المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
هذا هو اللقاء الرابع من المجموعة الخامسة من هذه السلسلة، وهو الدرس الخامس والخمسون، وبدأنا هذه المجموعة الخامسة عن معالم المنهج النبوي التربوي، والدرس الرابع من هذه المعالم.
كنا بدأنا في الحلقات الثلاث الماضية عن تعلم القرآن، وعن سمة التعليم، وما يرتبط بالرابط ما بين العقيدة والسلوك، ثم التفقه في الدين، والتربية الأسرية، ثم عن بناء القيم والأخلاق والآداب، ورعاية الحقوق والمعاملات، والعناية بالأهداف.
وتحدثنا عن أهمية أن تكون التربية مبنية على أهداف معرفية ووجدانية ومهارية، وذكرنا في هذا ما يتعلق بالمواقف النبوية لمحمد ﷺ مما يستلهم منها هذه المعالم المرتبطة بالجوانب التربوية التي نحتاجها في الأسرة، وفي المدرسة، وفي غيرها.
التقويم والمقياس الحقيقي للنجاح
ننتقل إلى ما يتعلق بقضية التقويم والمقياس الحقيقي للنجاح، وهذه قضية مهمة جدًّا فيما يتعلق بالجانب التربوي والتعامل مع القضايا الاجتماعية والأسرية والنفسية، يعني: كيف أحكم أن هذا الشيء صح أم خطأ؛ لأنه في بعض الأحيان يسأل الأب عن ابنه، ويقول: الحمد لله أموره طيبة، أو عكس ذلك يقول تقييمًا سلبيًّا، وربما عن برنامج معين يقول: والله ما شاء الله ممتاز البرنامج، ما هي معايير الامتياز؟ ما هي المعايير أنه جيد؟ ما تجد أن هناك معالم واضحة في قضية التقييم، وهذه مشكلة وتجد بعض الأحيان أو كثيرًا ممن ليس عندهم معايير قضية تقييم النجاح والفشل، والصح والخطأ، والحق والباطل، مرتبطة بالأمزجة، وبطبيعة شخصية الإنسان، يعني: ممكن زوج يحكم على زوجته بنظرة سوداوية، وهي في الحقيقة لديها نسبها من الخطأ 5% لكن 95% من الإيجابيات لا ينظر إليها، ولا يحكم عليها، يعني: قضية الحكم والتقييم قضية مهمة جدًّا؛ لأن هناك إعطاء رأي عن الآخرين، عن الموظف، عن الطالب، عن المعلم من قبل من هم فوقه، عن الابن، عن الزوجة أو العكس، عن الأبناء ونظرتهم تجاه الآباء، فالمنهج النبوي حقيقة أعطانا ميزانًا، وأعطانا اعتدالًا، وأعطانًا اتزانًا، في النظرة تجاه الآخرين.
دعونا ننظر في حديث طلحة بن عبيد الله عند البخاري أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله ﷺ ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا، فقال: أخبرني ما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا، فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ فقال: فأخبره رسول الله ﷺ بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك، لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئًا، فقال رسول الله ﷺ: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق [1]أخرجه البخاري (1891)، ومسلم (11) واللفظ للبخاري..
هذا القيد الذي وضعه النبي ﷺ تجاه الحكم على هذا الرجل، الذي قال للنبي ﷺ أنا لن أتطوع في شيء من هذه القضايا، ولكنني سألتزم بالفرائض التي عليّ، فالنبي ﷺ قال أن هذا الإنسان سيفلح، بل سيدخل الجنة، لكن بشرط أن يصدق فعلًا، فيكون واقعه على أنه التزم بالفرائض من صلاة وصيام وزكاة، وغير ذلك من أمور الشرائع، فهنا في إشارة لنا أن الفلاح، وأن النجاح مرتبط ابتداء بقضية الفرائض، وأداء الناس للفرائض، هل هذا المعيار موجود داخل أسرنا اليوم؟ يعني: الحكم على وضع الأسر مبني على أدائها الفرائض، ليكونوا مثل هذا الرجل، لا يؤدون التطوع، وإن كان التطوع منقبة بعد الفرائض -كما تعرفون- لكن الكلام حينما يكون التقييم مبنيًّا على أمور دنيوية، وعلى قضايا شكلية، وعلى الهيئات، وعلى قضايا مالية مادية، أنا ممكن أقول فعلًا هذا الإنسان لديه مال، لديه وجاهة، لديه منصب أعطيه قدره فيما يتعلق بهذا الجانب، لكن ما يرتبط بالتقييم والنجاح الحقيقي في هذه الحياة الدنيا، القضية تحتاج إلى ضبط تربوي اجتماعي أسري كبير، ونفسي قبل ذلك، حتى يعرف الإنسان كيف ينجح في هذه الحياة، يعني: الله لما يقول الله في السورة التي قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله إلا هذه السورة لكفتهم"[2]انظر: تفسير الإمام الشافعي (3/1461)، مجموع الفتاوى (28/152)، تفسير ابن كثير (1/203) ، التحرير والتنوير (30/528). وهي سورة العصر، وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3].
يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: فهؤلاء جمعوا بين أمرين، بين تكميل أنفسهم، وتكميل غيرهم، تكميل أنفسهم بقوله : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِفهم كملوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، وتكميل غيرهم وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر: 3]، وهذه الأمور الأربعة التي تندرج تحت الاثنتين، تكميل النفس، وتكميل الغير، هي التي فيها الفلاح في هذه الدنيا والنجاح[3]تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 934).؛ لأن الله قد قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2]، يعني: أصبح الأصل في الإنسان والأكثر في الإنسان الخسارة، فاستثنى من هم غير ذلك ممن اتصفوا بهذه الصفات.
فعلينا أن نعيد معايير تقويمنا في النجاح في الحياة، وأن نكون دقيقين، فالرسول الله ﷺ قال: إن صدق، أيضًا ما أخذه الجانب العاطفي.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها | بينات أصحابها أدعياء |
يعني: قبل ذلك يقول الله ﷺ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111]، فأنت الآن تدعي بأنك لن تتطوع، ولكنك ستلتزم بالفرائض، فهذا الصحابي سيفلح بلا نقاش، وسيدخل الجنة لكن إن صدق.
فهنا أيضًا في إبراز الحقيقة لقيمة الصدق، وأثرها في قضية التقييم، فاللفتة لموضوع الصدق مهمة جدًّا، يعني: كثير من معاناة الآباء والأبناء والزوجين هو لعدم الصدق بينهم، يعني: إما مجاملات ما تصل لمستوى الوضوح والصدق، وإما الكذب بحجج أو بأخرى، قد يكون كذبًا صُراحًا، وقد يكون أيضًا تأويل وتورية، أو ما أشبه ذلك، ويصير الأصل هو هذا الأمر، فتصير قضية الصدق أن يكون التعامل بصدق واضح ما بين الطرفين زوجين، أو أبناء، ومعلم وطلاب، هذه قد تكون بالنسبة للبعض بعيدة، وهذه قضية تساعد على قضية النجاح، وتحقيق هذا الفوز في نفس الوقت؛ حتى نستطيع أن نقيّم أنفسنا وأهلينا وطلابنا تقييمًا سليمًا، كما قيم النبي ﷺ أصحابه.
انظر أيضًا في الحديث الآخر في البخاري عن أبي هريرة ، قال: وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ -فذكر الحديث - فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي ﷺ: صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان [4]أخرجه البخاري (3275)..
يعني: هو يقول ولا يقربك شيطان حتى تصبح وهو شيطان، أتى لأبي هريرة، لكنه بصورة رجل فنصح أبا هريرة وهو شيطان.
هذه فيها دروس عديدة، لكن ليست القضية الآن أخذ دروس من هذه القصص والمعالم التي نذكرها؛ لأن كل قصة ربما يحتاج إلى أن يستنبط منها مجموعة من الدروس التربوية.
لكن دعونا في نقطة المعلم الذي عندنا، وهو التقويم الصحيح والضبط في التقييم والمقاييس في النجاح في هذه الحياة، من خلال إعطاء معيار سليم حتى لا نكون مجاملين، فنقول: والله أمورنا طيبة والحمد لله، والأسرة تنحدر، وأخلاق أولادنا طيبة، وأخلاقهم تذهب يمنة ويسرة، تسمع مجالات في التقييم ومجالات في الحكم على أنه شاعر بسعادة، وفي حقيقة الأمر لا يشعر بسعادة، هو ناجح في أمور دنيوية، لكنه قد يكون لكنه ليس ناجحًا في الأمر الآخر الأخروي.
انظروا هنا إلى تقييم الآخرين، هل هناك شيء أكبر من الشيطان جرمًا وشرًا؟ ومع ذلك قال فيه النبي ﷺ: صدقك وهو كذوب.
فزوجتك أولى بإثبات صدقها إذا كانت كذلك وهو الأغلب عندها، والشيطان الأغلب أنه كذوب، قال: صدقك وهو كذوب، وهو كذوب صفة تعطيك الاستمرارية، لازمة فيه، لكنه في هذا الحدث الذي حصل بين الشيطان وبين أبي هريرة هو صادق، فأثبت النبي ﷺ له صدقه.
وقال ﷺ: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر [5](أخرجه مسلم، (1469) . هذا منهج عظيم جدًّا في التعامل مع المشكلات الأسرية وغير الأسرية، أن الإنسان لا يدقق عند القضايا السلبية؛ لأنه قد يجد 20% ، 30% لكن في المقابل عنده 70% إيجابية.
فالرسول ﷺ كان عادلًا حتى مع الشيطان، وهذه النسبة من الصدق لا تساوي بحال نسبة الصدق والقيم الإيجابية عند أبنائنا، وعند زوجاتنا، عند طلابنا؛ فأثبت له النبي ﷺ له القيمة الإيجابية، وبيّن حقيقة الأمر؛ لأنه لو قال النبي ﷺ: صدقك، ووقف، هل ستكون القضية موافقة لحقيقة الشيطان؟ لا، أبدًا وربما لو قيل هذا الكلام سيتصور الناس عن هذا الشيطان شيئًا آخر غير الحقيقة وحاشا النبي ﷺ أن يحصل منه ذلك، ولذلك أيضًا في الدقة، قال: وهو كذوب فالأصل فيه الكذب، ولكنه صدق في هذا الموطن.
كم نحن نحتاج إلى هذا المقياس والمعيار في التعامل مع الآخرين والحكم عليهم حقيقة!
ثم بيّن له النبي ﷺ حقيقته، وهذا أمر وحي من الله أن ذاك شيطان.
وفي نفس هذا المضمار عند البخاري عن وهب بن عبد الله السوائي أبو جحيفة يقول: آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي ﷺ، فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: صدق سلمان [6]أخرجه البخاري (1968)..
أيضًا هذه القصة وغيرها من القصص كما ذكرنا فيها مواقف عديدة، ودروس تستحق الحوار والمناقشة والاستفادة منها، لكن دعونا في المجال الذي نتكلم عنه وهو التقويم التربوي، فهذه إضافة حول الحكم على الآخرين، ظاهر الأمر الآن عند البعض أن فعل أبي الدرداء أفضل من فعل سلمان؛ لأنه صائم وقائم الليل، ولا شك أنه خير، لكن الخير هذا فيه ملابسات أخرى؛ فقد شكته زوجته لسلمان ، وكان سلمان مربيًا، تصور نفسك أنك تفطِّر واحدًا من صيامه، فهذا فيه صعوبة على النفس، وأيضًا يقول له: نم، ولما جاء آخر الليل، قال: قم الآن، تصور يعني ظاهر الأمر الآن أن فعل أبي الدرداء بالعبادة أفضل مما وجه إليه من سلمان، لكن النبي ﷺ حكم لسلمان قال: «صدق سلمان».
ليست القضية بالأشكال، ليست القضية لها ارتباط بأمور عديدة؛ لأن هذا الإجراء الذي فعله سلمان صحح من الوضع الذي ترتب من فعل أبي الدرداء مع أهله وزوجته، فبقي في العبادة أو شيئًا منها، ولكنه لم يضيع الحقوق التي لغيره وحافظ على الواجبات؛ لأن البعض قد تجده ما شاء الله تبارك الله له إنجاز طيب، يعني: مثل ابن ينجز في كتاب الله، رائع جدًّا ممتاز، لكن يقصر في طاعة والديه! وكما هو معلوم أن الإنجاز في كتاب الله هو نفل في الأصل، وبر الوالدين واجب.
فنحن لما نحكم على الشخص ننتبه لمثل القضايا هذه، الحكم يحتاج لأن يكون شموليًّا، بل يمكن يحتاج لأن يعدل مسار هذا الشخص لأجل أنه يضبط الميزانية والوزنية عنده فيما يتعلق بالحقوق والواجبات، فيما يتعلق بالشيء الواجب ومقابل ذلك المستحب، وما شابه ذلك، كما ضبطها سلمان .
وسلمان بالنسبة لأبي الدرداء أخ له وقرين، فاستطاع هذا القرين أن يؤثر في قرينه، وأنا أعتبر هذا الشاهد من الشواهد التي ممكن أن يستدل بها على أثر الأخ في إخوانه والصديق في صديقه، فالبعض يقول لك: يا أخي الأثر يكون من الكبير فقط للصغير، وهذا غير صحيح، ولا شك أن هذا العامل مؤثر، لكن ممكن أن يكون الأثر أيضًا من الطرف الآخر للطرف الأول، ومن الناس المتوازنين المتعادلين كما فعل سلمان، والرسول ﷺ أثبت له هذا الإنجاز الكبير في التأثير في أخيه أبي الدرداء.
وهذه الصورة العظيمة في التأثير والإصلاح، فلم يأت إليه لزيارة فحسب، بل جاء ليصلح الوضع الأسري الذي تشتكي منه الزوجة، وشعر سلمان الآن أن من وظيفته أن يصلح هذا الأمر.
هذا فيما يتعلق ببعض الدروس التربوية التي يمكن نذكرها، لكن الدرس الأساسي كما قلنا هو قول النبي ﷺ: صدق سلمان، فحكم النبي ﷺ على سلمان، وأن ما فعله هو شيء جيد، وهو مجود، ومحسن، ويستحق الشكر والتقدير، ويستحق الإشادة عليه؛ وهذا هو جزء من التقييم والنجاح الحقيقي.
المعلم العاشر: إدراك الفروق الفردية ومراعاتها
وهذا المعلم يرتبط بقضية تربوية ونفسية، وتحتاج إليها البيئات التربوية والتعليمية والأسرية، وهناك إشكالية في التعامل ما بين بعض المربين مع المتربين أيًّا كانوا هؤلاء في أسرة، أو في المدرسة، وسواء كانوا ذكورًا إناثًا، وهو أن جانب التوجيه والإرشاد والنصح والتأثير والتربية مرتبط بقضية أن الذي قدامي كأنهم شيء واحد، فهو يقول لك وجهت أبنائي، وهو وجه محمدًا، مثل إبراهيم، مثل فوزية، مثل نورة، نفس الشيء، وهل محمد مثل إبراهيم؟ والذكر مثل الأنثى؟ مختلف.
مثل أستاذ يأتي ويقدم الذي عنده، وفي طبق واحد دون مراعاة الفروق ما بين الناس الذين أمامه، فالمراعاة للفروق مهمة جدًّا؛ فمن خلالها نقدر نعرف مفتاح محمد الذي قد ما يصلح مع إبراهيم في البناء والتوجيه والتربية، أو في حل المشكلة؛ لأنه ممكن مشكلة محمد هي نفس مشكلة إبراهيم، هذا يشرب الدخان، وهذا يشرب الدخان، لكن الطريق التي فيها حل مشكلة محمد تختلف عن الطريقة التي فيها مشكلة إبراهيم؛ لأنهم مختلفون، والله قد خلق الناس مختلفين؛ ولذلك لابد أن نراعي الفروق الفردية.
وجاء عند الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح [7]أخرجه الترمذي (3790)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 216).. وفي رواية قال: وأقضاهم علي... [8]أخرجه ابن ماجه (154)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 211).
فالنبي ﷺ اكتشف الفروق ما بين هؤلاء العمالقة من الصحابة، فروق واضحة جدًّا، بل أنه فصل عليه الصلاة والسلام هؤلاء العمالقة، وما بينهم من فروق، وذكر ﷺ أميز ما يتميز به الأول والثاني، وهكذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وهنا تأكيد على جانب الاكتشاف.
فعندنا إشكالية ألا نكتشف، ونتعامل مع الناس بشيء، ونتعامل مع الأبناء على أنهم شيء واحد، فحاول يا أخي أن تكتشف ابنك، وكل واحد من أبنائك يختلف عن الثاني وستعرف هذا من خلال المعايشة، ومن خلال بعض الاختبارات، ومن خلال مواقف في الحياة، ومن خلال سؤال أصدقائه، ومن خلال المناقشة والحوار مع الأساتذة؛ حتى تستطيع أن تكتشف.
وكل منا يمكن يقول: أتذكر ولدي وهو صغير أنه كان كذا وكذا، وممكن يطلع بعض الأشياء، قد تكون ليست دقيقة، لكنها مؤشرات.
وفي بعض الأحيان الإشكالية حينما تكون في أمور تُعمل وتحتاج إلى عناية في الاكتشاف، ولكن الأب لم يكتشف في ابنه للأسف الشديد.
فمهم جدًّا أن نكتشف كما اكتشف النبي ﷺ صحابته، اكتشفهم من خلال معايشتهم ومعرفتهم من قرب، وهذه أهمية المعايشة بين المربين والمتربين، وأهمية المعايشة بين الآباء والأبناء.
وإذا المعايشة لم تأت بنتيجةٍ: اكتشفْ فيها الفروق بين الأبناء، وإذا معايشة المعلم لم تأت لي بنتيجة؛ فليست بمعايشة هذه؛ ولذلك الناس البعيدين عن المعايشة الحقيقية إنما مجرد مجاملات، مجرد روتينية في الحياة، مجرد أعطي درسي في الحصة والسلام، يمكن لو جلس وإياهم فصل وفصلين وسنة وسنتين، وتقول له فرق لي بين الموجودين قد يصعب عليه، يمكن فقط يفرق في جانب واحد وهو الجانب الأكاديمي، وفلان ممتاز؛ لأن درجاته ممتاز، وفلان ممتاز، لكن تقول له: طيب من قيادي؟ ما يدري، ما الفرق بين محمد وإبراهيم اللذين هما أخوان في نفس الفصل؟ يمكن ما يستطيع يميز، وهكذا بالنسبة للأب، فالاكتشاف قضية مهمة جدًّا؛ لأن أصل البشر كما اتفقنا مختلفين؛ ولذلك لابد أن نكتشف هذا الاختلاف الذي بينهم كما اكتشف النبي ﷺ الاختلاف الذي بين أقرب الصحابة إليه.
وعندئذ إذا اكتشفنا ميزة عبدالله عن عبدالرحمن، هل سأعطي عبدالله ما يناسب عبدالرحمن وسأعطي عبدالرحمن ما يناسب عبدالله؟ لا، بل سأعطي عبدالله ما يناسبه هو، وسأعطي عبدالرحمن ما يناسبه هو.
هل كل الأبناء يستطيعون أن يحفظوا كتاب الله كاملًا؟ أنا أذكر بعض الذين استشارونا من الزملاء حريصين في بيئاتهم أنهم يدخلون أبناءهم إلى مدارس تحفيظ قرآن، فقال: أنا عدد من أبنائي مشى ولله الحمد والمنة، لكن عندي ابن تعثر، ماذا أفعل معه؟ قلت له: أين العقبة بالضبط؟ العقبة الكؤود عند الحفظ مشى في الابتدائية، لكن كان واضح الفرق بينه وبين إخوانه الذين مشوا في ابتدائي ومتوسط، وحفظوا القرآن.
فقلت له: هل يلزم أنه يستمر حتى يحفظ القرآن كاملًا؟ قدرات الناس في الحفظ تختلف، أنا أعرف شيخًا وطالب علم ولو لم يكن حيًّا لسمّيته، وله مكانته وقدره، هذا لم يكمل دراسة الشريعة بالانتساب، وقد أكمل كل شيء تقريبًا، لم يستطع يأخذ الشهادة بسبب عدم قدرته أنه يكمل المطلوب منه في حفظ الثمانية الأجزاء الموجودة في منهج جامعة الإمام، ما استطاع في الحفظ، ووقف دراسته، وهو طالب علم قوي، وشيخ، وله إنتاج علمي قوي، لكن في الحفظ ما استطاع، هذا هو، كذلك هو، هكذا قدرته.
فعندما نقول مثلًا: كل أبنائي يصلح أن يكونوا تجارًا، ما يلزم، قد تصدق، لكن ما يلزم، أو الأب مهندس ويريد كل أبنائه يصيرون مهندسين، أو طبيب يريد أبناءه أطباء، وهذه لاحظتها، أعني: أثر الآباء على الأبناء في التوجه، في التخصص يريدهم كلهم أطباء.
حتى جاءني بعض الطلاب في المرحلة الثانوية، فيقول لي: أنا أبغى هندسة كيمائية، قلت: يا سلام عليك، ممكن تشرح لي ما هي الهندسة الكيمائية؟ قال: والله ما أدري، طيب ما الذي جعلك تقول هندسة كيمائية؟ أكيد سمعتها من أبيك وهو مهندس كيميائي؟ قال لي: نعم، قال له أبوه: الهندسة الكيميائية.
فهذا لا يصلح فربما تعثر الابن، وأعرف أشخاصًا تعثرت دراستهم بسبب هذا الاختيار، بل أعرف أشخاصًا أكملوا دراستهم في التخصصات غير المناسبة لهم وحققوا إنجازًا لكنه لا يتناسب مع شخصياتهم، فلما جاءت الوظيفة صدموا في الوظيفة، فغيروا الآن مهنتهم وأصبحت مهنتهم الآن ليس لها علاقة بالخمس سنوات التي درسوها في جامعة البترول، أو غيرها.
أو يكون الأب شيخًا في الشريعة، أو قاضيًا، فيريد من كل أبنائه أن كونوا شيوخًا وقضاة، فهذا لا يصح، وأعرف رجلًا فاضلًا ما شاء الله تبارك وتعالى، وهو متزوج أربعًا؛ فعنده ما شاء الله فريق عمل كبير من الأبناء، عنده شيخ، ومهندس وطبيب، ولغة انجليزية، عنده تخصصات عديدة، قلت له: ما شاء الله تبارك الله، قال لي: ما أقف أنا حجرة عثرة في المجال الذي هو يناسبهم، إذا كانت هذا الذي يتناسب مع عطائهم وإنتاجهم، وهذا صحيح، فينبغي أن نكتشف بشكل صحيح، وأن نمكّنهم في مجالهم بطريقة صحيحة، هذا رجل طالب علم مكِّنه من طلب العلم، هذا رجل يصلح في جوانب العلاقاتية والاجتماعية مكِّنه من هذا الجانب.
وابن القيم له كلام جميل رحمه الله في (تحفة المودود أحكام المولود) حول ما يتعلق بالنظر إلى مثل هذه المعطيات، لما تنظر إلى ابنك عنده ميل للجانب العلمي والمعرفي، فتمكنه من العلم إذا ما كان كذلك، لكن عنده ميل للقضايا الحركية وإلى آخره تمكنه في هذا الجانب، عنده ميل لصنعة معينة، تمكنه من هذا الجانب، وقد يكون هؤلاء الأبناء كلهم في أسرة واحدة، فالاكتشاف والتمكين كما اكتشف النبي ﷺ، وأيضًا مكن النبي ﷺ بأبي هو وأمي وأصحابه مما يناسب هذه المهن، فهل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه مثل أبي هريرة في رواية الحديث؟ من الذي يفوق الثاني في رواية الحديث؟ لا شك أنه أبو هريرة، ومن الذي يفوق الآخر في الجهاد؟ خالد بن الوليد، وهم كلهم صحابة أجلاء رضي الله عنهم، والرسول ﷺ مكن خالدًا، بل جعله سيفًا من سيوف الله ، وأبو هريرة أصبح راوية حديث النبي ﷺ وأكثر من روى الحديث عن النبي ﷺ، فنحتاج أن نتعامل بهذه الطريقة مع الأجيال؛ فالقضية هذه من الأمور الحساسة جدًّا اليوم.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري أن النبي ﷺ قال: يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا انظروا كيف حصل الاكتشاف والمعرفة من خلال المعايشة؟ وإني أحب لك ما أحب لنفسي هنا الروح العلاقية بين المربي والمتربي، ثم أعطاه التوجه: لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم [9]أخرجه مسلم (1826)..
النبي ﷺ يقول لأبي ذر لا تكن أميرًا على اثنين؛ لأن طبيعة شخصيته لا تناسب الإمارة، فقال له: إني أراك ضعيفًا .
فمثل هذا الموقف يجعلنا ننتبه؛ فمثلًا قد يعطي الأب ميزانية لأولاده مثلًا، وعنده رحلة، ويعطي ولده مثلًا فواتير، أو شيء، وهذا الولد يخلط في الفواتير، وربما اعتمد عليه الأب، لكن الابن ليس أهلا للقيادة؛ لأن هناك أناسًا لا يتناسبون مع التعامل مع القضايا المالية، ولا يتناسبون مع التعامل مع القضايا القيادية، فما يصلح أن يكون قائدًا؛ لأن الأصل سيكون مقودًا، هو يحتاج إلى من يقوده، وهكذا طبيعته، وما يناسب يتعامل مع القضايا المالية؛ لأنه ما عنده ضبط كما يقول أهل الاختصاص، ما هو متعلم على الضبط، ومتعلم على القضايا، هو طبيعته هكذا؛ فلذلك أعط ولدك الآخر الذي يمكنه أن يضبط لك الميزانية، ستجده ما شاء الله تبارك وتعالى ضابطًا وعمله صحيح، وأنجز المهمة، ولا تقول للأول أنت فاشل، ولا تصلح لهذا، هو لا يصلح بسبب طبيعته؛ فالنبي ﷺ بين لأبي ذر أنه لا يصلح للولاية.
فلا ننزل الأمور على رغباتنا، كأن يكون من طموح الأب أن يكون ولده طبيبًا، وربما لو درس خمسين سنة لن يصبح طبيبًا، فهو لا يصلح أن يكون طبيبًا، هذه هي طبيعته، فليست القضية على ما يرغب الأب، وبعض الآباء للأسف الشديد يحب أن يعوض الأشياء التي فاتته سابقًا في أبنائه، كان يود أن يصير قاضيًا، ولدي يصير قاضيًا، لكن هل ولدك يصلح يكون قاضيًا؟ كان يود أن يصير مديرًا لشركة، فيريد ابنه يصير مدير شركة، لكن هو لا يصلح، وضعيف، مثل ما مر في حديث أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، ما يصلح أن يكون قائدًا، ليس عليه من إشكال، الإشكال حينما لا نعرف حقيقته وطبيعته ولا نفرق بينه وبين غيره، وحينما نعرف حقيقتهم ولا نمكنهم، بل نقف حجر عثرة، ابن رائع جدًّا في التواصل مع الآخرين، وأنا ماسكه في البيت، ومانعه من أن يذهب ويشارك في مركز الحي، فهذا أمر لا يصلح وهو قتل للشيء الذي يمكن أن يبرز فيه هذا الابن.
فعلينا أحبتي أن نعرف أين هم أبناؤنا؟ أين هم طلابنا؟ أين نحن حتى؟! ما الشيء الذي يناسبني قد لا يناسب غيري؟ ثم نحن نمكِّن أنفسنا منه.
هل كل الفقهاء محدثون؟ هل كل الفقهاء بمستوى واحد؟ بل حتى في قضايا الترجيح ذكر العلماء في الترجيح عن قضية أكثرهم فقهًا وعلمًا وورعًا؛ فالناس متفاوتون، الإيمان وهو الإيمان قضية معنوية لكنها أساسية في هذه الحياة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهو ليس شيئًا ثابتًا.
لعل في هذا القدر كفاية، وبقي إن شاء الله معنا المعلم الحادي عشر، الثاني عشر نتركه إن شاء الله في حلقة الأسبوع القادم، وتصير إن شاء الله تعالى هي الحلقة الخامسة في هذه المجموعة الخامسة، ونختم بها معالم المنهج النبوي التربوي، على قدر الاجتهاد الذي حصل، وإلا القضايا في المجال أكبر وأوسع.
وننتقل إن شاء الله في الدرس الذي يليه مع الأسرة، وسنبدأ في سلسلة بإذن الله حول ما يرتبط ببعض التوجيهات والإرشادات الأسرية، وما يرتبط بقضايا التواصل الأسري، وما يرتبط بقضايا قواعد تربية الأبناء، وهذا موضوع طويل، وسينتهي الفصل بإذن الله، ولن ننتهي منه وسنعود إليه إذا كنا وإياكم من الأحياء، وعلى خير وطاعة وبر نكمله إن شاء الله إذا كان الأمر مناسبًا بإذن الله .
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (1891)، ومسلم (11) واللفظ للبخاري. |
---|---|
↑2 | انظر: تفسير الإمام الشافعي (3/1461)، مجموع الفتاوى (28/152)، تفسير ابن كثير (1/203) ، التحرير والتنوير (30/528). |
↑3 | تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 934). |
↑4 | أخرجه البخاري (3275). |
↑5 | (أخرجه مسلم، (1469) . |
↑6 | أخرجه البخاري (1968). |
↑7 | أخرجه الترمذي (3790)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 216). |
↑8 | أخرجه ابن ماجه (154)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 211). |
↑9 | أخرجه مسلم (1826). |