعالية شديدة تحتاج إلى من يُهدئها، ولن يُهدئها بعد توفيق الله إلا الجانب الإيماني؛ لكونه أقوى الأساليب في إشباع الجانب الوجداني.
الجانب الآخر: القرب المعنوي بالرحمة والتعاطف والاهتمام، والقرب المادي الذي هو الجسدي والجلوس معهم والسماع منهم،؛بحيث تكتمل الصورة في التعاطي مع مشكلاتهم ونستطيع أن نساعدهم على تجاوزها.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري(1905و5065)، ومسلم (1400). |
---|---|
↑2 | أخرجه مسلم (1468). |
↑3 | أخرجه البخاري(46)، ومسلم (11). |
↑4 | أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (37). |
↑5 | أخرجه البخاري (2587). |
↑6 | أخرجه البخاري (631-6008). |
↑7 | أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد في المسند (2763)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957). |
↑8 | أخرجه أحمد في المسند (15156)، والبيهقي في شعب الإيمان (174)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (6 /34)، برقم (1589). |
↑9 | أخرجه الترمذي (3790)، وأحمد في المسند (13990)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (895). |
↑10 | أخرجه مسلم (1218). |
↑11 | أخرجه البخاري(3281)، ومسلم (2175). |
↑12 | أخرجه أحمد في المسند (22211)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (370). |
↑13 | أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 330)، (36560)، والحاكم في المستدرك (3002)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وأبو يعلى في مسنده (1818)، وذكره الألباني في صحيح السيرة النبوية (ص: 160). |
↑14 | سبق تخريجه. |