المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات مع الدرس الثالث من المجموعة العاشرة من سلسلة "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
وما زلنا مع وقفاتٍ تربويةٍ ونفسيةٍ من كتاب العلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي "الوسائل المُفيدة للحياة السعيدة".
ودعونا في مُستهل هذا اللقاء نقرأ ما وقفنا عنده في الصفحة السابعة حول قضية الإيمان والعمل الصالح.
كيف يتلقى المؤمن المَحَابِّ والمَسَارِّ؟
الشيخ -رحمه الله- بعدما قدَّم بمُقدمةٍ مُتعلقةٍ بالإيمان والعمل الصالح يقول عن منهج أصحاب الإيمان والعمل الصالح: "يتلقون المَحابَّ والمَسارَّ بقبولٍ لها، وشُكرٍ عليها".
فالشيخ -رحمة الله عليه- يُبيِّن هنا الفرق بين أصحاب الإيمان والعمل الصالح وغيرهم، فيقول: إن هؤلاء يتلقون المَحابَّ والمَسارَّ والأشياء التي تُحبها النفس وتُسَرُّ بها بقبولٍ لها، وشكرٍ عليها، واستعمالٍ لها فيما ينفع، إذن عندنا القبول لها، والرِّضا بها والشكر: "ويستعملها فيما ينفع، فإذا استعملوها على هذا الوجه" هذه المَحاب والمَسار "أحدث لهم من الابتهاج بها"، وهذه هي الحياة السعيدة والطُّمأنينة والراحة والسعادة النفسية: "أحدث لهم من الابتهاج بها، والطمع في بقائها وبركتها، ورجاء ثواب الشاكرين؛ أمورًا عظيمةً تفوق بخيراتها وبركاتها هذه المَسَرَّات التي هي ثمراتها"[1]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13)..
يعني: ما سيُلاقيه الإنسان الذي يتلقَّى المَحابَّ والمَسارَّ -وهم أصحاب الإيمان والعمل الصالح- مما تؤول إليه أموره في الدنيا، ناهيك عن الآخرة؛ أكثر مما يشعر به من المَحابِّ والمَسارِّ، حتى كان أحد السلف يقول: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف"[2]"إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" ط: المعارف (2/ 197)..
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية يُفْعَل به ما يُفْعَل وهو يقول: "أنا جنتي وبُستاني في صدري، أنى رحتُ فهي معي، أنا سجني خلوةٌ، ونفي سياحةٌ، وقتلي شهادةٌ"[3]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48)..
وكان أحد الكُتَّاب يقول: فما ترك شيخُ الإسلام ابن تيمية لأعدائه أيَّ طريقٍ عليه، فأغلق الطرق كلها؛ لأنه يقول: بأي صورةٍ أنا أشعر بالسعادة، فهو جمع هذه السعادة خاصةً في وقت المَضارِّ كما سيأتي معنا بعد قليلٍ، وقد يكون مثال ابن تيمية يصدق على قضية المضار كما سيأتي الآن.
آثار المكاره والمَضارِّ على المؤمنين والصالحين
في مقابل المَسارِّ: المكاره والمَضار، فما موقف هؤلاء أصحاب الإيمان والعمل الصالح؟
يقول الشيخ -رحمة الله عليه: "ويتلقون المكاره والمَضارَّ والهمَّ والغمَّ بالمُقاومة لما يُمكنهم مُقاومته"[4]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13).، وهذا أمرٌ -سبحان الله!- فيه رعايةٌ لفطرة الإنسان، فالإنسان لا يُحب المكاره والأمراض؛ فيحاول -وهذا حقٌّ له شرعًا- أن يدفعها ويُقاومها.
يقول الشيخ: "بالمقاومة لما يُمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يُمكنهم تخفيفه"، وقد لا يستطيع أحدهم أن يُقاوم ويدرأ تمامًا، ولكنه يُخفف.
طيب، إذا لم يحصل لا هذا، ولا ذاك؟
يقول: "والصبر الجميل لما ليس لهم منه بُدٌّ"، تأمَّلوا كيف يعيش هؤلاء في السَّراء والضَّراء؟
فهم يعيشون في نعيمٍ وسعادةٍ؛ لأنهم يسلكون مسلك الإيمان والعمل الصالح، ولم يُربِّيهم أي شيءٍ إلا الإيمان والعمل الصالح في حال المَحابِّ والمَسارِّ بالتَّلقي بالقبول والشكر واستعمال هذا الخير، وتلقي المكاره والمضار بالمقاومة لما أمكن مُقاومته منها، أو التَّخفيف منها، أو الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه كما يقول ابن القيم وغيره[5]"عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" (ص97)..
يقول: "وبذلك يحصل لهم من آثار المكاره من المقاومات النافعة، والتجارب، والقوة، ومن الصبر واحتساب الأجر"[6]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13).، يعني: هو يستفيد؛ فحين تأتيه المصيبة والمكروه يقوم بمحاولةٍ من هذه المحاولات، وهي عبارةٌ عن تجارب في الحياة، وعبارةٌ عن فرصٍ، وعبارةٌ عن تدريبٍ لهذه النفس.
وأيضًا: "ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب أمورًا عظيمةً تضمحل معها المكاره"[7]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13، 14).، يعني: أصحاب المكاره حصلوا أمورًا عظيمةً من الحسنات والطمأنينة في أنفسهم، وهم مُبتلون بأعظم المكاره التي ابتُلوا بها، وهذا لا يمكن أن يتأتى أبدًا إلا بالإيمان والعمل الصالح، وإلا فإن الذين لا يسلكون مسلك الإيمان والعمل الصالح يشعرون بالاكتئاب الشديد، والتفكير بالانتحار.
ويمر علينا في الاستشارات من الذكور والإناث -خاصةً في مرحلة الشباب- مَن يقول: حاولتُ الانتحار! وحين ترى حاله مع الإيمان والعمل الصالح تجد أن هناك إشكاليةً.
أما عند غير المسلمين فتجد أن قضية الانتحار تكثر نسبتها، ومن الغرائب مثلًا: أن اليابانيين -وهم عُبَّاد العمل- يعبدون العمل، يقول أحدهم: إذا أردتَ أن تجعل الياباني يعيش حالةً من الاكتئاب احرِمْه من عمله. ويقولون: عددٌ كبيرٌ من المُنتحرين اليابانيين هم من المطرودين من العمل والمحرومين منه، فلا يجد نفسه بعد ذلك إلا أنه يتخلص من هذه الدنيا؛ لأن العمل بالنسبة له مُتعةٌ.
وسنأتي إلى قضية العمل من الناحية النفسية وآثارها، لكن ليست مثل العمل الذي عند اليابانيين؛ لأنهم يعملون ونفوسهم خاويةٌ من الإيمان والعمل الصالح؛ لأنهم وثنيُّون.
يقول: "ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب أمورًا عظيمةً تضمحل معها المكاره، وتحلُّ محلَّها المَسارُّ والآمال الطيبة"[8]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13، 14).، والله سيُسهل الأمور، ويُفرج الكرب، وسيُعوِّض خيرًا.
فهذه الآمال الطيبة والطمع كما يقول الشيخ: "والطمع في فضل الله وثوابه" لا يُحَصِّله إلا أصحاب الإيمان والعمل الصالح في وقت الضَّراء والمكاره والمضار.
ثم قال: "كما عبَّر النبي عن هذا في الحديث الصحيح أنه قال: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرٌ، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له"، فهذا حاله مع السَّراء التي ذكرناها في الصنف الأول: "وإن أصابته ضرَّاء"، وهذا حاله مع الضَّراء "صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن"[9]أخرجه مسلم (2999).،[10]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14)..
فهذه القضية هي المحك الحقيقي، وبعض الناس المُتأثرين بالتربية الغربية -حتى ولو كان من المسلمين- عنده ضعفٌ في جانب الانتماء لهذه الأمة، وضعفٌ في الاهتمام بالإيمان والعمل الصالح، وتجده يُقدِّم دوراتٍ، ويُؤلِّف الكتب، وكأنها نسخةٌ من النظريات الغربية تمامًا، فلا تكاد تجد فيها شيئًا من الإشارة إلى الإيمان بالله.
ومرةً حضرتُ دورةً لأحد الأشخاص، وفيه خيرٌ، لكني -للأسف الشديد- ظللتُ أبحث عن معنًى جميلٍ يربط بالله فلم أجد، بل لم يبدأ حتى بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، يعني: كانت دورته صورةً طبق الأصل من الدورة التي أخذها من ملزمةٍ غربيةٍ بأمثلتها الغربية!
فلا بد أن يكون هناك فرقٌ بين المؤمن وغير المؤمن في المَحابِّ والمَضارِّ.
وقال: وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن لماذا؟
لأن الإنسان لا يمكن أن يقوى على الشكر في وقت السَّراء، ولا على الصبر في وقت الضَّراء إلا إذا كان صاحب إيمانٍ.
ويقول الشيخ -رحمة الله عليه: "فأخبر أن المؤمن يتضاعف غُنْمُه وخيرُه وثمرات أعماله في كل ما يطرقه من السرور والمكاره"، وهذا خلاصة ما سبق ذكره: "لهذا تجد اثنين تطرقهما نائبةٌ من نوائب الخير أو الشر، فيتفاوتان تفاوتًا عظيمًا في تلقيها، وذلك بحسب تفاوتهما في الإيمان والعمل الصالح"[11]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، لماذا هذا يسخط ولا يصبر؟ ستجد القضية مُرتبطةً بالإيمان الذي في القلب، ولماذا هذا يشكر الله ويتواضع كلما زاده الله من خيرات الدنيا؟ ما السبب؟ إنه الإيمان.
وسيضرب الشيخ بعد قليلٍ أمثلةً للصور المُعاكسة للذين يقفون موقفًا غير موقف المؤمن في قضية المَحابِّ والمضارِّ.
فيقول -رحمه الله: "هذا الموصوف بهذين الوصفين يتلقى الخير والشَّر بما ذكرناه من الشكر والصبر وما يتبعهما" أي: الشكر للمَحابِّ، والصبر للمضارِّ: "فيحدث له السرور والابتهاج، وزوال الهمِّ، والغمِّ، والقلق، وضيق الصدر، وشقاء الحياة"[12]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، فكل هذا يُذْهِب الهمَّ والغمَّ والقلق وضيق الصدر وشقاء الحياة، فماذا نريد بعد هذا؟! هل نريد أكثر من ذلك؟!
"وتتم له الحياة الطيبة في هذه الدار"، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الحياة الطيبة في الدنيا قبل الآخرة.
تلقي غير المؤمن للمَحابِّ والمكاره
يقول الشيخ: "والآخر" الآن جئنا لغير مَن يتَّصف بهذه الصِّفات، وهو مَن لم يحمل الإيمان والعمل الصالح، بغض النظر: هل هو ضعيف الإيمان، أم أنه غير مؤمنٍ؟
"والآخر يتلقَّى المَحابَّ" بماذا يتلقَّاها؟ "بأَشَرٍ وبَطَرٍ وطُغيانٍ، فتنحرف أخلاقه، ويتلقَّاها كما تتلقَّاها البهائم بجشعٍ وهلعٍ".
بالله عليكم، مَن كان بهذه الصورة هل هو مُستريحٌ؟!
يقول الشيخ -رحمة الله عليه: "ومع ذلك فإنه غير مُستريح القلب"[13]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، فلو فكَّرنا بمآلات الأمور واستخدمنا العقل في هذا الهلع والجشع والبطر ... إلى آخره لاسترحنا.
وأنا أذكر أحد الأشخاص الذين مَنَّ الله عليه بالأموال، ولكن عنده تقصيرٌ كبيرٌ في أحواله، وكنتُ أظن أنه من الذين لا يُصلون، بل أكَّد أحدُ الأشخاص أنه لا يُصلي، نسأل الله أن يهديه ويُصلح حاله -وهذا الكلام قديمٌ على أية حالٍ- فكان يتكلم معي عن هذا الوصف تمامًا، فيقول: مع أن الله أغدق عليَّ من المال الشيء الكثير، لكن لا يهدأ لنا بالٌ، نخشى في الليل أو في النهار أن يذهب هذا المال! ويقول: للأسف المال والتجارة شغلتنا عن أبنائنا وأهلينا، وهم مُتضايقون جدًّا منا. هذا وصفه وحاله، وهو يتكلم معي مباشرةً بهذا الكلام.
لذلك ينبغي أن يعرف الإنسان حقيقة السعادة، سواء كان عند السَّراء أو الضَّراء، فهذا الشخص كما قال الشيخ: "ومع ذلك فإنه غير مُستريح القلب، بل مُشتته من جهاتٍ عديدةٍ: مُشتتٌ من جهة خوفه من زوال محبوباته"، مثلما قلنا: يخاف أن يذهب ماله ووظيفته، وتنتهي سُمعته؛ فيقلق ويخاف: "ومن كثرة المُعارضات الناشئة عنها غالبًا"[14]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، فهو لا يريد الأشياء التي تُعارض ما هو عليه من النِّعَم، ولا يريد أن يُنَكِّد عليه أحدٌ الوصفَ الذي يعيش فيه من البَطَر والأَشَر والطُّغيان، ولا يُحب أن يسمع، بل لو جاءته لحظةٌ يتذكر فيها الموت: كوفاة قريبٍ، ستجده يُدافع عن الموت، حتى وهو في المقبرة، وتجده يتكلم عن لندن، وأين ينوي أن يذهب؟! وماذا حدث في الأرض الفلانية؟!
وأنا والله قد سمعتُ أناسًا يتحدثون بهذا وهم يَصُفُّون عند العزاء والقبر! وما شابه ذلك؛ فلذلك يحتاج الإنسان أن يتنبَّه.
وقد ذكر هذا الكلام ابن قُدامة المقدسي في كتاب "منهاج القاصدين" في وصف مثل هؤلاء.
يقول: "ومن جهة أن النفوس" يعني: خوفه الأول أن يذهب الذي عنده من الخير فيقلق، ومن جهة أنه لا يُريد شيئًا يُناقض ما هو عليه: "ومن جهة أن النفوس لا تقف عند حدٍّ، بل لا تزال مُتشوقةً لأمورٍ أخرى" يعني: لا يشبع ولا يقنع بما عنده، فتجده يريد المزيد، فيجلس مهمومًا، مغمومًا، إلا إذا لطف الله به، وكان من أصحاب الإيمان الذي يُهذِّب النفس والقلوب: "قد تحصل، وقد لا تحصل" يعني: أن هذه الأمور التي يشغل نفسَه بها ويتشوق لها قد تحصل له، وقد لا تحصل: "وإن حصلت على الفرض والتقدير فهو أيضًا قلقٌ من الجهات المذكورة"[15]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، يعني: السابقة التي ذكرناها.
فهذا موقف الصنف الثاني من المَحابِّ.
فما موقفه من المَضارِّ؟
يقول الشيخ -رحمه الله: "ويتلقَّى المكاره بقلقٍ وجزعٍ وخوفٍ وضجرٍ، فلا تسأل عمَّا يحدث له من شقاء الحياة، ومن الأمراض".
وتأمل هذه اللَّفتة العجيبة التي تفوق ما عند أهل التخصص: "الفكرية والعصبية"، وهذه يبدو أن الشيخ أخذها من (ديل كارنيجي): "ومن الأمراض الفكرية والعصبية، ومن الخوف الذي قد يصل به إلى أسوأ الحالات، وأفظع المُزعجات؛ لأنه لا يرجو ثوابًا"[16]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، ليس هناك شيءٌ يُسليه ويُخفف عنه وطأة المرض والمكاره؛ لأنه لا يحتسب الأجر والنَّعيم في الآخرة؛ ولهذا قيل للرجل يتحمل تعبًا عظيمًا في عبادةٍ: ألا تُريح نفسك؟ فقال: "راحتها أُريد"[17]"تفسير الراغب الأصفهاني" (3/ 1200).، فماذا يقصد؟
يقصد: أني أُريد راحتي، أو راحة نفسي في الجنة، فأنا أتعب في الدنيا في الدعوة والعلم والبذل والعمل والطاعة ... إلى آخره، وغيري مرتاحٌ، وهذا مثلما يقول البعض: لماذا تحرم نفسك؟! تمتع بالدنيا.
طيب، أنا أُتعب نفسي في خيرٍ، وهذا بالعكس، هذا يرجو ثواب الله ، فعنده أملٌ أن هذا التَّعب يتحول إلى راحةٍ في المستقبل، ومَن أَمِنَ في الدنيا خاف في الآخرة، ومَن خاف في الدنيا أَمِنَ في الآخرة.
يقول -رحمه الله: "ولا صبرَ عنده يُسليه ويُهوِّن عليه"[18]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14).، ليس عنده ثوابٌ يُسليه ويُخفف عليه هذه المضار، وأيضًا ليس عنده صبرٌ؛ فهو يجزع من المكاره.
"وكل هذا مُشاهَدٌ بالتجربة" وهذه لفتةٌ جميلةٌ من الشيخ -رحمه الله- فيما يُعرف في مجالات التربية وعلم النفس: بالتجربة، فأصحاب النظريات الغربية لا يرضون بالاستدلالات النَّقلية من الكتاب والسنة؛ لكونها -كما يزعمون- ليست من القضايا الحسيَّة، وكذلك التجارب لا يستدلون بها، لكن أصحاب المنهج الإسلامي يستدلون بهذه القضايا، بل إن الأدلة التي أتت من الكتاب والسنة هي مُسلَّماتٌ.
طيب، والتجربة مُعتبرةٌ عندنا في المنهج الإسلامي أو غير مُعتبرةٍ؟
التجارب مُعتبرةٌ عندنا إذا أُخذت بمعاييرها السليمة؛ لأن التجارب موجودةٌ عندك، وبيِّنةٌ، وواضحةٌ، وكل هذا "مُشاهَدٌ بالتجربة" يعني: الشيخ استدلَّ بالتجربة، وهو استدلالٌ مطلوبٌ، ولا تمشي الحياة ولا تستقيم إلا حين تأتي مثل هذه التجارب في الحياة، وتظهر القضية بصورةٍ صحيحةٍ، والتُّهمة والنَّقص أين يكون: في التجربة نفسها، أو في العقل الذي يُفكر؟
في العقل، والأمور المُسَلَّمَة لا نشكُّ فيها، وللأسف الشديد أصحاب المنهج الغربي والليبرالي والمادي البحت يُشككون في المُسلَّمات بسبب أن الحسَّ لم يدل عليها، وهذه قضيةٌ من القضايا الخطيرة جدًّا.
وكتب أحدهم مقالًا يرد فيه حديث الذباب، وهو قوله : إذا وقع الذبابُ في شراب أحدكم فليَغْمِسْه ثم لينزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داءً، والأخرى شفاءً[19]أخرجه البخاري (3320).، وهو رجلٌ ليس صاحب منهجٍ علمانيٍّ، وإنما عنده اتِّجاهٌ للجوانب الشرعية والجوانب الإسلامية، وعنده نزعةٌ عقليةٌ، فيقول: لا يمكن أن نأخذ هذا الحديث ونُصدق أن الرسول قاله! مع أن الحديث صحيحٌ؛ فهو في "صحيح البخاري"، فردَّ عليه الشيخ الألباني -رحمه الله- في أحد كتبه قائلًا: "وفي الكلام على اختصاره من الدَّس والجهل ما لا بد من الكشف عنه؛ دفاعًا عن حديث رسول الله ، وصيانةً له أن يكفر به مَن قد يغترُّ بزخرف القول"[20]"سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/ 98).، إلى أن ذكر من الردود: "قد نقلنا لك فيما سبق ما أثبته الطبُّ اليوم؛ من أن الذباب يحمل في جوفه ما سمَّوه بـ"مُبعد البكتيريا"، القاتل للجراثيم، وهذا وإن لم يكن مُوافقًا لما في الحديث على وجه التَّفصيل، فهو في الجملة مُوافقٌ لما استنكره الكاتب المُشار إليه وأمثاله من اجتماع الدَّاء والدَّواء في الذباب، ولا يبعد أن يأتي يومٌ تنجلي فيه معجزةُ الرسول في ثبوت التفاصيل المُشار إليها علميًّا: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]"[21]"سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/ 99)..
ثم بعد فترةٍ من الزمن لما أثبت الأطباء أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الدَّاء، ويصبُّه في السائل، ثم يغمس الجناح الآخر ليقتل تلك المواد التي أفرزها الجناح الأول، رجع الكاتب عن قوله، وقال: الآن نؤمن أن قضية الذباب صحيحةٌ!
فهو استخدم عقله دون أن يُرضِخ العقلَ للشرع، والحديث صحيحٌ، فكان المفروض عليه أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولكن لما جاء الطبيب -وليس الرسول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- وأثبت التجربة آمن بها، لكنه لم يؤمن بقول النبي ، وهذه خطيرةٌ جدًّا.
فالمقصود أن التجارب السليمة والفكر السليم والواقع السليم لا محالةَ -كما يقول العلماء- يُوافق الكتاب والسُّنة.
أهمية القناعة
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله: "وكل هذا مُشاهَدٌ بالتجربة، ومَثَلٌ واحدٌ من هذا النوع إذا تدبرتَه ونزَّلتَه على أحوال الناس؛ رأيتَ الفرق العظيم بين المؤمن العامل بمُقتضى إيمانه، وبين مَن لم يكن كذلك، وهو أن الدين يحثُّ غاية الحثِّ على القناعة برزق الله، وبما أتى العباد من فضله وكرمه المتنوع، فالمؤمن إذا ابتُلِيَ بمرضٍ، أو فقرٍ، أو نحوه من الأغراض التي كل أحدٍ عُرضةٌ لها، فإنه بإيمانه وبما عنده من القناعة والرضا بما قسم الله له يكون قَرير العين"[22]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15).، فيقول المؤمن: الحمد لله، هذا ما قسمه الله لي.
واليوم قابلتُ موظفًا سعوديًّا -جزاه الله خيرًا- وإن لم يكن على سِمَاه التَّدين، لكنه مُحافِظٌ على الصلاة، قابلتُه وهو خارجٌ من المواضئ، ومُتَّجِهٌ إلى المسجد، فقال لي: كيف حالك؟ كل ما يقسمه الله خيرٌ لنا. فاستغربتُ من عبارته هذه، فقال: هذه آخر رسالةٍ وصلتني في الجوَّال، وهي كلمةٌ جميلةٌ ورائعةٌ جدًّا.
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله: "لا يتطلب بقلبه أمرًا لم يُقدَّر له، ينظر إلى مَن هو دونه، ولا ينظر إلى مَن هو فوقه"؛ حتى ما يُتعب نفسه: "وربما زادت بهجته وسروره وراحته على مَن هو مُتحصِّلٌ على جميع المطالب الدنيوية إذا لم يُؤْتَ القناعة"[23]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15).، يعني: قد يكون أسعد ممن هو أكثر منه مالًا، وقد يكون أسعد ممن هو في صحةٍ وعافيةٍ بالنسبة للجسد، وقد يكون أسعد ممن هو أكثر منصبًا وجاهًا وسمعةً، وما شابه ذلك؛ بسبب القناعة، فالقناعة كنزٌ لا يفنى، والقناعة تتأكد مع الإيمان بالله ؛ لأن الإنسان يحتاج مع القناعة إلى مُستندٍ وركنٍ شديدٍ، وهو الله : "كما تجد هذا الذي ليس عنده عملٌ بمُقتضى الإيمان إذا ابتُلِيَ بشيءٍ من الفقر، أو فقد بعض المطالب الدنيوية، تجده في غاية التعاسة والشَّقاء"[24]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15)..
فهذا الكلام الذي ذكره الشيخ عند هذه النقطة هو وصفٌ للمؤمن في حال المَحابِّ والمضار، ووصفٌ لمَن ضعف إيمانه في حال المَحابِّ والمضار.
التعامل الصحيح مع القلق والخوف
سينتقل إلى الحالة الثالثة التي هي المخاوف؛ لأن الإنسان إما أن يكون في حالةٍ يُحبها، أو حالةٍ يكرهها، أو يخاف من شيءٍ في المستقبل، وهو ما يُسمَّى: بالقلق والخوف، الذي يُعَدُّ في تقييم الأمراض النفسية العصرية اليوم رقم واحدٍ، فيكون ذهن الإنسان مشغولًا، وتتنكد حياته لما سيأتي، ويُفكر براتبه وبالمال -خاصةً الآن مع الانخفاضات والأوضاع المادية- ويعيش شيئًا من الخوف على مستقبله، ومستقبل زوجته، ومستقبل عياله، ... إلى آخره، ويُفكر بأشياء في المستقبل، بل يُفكر بالموت يُلاحقه، ويُوسوس له الشيطان: ربما جسمك الآن فيه سرطانٌ، ... إلى آخره؛ فيعيش حالةً من الخوف والهلع تُقلقه، وليس فيه شيءٌ!
وهَبْ أن فيه شيئًا، وأن عنده شيئًا، ما المشكلة؟! ينبغي أن يتعامل معه بالطريقة التي ذكرناها فيما يتعلق بالمكاره والمضار.
س: ينظر إلى مَن هو دونه، ولا ينظر إلى مَن هو فوقه؟
ج: جزاك الله خيرًا، نعم، وستكون هذه نقطةً أكيدةً، وستأتي في رسالة الشيخ، فقد تكلم عنها في نقطةٍ مُستقلةٍ، وهذا هو المعيار النبوي، وهو: أن ينظر الإنسان إلى مَن هو دونه، ولا ينظر إلى مَن هو فوقه في الأمور الدنيوية والأرزاق؛ حتى لا يزدري نعمة الله عليه، فهذه هي القناعة؛ حتى لا يزدري نعمة الله عليه؛ فيرتاح.
يقول: "ومثلٌ آخر: إذا حدثت أسباب الخوف، وأَلَمَّت بالإنسان المُزعجات"[25]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15).، ومن ذلك: الحروب، والأعداء، وإيران، وأمريكا، وكذا، وكذا، فهذه كلها مُزعجاتٌ، ولا شكَّ أن مستوى الخوف والقلق عند مَن يعيش الحروب غير مستوى الخوف والقلق عند مَن لا يعيشها.
وأنا أذكر في أحداث الخليج في التسعينيات -ولعل بعض الموجودين لم يعش تلك الأيام- كنا في مركزٍ صيفيٍّ في المعهد العلمي نُصلي العشاء، فإذا بأحد الآباء يأتي مُهرولًا يصيح بأن صواريخ (سكود) قصفت بعض الأماكن، ... إلى آخره، وأتى أهل الكويت إلى هنا، وكان للمراكز الصيفية دورٌ كبيرٌ جدًّا في استقبال هؤلاء، وما شابه ذلك.
المقصود أن مستوى الخوف والقلق كان كبيرًا عند الناس، حتى إن رجلًا جاء وأمسك ولده من ظهره وسحبه من الصلاة ومشى، وقال: الدنيا حربٌ، وركب السيارة وكانت ممتلئةً (بالعفش)، وهرب مع أهله إلى المنطقة الغربية، وكأن القيامة ستقوم الآن، وكأن هذه السَّحْبَة لولده ستُنقذه من الموت، فما الذي جعله يتصرف هذا التصرف المُخالف للشرع والعقل؟ إنه الخوف والهلع والقلق.
يقول: "إذا حدثت أسباب الخوف، وأَلَمَّت بالإنسان المُزعجات تجد صحيح الإيمان ثابت القلب، مُطمئن النفس، مُتمكنًا من تدبيره وتسييره لهذا الأمر"[26]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15).، يعرف كيف يُفكِّر تفكيرًا سليمًا، ويتَّخذ القرار الصحيح؛ حتى لا يتخبَّط؟ "الذي دَهَمَه بما هو في وسعه"، فهو يُدبره بطريقةٍ سليمةٍ؛ لأنه لو قام بردة فعلٍ سلبيةٍ دون أن يُفَكِّر تفكيرًا صحيحًا بسبب الخوف ربما زاد الطين بِلَّةً، أو دخل في مُخالفاتٍ شرعيةٍ، أو أشياء أخرى.
يقول: "ثابت القلب، مُطمئن النفس"، وهذه أوصاف الحياة السعيدة: "متمكنًا من تدبيره وتسييره لهذا الأمر الذي دَهَمَه بما هو في وسعه من فكرٍ وقولٍ وعملٍ، قد وطَّن نفسه لهذا المُزعج المُلِم، وهذه أحوالٌ تُريح الإنسان، وتُثبت فؤاده"[27]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15).، فلا بد من توطين النفس لهذا الأمر.
وقد يقول شخصٌ: لا أريد أن يأتيني خبر موت أحدٍ من الأقارب. فعنده قلقٌ وخوفٌ من الموت، مثل: مَن لديه قلقٌ من المُرتفعات أو الاجتماعات ... إلى آخره، ويبدأ في اتِّخاذ قراراتٍ غير منطقيةٍ، ويعيش حياةً غير سعيدةٍ، وهو يظن أنه يُحْسِن صُنْعًا لأجل طرد هذه المخاوف، مع أن هذا ليس هو الموقف الصحيح في الحقيقة، فالموقف الصحيح من المخاوف سيذكره الشيخ، بإذن الله .
يقول: "كما تجد فاقد الإيمان" بالنسبة للمخاوف "بعكس هذه الحال؛ إذا وقعت المخاوف انزعج لها ضميره، وتوترت أعصابه، وتشتتت أفكاره، ودخله الخوفُ والرعبُ، واجتمع عليه الخوفُ الخارجي والقلق الباطني"[28]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16).، يعني: كلما زادت مصدرية الخوف من الداخل أو الخارج كلما زاد مستوى القلق والخوف.
"واجتمع عليه الخوف الخارجي والقلق الباطني الذي لا يمكن التعبير عن كُنهه، وهذا النوع من الناس إن لم يحصل لهم بعض الأسباب الطبيعية التي تحتاج إلى تمرينٍ كثيرٍ انهارت قُواهم، وتوترت أعصابهم"[29]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16)..
وهذه القضية نحتاج أن نتنبه لها بشكلٍ كبيرٍ جدًّا؛ لأنه إذا لم يأخذ الأسباب المادية السليمة قد يحصل لديه توترٌ عصبيٌّ شديدٌ، ويُدخله في دهاليز مستويات عُليا لا يفكها إلا الأدوية عند الأطباء النفسيين، وأيضًا الأدوية المُسكنة فقط، المُقلِّلة، وستبقى القضية شديدةً، لكن لو أننا استدركنا المسألة من البداية لهانت.
وهكذا مثل أصحاب الوسواس القهري، فقد صلَّى بجواري أحدهم، وحاله يُرثى لها، فسألتُه: كم لك على هذه الحال؟ قال: لي سنتان. فقلت: سنتان! فهل فعلتَ شيئًا؟ هل ذهبتَ لأحدٍ؟ قال: لا. قلتُ له: ماذا تنتظر؟
وآخر يقول: لي ستة أشهر، وما فعلتُ شيئًا. لِمَ لَمْ تفعل شيئًا؟! ما العيب في أن تذهب إلى طبيبٍ، أو ترقي نفسك؟ ما المشكلة في هذا؟
لذلك لا بد -كما قال الشيخ- من إجراء الأسباب الطبيعية، وإلا سيحصل عنده انهيارٌ: "انهارت قُواهم، وتوترت أعصابهم؛ وذلك لفقد الإيمان الذي يحمل على الصبر"؛ لأنه ليس له حلٌّ إلا بالصبر، والصبر لا يتأتى إلا بالإيمان: "خصوصًا في المحال الحرجة، والأحوال المُحزنة المُزعجة، فالبرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية"[30]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16).، فيمكن أن تجد إنسانًا شجاعًا ضد المخاوف، وهو كافرٌ!
طيب، قد يقول قائلٌ: أنتم قلتم: الصبر يكون بسبب الإيمان، ويوجد أناسٌ أقوياء عند المخاوف وهم كفارٌ؟!
اسمع كلام الشيخ: "فالبر والفاجر، والمؤمن والكافر يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية"، فهذه أمورٌ مُكتسبةٌ، والناس يشتركون فيها: "وفي الغريزة التي تُلطِّف المخاوف وتُهوِّنها" التي هي الغريزة البشرية، مهما كان دينه: "ولكن يتميز المؤمنُ بقوة إيمانه، وصبره، وتوكله على الله، واعتماده عليه، واحتسابه لثوابه؛ أمورًا تزداد بها شجاعته، وتُخفف عنه وطأة الخوف، وتُهوِّن عليه المصاعب"[31]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16).، فهذا الاعتدال في الوصف؛ لأن البعض يشطح، ويظن أن غير المؤمن فقط هو الذي يحصل منه مثل هذا الشيء، وأما المؤمن فلا يحصل منه هذا الأمر، لا يا أخي، هناك قضايا مُشتركةٌ بينه وبين الكافر؛ لأنه بشرٌ، وهذه قضيةٌ مشتركةٌ بين البشر، ولكن يزيد في مثل هذه المُعطيات التي تجعله أقوى شجاعةً وصلابةً وصبرًا وتحمُّلًا.
واستدلَّ الشيخ بقول الله: "كما قال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]"، اشتركا الآن في الألم، وهذه طبيعة النفس البشرية: "وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104]، ويحصل لهم من معونة الله ومعينه الخاص ومدده ما يُبَعْثِر المخاوف، وقال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]"[32]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16)..
بهذا يكون الشيخ قد انتهى من الوسيلة الأولى التي هي من أهم الوسائل، وتبقى عندنا تعليقاتٌ على الوسيلة الأولى نختم بها الكلام، وإن شاء الله ستكون الوسائل الأخرى أقصر وأسرع، وإن شاء الله ينتهي هذا الفصل ونكون قد انتهينا من الكتاب.
تعليقات على الوسيلة الأولى للسعادة
من التعليقات التي ينبغي ذكرها، وقد ذكرتُها في اللقاء الماضي:
1. أن التربية اليوم عالميًّا مُتعلقةٌ بالإيمان؛ ولهذا انظر لأثر هذه التربية على المكاره والمَحابِّ والمخاوف، وإذا أردتَ أن تعرف المعيار انظر لأبنائك في موقفهم من المضارِّ والمكاره، والمَحابِّ، والمخاوف، وانظر إلى نفسك واختبرها عند هذه الأمور، فجميلٌ للإنسان أن يختبر نفسه في بعض المواقف، ويرى كيف يكون موقفه عند المخاوف والمكاره والمَحابِّ؟ هذه معياريةٌ مهمةٌ جدًّا.
2. أن الذين شقُّوا لهم طرقًا مُنحرفةً في هذه الحياة: كأصحاب الفن، والرياضة، والمال، ... إلى آخره، ولم تتوظَّف هذه القضايا عندهم توظيفًا إيجابيًّا -لأن هناك توظيفًا إيجابيًّا للفن، فليس المقصود بالفن الصورة السَّمِجَة الموجودة الآن، الفن هو جانب الذوق الرَّاقي، لكن الذين انحرفوا جعلوا الفن مُنحرفًا، وجعلوا الرياضة مُنحرفةً، وجعلوا المال مُنحرفًا، أو أصبحت هذه القضايا وسيلة انحرافٍ- هم الذين يتعاملون مع قضايا المَحابِّ بصورة الخطر والأَشَر بصورةٍ واضحةٍ جدًّا.
وهذه نماذج ذكرتُها؛ لأن أجيالنا اليوم أصبحوا يتأثرون بهذه النَّماذج كقُدواتٍ، والدِّراسات في المجتمع السعودي دلَّت على أن الاهتمامات الأولى لدى الشباب السعودي -ذكورًا وإناثًا- هي الفن والرياضة، كما أثبتت دراسة مركز "رؤيا للدراسات الاجتماعية" بعنوان: "الاهتمامات والأولويات"، وهناك دراسةٌ لنفس المركز عن القنوات الفضائية وعلاقتها بالهوية الوطنية للشباب السعودي، ودراسة مجلة "الأسرة" عن ثقافة الشباب، ودراسة عُملت في أحد المراكز في دبي عن تعامل وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع السعودي، وغير ذلك من الدراسات، وقد خرجت هذه الدِّراسات بهذه النتائج المُزعجة.
وقد تكون هناك دراساتٌ في دولٍ عربيةٍ وغيرها، حتى في الدول الكافرة من باب أولى، لكن نحن أصحاب الهوية حين تكون النتائج عندنا بهذه الصورة فهذه مشكلةٌ، فنحن نحتاج أن نُراجع تربيتنا لأجيالنا حينما يكون همُّهم الأول هو الفن والرياضة، وهذه الصورة هي التي ستُربيهم على الجزع وعدم الانضباط في قضايا المَحابِّ والمضار والمخاوف؛ ولذلك قال أحد الأوروبيين: إن أوروبا لما تركت إلهها القديم، واتَّجهت إلى إلهها الجديد -الذي هو العلمانية والمادية- بدأ الأوروبيون يعيشون في قلقٍ دائمٍ، وهذا القلق -كما قلتُ لكم- هو رقم واحدٍ الآن على مستوى العالم في الأمراض النفسية، فكما نقول: السكري والضغط في الأمراض العضوية، نقول: القلق في الجوانب النفسية.
وإذا أردنا أن نُشابه القوم بمثل ذلك سنُشابههم حتى في هذا المرض النفسي، وهو القلق والخوف، وليس لنا حلٌّ للحياة السعيدة إلا بأن نرجع إلى هُويتنا، وأعظم هُويةٍ نعود إليها هي: الإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك لا بد من صدقٍ مع أنفسنا وذواتنا أولًا، وصدقٍ مع أهلينا -وهذا المحضن التربوي الأول- وصدقٍ مع مُجتمعاتنا خارج البيوت.
3. ما المشاريع التي تُعيننا على التربية الإيمانية؟
وهذه الصور التي تعيشها الأجيال اليوم من الترفيه، وإشغال الأوقات، هل تُقربنا إلى الإيمان، أم تُباعدنا عن الإيمان؟ وهل هناك مُنَغِّصاتٌ لهذا الإيمان وأشياء ضارَّة فيه؟ لا بد أن نُراجعها، وأي عاقلٍ -ولو كان كافرًا- يُدرك ذلك، وتصلني بعض الإجابات التي تُوافق العقل السليم، فكيف بمؤمنٍ مسلمٍ يُدرك بعض القضايا، ويعرفها، ولو سألت عنها من الناحية العلمية لأجاب: هذا واجبٌ، وهذا حرامٌ، وما شابه ذلك؟!
4. ضرورة وجود الهمَّة العالية لدى أجيالنا، وتأمَّلوا قصة عجوز بني إسرائيل الجميلة والرائعة: فعن أبي موسى قال: أتى النبيُّ أعرابيًّا فأكرمه، فقال له: ائتنا، فأتاه، فقال له رسول الله : سَلْ حاجتك، قال: ناقةٌ نركبها، وأَعْنُزٌ يحلبها أهلي. فقال رسول الله : أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟! قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلُّوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال عُلماؤهم: إن يوسف لما حضره الموتُ أخذ علينا مَوْثِقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمَن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوزٌ من بني إسرائيل. فبعث إليها، فأتته، فقال: دُلِّيني على قبر يوسف. قالت: حتى تُعطيني حكمي. قال: وما حكمُكِ؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يُعطيها ذلك، فأوحى الله إليه: أن أعطها حُكمها. فانطلقت بهم إلى بُحيرةٍ -موضع مُستنقع ماءٍ-، فقالت: أنضبوا هذا الماء. فأنضبوه، فقالت: احتفروا. فاحتفروا، فاستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلُّوها إلى الأرض، وإذا الطريق مثل ضوء النهار[33]أخرجه ابن حبان (723)، وقال الألباني: صحيحٌ لغيره..
فهذا الأعرابي قال له الرسول : سَلْ حاجتك، فذهب هَمُّ الأعرابي إلى الدنيا: ناقةٌ برحلها، وأَعْنُزٌ يحلبها أهلي! فالهم هنا دنيويٌّ حلالٌ، ومع ذلك الرسول استنكر عليه ذلك وقال: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ ثم قصَّ قصة العجوز مع النبي موسى عليه الصلاة والسلام.
فهناك فرقٌ بين العجوز صاحبة الهمِّ بالآخرة، والأعرابي صاحب الهمِّ بالدنيا، مع أنه سأل حلالًا، فكيف بمَن انغمس في الحرام، والعياذ بالله؟!
تشبيه الغزالي للدنيا وطالبيها
يقول الغزالي -رحمه الله: "مثالٌ آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة، وخُسرانهم العظيم بسببها:
اعلم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قومٍ ركبوا سفينةً، فانتهت بهم إلى جزيرةٍ، فأمرهم المَلَّاح بالخروج إلى قضاء الحاجة، وحذَّرهم المقام، وخوَّفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرَّقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضُهم حاجتَه، وبادر إلى السَّفينة، فصادف المكان خاليًا؛ فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمُراده.
وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها، وأزهارها العجيبة، وغِيَاضها المُلْتَفَّة، ونغمات طيورها الطيبة، وألحانها الموزونة الغريبة، وصار يلحظ من بَرِيَّتها: أحجارها، وجواهرها، ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال، الحسنة المنظر، العجيبة النقوش، السَّالبة أعين الناظرين بحُسن زَبَرْجَدها، وعجائب صورها، ثم تَنَبَّه لخطر فوات السفينة، فرجع إليها، فلم يُصادف إلا مكانًا ضيِّقًا حرجًا، فاستقرَّ فيه.
وبعضهم أَكَبَّ على تلك الأصداف والأحجار، وأعجبه حُسْنُها، ولم تسمح نفسُه بإهمالها، فاستصحب منها جملةً، فلم يجد في السفينة إلا مكانًا ضيقًا، وزاده ما حمله من الحجارة ضيقًا، وصار ثقيلًا عليه ووبالًا؛ فندم على أخذه، ولم يقدر على رميه، ولم يجد مكانًا لوضعه؛ فحمله في السفينة على عنقه، وهو مُتأسِّفٌ على أخذه، وليس ينفعه التَّأسُّف.
وبعضهم تَولَّج الغِياض، ونسي المركب، وبَعُدَ في مُتفرَّجه ومُتنزَّهه منه حتى لم يبلغه نداء الملَّاح؛ لاشتغاله بأكل تلك الثِّمار، واستشمام تلك الأنوار، والتَّفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائفٌ على نفسه من السِّباع، وغير خالٍ من السَّقطات والنَّكبات، ولا مُنْفَكٍّ عن شوكٍ يَنْشَب بثيابه، وغصنٍ يجرح بدنه، وشوكةٍ تدخل في رِجْله، وصوتٍ هائلٍ يفزع منه، وعَوْسَجٍ يخرق ثيابه، ويهتك عورته، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مُثْقَلًا بما معه، ولم يجد في المركب موضعًا، فبقي في الشَّطِّ حتى مات جوعًا.
وبعضهم لم يبلغه النِّداء، وسارت السفينة، فمنهم مَن افترسته السِّباع، ومنهم مَن تاهَ، فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم مَن مات في الأوحال، ومنهم مَن نهشته الحيَّات، فتفرَّقوا كالجِيَف المُنتنة.
وأما مَن وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته، وشغله الحزنُ بحفظها، والخوف من فوتها، وقد ضيَّقت عليه مكانه، فلم يلبث أن ذَبُلَتْ تلك الأزهار، وكمدت تلك الألوان والأحجار؛ فظهر نَتَنُ رائحتها، فصارت مع كونها مُضَيِّقةً عليه مُؤْذِيةً له بنتنها ووحشتها، فلم يجد حيلةً إلا أن ألقاها في البحر هربًا منها، وقد أثَّر فيه ما أكل منها، فلم ينتهِ إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح؛ فبلغ سَقِيمًا مُدْبِرًا.
ومَن رجع قريبًا ما فاته إلا سعة المحل؛ فتأذَّى بضيق المكان مدةً، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومَن رجع أولًا وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالمًا.
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمورهم.
وما أقبح مَن يزعم أنه بصيرٌ عاقلٌ أن تَغُرَّه أحجار الأرض -وهي: الذهب والفضة- وهَشِيم النَّبْت -وهي: زينة الدنيا-، وشيءٌ من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كلًّا ووبالًا عليه، وهو في الحال شاغلٌ له بالحزن والخوف عليه! وهذه حال الخلق كلهم إلا مَن عصمه الله "[34]"إحياء علوم الدين" ومعه "تخريج الحافظ العراقي" (4/ 391، 392)..
همَّة المؤمن مُتعلِّقةٌ بالآخرة
أختم كلامي وهذا اللِّقاء بكلامٍ نفيسٍ ذكره ابن الجوزي في كتابه الجميل النَّفيس "صيد الخاطر"، فاسمعوا ماذا قال في فصلٍ جميلٍ بعنوان: "همَّة المؤمن مُتعلِّقةٌ بالآخرة": "همَّة المؤمن مُتعلِّقةٌ بالآخرة، فكل ما في الدنيا يُحرِّكه إلى ذكر الآخرة، وكل مَن شغله شيءٌ فهِمَّته شُغله، ألا ترى أنه لو دخل أربابُ الصنائع إلى دارٍ معمورةٍ، رأيتَ البزَّاز ينظر إلى الفرش، ويَحْزُر قيمته، والنَّجار إلى السقف، والبَنَّاء إلى الحيطان، والحائِك إلى النَّسج؟
والمؤمن إذا رأى ظلمةً ذكر ظُلمة القبر، وإن رأى مُؤلمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نِيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذَّةً ذكر الجنة؛ فهِمَّته مُتعلِّقةٌ بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمَّ، وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع، ولا يزال، ولا يعتريه مُنَغِّصٌ، فيكاد إذا تخايل نفسه مُتقلِّبًا في تلك اللَّذات الدائمة التي لا تفنى: يطيش فرحًا، ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألمٍ ومرضٍ وابتلاءٍ، وفقدِ محبوبٍ، وهجوم الموت، ومُعالجة غُصَصِه، فإن المُشتاق إلى الكعبة يهون عليه رملُ زَرُود، والتَّائق إلى العافية لا يُبالي بمرارة الدَّواء، ويعلم أن جودة الثَّمر ثَمَّ على مقدار جودة البذر هاهنا، فهو يتخيَّر الأجود، ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتورٍ.
ثم يتخايل المؤمنُ دخول النار والعقوبة؛ فيتنَغَّص عيشُه، ويقوى قلقُه، فعنده بالحالين شغلٌ عن الدنيا وما فيها؛ فقلبه هائمٌ في بَيداء الشوق تارةً، وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البُنيان، فإذا نازله الموتُ قوي ظنُّه بالسلامة، ورجا لنفسه النَّجاة؛ فيهون عليه، فإذا نزل إلى القبر، وجاءه مَن يسألونه، قال بعضُهم لبعضٍ: دعوه، فما استراح إلا الساعة"[35]"صيد الخاطر" (ص411، 412)..
نسأل الله يقظةً تامَّةً تُحرِّكنا إلى طلب الفضائل، وتمنعنا من اختيار الرذائل، فإنه إن وَفَّق وإلا فلا نافع.
هذا والله تعالى أعلم.
↑1 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13). |
---|---|
↑2 | "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" ط: المعارف (2/ 197). |
↑3 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑4 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13). |
↑5 | "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" (ص97). |
↑6 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13). |
↑7 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13، 14). |
↑8 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13، 14). |
↑9 | أخرجه مسلم (2999). |
↑10 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑11 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑12 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑13 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑14 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑15 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑16 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑17 | "تفسير الراغب الأصفهاني" (3/ 1200). |
↑18 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص14). |
↑19 | أخرجه البخاري (3320). |
↑20 | "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/ 98). |
↑21 | "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/ 99). |
↑22 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15). |
↑23 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15). |
↑24 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15). |
↑25 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15). |
↑26 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15). |
↑27 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص15). |
↑28 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16). |
↑29 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16). |
↑30 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16). |
↑31 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16). |
↑32 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16). |
↑33 | أخرجه ابن حبان (723)، وقال الألباني: صحيحٌ لغيره. |
↑34 | "إحياء علوم الدين" ومعه "تخريج الحافظ العراقي" (4/ 391، 392). |
↑35 | "صيد الخاطر" (ص411، 412). |