المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثالث والخمسون من هذه السلسلة التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها: "تطبيقات تربوية نفسية من الكتاب والسنة"، وهذا هو الدرس الثاني من المجموعة الخامسة من هذه السلسلة، وقد سبق الكلام عن: "معالم المنهج النبوي التربوي"، وسبق الحديث عن ثلاث نقاط من هذه المعالم:
المعلم الأول: التعامل مع كتاب الله .
والمعلم الثاني: طريقة التعليم.
والمعلم الثالث: الربط ما بين العقيدة والسلوك في منهج النبي ﷺ .
ومن أراد مراجعتها أو لم يكن حاضرًا فهي موجودة في أرشيف موقع البث الإسلامي.
فهذه المعالم لا تكاد تنتهي؛ لأن المنهج النبوي مَعين عظيم، والناس في أمس الحاجة إليه في قضايا تربية النفس، وتربية الغير، وبناء هذه النفس البشرية على هذه المعالم، فبيوتنا اليوم وأنفسنا ومدارسنا ومجتمعاتنا بأمس الحاجة لمنهج النبي عليه الصلاة والسلام في التربية، وبناء النفس، هذا هو الذي بنينا عليه هذه السلسلة، فنقول بعد عون الله توفيقه:
المعلم الرابع: التفقه في الدين
مثل حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أصاب رجلًا جرح في عهد رسول الله ﷺ ثم احتلم فأُمر بالاغتسال فاغتسل فمات فبلغ ذلك رسول الله ﷺ ، فقال: قتلوه قتلهم الله ألم يكن شفاء العي السؤال [1]أخرجه أبو داود (336-337)، وابن ماجه (572)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4362)..
فهذا منهج تربوي مهم جدًّا، فمن خلال الحب للخير حدث ذلك، لكن ليس مبنيًّا على علم بالحكم الشرعي، لذلك وضع النبي ﷺ منهجًا مهمًّا بالنسبة لنا بقوله عليه الصلاة والسلام: ألم يكن شفاء العي السؤال، فالجهل يُرفع بالسؤال والعلم، ولذلك يجب أن نربي أنفسنا وغيرنا على ذلك، وكلما كان الإنسان يسأل ويستفسر ويستوثق؛ يطمئن في أمور دينه وفي أمور دنياه.
والنفس البشرية تحب أن تنجز في هذه الحياة الدنيوية وهذا أمر طبيعي فتسأل وتستفسر عن قضايا متعلقة بالعقار، والصحة، والوظائف، والتقنية، ودقائق الأمور، فكما أننا نحتاج إلى مثل هذه الأمور باعتدال نحتاج إلى الاستفسار والسؤال فيما يتعلق بأمور ديننا، وهذا منهج مهم جدًّا، وهو منهج السؤال والتفقه في الدين من خلال ما ذكره النبي ﷺ، بل قول النبي ﷺ قول خطير: قتلوه قتلهم الله! فالإنسان ينتبه إلى أنه يلقي الأمور على عواهنها ويفتي في المجالس، ويقول: يجوز، ولا يجوز، ولا أتكلم عن العلماء وإن كانوا بحاجة أن يتقوا الله أيًّا كان، فالأب مع أبنائه عندما يقول مثلًا: ما فيها شيء افعلها، وتقول الأم كذلك، وتصبح هذه هي الفتوى، يعني أظنه كذا، يقول عقبة بن عامر: «تعلموا قبل الظانين»[2]صحيح البخاري (8/ 148)، موقوف على عقبة بن عامر.، ناس تعبدهم لله وتفقهم من خلال الظن، أظنه كذا، وتصبح فتوى، فتسير ويطير بها الركبان، ويأخذها الأب والأم والولد والبنت على هذه الصورة، فتدبر هذا المعنى النبوي العظيم، وبداية يخشى الإنسان أن يقع فيما حرمه الله من الفتوى على الله بغير علم، قتلوه قتلهم الله »، فاحذر أن تقع فيما وقع فيه هؤلاء، وهؤلاء في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وزمن الصحابة، ومع ذلك حصل هذا الذي حصل.
الأمر الثاني: الطريق لرفع الجهل والعي هو السؤال، فيسأل الإنسان صاحب العلم والفقه والورع حتى يستطيع أن يصل للأمر كما يصل في أمور دنياه، لذلك موضوع العلم وبالذات العلم الشرعي له قيمة مهمة جدًّا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم[3]أخرجه ابن ماجه (224)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3913)..
ويقول عليه الصلاة والسلام: وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر [4]أخرجه ابن ماجه (239)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3914).، وأهل العلم يذكرون أن المقصود الأول في هذا الحديث هو العلم بالشريعة الذي ضيعه كثير من الناس، وضيعته كثير من الأسر، يقول أحد الدكاترة الفضلاء وقد بلغ مستوى الأستاذية في تخصص دقيق في الطب: "بلغنا أدق الأمور في هذا التخصص، ولكن للأسف الشديد أنا في أمور الشريعة من أكثر الناس جهلًا، وإذا قرأنا كتاب الله لا نستطيع أن نقيم حروفه"، فعكف بعد أن امتد به العمر إلى أن أحسن تلاوة كتاب الله، وفقه الله إلى الطريق وإن كان تأخر.
وتوجد دراسة عملت على المرحلة الجامعية عام 1421هجرية عملتها مجلة الأسرة على طلاب المرحلة الجامعية في الدمام، وفي الرياض، وفي جدة عن ثقافة الشباب، وعنونت المجلة نتائج هذه الدراسة بقولها: "شبابنا جماجم فارغة"، فاحتلت الثقافة الرياضية، وقبل ذلك الثقافة الفنية المتعلقة بالأغاني والمسلسلات والأفلام رقم واحد في مقابل الأشياء الرئيسية، ومنها: ما يتعلق بالجانب الشرعي كانت في أواخر الأعمدة للأسف الشديد 88%، للفن 87% للرياضة، وكانت تلك في 67، وفي شيء من هذا القبيل، فهذه قضية خطيرة جدًّا في مجتمع يقال: هو محافظ، وعنده معطيات الحصول على العلم الشرعي، ومع ذلك تأتي مثل هذه النتائج، فنحن بأمس الحاجة إلى هذا المعلم المهم النبوي في الحرص على التفقه في الدين، وطلب العلم الذي هو فريضة.
وفي الحديث الآخر: يقول عليه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب[5] أخرجه ابن ماجه (224)، وضعف الألباني في ضعيف الجامع (3626)، وحسنه في تحقيق مشكاة المصابيح (218).، فالخنزير حين يُقلد جوهرًا ولؤلؤًا وذهبًا شيء عظيم هذا الذي قلد به الخنزير، لكن قُلد به خنزير! وهذا فيه إشارة للعناية والاهتمام بالناس الذين يقبلون على العلم أو يكون عندهم رغبة وميل للعلم أن نحرص عليهم كما كان يرحب بهم النبي ﷺ ومن سلف هذه الأمة.
وهناك بعض الأجيال تجد عندها شيء من هذه الميول من وقت مبكر، يذكر أحد الزملاء وهو دكتور في إحدى الجامعات من حبه للقراءة ربى أبناءه عليها فيقول: "لي بنت في سن مبكرة قبل المدرسة أو في أوائل المرحلة الابتدائية أنهت: "الرحيق المختوم" للمباركفوري في السيرة النبوية"، وهذا شيء نحتاج أن نتلمسه في أبنائنا ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
فلذلك نحتاج إلى البناء العلمي المعرفي في أجيالنا، فحينما يكون الأجيال يعرفون دقائق الجوالات والأجهزة الذكية والأيبادات وما شابه ذلك لكن تسأله عن أركان الصلاة مع أنها قد عُرفت في المناهج، لكن لم يتعامل معها كما تعومل للأسف مع هذه الأجهزة حين ربط ما بين الجانب العملي والتطبيقي والرغبة والميل، فهل هذا الجانب وُجد في خلال التفقه في الدين؟!
فباختصار القضية: إبراز أهمية هذه الجانب، قضية الاهتمام بمن لديه هذا الميول، وقضية الحذر من أن نفتي على الله ونقول على الله بغير علم في بيوتنا، ونريد فقط أن نمشّي الأمور.
وما أجمل أن تكون مقصّرًا وتقول لابنك: هذا لا يجوز، لكن أسأل الله أن يتوب عليّ، لا أكون قدوة لك في هذا الجانب، الاعتراف بالحق فضيلة! فتعترف بالخطأ خير أن يرى ابنك أن ما تمارسه صحيح، فلست قدوة بهذه الصورة، الاعتراف بالخطأ أهون من أنك تقلب الحقائق وتجعل الحق باطلًا والباطل حقًا، وتجعل المحرَّم حلالًا، ومن الحلال محرمًا، وقد لا يخلو الواحد يومًا إلا ويسمع هذا الشيء، فننتبه لهذا الأمر.
والسلف الصالح كان الواحد منهم إذا سُئل أحال الإجابة إلى صاحبه ثم تعود إليه، فكل يرمي على الآخر؛ لأن هذا من الأمر الخطير مثلما ذكر ﷺ : قتلوه قتلهم الله!، فهل الواحد منا يتحمل أن تصيبه مثل هذه الدعوة؟
هذه كانت بسبب جرح واغتسل؛ وحكم صاحب الجنابة أن يغتسل لكن مثله لا يغتسل فحصل أنه مات.
وليس شرطًا أن يموت، فممكن يهلك أخلاقيًا، ويمكن يصبح لديه من الشبهات فينحرف فكريًّا وأخلاقيًّا بسببك أنت! وبسبب ما تعطيه من أحكام، والمنهج النبوي يقول لك: شفاء العي السؤال، فمثلما تسأل عن المكينة الفلانية، والثلاجة الفلانية، والأداة الفلانية والماركة هذه مناسبة أو غير مناسبة، هذه من باب أوْلى، هذه فيها ذمم، فيها الدين، فيها القيم، والأعراض، والدماء، والأموال، كلها من القضايا المهمة التي نحتاج أن نعتني بها.
هذا هو المعلم الرابع الذي يتعلق بالتفقه في الدين، وهي إشارات لا نستطيع أن نستوعب كل شيء؛ لأن كل معنى جدير بأن يُتكلم به أهل الشريعة، ومن وفقه الله ، وكذلك مليء في مضامين التربوية والنفسية من خلال كتاب الله وسنة النبي ﷺ، إنما هي معالم وإشارات حتى نستطيع أن نتعرف على مضمونه، ونسأل أنفسنا فيها هل هي موجودة في بيئاتنا أم أنها غائبة في تلك البيئات؟!
العدل بين الأبناء
المعلم الخامس: ما يتعلق بالتربية الأسرية
العدل بين الأبناء في العطية: عن النعمان بن بشير : «أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بن رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ﷺ فأتى رسول الله ﷺ فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟!، قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته[6]أخرجه البخاري (2587)..
وفي الحديث الآخر: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم[7]أخرجه مسلم (1623)..
فالعدل بين الأبناء في العطية هو المنهج الذي يجعل الأسرة متماسكة، والنفوس طيبة حتى لا يحصل بينها الغيرة المشؤومة التي ستتولد منها المشاكل في المستقبل، وهي واجبة على الآباء والأمهات وكذلك المربي عليه أن يعتني بالعدل.
ولا يمكن أن نصل لمستوى الإحسان في التربية وفي التعامل مع أبنائنا أو مع طلابنا أو مع غيرهم إن لم نكن نقوم بالعدل، وإذا لم يوجد عدل فلا يحل محله إلا عكسه: الظلم.
فإذا أعطيت أحد أبنائك فقد ظلمت الآخر؛ لأنك لم تعطه، وقد تحابي جنسًا من أبنائك، الذكر على حساب الأنثى أو العكس، وكل هذا ليس من العدل، وإذا كنت معددًا في الزوجات أن تميل إلى إحداهما دون الأخرى، وهكذا.
فالعدل طريق الإحسان، والعدل مهم وعزيز؛ ولذلك من رحمة الله أن فتح لنا باب التوبة فلو أخطأنا في حق أبنائنا فنستغفر الله ونعتذر منهم، فتغسل تلك الأمور التي تحصل لدى البشر، ولكن من وفق إلى مزيد من العدل واهتمام بالعدل وأصبحت هذه القضية سمة فيه لا شك أن هذه القضية لها أثرها الكبير في التربية الأسرية، وغيرها.
ومن الشواهد حديث أبي هريرة : لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر [8]أخرجه مسلم (1469).، فوجود الأخطاء حاصل، لكن كم هو رصيد هذه الأخطاء وزِنة هذه الأخطاء عند الزوجة مثلًا في نظر الزوج، فلديها من الإيجابيات أضعاف أضعاف السلبيات التي ينظر فيها إلى زوجته، وهكذا العكس.
وهكذا الآباء تجاه الأبناء، والأبناء تجاه الآباء، وهذا منهج مهم جدًّا في الرضا النفسي الأسري، وحتى المجتمعي، المسؤول مع موظفيه، والمعلم مع طلابه، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي[9]انظر: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (ص: 28). -رحمة الله عليه- في شرح هذا الحديث تعميم هذا المعنى عند هذا الحديث، فلا يفرك مؤمن مؤمنة فإذا وجد خلقًا سيئًا يتذكر أن لديها أشياء كثيرة إيجابية عندئذ تهدأ نفسه ولا يقع في الظلم، ولا يقع في الحيف، ولا يقع في الجور مع الطرف الآخر، وهذا معلم عزيز لهذا المعلم النبوي المتعلق بالتربية الأسرية حتى تسعد هذه الأسرة.
تبادل في العلاقات في الأسرة
وفي مضمار الأسرة كيف كان النبي ﷺ يعطي مثالًا عظيمًا جدًّا في هذه التربية الأسرية، فهذا موقف رهيب وعظيم بين النبي ﷺ وبنته فاطمة رضي الله عنها يقول أبو هريرة : "ما رأيت أحدًا كان أشبه كلامًا وحديثًا برسول الله ﷺ من فاطمة!"، وبهذا يظهر أثر الأب على الأبناء إلى مستوى المشابهة حتى في الكلام والحديث.
يقول أبو هريرة : "وكانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبلها، ورحب بها، وأخذ بيدها وأجلسها"[10]أخرجه البخاري (6285)، ومسلم (2450)..
فهذا يفعله ﷺ مع ابنته! وكان له الأثر العظيم المتبادل في العلاقات، والتبادل في العلاقات مهم جدًّا، وركيزة مهمة في النجاح الأسري والتربية الأسرية.
فكانت هي أيضًا: "إذا دخل عليها قامت إليه فقبلته، وأخذت بيده، ودخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فأسرّ إليها فبكت، ثم أسرّ إليها فضحكت، فقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أحسب أن لهذه المرأة فضلًا على الناس فإذا هي امرأة منهن، بينا هي تبكي إذا هي تضحك فلما توفي رسول الله ﷺ سألتها عن ذلك فقالت: أسر إليّ أنه ميت فبكيت، ثم أسر إليّ فأخبرني أني أول أهله لحوقًا به فضحكت!"[11]أخرجه البخاري (3623-3624)، ومسلم (2450)..
فتبين بهذا قوة العلاقة بين الابن أو البنت بالأب وأثر الأب على البنت، فكيف أثر الأب على الابن؟!
ثم انظر لهذا التبادل في العلاقات الرائعة جدًّا! الذي هو كما يقول أهل التخصص: من أعظم الجوانب التي تعين على التماسك الأسري والتربية الأسرية ألا يأتي الإحسان وجودة العلاقات من طرف دون طرف، فالرسول ﷺ كان يفعل هذا الفعل عندما تدخل فاطمة رضي الله عنها عليه، وهي كانت تفعل هذا الفعل نفسه عندما يدخل النبي ﷺ عليها، فباستطاعتنا أن نجعل هذا في أسرنا، فما يطلبه الأب من زوجته، والآباء من أبنائهم هو الذي يفعله الطرف الثاني للطرف الأول، فما يطلبه الزوج من زوجته هو الذي سيفعله الزوج للزوجة، وما يطلبه الآباء من أبنائهم هو الذي سيفعله الآباء لأبنائهم، هذا يسمى: "التبادل في العلاقات"، ويسميه أهل التربية وعلم النفس بــ: "التفاعل التربوي الناجح الإيجابي"، وحينما تكون القضية بين طرفين كما فعل النبي ﷺ مع فاطمة رضوان الله عليها.
التعامل مع الأطفال
وأيضًا هذا المشهد: عن أبي قتادة قال: «بينا نحن في المسجد جلوس، خرج علينا رسول الله ﷺ يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله ﷺ، وهي صبية يحملها على عاتقه، فصلى رسول الله ﷺ، وهي على عاتقه، يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها»[12]أخرجه أبو داود (918)، والنسائي (711)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (852)..
فلنقارن بين هذه الصورة وبين الذين تصدع رؤوسهم من الأطفال، وبين الذين أساليبهم التربوية في إلهاء الأطفال حينما يأتون لهم بالألعاب الإلكترونية، والأفلام الكرتونية، أما هو فأبعد ما يكون عند التعامل مع الطفل؛ لأن حضرته وحضرتها يصعب عليهم ذلك ولا يتحملون! فهذا رسول الله ﷺ كان يفعل هذا الفعل عليه الصلاة والسلام.
وكان يفعل مع الحسن والحسين كان رسول الله ﷺ يصلي فإذا سجد وثبا على ظهره رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره فقال: من أحبني فليحب هذين![13]أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/ 48)، برقم (887)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (312).
فهذا أعظم الوجدان، وهذه النفسية، وهذا الود والقرب المادي والمعنوي، القرب المادي الالتصاق، والقرب ما بين الأب والأبناء يضعهم في الحجر، وقريبًا منه، والمعنوي من خلال الألفة والود والرحمة والشفقة، كم نحن بحاجة وأسرنا اليوم إلى مثل هذه المعاني!
ومن الحالات التي كانت تمر عليّ في الاستشارات وهي مستمرة، وتمر أيضًا في الجلسات الإرشادية وفي الجامعة لطلاب وصلوا المرحلة الجامعية، أو بالهاتف، ربما أناس بلغوا سنوات مثل ذلك أو أكثر أو أقل فتسأل عن طريقة التعامل التي تلقوها في أسرهم، وهم وقت الطفولة تجد أنه قد تعرض عدد من هؤلاء إلى القسوة والشدة في التعامل، فولّدت هذه القضية مشكلات نفسية لديهم.
فنحن في أشد الحاجة إلى مثل هذه المعاني العظيمة التي كان يفعلها النبي ﷺ ، وأنكر عليه الصلاة والسلام أن يشار للطفل أن يأتي على أن يعطيه كأنها تمرة، فقال لها: أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة[14]أخرجه أبو داود (4991)، وأحمد في المسند (15702)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (748).، تحسب على الإنسان كذبة وهو طفل.
وأدركت بعض الفضلاء، وبعضهم توفي رحمة الله عليه، كان ممن تغبطهم على طريقة تعاملهم مع أبنائهم، يتعامل معهم كرجال، يتعامل معهم كإخوة، يتعاملون معه بشكل فياض من المعاني والاستجابة، سحرهم بأخلاقه وقربه وتعامله الحسن فما كان لهم إلا أن يكونوا له رهن إشارته، وأصبحوا مثله، وهكذا يكون الإنسان، فنحن في أشد الحاجة إلى أن ننتبه لمثل هؤلاء، هؤلاء الأطفال المباركون نعتني بهم، وهم في مرحلة البراءة، ومثل هذه المراحل تتجمع أشياء عديدة جدًّا، فهذه المرحلة العمرية بناء للشخصية.
وهناك مراحل غفلنا عنها، وضحينا بها كمرحلة الرضاعة شهر وشهرين وثلاثة لا ندري أنها تبني فيها شخصيته، وبعد ذلك مرحلة الرضاعة والحضانة، ومرحلة ما قبل المدرسة، ومرحلة الصفوف الأولية، ومرحلة الطفولة عمومًا بمراحلها العمرية التفصيلية؛ لأنه لا يكاد تجد مرحلة مثل مرحلة الطفولة في تقسيمات المراحل، ثم وجود النمو السريع في قضايا عديدة جدًّا، ويكفينا أن ندرك أن هذه المرحلة ستكون الجسر للشباب والمراهقة.
هذه المعاناة التي نعاني منها في المراهقة لا تُنسي قضيةً أساسية وهي التفريط في مرحلة الطفولة، فهي قضية أساسية وتكلم عنها علماؤنا في التربية كابن القيم[15]كما في كتاب: "تحفة المودود بأحكام المولود".، وغيره، وتكلم عنها حتى غير المسلمين، هذه قضية منطقية عقلانية واضحة جدًّا المعالم، فكل إناء بالذي فيه ينضح، فلنغرس مثل هذه القضايا من وقت مبكر، ولن يكون هذا الكلام إلا إذا كنا قريبين من أبنائنا.
ومن أعظم الجرم حينما تُسلم هذه المراحل العمرية إلى الشغالات، أو المربيات، فيتلقى من مثل هؤلاء، أنا لا أتكلم عن صور ما نقرؤه في الجرائد فلانة الشغالة قتلت بنت كفيلتها، هذا موجود ونسمعه، ومع ذلك ما زلنا إلى الآن بأمس الحاجة؛ لنعود لمنهج النبي ﷺ .
وأرشد النبي ﷺ فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما حين ذهب إليهما حين طلبت فاطمة رضي الله عنها خادمًا: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما، أو أخذتما مضاجعكما، فكبرا ثلاثًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم [16](أخرجه البخاري (5361)، (6318)، ومسلم (2727).، فهذا خير من خادم، والدعاء معنوي ووجود الخادم حسي، وابن القيم يقول: وهذا دل على أثر الدعاء على البنية الجسمية والقوة الجسدية، كما ذكر هذا الكلام في "الوابل الصيب"[17]انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 77)..
فهذه المعاني نحتاجها بشكل كبير حينما نستعرض سيرة النبي ﷺ ، وهديه، وسنته عليه الصلاة والسلام.
بناء القيم والأخلاق
المعلم السادس: بناء القيم والأخلاق والآداب
فلا بد أن تقوم تربيتنا على بناء القيم والأخلاق والآداب كما قامت على العقيدة التي يتولد منها السلوك، فكان عليه الصلاة والسلام يعلم الصبيان ويمر عليهم ويسلم، وأنا أسأل: من منا إذا مر وهو خارج إلى المسجد لعبادة سلم على الناس في الطرقات؟
وإذا رجع سلم على الناس في الطرقات، وبالذات الصبيان الصغار، من منا يمارس هذا؟
هذا السؤال للجميع، فمنهج النبي ﷺ مهم جدًّا في بناء القيم والأخلاق، وجرب هذا الشيء حينما يقول: السلام عليكم، وحينما تصافحه، ثق تمامًا أنك الآن تربيه على بناء القيم والأخلاق والآداب خاصة حينما تكون من أهل المسجد، وستؤثر فيه، فهذا فلان الذي يصلي، فلان إمامنا، فلان مقرئ الحلقة، فلان في الصف الأول كلما يمر علينا يسلم علينا، فهذا مثال ومنهج عظيم جدًّا معلم أساسي في المنهج التربوي النبوي وهو قضية بناء القيم والآداب والأخلاق.
وهناك موقف للنبي ﷺ مع أنس بن مالك وهو صغير يظهر فيه علاقة الطفل الصغير بالكبير، وعلاقة الخادم بكفيله، وحسن التعامل، وفيه بناء للقيم والأخلاق والآداب من النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أنس : "كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله ﷺ ، قال: فخرجت، حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله ﷺ قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك ، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين، أو تسع سنين، ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا، ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا"[18]أخرجه مسلم (2309-2310)، وأبو داود (4774)، واللفظ له..
فكان لهذا الموقف الأثر البالغ في أنس فصدر قوله: "كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خلقًا"، مقدمة عظيمة في وصف خُلق النبي ﷺ ، وبهذا الموقف والحدث.
فلو كان الواحد منا في هذا الموقف ماذا سيفعل؟ ماذا كان سيفعل بعضنا حينما يحصل هذا الأمر هل سيكون موقفه مثل موقف النبي ﷺ يمازح الطفل، ويذكره بالطلب؟ فعندئذ يملك الطفل، ويستجيب الطفل لهذا التوجيه، أم التوبيخ والصياح:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا | متى أضع العمامة تعرفوني[19]انظر: الاشتقاق (ص: 224)، والإيضاح في علوم البلاغة (3/ 186). |
والصراخ والضرب والشتم، وما شبه ذلك؟! صورة نحتاج إليها.
فمن منا يستطيع أن يفعل مثل هذا الأمر؟ فيجب علينا أن نقتدي بالنبي ﷺ بما نستطيعه، وهذه الصورة لها معطيات كثيرة، فإذا وجدت الثقة والبناء الصحيح اختصرنا على أنفسنا طرقًا كثيرة، والقيم إذا بنيت والآداب والأخلاق؛ اطمأننت على الطرف الآخر بأنه تربى على ذلك، أما الوسوسة والشك فهي تنم عن اعوجاج في التربية، ولذلك: "فاقد الشيء لا يعطيه"، ولذلك في بناء القيم والأخلاق والآداب في أنس رضي الله عنه أن الرسول ﷺ حمله مسؤولية وهو صغير، وبعضنا يصل مستوى المراهقة ويبلغ وتبلغ البنت ويعرف هذا الأب والأم، ويقال: ما زال صغيرًا، بينما هو مكلف شرعًا عند الله مكلف بقضايا أركان هذا الدين فكيف يكون صغيرًا؟! ولذلك من القضايا الخطيرة التي لاحظتها في أسرنا قضية ضعف تحميل المسؤولية.
تحميل المسؤولية
فمن معالم التربية النبوية: قضية بناء تحمل المسؤولية، قيمة تحمل المسؤولية، فهذا يشغل الأبناء ويبني الثقة فيهم بعد توفيق الله ، وتصبح هناك علاقة حميمية؛ لأنه حينما يثبت الجدارة يرتاح الأب والأم، لكن حينما نتخوف ولا نعطيه مسؤولية سنجد أننا نحكم عليهم أحكامًا جائرة، ولكن ينضجه من وقت مبكر ويقبل على المرحلة التي بعدها بطريقة سليمة من خلال بناء هذه القيم فيه.
وهنا مثال آخر: فقد كان النبي ﷺ على صحفة وكان معه عمر بن أبي سلمة وهو غلام فيقول: كنت غلامًا في حجر رسول الله ﷺ ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ : يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك[20]أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022)..
فالنبي ﷺ أعظم مربٍّ لم يضربه ولم يصرخ عليه، ولم يقل أيضًا إنه لا زال صغيرًا ويسكت، وإنما علمه وزرع فيه القيم والآداب بلطف وحنان فقال: يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ، وفي بعض الروايات: ادن يا بني، وسم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك [21]أخرجه الترمذي (1857)، وأحمد في المسند (16338)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1184)..
فالقرب المادي مهم جدًّا، وأيضًا يختصر عليك الطرق حتى في المقابلات الشخصية الإرشادية النفسية لها دور كبير، فلو تتحرى هذه القضية في موقف رسول الله ﷺ مثلًا مع هذا الطفل وأعطاه ثلاثة توجيهات تمثلت في بناء وزرع وغرس قيم وآداب الأكل، من خطأ حصل من هذا الغلام لم يسكت عنه النبي ﷺ ، ولم يعنفه عليه الصلاة والسلام.
فهذا معلم عظيم جدًّا في تربية النبي ﷺ فيما يتعلق في قضية بناء القيم والأخلاق والآداب.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعل النبي ﷺ قدوتنا، وأن يعيننا وإياكم على مثل هذه الأمور في تطبيقها في أنفسنا ومن نعول، ومن نستطيع أن نؤثر فيهم من إخواننا المسلمين عمومًا، وأسأله ﷺ أن يكون هذا الأمر حجة لنا لا علينا.
↑1 | أخرجه أبو داود (336-337)، وابن ماجه (572)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4362). |
---|---|
↑2 | صحيح البخاري (8/ 148)، موقوف على عقبة بن عامر. |
↑3 | أخرجه ابن ماجه (224)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3913). |
↑4 | أخرجه ابن ماجه (239)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3914). |
↑5 | أخرجه ابن ماجه (224)، وضعف الألباني في ضعيف الجامع (3626)، وحسنه في تحقيق مشكاة المصابيح (218). |
↑6 | أخرجه البخاري (2587). |
↑7 | أخرجه مسلم (1623 |
↑8 | أخرجه مسلم (1469). |
↑9 | انظر: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (ص: 28). |
↑10 | أخرجه البخاري (6285)، ومسلم (2450). |
↑11 | أخرجه البخاري (3623-3624)، ومسلم (2450). |
↑12 | أخرجه أبو داود (918)، والنسائي (711)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (852). |
↑13 | أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/ 48)، برقم (887)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (312 |
↑14 | أخرجه أبو داود (4991)، وأحمد في المسند (15702)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (748). |
↑15 | كما في كتاب: "تحفة المودود بأحكام المولود". |
↑16 | (أخرجه البخاري (5361)، (6318)، ومسلم (2727). |
↑17 | انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 77). |
↑18 | أخرجه مسلم (2309-2310)، وأبو داود (4774)، واللفظ له. |
↑19 | انظر: الاشتقاق (ص: 224)، والإيضاح في علوم البلاغة (3/ 186). |
↑20 | أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). |
↑21 | أخرجه الترمذي (1857)، وأحمد في المسند (16338)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1184). |