المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
هذا بحمد الله اللقاء الرابع والخمسون، ونحن في المجموعة الخامسة من هذه السلسلة، وما زلنا حول (معالم المنهج النبوي التربوي) وهو الجزء الثالث من هذه المعالم بعون الله وتوفيقه.
وكنا قد تكلمنا عن المعلم الأول حول ما يتعلق بالتعامل مع كتاب الله ، ثم سمة التعليم، ثم الربط ما بين العقيدة والسلوك، ثم حول التفقه في الدين، ثم التربية الأسرية، ثم بناء القيم والأخلاق والآداب.
المعلم السابع: رعاية الحقوق والمعاملات
لو وقفنا -مثلًا- مع حديث سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ أُتي بشراب، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، فَتَلَّهُ في يده[1]أخرجه البخاري (2605)..
فهذا نموذج من المنهج النبوي، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على يمينه غلام ليس كبيرًا، بينما كان أشياخ الصحابة عن يساره عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يستأذن عليه الصلاة والسلام هذا الغلام بأن يعطي هذا الشراب للأشياخ، وهذا لا شك أن فيه رعاية للحقوق، أن يطلب منه ويستأذن بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك والغلام قد تربى في كنف النبي ﷺ ؛ فإنه لم يؤثر بنصيبه من النبي ﷺ فكان يريد أن يكون نصيبه مباشرة بعد شراب النبي ﷺ منه.
فهذا مثال على قضية رعاية الحقوق والمعاملات، ومنها المعاملة مع الغلمان الصغار، ورعاية حقوقهم في مقابل الأشياخ، فربما نحن ننسى حقوق الأولاد حينما نفكر بالآباء، وننسى حقوق الطلاب حينما نفكر بالمعلمين، وننسى حقوق الأطفال والصغار حينما نفكر بالكبار.
يبقى الحق واجبًا أن يُعطى ويُعان على تحقيقه لصاحبه سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، ذكرًا أو أنثى، أيًّا كان مكان هذا الإنسان، ولذلك المنهج النبوي أبرز رعاية هذه الحقوق.
وجاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، يقول: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد [2]أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549)..
فهذا حفظ لحق الوالدين في أمر بالغ الأهمية، وهو ما يتعلق بالجهاد، وتتوق إليه نفوس الرجال وبالذات الشباب، ولكن تأتي هذه القضية فتضبط بحق الوالدين، وهذه أيضًا منهجية عظيمة ومهمة في ذلك الوقت، وتبرز هذه القضية وأهميتها في زمننا اليوم، فقد يريد خيرًا ولكنه يفعل ما هو أشد منه مفسدة، وهو عدم رضا الوالدين؛ ولذلك النبي ﷺ قال: ففيهما فجاهد فهما أوْلى من الجهاد غير المتعين.
وجاء في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله ﷺ يومًا فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف [3]أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1459)..
والشاهد من الحديث احفظ الله يحفظك فهذا حق الله ؛ لذلك في تربية الأسرة، وتربية الأبناء، والتربية المدرسية، والتربية المجتمعية، نحتاج إلى أن نهتم بهذا المعلم، وهو رعاية الحقوق والمعاملات، يعني: ما الحقوق الواجبة علينا تجاه الآخرين؟ ما الحق الواجب علينا وعلى أبنائنا وأجيالنا تجاه الله ؟
ما الحق الواجب تجاه النبي ﷺ؟ ما الحق الواجب تجاه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ ما الحق الواجب تجاه الوالدين؟ ما الحق الواجب تجاه الأطفال؟ ما الحق الواجب تجاه المسلم؟ ما الحق الواجب تجاه الكافر؟ ما الحق الواجب تجاه الجار؟
فهذه الحقوق إدراكها مهم، ويحصل خلل كبير في التربية حينما نغفل أو لا نعلم، أو لا نعرف هذه الحقوق، يعني لا ندري ما هي حقوق الله ، أو حق الله الوالدين، أو حق الجيران، ما نعرف عنها، يعني كلام عام، لكن لا ندرك ما المطلوب بالضبط؛ فلذلك المعرفة مهمة جدًّا.
الشيء الآخر: أن هذا الحق هو واجب علينا، فلا بد أن نقدم الواجب الذي علينا بإعطاء حقوق الآخرين قبل أن نفكر بحقوقنا، ومن ذلك تربية الأطفال، وتربية الأبناء، وتربية المجتمع، وتربية الطلاب، مهم جدًّا أن لا يكون المنتج في الأخير أجيالًا يكون اهتماماتها أن تطلب حقوقها، وتنسى الواجبات التي عليها.
على أقل تقدير أن يكون هنالك توازٍ وتوازن ما بين الحق الذي لك فتطلبه، والواجب الذي عليك فتقوم به.
وهناك أيضًا منزلة عليا وهي: أن تقدم الواجب الذي عليك على الحق الذي لك، لذلك هل فيه تنازل؟ وهل فيه تضحيات في الواجب الذي عليك تجاه الآخرين؟ هل يجوز لي أن أضحي بحقوق الآخرين؟ لا يجوز، لكن ممكن أن أضحي بحقوقي فأبذلها لغيري، أو أتنازل عنها، فالذي يربي الآخرين على الأنا، وعلى الرغبات والأمنيات؛ يقع في أمر خطير.
لكن لما ترتقي إلى التربية الأخروية، والتربية على أن الأمر لما يحبه الله حتى لو تنازع ذلك مع ما أحب، فأترك محبتي الدنيوية التي أنا أميل إليها لمحبة الله ، فهذا من أوثق عرى الإيمان، والإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوة الإيمان إلا بهذا الأمر، كما جاء عن أنس بن مالك ، عن النبي ﷺ قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ...[4](أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43)..
المعلم الثامن: العناية بالأهداف
وهذا أمر مهم جدًّا بالنسبة للتربية، صحيح أن النية الطيبة لها محلها، لكن لا تعارض بين النية الطيبة وبين تحديد الأهداف في هذه الحياة، بل النية الطيبة في حد ذاتها هي مجال كبير للأهداف الأخروية؛ لذلك مهم جدًا أن تكون لنا أهداف، ما هي أهداف الأسرة؟ ما هي أهداف المدرسة؟ ما هي أهداف المعلم في الفصل؟ ما هي أهداف مثل هذا اللقاء وهذا الدرس؟ ما أهداف هذه السلسلة؟
لابد نحرر الأهداف، ونعتني بها، وهذه قضية مهمة في التربية، بل بعض المربين والمختصين من الذين يهتمون بالتأصيل الإسلامي، مثل أستاذنا الدكتور عبدالعزيز النغيمشي، أول ما بدأ في كتابه [علم النفس الدعوي] بدأ في موضوع الأهداف التربوية.
فكيف نوجد ونحقق الأهداف التربوية؟
أنا لا أتكلم عن هذا الموضوع الطويل الذي يشترك فيه المختصون في عدد من المجالات، ولكن يكفيني في ذلك ملامح من خلال سيرة النبي ﷺ، ووقفات من الهدي النبوي؛ حتى نعرف المنهج النبوي التربوي في هذا الموضوع.
العناية بالأهداف المعرفية
فعن عُمَرَ بن الحكم أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله، إن جارية لي كانت ترعى غنمًا لي فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها وكنت من بني آدم فلطمت وجهها، وعلي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله ﷺ: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: فأعتقها فقال عُمَرُ بن الحكم: يا رسول الله أشياء كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، فقال النبي ﷺ: لا تأتوا الكهان فقال عُمَرُ: وكنا نتطير، فقال: إنما ذلك شيء يجد أحدكم في نفسه فلا يضرنكم[5]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم: (19984)، بهذا اللفظ. وهو عند مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: … Continue reading.
الشاهد الذي قصدته هنا قول النبي ﷺ لهذه الجارية أين الله؟ فقالت: في السماء، هذا هو من قبيل الأهداف التي تسمى الأهداف المعرفية، ولا نستصغر هذه الأهداف، بل إن هذه القضية كونها واضحة عند الجارية، معرفية نظرية علمية بحتة أثبتت عقيدتها الصحيحة، وكان ذلك سببًا في أن النبي ﷺ يقول: أعتقها، فإنها مؤمنة فأثبت لها الإيمان عليه الصلاة والسلام.
فمهم جدًّا أن نربي الأجيال على مثل هذه الأهداف العلمية المعرفية النظرية، وهو أن الله في السماء ، وهذا خلاف ما يطرحه البعض في أنه قد يكون الصغار ليسوا بحاجة إلى مثل هذه الأمور، وهذا غير صحيح، فهم يحتاجون إلى المخزون العلمي الذي يبقى ويتطور بعد ذلك من خلال النضج وتوسع الإدراك عند الشخص شيئًا فشيئًا لا يتعارض مع البناء المعرفي في البداية، حينما يقال له: قل: "لا إله إلا الله"، وهو لا يدرك "لا إله إلا الله"، بل يمكن يسألك ما هي: لا إله إلا الله؟ من هو الله؟ يمكن يسألك الأسئلة المحرجة هذه، فهذا ليس معناه أننا لا نعلمه إياها، وهنا تأتي أساليب التخلص من الأسئلة من خلال إجابات ذكية، لكن الهدف المعرفي هدف مهم، ولابد منه، وعندئذ يبرز الجانب العلمي الشرعي، ويبرز جانب المعرفة النافع عمومًا، فلا يمكن يكون أي سلوك في هذه الحياة إلا له مقدمة علمية فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، وكما قال البخاري: باب العلم قبل القول والعمل[6]صحيح البخاري (1/24)..
فهذا نموذج، فأثبت الإيمان من خلال معرفتها بأن الله في السماء وهي جارية.
الشاهد الآخر في الهدف المعرفي -والشواهد كثيرة-: قصة الشاب الذي أتى للنبي ﷺ يستأذنه في الزنا، فقد جاء في الحديث عن أبي أمامة الباهلي قال: إن فتى شابًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه. مه. فقال: ادنه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[7]أخرجه أحمد، رقم: (22211)، وصححه محققو المسند..
فهذا المنهج العظيم في تعديل السلوك، والشاهد من الحديث الهدف المعرفي، فالصورة التي تنطبع عند الشاب حينما قال له النبي ﷺ : أترضاه لأمك؟ هو فكر أمه -والعياذ بالله- يُزنى بها، فقال: لا، فداك أبي وأمي.
فهنا التأثير على الجانب العقلي والمعرفي، أو مركز المعرفة، وهو العقل، فنقول: الهدف المتعلق بالعقل عمومًا، ومنه الجانب المعرفي والمعلوماتي، وما شابه ذلك.
فهنا التأثير، وأنت ممكن أنك تغيّر في ابنك لما تخالط عقله؛ لأنه في بعض الأحيان تكون القضية إما خلل في التفكير، فتعدل التفكير، أو أنه وسيلة للتأثير من خلال التأثير في التفكير.
هو فاهم خطأ، وما يقبل واحد أن يُزنى بأمه -والعياذ بالله- لكن لما يبدأ يعقد هذه المقارنات، ويضرب القضية في ذهنه، فقال: لا فداك أبي وأمي، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم وهكذا الذي بعده، والذي بعده، والذي بعده.
فهذا يسمونه في علم النفس: العلاج المعرفي، وهو المتعلق بقضية التعديل السلوكي والتأثير في الآخر من خلال العقل، الذي هو محل المعلومات والمعارف، وما شابه ذلك، وما يتعلق بالجانب الذهني.
يمكن أن نقول هنا الأهداف متعلقة بالجانب الذهني والعقلي والمعرفي.
هذا الصنف الأول من الأهداف، التي يسمونها الأهداف التربوية، لعل بعضكم يحضر بعض الدورات أو في التعليم، يسمونها الأهداف التربوية، يقسمونها ثلاثة أقسام: الهدف المعرفي، والهدف الوجداني، والهدف المهاري، فنحن سنأخذ هذه إن شاء الله الآن في شواهدها.
العناية بالهدف الوجداني
دعونا الآن نأخذ الجانب الوجداني، ضعه في بالك وأنت تربي، لابد من استحضار العناية بالهدف الوجداني كما اعتنى النبي ﷺ بالهدف المعرفي والعقلي، فخاطب الشاب في عقله، وأكد إيمان هذه الجارية بسبب المعرفة التي لديها، فكذلك النبي ﷺ اعتنى في تربيته بالهدف الوجداني.
ففي نفس حديث الشاب الذي قال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فصاح الناس به، والنبي ﷺ لم يزجره بل قال له: ادنه، فدنا، هذا كله مرتبط بجانب القرب الوجداني، المؤثر في الجانب النفسي، مهم جدًّا هذا القرب.
ولاحظوا في آخر الحديث وضع النبي ﷺ يده على صدره، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه فهذا الأمر المتعلق بجانب رعاية المجال العاطفي، ومجال المشاعر، ومجال الوجدان عند الآخرين.
ولذلك قد يحصل هناك فراغ عاطفي، وفراغ وجداني، وفراغ في المشاعر، وإذا حصل هذا الفراغ حتى لو كانت المعلومات نظيفة وممتازة، وحتى لو كنا أقوياء في العلم، وحتى لو كان أبناؤنا وطلابنا يحققون مراتب عليا، لكن إذا ما جاء الهدف الثاني وهو الهدف الوجداني، رأيت ابنك ورأيت ابنتك يتمردون عليك، ورأيت الطالب لا يستمع لك وهمه فقط أنه يأخذ الشهادة ويحقق ويجاملك، وما شابه ذلك، إذا كنت لا تشبع الجانب الوجداني والعاطفي الذي أشبعه النبي ﷺ في تعاملاته مع الصحابة كثيرًا؛ ولذلك جاء عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس [8]أخرجه أحمد، رقم: (3938)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/600).. أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
ولا يمكن أن يكون الإنسان مشبعًا للجانب العاطفي الوجداني إلا إذا كان هينًا لينًا سهلًا قريبًا، كما كان عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أثنى الله بذلك على النبي عليه الصلاة والسلام وبيّنه أيضًا في التوجيه فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159].
ومما يدل على هذا الهدف: حديث العرباض بن سارية عند الترمذي، وهو حديث حسن صحيح، قال: وعظنا رسول الله ﷺ يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ [9]أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، وأحمد (17142)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 526)..
هنا أسلوب الموعظة، وهو من الأساليب التربوية المهمة التي منها يتحقق الهدف الوجداني، ويُملأ فيه الجانب العاطفي عند الإنسان، وهو أسلوب من الأساليب المهمة، فلماذا لا يُستخدم هذا بين الآباء والأبناء؟
والكثير من استفسارات الآباء والأمهات حول ما يرتبط بالمهارات والمعارف، يقول لك: كيف أجعله يطور نفسه؟ أو يمارس القضية هذه، أو ماذا أقول له من معلومات؟
نقول: لماذا لم تعظه؟ فالموعظة فتؤثر في النفس، وتؤثر في القلب؛ ولذلك علامة التأثر من الموعظة: لما ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وهذا يحصل حينما يتربّى الجيل على هذا.
قال الله في حق الذين وجِلت قلوبهم: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، وقال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
فالمقصود الأثر المتعلق بالجانب الوجداني، وليونة القلب، وخضوع القلب، وخشية النفس، وذرف العيون، فهذا مهم جدًّا في تحريكه في نفوس الأجيال، بل أنا أرى أن هناك ما يسمى بالتصحُّر الإيماني، والضعف الإيماني، وهناك جمود في هذه القضية؛ لقلة القدوات من جهة، ومن جهة ثانية قلة استخدامنا الأساليب ومنها الموعظة.
فأين الخطباء من طريقة الموعظة كما كان عليه النبي ﷺ؟ وأذكر الشيخ عبد الله بن قعود رحمه الله أحد هيئة كبار العلماء، لما كان في الرياض، وكنا نصلي معه الجمعة في جامع الملك فيصل، وكان الشيخ رحمه الله متميزًا في خطبه، وخطبه قد جُمعت في كتاب خاص به، وتجد الميزة الأساسية فيها الموعظة، وهذا هدي النبي ﷺ، خطبة قصيرة ومؤثرة، وفيها الموعظة، فتحيي النفوس، وتحيي القلوب؛ لذلك ربط الأجيال بالله وتخويفهم بالله وتحبيبهم لله ، وأن يرتبطوا بالأهداف العظيمة، وفي الدوافع الأخروية وما عند الله ، كل هذا مما يساعد على هذا الجانب المتعلق بقضية تحقيق الهدف الوجداني والمشاعر والجانب العاطفي.
فالجانب العاطفي يمتلئ عن طريق الأب أو المعلم أو المربي، وإذا تخلوا ستأتي الأفلام والأغاني وتشبع العاطفة لدى الأجيال، وسيتجهون -والعياذ بالله- إلى المواقع الإباحية.
وستجد القضية الأساسية هي إشباع العاطفة، لكن لو عُمِر القلب بمحبة الله ، فلن يزاحم هذا القلب غير محبة الله تعالى؛ ولذلك مقام العبودية من أعظم المقامات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية"[10]نسب هذه المقولة تلميذه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/ 429).، وكتابه الذي عقده في العبودية كله يتحدث عن هذا المجال.
فالإنسان الذي يريد السعادة الأبدية، والذي يريد أن يملأ هذه النفس سعادة وأنسًا ورحابة في الضراء والسراء؛ عليه بعتبة العبودية؛ لأنه سيمتلئ بأعمال القلوب، كالرجاء، والخوف، والمحبة، ليس رجاء ما عند البشر، ولا محبة البشر، وإنما ما عند الله الذي خلقني وخلقك.
فحينما نملأ أحاسيس ومشاعر ووجدانيات الأجيال ذكورًا وإناثًا بتحقيق الهدف الوجداني نستطيع أن نكون قد ملأنا شيئًا كبيرًا، ونستطيع أن نفرغ، فهو يبكي؛ لأنه قد سمع آيات الوعد والوعيد، لا يبكي من أجل فِلم الحبيب وحبيبته، في آخر الفلم حصل لهم حادث وماتوا، فبكى وبكت، فهذا بكاء وكذاك بكاء، وربما بكى لأن الفريق انهزم، فهذا بكاء وكذا بكاء، وشتان بينهما!
والنبي ﷺ من قربه المادي والمعنوي، يُقبل الجسد بالجسد، فتأتي فاطمة رضي الله عنها ويقوم لها، ويقبلها ويجلسها عنده[11]أخرجه البخاري (6285)، ومسلم (2450)..
الأطفال يضمهم عليه الصلاة والسلام ويحملهم، هذا فيه قرب جسدي، الشاب هذا جلس قريبًا منه هذا القرب المادي.
القرب المعنوي: تعاطف الاهتمام، كيف حالك يا ولدي؟ كيف حالك يا محمد؟ كيف حالك يا أخي؟ هذا التعاطف كل واحد منا لو جاء واحد بجواره في المسجد، حتى لو كان ما يعرفه وسأله عن صحته.
أشعر أنك تعبان يا أخي، وهو ما يعرفني، وأنا شخص أشعر أن هذا شيء من العاطفة الجياشة التي يمنحني إياها هذا الشخص، فكيف لو كان الأب لابنه، والمعلم لطلابه، وما شابه ذلك؟ فالقضية بحاجة لعناية.
وقد أجاد الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار في الكلام حول هذا الموضوع وأهميته وخطورته في كتابه الجميل "التواصل الأسري" في الجزء الثالث من سلسلة التربية الرشيدة.
وأنا أدعو للعودة والرجوع والمحاسبة لهذا الموضوع؛ لأن كثيرًا من تفسيرات الانحراف، وبالذات الانحراف السلوكي، والانحراف الأخلاقي، كثيرًا من تفسيراتها هو متعلق بإشباع الجانب العاطفي لدى الأجيال.
فلنراجع قربنا المادي، وقربنا المعنوي مع أجيالنا، أبناء كانوا أو طلابًا، نراجع الرحمة، والتيسير، والتأني، والتواضع، وفيما يتعلق بقضية القرب المعنوي، ثم القرب كذلك المادي، هل أعطيهم من وقتي؟ فبعض الأساتذة مستحيل يمضي مع الطلاب وقتًا يسيرًا حتى في الممرات ويأخذ ويعطي معهم، لا، عنده الحصة والسلام، ومع السلامة، والطلاب يتحاشونه؛ لأنهم يعرفون أنه غير متجاوب معهم، لكن شخص آخر يشبع عندهم هذا الجانب تجد أنهم يأنسون به، ويذهبون إليه؛ لأنه يعطيهم، يأتون إليه، ويتصلون فيه، ويطلبون منه مزيدًا من الرعاية والاهتمام.
وأذكر أحد الأساتذة الفضلاء، وهو شيخ فاضل، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، وإلا قد أذكر اسمه، كان في مدرسته في الثانوية، أيام ما كان يدرس في المرحلة الثانوية، كان يأتي في المساء مع طلابه بنشاط، في برنامج إضافي، فكان كثيرًا من الطلاب يحضرون معه، حتى من الطلاب الذين ليسوا ماشين في البرنامج أصلًا، وإنما حبًّا فيه؛ نظرًا لقربه منهم.
وهذا الكلام الذي أقوله قبل الإعلام الجديد، والأجهزة الذكية، أما اليوم فصارت القضية مَحَكُّها أخطر من ذي قبل، وأصبح إشباع الجانب الوجداني والعاطفي وتحقيق هذه القضية أصعب؛ فمن قبل إذا لم يشبع المعلم عاطفته أو الأب عاطفته سيذهب إلى الشارع، أما الآن لا يحتاج يطلع الشارع؛ فالجهاز في بيته وغرفته وجيبه، ويبحث على من يعطيه العاطفة والوجدان، فتتجه به هذه الوسائل يمنة ويسرة، إلا إذا لطف الله بهم.
ولذلك من الأهمية بمكان أن ننتبه لهذا الموضوع غاية الانتباه، وزمام الأمر -بعد توفيق الله- بأيدينا من خلال القرب المادي والقرب المعنوي.
العناية بالهدف الحركي المهاري
انظروا إلى هذا الحديث الذي رواه أنس بن مالك عند مسلم أن النبي ﷺ مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شيصًا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم [12]أخرجه مسلم (2363)..
يعني: الآن تأبير النخل، وما يتعلق به مهارة، هل يلزم أن هذه المهارة أن تكون عند رسول الله ﷺ؟ هي قضية دنيوية، متعلقة بمهارة إنسان في هذه الحياة، فهو أعطى رأيًا عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، ولكن كان الأمر غير ذلك، فقال: أنتم أعلم بأمر دنياكم، فالنبي ﷺ أكّد هنا على الجانب المتعلق على المهارات في الحياة، بل قد يكسب الابن مهارة أكثر من مهارة الأب، والطالب أكثر من مهارة المعلم، أهم شيء تكون المهارة نافعة ومباحة.
الشاهد الآخر: في حديث مالك بن الحويرث قال: أتينا النبي ﷺ ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله ﷺ رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا -أو قد اشتقنا- سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم، -وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها- وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم [13]أخرجه البخاري، رقم: (7246)..
فمالك بن الحويرث هو من الذين رأوا صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام كما رآها لما جلسوا بضعة أيام مع النبي ﷺ، وتعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام صفة الصلاة، ثم ذهبوا وعلموا أصحابهم، فالمهارة هنا: هو ما يتعلق بالجانب التطبيقي.
يعني: الهدف المعرفي عبارة عن معرفة، وعلم، ومكانها في العقل، والجانب الوجداني مشاعر، وأحاسيس، ومكانها داخل القلب والنفس، والجانب المهاري مرتبط بالجوارح، فهذا مقصودنا، مثل قضية تأبير النخل، هذه جوارح، مهارة اكتسبت، ومثل قضية الصلاة أيضًا متعلق بجانب الجوارح.
مثال أيضًا في الحديث الصحيح عند البخاري من حديث عن المقدام ، عن رسول الله ﷺ، قال: ما أكل أحد طعامًا قط، خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده [14]أخرجه البخاري، (2072)..
الجانب المهاري، أو النفس الحركي، أو الهدف العملي هو قوله ﷺ: من عمل يده، فالكسب شريف وعظيم، فهذا له مجاله، وهذا له مجال آخر، وهذا كله من العناية بالأهداف في بناء الشخصية.
لعلنا نقف عند هذا الأمر، وبهذا نكون قد أخذنا بما يتعلق بمعلم رعاية الحقوق والمعاملات، وذكرنا مجموعة من بعض المواقف فيما يتعلق في حق الله ، وفي قضية حقوق الأطفال، وما يتعلق بقضية بر الوالدين، أو حق الوالدين، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على حفظ هذه الحقوق كلها وغيرها مما يجب علينا.
وكذلك تحدثنا عن العناية بالأهداف، وأهمية التربية، وأن تعتني التربية بالأهداف، لكن بشمولية الأهداف التي هي المعرفية المتعلقة بالجانب العقلي، والوجداني، والجانب المهاري.
أما أن يأتي الابن أو الطالب وهو متفوق من الناحية العقلية، لكنه لا يكسب مهارة، وعنده جفاف في العلاقات، وجفاف في القيم، ويكون آخر عنده اهتمام في الجانب القيمي، ولكنه ضعيف في الجانب العلمي، أو شخص ممتاز في جانب المهارات والكسب، ولكنه لم يشبع في الجانب العاطفي؛ فهذا أمر لا يصح، ولا بد من شمولية التربية، فتجتمع هذه الأوجه الثلاثة، وهي ما يسمى بالأهداف التربوية.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، ونسأله العون والتوفيق، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (2605). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549). |
↑3 | أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1459). |
↑4 | (أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43). |
↑5 | أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم: (19984)، بهذا اللفظ. وهو عند مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالًا يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم قال: قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك قال: وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها، فإنها مؤمنة مسلم (537). |
↑6 | صحيح البخاري (1/24). |
↑7 | أخرجه أحمد، رقم: (22211)، وصححه محققو المسند. |
↑8 | أخرجه أحمد، رقم: (3938)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/600). |
↑9 | أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، وأحمد (17142)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 526). |
↑10 | نسب هذه المقولة تلميذه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/ 429). |
↑11 | أخرجه البخاري (6285)، ومسلم (2450). |
↑12 | أخرجه مسلم (2363). |
↑13 | أخرجه البخاري، رقم: (7246). |
↑14 | أخرجه البخاري، (2072). |