المحتوى
مقدمة
الحمد لله الذي له الحمد كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
أما بعد: قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في مقدمة رسالته: "فإن راحة القلب وسروره وزوال همومه وغمومه هو المطلب لكل أحدٍ".
"كل أحدٍ" مسلمٌ وكافرٌ، وهذه النقطة مهمةٌ جدًّا، يجب أن نتنبه لها؛ لأن هذه حاجة أبنائنا، وحاجة زوجاتنا، وحاجة أنفسنا، وحاجة طلابنا، وحاجة المسلم، وحاجة الكافر، وحاجة مَن أعرف، وحاجة مَن لا أعرف، وهي كما قال الشيخ: "راحة القلب"، فلا أحد يريد شتات القلب، وهي طُمأنينة القلب، وسرور هذا القلب، وكذلك زوال الهموم والغموم.
التخلية قبل التحلية
وهذه فائدةٌ نبدأ بها في الوقفات: ما يتعلق بموضوع التخلية والتحلية، وهذه قضيةٌ من القضايا المهمة جدًّا في التربية، وفي بناء الإنسان، فلا نتصور أبدًا أن يسعد الإنسان في هذه الحياة، ويعيش سليمًا مطمئنًّا، ويُحقق الحياة المطمئنة السعيدة إلا بالتخلية والتحلية.
ما التخلية؟ وما التحلية؟
الماء العذب الزُّلال لو سكبناه في كأسٍ مُتَّسخٍ، هل سنشربه؟
الجواب: لن نشربه؛ لأن المنطق يقول: إذا كان لا بد أن نسكب هذا الماء في هذا الكأس فلا بد أن نُنظف الكأس، ثم نشرب، فتنظيف الكأس تخليةٌ؛ بأن تُبعد كل ما يُؤثر سلبًا على النفس والقلب وراحة البال.
يقول الشيخ: "وزوال همومه وغمومه" هذه هي التخلية، فأي شيءٍ يُسبب لي الهموم والغموم أسعى إلى سدِّ بابه، وأقف حجر عثرةٍ عنده؛ فلو فُتِحَ باب الهموم والغموم من أي مصدرٍ، مع عدم إعمال جانب التخلية، حتى لو كان الإنسان يحظى بأشياء يسعد بها، ويحضر مناسباتٍ طيبةً، لكن لا يشعر براحة البال؛ لأن باب التخلية غير موجودٍ.
خذوا مثالًا -وهذه تأتينا في الاستشارات في الجانب الأُسري كثيرًا، نسأل الله العافية والسلامة، وأن يحفظكم بحفظه-: الخيانات الزوجية، وقد حدثني الدكتور عبدالعزيز المقبل في زيارةٍ قريبةٍ قمتُ بها إليه في بريدة -وهذا الرجل يُعتبر من كبار مُستشاري الأسرة في المملكة؛ فهو رجلٌ قديرٌ، وأستاذٌ لنا- يُؤكد هذه المعلومة، وهي أن هذه القضية لم تَعُد خاصةً بالذين لا يُصلون، أو أهل الانحراف، بل أصبحت تصدر من أهل الصلاة، والأدهى من ذلك أنها -كما يقول- لم تَعُد خاصةً بمَن هم غير مُتدينين، بل أصبحت تصدر من بعض المُتدينين، وكذلك من بعض أصحاب الشهادات وأصحاب العلم، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا أيها الإخوة والأخوات.
فالرجل الآن تزوج، والزواج تحليةٌ، والتحلية عكس التخلية؛ فالتخلية: إبعاد ما يضرُّ، والتحلية: إيجاد ما ينفع، فما الذي ينفعني في العِفَّة؟
الجواب: أنني أتزوج، لكن لماذا حصلت الخيانة؟ ولماذا بقيت العلاقات، أو أنها استُحدثت؟
بسبب أن باب التخلية انكسر، فبدأ يتعرض للنظر الحرام، ويتعرض للتواصل الحرام مع الجنس الآخر، خاصةً مع التقنية اليوم التي سببت انفتاحًا خطيرًا في هذا الموضوع.
فالتحلية لم تنفع، مع أنها كانت لذيذةً في أولها، في بداياتها.
ومما يُلاحظ أن مثل هذه القضايا تكثر عند منتصف العمر، يعني: قُرابة سنِّ الأربعين تبدأ القضية، وتكثر عند الذكور خاصةً -للأسف الشديد-، وهذه ملحوظةٌ استفدناها من الاستشارات، وقد تحدث عنها أهل الاختصاص، وعمَّا يتعلق بأزمة منتصف العمر.
فلأنه لم يحجب نفسه، واستمر في شرب الماء العذب الزُّلال من الكأس المُتَّسخ؛ ما زال ينظر للوسخ، ويسمع، ويُطالع، ويُفكر، ولم يقم بالجانب الوقائي في هذا الموضوع ويحمي نفسه من هذه القضية من ناحية التخلية.
لذلك يقول الله : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256]، لاحظ ابتداء القضية هنا بوصف أهل الإيمان بأنهم يكفرون بالطاغوت، وهذه التخلية، ثم قال: وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ؛ لأننا مهما ادَّعينا الإيمان بالله فلا يمكن أن يكون هذا الإيمان حقيقيًّا إذا كان هناك عدم كفرٍ بالطاغوت.
بل إن التحلية لا تصفو ولا تحلو ولا تأتي ثمارها إلا بالتخلية؛ لذلك يُقال: التخلية قبل التحلية، وهذا أمرٌ منطقيٌّ سليمٌ جدًّا، فأنت خَلِّ وأبعد المُؤثرات، ثم بعد ذلك ستسعد بالمُحليات، أما أن تبدأ بالمُحليات، ولم تبتعد عمَّا يجب أن تتخلَّى عنه مما يضر؛ فلن تستطيع أن تسعد بهذه القضية؛ ولذلك المُحرَّمات ووسائل الانحراف كلها داخلةٌ في جانب التخلية.
دور التخلية في العِفَّة
أين التخلية في أحكام الشرع فيما يتعلق بقضية العِفَّة؟
نقول: غضّ البصر من النظر الحرام، فلا بد أن ينتهي المسلم عن النظر الحرام.
أيضًا من التخلية في العِفَّة: الابتعاد عن دواعي الزنا: كالخلوة، والنظر الحرام، وسماع الحرام؛ فإن الغناء -كما جاء في كلام السلف- هو بريد الزنا[1]انظر: "التفسير الكبير" للرازي (23/ 178)، و"فيض القدير" للمناوي (4/ 65)..
فعندما نعيش في بيئةٍ مُختلطةٍ ونقول: كل واحدٍ يعقل ويعرف قيمة نفسه، ويحترم الآخرين!
وقد ناقشتُ عددًا من هؤلاء الذين يقولون مثل هذا الكلام، وهؤلاء لا يعرفون الإنسان أبدًا.
وانظر إلى القسم الثاني ستجد من الجنس الآخر مَن يقول لك: ما أكثر التَّحرش! وتأتينا استشاراتٌ في قضايا متعلقةٍ بهذا الجانب وأثرها في الحياة الأسرية، كلها بسبب الاختلاط؛ يتغير الرجل لأنه دخل مجال الاختلاط، وتتغير المرأة لأنها دخلت مجال الاختلاط.
بل وجدتُ بعض الاستشارات من بعض الدول العربية -وأظن أن القضية واضحةٌ عند بعض الدول العربية، خاصةً تلك التي منهجها التعليمي من المراحل: الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والجامعية فيه اختلاطٌ، وكل حياتهم تسير على هذا من خلال الاستعمار وما أتى به- أن الرجل لا يثق بالبنت، والبنت لا تثق بالرجل، والنتيجة الحرام والعلاقات المُحرَّمة.
وقد حصلت نقاشاتٌ عديدةٌ عبر الهاتف الاستشاري عندي وفي (الواتساب)، وهذه القضية واضحةٌ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، فتقول المرأة: لا أثق بشبابنا أبدًا، لا أثق بالرجال؛ عرفناهم في المدارس، عرفناهم في الشوارع، نسبة التحرش -كما تقول واحدةٌ في بلدنا- 90%، هذا أقل شيءٍ، وتسمع هذه القضية يوميًّا، سواءٌ كانت المرأة مُنتقبةً أو مُحجبةً، ومن باب أولى غير المُحجبة، وغير المُنتقبة، على المفهوم العام في قضية الحجاب.
فلا بد لنا من التخلية والتحلية حتى ننجح، فانظر داخل أُسرتك -مثلًا- إلى الدواعي التي تُؤثر سلبًا على أبنائك.
المحظورات الدينية أولى بالمنع من الدنيوية
يقولون: احتفلوا بمرور 25 سنة على قنوات (MBC)، وأنا أعرف بعض الفُضلاء وبعض المُصلين إلى الآن يُصرون على بقاء هذه القنوات في بيوتهم، وهم يُتابعونها، ويقولون: إنها سيئةٌ!
وأنا أُناقش بعض هؤلاء، حتى لو لم أُناقش ذواتهم، أُناقش مروءتهم وغيرتهم على أبنائهم.
والبعض يقول: لا يمكن أن أمنع التقنية، ولا يمكن أن (أُشَفِّر) شيئًا! مَن الذي يقول ذلك؟!
لو قال لك الطبيب: انتبه لابنك، لا يمكن أن تُعطيه هذا المشروب، أو هذا المأكول؛ حتى تكون صحته سليمةً. لا شكَّ أنك ستقوم باحتياطاتٍ، ومتابعةٍ، ومراقبةٍ، وضبطٍ، وتأكيدٍ، حتى لو كان هذا المشروب وهذا المأكول من ألذِّ ما يُحبه الابن ويطعمه، فلماذا هذه القضايا في الأمور الدنيوية موجودةٌ وواضحةٌ، بينما في الأمور القِيَمية والأخلاقية والعقدية -والتي تخرم العقائد والقيم والأخلاق داخل بيوتنا- غير موجودةٍ؟!
ولا يزال البعض يقول: هذه قنواتٌ انفتحت، ولا نستطيع أن نمنع؛ لأن هذه القنوات كلها موجودةٌ في الجوال!
الجواب: مَن الذي قال: ما نقدر أن نمنع؟!
فنحن نمنع قضايا معينةً، ونعترف بأننا نمنعها، ونُوقفها، ونصدّها، بينما في هذه القضايا نستسلم! ولا يمكن أن تكون المناهج التعليمية التي يدرسها أبناؤنا وبناتنا في التعليم رائعةً، وفي البيوت يجدون عكس هذه المناهج!
وهذا تفسير قول البعض: ما الذي استفاده أبناؤنا من المناهج؟! لماذا هؤلاء البنات -هداهنَّ الله- يفعلن هذا الفعل، ولا يلتزمن بالحجاب؟!
التفسير مُرتبطٌ بمبدأ التخلية، ومبدأ التحلية، وهناك أشياء موجودةٌ -الحمد لله- خاصةً في بعض البلدان، وفي بلادنا في بعض القضايا والمناهج، وهناك بعض البلدان والله ما عندهم هذه القضايا، وهي بلادٌ إسلاميةٌ، وبلادٌ عربيةٌ، فيها الحلو والجميل مما يُعلَّم ويُدرَّس في المناهج، وهناك معلمون ومعلمات رائعون، يحملون همَّ توجيه الأمة، وكذلك أئمةٌ وخُطباء، وأناسٌ في مراكز الأحياء وفي الجمعيات الخيرية مُبدعون ورائعون ومُؤثرون، لكن هناك أشياء داخل الأُسَر لم تُبْعَد، وهي مؤثرةٌ سلبًا على التربية، أو العكس؛ قد تجد الأب يعمل ويُربِّي، لكن هناك أصدقاء سُوءٍ في الخارج.
وقد ناقشنا بعض الآباء، ومررنا على بعض هؤلاء من خلال الاستشارات، فوجدنا مَن يقول أنه لا يعرف مَن هم أصدقاء أولاده؟ وأكثر شيءٍ يمكن أن يقوله: شكلهم لطيفٌ، يبتسمون! وليست لديه معلوماتٌ أخرى غير هذا الوصف.
فنقول: حتى صاحب المُخدرات يمكن أن يبتسم، فهل عندك صفاتٌ غير هذه لهم؟ هل تعرف أنهم محافظون على الصلاة؟
قال: إن شاء الله يُحافظون على الصلاة. وهو رجلٌ يحرص على ابنه من حيث التربية، وبيته ليس فيه قنواتٌ سيئةٌ، لكن لا يُجيد مُتابعة الابن فيما يتعلق بالأصدقاء.
وأيضًا يُقرِّب لأبنائه الأصدقاء الطيبين، ويحرص على المدرسة الناجحة، وما شابه ذلك؛ لذلك لن تنجح تربيتنا إذا لم تكن فيها التخلية قبل التحلية؛ ولذلك المُتناقضات لن تُنتج لنا رجالًا أسوياء، ولا نساءً سويَّات.
ما معنى المُتناقضات هنا؟
المعنى: مُتناقضاتٌ في التربية، فحين تكون هناك مصادر قويةٌ مُتعارضةُ، فعندئذٍ نقول للمُؤثرين من الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات، والدعاة والمُربين ... إلى آخره: عليكم -بقدر ما تستطيعون- أن تحرصوا على قضية التخلية قبل التحلية، وهذا له أثرٌ حتى في علاج المشكلات؛ فلا بد أن تعرف بالضبط مصادر التشويش، ومصادر المشكلة.
بعضنا يستعجل ويبدأ مُباشرةً في التحلية، ولا بد قبل هذا أن نبحث، فقد يكون سبب المشكلة أصدقاء السوء، وقد يكون سببها علاقةً مُحرَّمةً عبر (الواتساب)، أو عبر وسائل التواصل.
فمعرفة المُشوِّش والمُؤثِّر سلبًا سيُساعدك؛ عندئذٍ سأضع عيني عليك ابتداءً فيما يتعلق بالتخلية، ثم بعد ذلك التحلية، فيمكن أن تقول: سأُزوِّجه. وبعد الزواج تستمر المشكلة كما هي!
وهناك استشاراتٌ في هذا الموضوع في بداية عمر الزواج، تقول: تزوجنا منذ أشهرٍ، وتفاجأتُ بأن زوجي له علاقاتٌ. والعكس كذلك؛ فهو يقول: تفاجأتُ بأن زوجتي لها علاقاتٌ.
فهذا الرجل وهذه المرأة لم يُعمل معهما التربية بالتخلية، ولم يُتنبَّه لهذا، وكان العمل مُوجَّهًا إلى قضية التحلية من خلال الزواج -وهذا مطلوبٌ-، لكن لن يُحقق هذا الزواج الهدف الشرعي المطلوب، وهو كما قال الله : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، ولن يحصل هذا الأمر إذا لم تتحقق التخلية قبل التحلية.
أثر الاستقرار في إبعاد المشكلات
يقول الشيخ -رحمه الله-: "فهذا هو المطلب لكل أحدٍ، وبه تحصل الحياة الطيبة، ويتم السرور والابتهاج، ولذلك أسبابٌ دينيةٌ، وأسبابٌ طبيعيةٌ، وأسبابٌ عمليةٌ، ولا يمكن اجتماعها كلها إلا للمؤمنين، وأما مَن سواهم فإنها وإن حصلت لهم من وجهٍ وسببٍ يُجاهد عُقلاؤهم عليه، فاتتهم من وجوهٍ أنفع وأثبت وأحسن حالًا ومآلًا".
هذا يا إخواني أيضًا فيما يتعلق بالاستقرار النفسي، وهو مهمٌّ جدًّا: موضوع الاستقرار النفسي فيما يتعلق بإبعاد المشكلات.
يقولون: عندنا برامج وقائيةٌ، وعلاجيةٌ، ونمائيةٌ، والكثير منا ينسى الجانب البنائي، والجانب الوقائي، ويقف عند الجانب العلاجي، مع أهمية الجانب الوقائي، وأهمية الجانب البنائي، بل إن الاهتمام بالجانب البنائي يجعلك لا تحتاج إلى الوقائي كثيرًا، واهتمامك بالجانب الوقائي يجعلك لا تحتاج إلى العلاجي كثيرًا؛ لأن المشكلات ستكون أقلَّ.
وكل واحدٍ منا مُعرَّضٌ لمشكلةٍ، والحل كي يسلك الإنسان مسلك السعادة والحياة الطيبة السعيدة والسعادة النفسية أن يكون عنده ما يُعينه على قضية خلوه من المشكلات، وهذا أدنى مستوى للنفس البشرية، وهو خلوها من المشكلات؛ ولذلك لا بد من مساعدة الآخرين في هذا الأمر: مساعدة الزوجة، ومساعدة الأبناء، ومساعدة الجار، ومساعدة القريب، ومساعدة الصديق، ومساعدة الناس عمومًا في قضية إبعاد المشكلات عنهم قدر ما نستطيع، ستحاول أن تُرجعه بهذه الصورة إلى أن تجعله مُستقرًّا نفسيًّا؛ لأنه لا يمكن أن تُحقق له الارتقاء في الشخصية إذا كان يُعاني من المشكلات، فلا بد له من الاستقرار؛ حتى يستطيع بعد ذلك أن يُنتج في الحياة ويكون أكثر إنتاجًا، ولا يمكن أن يكون أكثر إنتاجًا إلا إذا كان مُستقرًّا نفسيًّا، ومستقرًّا مجتمعيًّا، أما إذا كانت عنده مشكلاتٌ مع نفسه، ومشكلاتٌ مع الآخرين، ناهيك عن مشكلاته مع الله ؛ ستكون القضية غير سَويَّةٍ؛ ولذلك لا بد من الانتباه لموضوع الخلو من المشكلات، والعمل من أجل جلب الاستقرار النفسي.
أسباب الأزمات
قال الشيخ -رحمه الله-: "أسبابٌ دينيةٌ، وأسبابٌ طبيعيةٌ، وأسبابٌ عمليةٌ"، فلا بد أن نُدرك أن أسباب المشكلات وأسباب الأزمات التي تُواجهنا ليس شيئًا واحدًا، فالأسباب مُتعددةٌ؛ فقد يكون سبب ضيق الصدر عند محمدٍ يتعلق بجانبٍ دينيٍّ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، وقد يكون سبب الضيق عند إبراهيم يتعلق بضغوطٍ شديدةٍ جدًّا عليه، ومُضايقاتٍ من أناسٍ.
فمن الطبيعي أن تتضايق النفس البشرية، والرسول شعر بشيءٍ من الضيق الطبيعي، وهذا من طبيعة النفس البشرية، فلا نتصور إنسانًا لا يقع له ضيقٌ، ولا يحزن، ولا يقلق.
كذلك من الأسباب: الأسباب العملية: المهارات؛ فأحيانًا لا يعرف الإنسان كيف يتعامل مع زوجته؟ ويتسبب ذلك في مشكلةٍ، وهي لا تعرف كيف تتعامل مع زوجها؟
لذلك أثبتت الدراسات أن إعطاء الدورات التدريبية قبل الزواج فيما يتعلق بمهارات التعامل بين الزوجين تُخفف من نسبة الطلاق في السنة الأولى.
وقد قامت جمعية وئام مشكورةً بدراسة الذين زوَّجوهم وتابعوهم خلال سنةٍ، وما شاء الله تبارك وتعالى، كانت نسبة الطلاق أقلَّ من 1%؛ لذلك ينبغي أن نُشخِّص بشكلٍ صحيحٍ.
أهمية تشخيص المشكلة
هنا تأتي أهمية التشخيص؛ فأحيانًا نعاني من التشخيص في الاستشارات الهاتفية، فلا بد أن نعرف الحقيقة: ما سبب هذا؟ من أين أتى؟ ما هي البيئة؟
ولذلك تختلف القضية عندنا عن قضية الفتاوى، وإن كنا أيضًا حينما نقول لإنسانٍ: افعل، ولا تفعل، كأننا نُفتي من جهةٍ أخرى، فالرجل يشعر بضائقةٍ، ويشعر بأزمةٍ، وقلقٍ، وتوترٍ، وحزنٍ، واكتئابٍ، ويريد أن يخرج من هذه القضية، فتوجيهك له سيجعله يُنَفِّذ ما تقول، مثل: حين يسأل الشيخ، ويقول له: هذا يجوز، أو يجب؛ فيقوم به، أو حرامٌ؛ فلا يقوم به.
فالقضية خطيرةٌ، وكم نحتاج إلى أناسٍ ممارسين حقيقيين، وخاصةً العنصر النسائي؛ لأن أكثر مَن يطلب الاستشارة هم من النساء، فلا تكاد نسبتهم تقلّ عن 90%، أو 95%، فالمجتمع بأمس الحاجة إلى مُستشارات أُسريات من الأخوات.
مَن هم الأكثر استقرارًا في هذه الحياة؟
من الطبيعي أن أهل الإيمان هم الأكثر استقرارًا، والأقل اضطرابًا، وبعض الدراسات التي قام بها بعض الاستشاريين النفسيين أكَّدت هذه القضية -من خلال العيادات التي عندهم-: أن نسبة الأمراض والاضطراب النفسي عند المُتدينين من حيث الجملة أقلّ من نسبته عند الآخرين؛ ولذلك تجدون أكثر الدول تقدُّمًا ماديًّا هي أكثر الدول من حيث نسبة الانتحار، وأكثر نِسب الانتحار تجدونها عند غير المسلمين، والمصحَّات النفسية تكثر عند غير المسلمين، ولا أقول: هذا الأمر لا يوجد لدينا، فهو عندنا؛ فهناك من المسلمين مَن يُشابه غير المسلمين في مثل هذه القضايا، فيقع فيما وقع فيه الكفار، لكن في المجمل لا شكَّ أن أهل الإيمان هم الأكثر استقرارًا، والأقل اضطرابًا.
وهذا يتوافق مع كلام الشيخ، فقد قال: "ولا يمكن اجتماعها كلها إلا للمؤمنين"، ثم قال: "وأما ما سواهم ...".
ولذلك استفاد الشيخ من (ديل كارنيجي)؛ لأن هناك جزءًا من السعادة تجده عند البعض ولو نظريًّا، ناهيك عن أن تجده عند البعض عمليًّا؛ ولذلك تستغرب من بعض غير المسلمين، وتشعر أنه يشعر بسعادةٍ في عمله وإنتاجه؛ لأنه قام بالمهارات اللازمة للعمل؛ فهو مُنضبطٌ في حضوره، ولا يأتي إلى عمله وهو سهرانٌ، ويوجد مَن يُراقبه ويُتابعه، وهو أيضًا في بيئةٍ تُشجعه، فمن الطبيعي أنه سيشعر بالسعادة ولو كان كافرًا؛ لأن مَن زرع حصد، هذه قضيةٌ طبيعيةٌ لا نستغرب منها.
الناس بحاجة للعلماء الرَّبانيين
هنا نلحظ اهتمام الشيخ -رحمة الله عليه- بأحوال الناس واحتياجاتهم، فقال في كلامه: "ولكني سأذكر برسالتي هذه ما يحضرني من الأسباب لهذا المطلب الأعلى الذي يسعى له كل أحدٍ".
هنيئًا لمَن يكون همُّه إعانة الآخرين وإسعادهم، والشيخ -رحمة الله عليه- عُرِفَ بذلك؛ ولذلك مَن يقرأ في سيرة الشيخ الاجتماعية يعجب أيّما عجبٍ، فبالإضافة لعلمه برز فيما يتعلق بقضية أخلاقه وسلوكه، ويُحدثنا مَن عاصروه بالعجب العُجاب في هذا.
وقد تكلم أبو بكر الآجري في كتابه "أخلاق العلماء" عن سمات هؤلاء العلماء الربانيين، فكان مما ذكره أنهم يحتاج إليهم عامَّة الناس في أمور دينهم ودنياهم، يعني: يأتي الناس للعالم الرباني، ويطلبون منه استشاراتٍ في قضايا وفتاوى شرعيةٍ، وفي قضايا دنيوية.
هكذا المُربي الفعَّال، وهكذا الأب الناجح، والمعلم الناجح: يستشيرونه، ويحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم؛ لأن عنده مبادئ وقيمًا يحملها، وعلى رأس هذه القيم ما قاله النبي : أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس[2]أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الصغير" (861).، فعنده شعورٌ بالمسؤولية تجاه الآخرين.
قال: "فمنهم مَن أصاب كثيرًا منها" أي: من هذه السعادة والحياة السعيدة، "فعاش عيشةً هنيئةً، وحَيِيَ حياةً طيبةً"، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
"ومنهم مَن أخفق فيها كلها؛ فعاش عيشة الشَّقاء، وحَيِيَ حياة التُّعساء، ومنهم مَن هو بين بين، بحسب ما وُفِّق له"، هكذا أصناف الناس فيما يتعلق بالسعادة النفسية: فأناسٌ تغمرهم السعادة فيعيشونها، معظم حالهم في حياةٍ طيبةٍ، وأناسٌ عكس ذلك تمامًا، وسنعرفهم، وأناسٌ بين بين.
وما عجب هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه ينضح |
فأين أنا؟ وأين أنت؟ وأين أبناؤنا وأهلونا وأحبابنا من هذه الأصناف الثلاثة؟
الفرق بين منهج الإسلام والنظريات النفسية الغربية
ثم يقول الشيخ -رحمه الله-: "والله المُوفِّق، والمستعان به على كل خيرٍ، وعلى دفع كل شرٍّ".
وهذا هو التوفيق والعون من الله في الجلب والدفع، وهذا هو المنهج الإسلامي، تستغربون: لماذا أقول هذا الكلام؟
أنا لستُ شارحًا شرعيًّا في هذه الرسالة، لكن أقول هذا لأنني أُدرك ما أقول من الناحية النفسية والتربوية؛ فالنظريات النفسية بإطباقٍ قائمةٌ على إبعاد الدين، وربط القضية بالمادة، فهاتان سِمتان أساسيتان من سمات النظريات النفسية المعروفة، فهي إلحاديةٌ وماديةٌ، تنظر للإنسان على أنه جسدٌ، ويُراد إسعاد هذا الجسد، وتُبعد أي شيءٍ دينيٍّ روحيٍّ مُتعلِّقٍ بالله !
هذه سِمة كل المدارس النفسية الغربية: كالمدرسة التحليلية، والمدرسة السلوكية، والمدرسة المعرفية، والمدرسة العقلانية الانفعالية، والمدرسة الإنسانية، كل المدارس على هذا، والذي درس وتخصص يُدرك هذه القضية تمامًا؛ لذلك لماذا نختار هذه الرسالة؟ ولماذا نُطالب المُختصين ...؟
والحمد لله هناك جهودٌ متعلقةٌ بالاتصال الإسلامي في مثل هذه النظريات؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يسعد ويعيش حياةً طيبةً، ويبني نفسه حقيقةً، ويُؤثر في الآخرين، ويتواصل معهم بشكلٍ صحيحٍ إلا بتوفيق الله ؛ لذلك هناك فرقٌ بين مَن أسند الأمر لله، ومَن أبعد هذه القضية تمامًا.
وشقاء الفلاسفة معروفٌ، وسيأتي معنا -إن شاء الله تعالى- ذكر بعض النماذج، وما عاشه أبو بكر الرازي وغيره من الفلاسفة الذين عاشوا الفوضى في حياتهم، وهم من أذكى الأذكياء، لكن أدركوا بعدها أن عقيدة العجائز هي الحق؛ فرجعوا إلى عقيدة التوحيد والفِطرة السليمة.
وعندما تقرأ في النظريات الغربية ستجد أنه يصدق على أصحابها أنهم يعيشون في نكد النفس، لا يعيشون فعلًا علم النفس الحقيقي، خاصةً كبيرهم (فرويد) الذي استدرك عليه بعض تلامذته، مثل: (أدلر)؛ لأنه أفسد في النظرة إلى الإنسان أيّما فسادٍ، ومع ذلك يرى بعض المسلمين وبعض العرب من علماء النفس أن رأس هرمه في التخصص وقُدوته هو (فرويد) في مدرسة التحليل النفسي! بل إن بعض الأطباء النفسيين والأخصائيين ما زالوا يُمارسون ما كان يقوله (فرويد) فيما يتعلق بالكبت النفسي وعُقدة (أوديب وألترا)، والعلاقات المتعلقة بالجانب الجنسي والجانب الآخر، وكلامٌ قذرٌ لا يمكن أن يقبله الكثير، ولم يقبله بعض الغربيين من (فرويد)!
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في الأسبوع القادم، ونبدأ -بإذن الله - مع أول وسيلةٍ من الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.