المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذا الدرس الرابع من المجموعة العاشرة من سلسلة "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، ومع رسالة العلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- وقفات تربوية ونفسية من رسالة "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة".
نظرةٌ في قصيدة "الطلاسم" لإيليا أبو ماضي
دعونا قبل أن نُغادر الوسيلة الأولى وهي: ما يتعلق بالإيمان والعمل الصالح؛ نختم بقضيةٍ كنا نريد أن نُشير إليها ضمن ما يتعلق بضعف الإيمان والعمل الصالح، وما يُولد من القلق والتوتر، وأثر ذلك على النفس البشرية، وعلى الشخصية، وحينما يكون الإنسان كافرًا أو مُشركًا يزداد الأمر سوءًا، وتأمل ما جاء في قصيدة إيليا أبو ماضي في ديوانه "الجداول" من قصيدته المشهورة بـ"الطلاسم"، وهو شاعرٌ له كلماته العربية القوية من الناحية اللغوية، لكن مضامينها اسمعوها، يقول:
جئتُ لا أعلم من أين؟ ولكني أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدَّامي طريقًا فمشيتُ
وسأبقى سائرًا إن شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري
أجديدٌ أم قديمٌ أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حرٌّ طليقٌ، أم أسيرٌ في قيودٍ؟
هل أنا قائدٌ نفسي في حياتي، أم مَقُودٌ؟
أتمنى أنني أدري، ولكني لستُ أدري
وطريقي! ما طريقي؟ أطويلٌ أم قصيرٌ؟
هل أنا أصعد، أم أهبط فيه وأغور؟
أَأَنا السائر في الدَّرب، أم الدَّرب تسير؟
أم كلانا واقفٌ والدهر يجري؟!
لستُ أدري
ليت شعري، أنا في عالم الغيب الأمين
أتُراني كنتُ أدري أنني فيه دَفِين
وبأني سوف أبدو، وبأني سأكون
أم تُراني كنتُ لا أُدرك شيئًا؟!
لستُ أدري
أتُراني قبلما أصبحتُ إنسانًا سَوِيًّا
كنتُ محوًا، أو محالًا، أم تراني كنتُ شيئًا؟
ألهذا اللغز حلٌّ، أم سيبقى أبديًّا؟
لستُ أدري، ولماذا لستُ أدري؟
لستُ أدري[1]من قصيدته المعروفة بـ"الطلاسم" على الشبكة العنكبوتية..
فماذا تستنبطون من هذه القصيدة؟
أنه ضائعٌ، وتائهٌ، وبائسٌ، لا يدري لماذا خُلِقَ؟ مُضطربٌ، وقلقٌ، ومُتوترٌ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22]، فهل يستويان؟ الجواب: لا.
هذا شاعرٌ معروفٌ، وله ديوانه المعروف، ومع ذلك تأمَّلوا التِّيه والضَّياع الذي هو فيه، حتى إن هناك مذهبًا عُرِفَ بمذهب "لا أدري"، فهذا لا يدري لماذا خُلِقَ؟ وما هدفه في هذه الحياة؟ ولا يدري لماذا وُجِدَ؟ وما دوره المطلوب؟ وما الذي أوجبه الله عليه؟ وما أشبه ذلك.
فهذا التِّيه والضَّياع والحياة البائسة والنفس المُضطربة بسبب البُعْد عن الله ، وعدم الإيمان به .
فنحن بأمس الحاجة إلى أن نقف عند هذا الموضوع ونُنَبّه عليه؛ لأن هناك مَن يُشبه إيليا أبو ماضي، حتى ولو لم يكن على مذهبه ودينه، لكنه يُشابهه في مثل هذا الضياع، وهذا لا شكَّ أنه سيجهل ما هو معلومٌ من الدين بالضَّرورة.
وأما نحن فنعرف ونُؤمن بأن الناس سيُبعثون، ويكون دخولهم في الجنة على أعمار ثلاثةٍ وثلاثين، والمسلم يعرف هدفه في هذه الحياة، ويعرف الموت، وكل هذه الأشياء -الحمد لله- نُدركها ونعلمها ونُؤمن بها، وما لا يدخل في عقولنا نُسلِّم به: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]؛ لأن العقول لا يمكن أن تُدرك مكنونات كل الأمور؛ ولذا فالعقل له حدوده في دائرة خلق الله ، والإنسان لا بد أن يُدرك هذه القضية؛ حتى لا يتوه ويضيع.
كيفية التعامل مع الشُّبهات
تجد بعض شبابنا جاءته شُبهةٌ في (الواتساب)، أو في (تويتر)، أو في (سناب شات)، أو سمع مقطعًا لعشر ثوانٍ، والثاني، والثالث، ثم يبدأ في الاضطراب بسبب هذه الشُّبهة الخطَّافة، ويُصبح مثل الإسفنجة مع هذه الشُّبَه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
والإسفنجة فيها سمةٌ: أنها تمتص أيَّ شيءٍ، فإذا وُضعت في الماء النَّظيف والسائل النَّظيف شربته، وإذا وُضعت في المُتَّسخ شربته، نفس الكلام.
ويقول: ليكن الإنسان مثل الزجاجة، فالزجاجة تجد أنها لا يُؤثر فيها شيءٌ أبدًا، وهكذا الإنسان المؤمن بإيمانه يعرف ما يأخذ، وما يذر، وماذا يعتقد؟ وماذا يترك؟ فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
والتحدي في هذا الزمن الذي صارت فيه الاهتمامات والأولويات مُتَّجهةً لقضايا الفن والرياضة يتمثل في: كيف نستطيع أن نقلب هذا الجيل ليُصبح اهتمامه الأول هو القضية المُتعلقة بالإيمان والعمل الصالح؟ وهذا دور المُربين.
فيا أيها المربون في البيوت والأُسَر والمدارس والتعليم والجامعات والمحاضن التربوية، أين أنتم من هذا التحدي الخطير الذي يجعل الإيمان والعمل الصالح رقم واحدٍ في اهتمامات الأجيال، مقابل الفن والرياضة اللذين أثبتت كل الدراسات الحديثة اليوم أنهما رقم واحدٍ في الاهتمامات عند شبابنا، وفي مجتمعنا السعودي للأسف الشديد.
ولذلك نحتاج أن نُدرك هذا الأمر؛ حتى لا تغلب علينا الأزمات النفسية، والضيق، والتحدي، والمنافسات غير الشريفة، والفريق الفلاني، والفريق الفلاني.
وأعرف شخصًا يُشجع فريقًا، وابنه يُشجع الفريق الآخر، فإذا التقى الفريقان فلا تسأل عن هذين الشخصين! فالأب والابن يُصبحان شيئًا آخر، خاصةً الابن؛ لصغر سِنِّه، فيُصبح في حَيْص بَيْص، وشَذَرَ مَذَرَ، وتذهب الأخلاق والقيم والعلاقة الأبوية والأسرية بسبب هذا الخُلُق الذي اكتسبه بالانتماء إلى ما لا يستحق الانتماء إليه بهذا المستوى من الهَوَس الذي أشغل كثيرًا من الناس اليوم! فكيف بالقضايا الثانية المُرتبطة بالجوانب المُحرَّمة، مثل: بعض صور الفن، وما يتعلق بها.
الوسيلة الثانية: الإحسان إلى الخلق
دعونا نقرأ ما وصلنا إليه، ونحن الآن في الوسيلة الثانية، وكانت الوسيلة الأولى -الأم الكبرى- هي: ما يتعلق بالإيمان والعمل الصالح.
يقول الشيخ -رحمه الله تعالى: "ومن الأسباب التي تُزيل الهمَّ والغمَّ والقلق: الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف، وكلها خيرٌ وإحسانٌ، وبها يدفع اللهُ عن البرِّ والفاجر الهمومَ والغمومَ بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظِّ والنَّصيب، ويتميز بأن إحسانه" أي: أن المؤمن الذي يُحسن إلى الآخرين يتميز عن الكافر الذي يُحسن أيضًا للآخرين بأن إحسانه: "صادرٌ عن إخلاصٍ واحتسابٍ لثوابه، فيُهَوِّن الله عليه بذل المعروف"[2]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16، 17).؛ لأن الكافر الذي قد يكون وُفِّق إلى الإحسان إلى الخلق ...، وبعض الكفَّار يكون من طرق إسعادهم لأنفسهم ولذواتهم: أن يُحسن للآخرين، وحين يرى إحسانه له أثره على الآخرين: فهذا الفقير ساعده، وهذا الذي يحتاج إلى شفاعةٍ أعانه، ... إلى آخره؛ يشعر هذا الكافر بالسعادة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، لكن المؤمن يزيد على ذلك أنه يحتسب الأجر، ويكون إحسانه لله ، والله يُعوِّضه بالإحسان: أن تهون عليه المصاعب؛ وذلك من خلال بذل المعروف: "لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]"[3]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص17).، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء.
يقول الشيخ: "فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خيرٌ ممن صدرت منه، والخير يجلب الخير، ويدفع الشرَّ، وأن المؤمن المُحْتَسِب يُؤتيه الله أجرًا عظيمًا، ومن جملة الأجر العظيم: زوال الهمِّ والغمِّ والأكدار ونحوها"[4]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص17)..
وهذا فرقٌ عظيمٌ، وله ارتباطٌ واضحٌ بالنسبة لدورتنا هذه، أو رسالتنا التي بين أيدينا؛ لأن الكافر قد يشعر في إحسانه للآخرين بالسعادة، لكن تبقى همومه وكدره في أشياء عديدةٍ موجودةٍ، بسبب فقد الإيمان والعمل الصالح، بينما المؤمن بسبب إخلاصه لله يُكافئه الله على ذلك بذَهاب همومه وغمومه والأكدار عنه.
ولذلك أيها الإخوة نحتاج حاجةً كبيرةً جدًّا إلى أن نحرص على هذه القضية، ونُربي أنفسنا وأهلينا عليها، وهي: ما يتعلق بقضية الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل.
ويعجب بعضنا حين يجد نماذج قديمةً وحديثةً أتعبت وأرهقت نفسها ليس للمصلحة الدنيوية، وكان بإمكانها أن تجد المصلحة الدنيوية من: مالٍ، أو منصبٍ، أو سُمعةٍ، أو ما شابه ذلك، ولكنها لم تفعل؛ لأنها شعرت بالسعادة بسبب إحسانها للآخرين.
وخذ مثالًا على ذلك الدكتور عبدالرحمن السميط، يُقال: إن قُرابة اثني عشر مليونًا أسلموا على يديه، وهذه أقل نسبةٍ سمعتُها.
وهذا الرجل طبيبٌ، ومن أسرةٍ عندها خيرٌ، ومع ذلك عاش في أدغال أفريقيا، وتلذذ بذلك.
وبعض العقول تستغرب: لماذا طبيبٌ، ومن أسرةٍ، وفي الكويت -وهي من البلدان ذات الدخل الكبير في ذاك الوقت- وما شابه ذلك؛ ويترك كل هذا ويذهب إلى أفريقيا؟!
ليس لهذا تفسيرٌ دنيويٌّ، والبعض يقول: هذا مجنونٌ! وأنا أعرف بعض الناس عنده هذا اللفظ، فأعرف تاجرًا يصف تاجرًا آخر أنفق مبالغ طيبةً في موقفٍ من المواقف، فقال عنه: هذا مجنونٌ! لأن الذي قال هذا معروفٌ بالبخل، فصعب عليه إنفاق 1% من هذا المبلغ، فكيف بمبلغٍ مثل: 500 ألف، أو مليون، أو ما شابه ذلك؟!
هذا أخرج هذا المبلغ لأن هذه سعادته، وعرف كيف يخدم الآخرين؟ وكيف يجعل هذا المال لله ؟ وكيف ينتصر على نفسه؟
ولذلك تختلف المعاني حسب أحوال الناس، وصدق القائل:
وحسبكم هذا التفاوت بيننا | وكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح[5]البيت في "الدر الفريد وبيت القصيد" (7/ 477) لأبي الفوارس الحلبي. |
فعلى حسب الاهتمامات تختلف الأعمال، فهذا اهتمامه دنيوي؛ فتجده ينظر لهذا الرجل على أنه مجنونٌ: لماذا يصرف المال في وجوه الخير؟!
وهذا اهتمامه أُخروي؛ يريد الإحسان للآخرين، فيفقد المال من أجل الإحسان للآخرين؛ لأنه يشعر بسعادةٍ، ويستلذُّ هذه السعادة المُعَجَّلة له قبل الآخرة وقبل الجنة في عمله الذي يقوم به، وهو الإحسان، فيكفيه أن يُحسن للخلق، ويكون سببًا في هدايتهم لله.
والواحد منا يفرح حين يكون سببًا في أن يُسلم أحد الكفار، فكيف بملايين؟!
يا أخي، إن قضية الدنيا لا تُساوي شيئًا البتة بالنسبة لهذا الأمر العظيم، ولكنها تحتاج إلى القلوب التي تربَّت على الإيمان والعمل الصالح والإحسان للخلق، وتربَّت على قول النبي : وخير الناس أنفعهم للناس[6]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5787)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (6662)..
فيكفينا والله يا أخي أن نكون أحبَّ الناس إلى الله، ولا علينا من غيرنا، فإذا أحبَّنا الله، فماذا علينا من غضب فلانٍ وفلانٍ ... إلى آخره، أو أنه ما أحبَّني، أو أنه ما اهتمَّ بي، أو ما قدَّرني؟!
وفي الحديث: أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلمٍ، أو تكشف عنه كُربةً، أو تقضي عنه دَيْنًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني: مسجد المدينة- شهرًا، ومَن كفَّ غضبَه ستر الله عورتَه، ومَن كظم غيظَه، ولو شاء أن يُمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه أمنًا يوم القيامة، ومَن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى أثبتها له؛ أثبت الله قدمه على الصِّراط يوم تَزِلُّ فيه الأقدام[7]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6026)..
فهذه صورةٌ من صور ومجالات الإحسان للآخرين قولًا وعملًا، والله يجزي المُحسن إلى الناس، حتى ولو كان من الذين ليس لهم يوم القيامة خَلاقٌ من المشركين والكفار، فيُعجل لهم الحسنات في الدنيا مقابل إحسانهم للخلق بسعادةٍ في نفوسهم، أو تكون في ذواتهم بتوسيع الرزق لهم، أو بكفِّ شرورٍ معينةٍ، وما شابه ذلك، فالله يُعجل لهم ذلك في الدنيا؛ لأن جزاءهم في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فليس لهم فيها من خلاقٍ ولا نصيبٍ بسبب عدم إيمانهم بالله .
فنحتاج أن نستشعر هذه المعاني، وأن نغرسها في الأبناء والطلاب والأجيال؛ حتى يتربوا عليها.
وقد زرتُ مرةً في أحد الأعياد القريبة أحد الأشخاص الذين مَنَّ الله عليهم بالخيرات، وجاء إلى باب بيته أطفالٌ صغارٌ فُقراء ينتظرون عيديةً أو شيئًا من هذا القبيل، وأحوالهم بائسةٌ، وثيابهم رَثَّةٌ، وما شابه ذلك، فقال لابنه الصغير: يا ولدي، جزاك الله خيرًا، أعطِهم. فذهب الولد يُوزع عليهم، وقد أعجبني أسلوب الأب، وكان يراهم، لكنه مشغولٌ معي.
الشاهد: أن الابن الصغير الذي تربَّى على هذه المعاني كان عَطُوفًا تجاه هؤلاء المُحتاجين، فتربية الأبناء على مثل هذه الأمور مهمةٌ جدًّا؛ حتى يتربوا على الإحسان للآخرين.
وهذا الحديث السابق ذكر مجموعةً من هذه الأمور، حتى السرور تُدخله على أخيك المسلم، وتُبَشِّره بالخير، وتفرح لفرحه، وتقضي دَينه، وتُطعمه من جوعٍ، ... إلى آخره.
وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ ذكرها الرسول ، وتمشي معه، وتقضي حاجته، حتى تتأكد أن الأمور انتهت -والحمد لله- وقد وصل لمُبتغاه.
فكل هذه الأمور تدل على نفسٍ شريفةٍ تشعر بالسعادة والطمأنينة والراحة، وليست نفسًا قلقةً، فالنفس القلقة والمُتوترة والكئيبة والحزينة لا تفعل هذا الفعل، وإنما هي مُتقوقعةٌ على ذاتها، ولا يريد صاحبها أن يشغل باله بالآخرين، ودائمًا يقول: أنا متعبٌ، أنا قلقٌ، أنا مُتوترٌ، أنا حزينٌ. فهو مشغولٌ بذاته، لكن الشخص السعيد تجد أنه بعكس ذلك؛ فعنده الطمأنينة والراحة، فيشعر أنه يريد أن يفيض حبًّا وودًّا على الآخرين، وإعانةً لهم، فالتربية على مثل هذه القضايا مهمةٌ.
تعدد مجالات الإحسان للآخرين
الإحسان للآخرين ليس مربوطًا فقط بالفقر والجهل والمرض -بهذا الثالوث-، فقد لا يكون الإنسان مريضًا، ولا جاهلًا، ولا فقيرًا، ومع ذلك تستطيع أن تُحسن إليه، فهذا مريضٌ يحتاج إلى أن يُداوى، وهذا جاهلٌ يحتاج إلى أن يتعلم، وهذا فقيرٌ يحتاج إلى أن تسدَّ حاجته، وغير ذلك.
أقصد أن مجال الإحسان للآخرين لا يُفهم بالجانب الإغاثي فقط، فالجانب التعليمي مهمٌّ جدًّا، وكثيرٌ منا يتحمَّس لإعطاء المال لأُسَرٍ فقيرةٍ فقط، وهذا مهمٌّ، لكن أين بناء عقولهم ونفوسهم وإيمانهم من خلال التعليم؟ فهذا مهمٌّ جدًّا.
وكثيرٌ من أهل الخير ينسون هذا المجال من عمل البرِّ، فمثلًا: البعض قد يُنفق أموالًا على قضايا كثيرةٍ، بينما هناك أمورٌ مهمةٌ أخرى: كقنواتٍ فضائيةٍ وإعلاميةٍ فيها خيرٌ كبيرٌ تحتاج إلى دعمٍ، فيتردد الكثير في دعم مثل هذه القضايا، وما شابه ذلك، مع أنها قد تكون مُؤثرةً في التعليم، ومُؤثرةً في قضايا عديدةٍ جدًّا، ومهمةً، ومن الإحسان للخلق أن نقوم بمثل هذا الشيء.
وهكذا كان النبي -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- يجود بوقته وبنفسه؛ حتى حطمه الناس، يعني: أرهقه وأتعبه الناسُ من كثرة ما كان يتواصل مع الناس.
مَن هو المُرَبِّي؟
المُربي حقيقةً هو الذي يُحسن للخلق، وهو قريبٌ منهم، وليس هو الذي يجلس مشغولًا بالتقنية والجوَّال عن بُعْدٍ، والأب الذي عنده توجيهاتٌ عبر الجوَّال!
فالمربي فعلًا هو الذي يُشارك المُتربين ويكون معهم، ويُحْسِن إليهم قولًا وفعلًا، هذا هو المُربي، وهكذا كان النبي ، فنحن بأمس الحاجة إلى ذلك.
وقد يشعر البعض أحيانًا أن هذه القضية قد تُبعد الهيبة عن المُربي، وهذا غير صحيحٍ.
وعبدالله بن المبارك -رحمه الله- وهو إمام المُحدِّثين، وفي نفس الوقت إمام المُجاهدين، ماذا كان يفعل هذا الرجل -رحمه الله؟
كان يُحسن للخلق أيّما إحسانٍ، فكان يُبادر الحُجَّاج قبل أن يصلوا لأماكن حجِّهم في المسير، ويُهيِّئ لهم ما يحتاجونه، ثم يذهب إلى المنطقة الأخرى.
وكان الله قد أعطاه وأكرمه، وجمع له بين أمورٍ عديدةٍ -رحمة الله عليه- من العلم والإيمان والجهاد والصدقة والخير، فكان يُحسن للآخرين؛ فيقوم برعاية الحُجَّاج، وتوفير الراحة لهم، وهو إمامٌ، لكنه عُرِفَ بهذا.
فنحن نحتاج إلى مثل هذا، فلنبحث عمَّن نستطيع أن نخدمهم ونُحسن إليهم، فإذا كنا بعيدين عن الإحسان لأقرب الناس إلينا من أبنائنا وطلابنا وأجيالنا القريبين منا، فمَن الذي سنخدمه ونُحسن إليه؟!
وما أعظم أن تجد أثرك أيها الأخ الكريم على أبنائك وطلابك وجيرانك وأهلك وأقاربك! ويكون لك الأثر الواضح عليهم من خلال الإحسان لهم قولًا وفعلًا.
وكما قلنا: ليست القضية خاصةً بفقرٍ ومرضٍ وجهلٍ، وكذلك ليست خاصةً بمالٍ، فأنت قد تُحسن بكلمةٍ، وقد تُحسن بابتسامتك، وقد تُحسن بفعلٍ، بدون أي كلمةٍ، ولا تحتاج إلى مالٍ، ولا نحصر الإحسان بالمال؛ لأننا إذا حصرناه بالمال ضيَّعنا على أنفسنا الكثير، والمال عزيزٌ، واسألوا أهل المال، وتأملوا كيف يحرص الواحد منا على المال؟! كما قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، مع أن إنفاق المال يُعتبر منزلةً عظيمةً جدًّا؛ فقد قدَّمه الله على الجهاد بالنفس، وهذه ميزةٌ عظيمةٌ جدًّا.
فأقول: بإمكانك أن تُحسن بكلامك وأفعالك، وتستطيع أن تُساعد الآخرين بأي شيءٍ.
جانبٌ من حياة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي
الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمة الله عليه- صاحب هذه الرسالة التي نقوم بشرحها، يذكر الوالد -رحمة الله عليه- والأعمام -رحم الله مَن تُوفي منهم، وبارك في عمر مَن بقي ممن عاصروه- أنه توفي عام 76 هجريًّا، ونحن لم يكتب لنا الله أن نراه.
يقول مَن عاصره: كان عنده إحسانٌ كبيرٌ للآخرين، وكان عجبًا في هذا الموضوع، فكان عالمًا عاملًا، مُلتصقًا بالمجتمع، فكان يُعلم الناس في دروسه اليومية المُستمرة والكثيرة، وكان يستغل المجالس في التعليم -رحمه الله-، وهذا من الإحسان بلا نقاشٍ.
وأؤكد على أن الإحسان بالعلم الحاجة إليه كبيرةٌ، لكن كان أيضًا -رحمة الله عليه- يشفع، وكان يحل المشاكل، وكان يُنهي الخلافات، وكان معه جدولٌ في جيبه، وورقةٌ فيها مواعيد زيارةٍ لفلانٍ وفلانٍ، من غير تمييزٍ لهم، حتى إن من النُّكت التي ذُكرت عنه: أنه أتاه شخصٌ في آخر السنة الهجرية، فأخذ منه موعدًا، فقال للشيخ: متى موعدي يا شيخ -إن شاء الله- وتكون القهوة عندي؟ فقال له: موعدك السنة القادمة. قال: يا شيخ، لي فترةٌ أطلبك وأريدك، ثم تقول لي: بعد سنةٍ! فقال: ما بقي إلا قليلٌ على ذي الحجة. والشيخ يقصد أن يُداعبه، يعني: ما هي إلا أيام وتبدأ سنةٌ هجريةٌ جديدةٌ.
وكان في ذاك الوقت المُدَخِّن شخصًا مَمْقُوتًا، خاصةً في بيئة القصيم، ومع هذا كان الشيخ يذهب إلى بعض هؤلاء ويزورهم.
يقول الوالد -رحمة الله عليه-: حتى كان البعض يأتون للشيخ ويقولون: يا شيخ، كيف تذهب لفلانٍ وفلانٍ، وهذا يشرب دُخانًا، وهذا يسمع الأغاني، ... إلى آخره؟! فكان الشيخ يذهب، لكنه كان كذلك يُحْسِن إليهم بالنُّصح -رحمة الله عليه- كما يُحْسِن بالمجيء إليهم وشرب القهوة عندهم، ويذهب إليهم في بيوتهم، ... إلى آخره.
فالمُربون بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أن يعرفوا كيف يستطيعون أن يُحسنوا للآخرين؟
والآجري في كتابه "أخلاق العلماء" تكلم عن هؤلاء العلماء الربانيين الذين يحتاج الناس إليهم في أمور دينهم ودُنياهم، يعني: الإنسان إذا احتاج في قضيةٍ دنيويةٍ -في تجارةٍ، أو خلافاتٍ زوجيةٍ، أو قضيةٍ لابنه- يذهب لهذا العالم، ويقول له: ما رأيك؟ هل أدخل في المشروع؟ وكيف أستطيع أن أكسب زوجتي؟ وكيف أستطيع أن أُربي ولدي هذا؟ ... إلى آخره، فهو يستشير العالم، ليس في أمور الدين فقط، بل حتى في أمور الدنيا.
يقول الآجري: هؤلاء هم العلماء الربانيون الذين يأتي الناسُ إليهم في أمور الدين والدنيا، وهذا من أعظم الإحسان للخلق، وهنيئًا لمَن وفَّقه الله لمثل هذا الشيء.
فاسأل أخي الكريم نفسكَ، واسألي أختي الكريمة نفسكِ: ما نصيبنا من إحساننا للآخرين؟ أم أننا مشغولون بذواتنا الضَّخمة المُنتفخة التي لا نتجاوزها، وشُغلي هو إرضاء ذاتي، وشُغلي سعادتي، وشُغلي ترفيه نفسي، وشُغلي ما تُريده "الأنا" كما يُسمونها: "الأنا الضخمة"! لكن صاحب الإحسان "الأنا" عنده مُعتدلةٌ، في وضعها الطبيعي، بل إنه قد يَهْضِم نفسه؛ فيُقدم غيره، وهذا يُسمَّى: بالإيثار: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] يعني: يحتاجون إلى هذا الأمر الذي يُؤثِرون به غيرهم على أنفسهم، ومع ذلك يتركونه، فأين هؤلاء الذين وصلوا إلى مستوًى عظيمٍ؟ والمؤمن يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، ونحن بأمس الحاجة إلى هذا التَّكاتُف والتَّآلُف، وما أشبه ذلك.
كنتُ مع أحد الزملاء الفُضلاء، وهو أخٌ سوداني -جزاه الله خيرًا-، فكان يتحدث عن التَّغير الذي حصل في المجتمع السوداني، وأنا زرتُ السودان، وبالفعل حدث تغيرٌ في المجتمع السوداني في بعض القيم، كالتَّغيرات الموجودة في كثيرٍ من البلاد الإسلامية -للأسف الشديد- فيما يتعلق مثلًا بحشمة المرأة، وما يرتبط بمظاهر التَّغريب ... إلى آخره، لكن يقول: هناك بعض القيم بقيت بصورةٍ رائعةٍ جدًّا، ومن القيم التي بقيت -وقد لاحظتُها بالفعل- أن السوداني في أي مكانٍ إذا احتاج إلى المال أصحابه السودانيون في تلك البلد لا ينسونه أبدًا -وسمعتُ ذلك بأكثر من مكانٍ، وأعرف هذه المواقف- مع أنهم ليسوا من أهله القريبين، لكنهم من بلده، وسمعوا أنه يحتاج؛ فبدؤوا في مُساعدته.
وهذه صورةٌ من صور الإحسان الجميلة والرائعة التي نحتاج أن تبقى وتخلد، ولا تتغير، ونحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه المعاني.
الوسيلة الثالثة: الاشتغال بعملٍ من الأعمال، أو علمٍ من العلوم النافعة
ننتقل إلى الذي بعده، يقول الشيخ -رحمه الله-: "فصلٌ: ومن أسباب دفع القلق النَّاشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال القلب ببعض المُكَدِّرات".
تأملوا هذه العبارات، وهي عباراتٌ لشخصٍ يقرأ ويُدرك ما يقول، وعباراتٌ من أهل اختصاصٍ كما قلنا لكم، وقد تأثر كثيرًا بكتاب (ديل كارنيجي) "دع القلق وابدأ الحياة".
يقول: "ومن أسباب دفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال القلب ببعض المُكَدِّرات: الاشتغال بعملٍ من الأعمال، أو علمٍ من العلوم النافعة"[8]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص18)..
وهذه والله وسيلةٌ من الوسائل الرائعة، يعني: الإيمان والعمل الصالح مفهومٌ وواضحٌ، ونسمعه كثيرًا، وقضية الإحسان إلى الخلق كذلك مفهومةٌ وواضحةٌ، ونسمعها، وإن كانا -كما قلنا- خيرَ ما يُبدأ بهما: الإيمان والعمل الصالح، ثم الإحسان، لكن هناك وسائل أخرى كثيرةٌ ذكرها الشيخ، تقريبًا: واحدٌ وعشرون وسيلةً، ونحتاج أن ننتبه لها، فقد تكون مُمارستنا لها أو معرفتنا بها ضعيفةً -بغض النَّظر عن الممارسة-، ومن ذلك: الاشتغال بعملٍ من الأعمال، أو علمٍ من العلوم النافعة، فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه، وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهمَّ والغمَّ؛ ففرحت نفسه، وازداد نشاطه.
وهذا السبب أيضًا مُشتركٌ بين المؤمن وغيره، فهو يعمل عملًا، ويشغل نفسه بعلمٍ، أو بعملٍ، وهذا الانشغال كفيلٌ بأن يُنسيه الهموم التي هو فيها، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، فيستحيل أن تكون نسبة الهموم والغموم والكدر مع انشغاله بعملٍ أو علمٍ هي نفسها حين يكون فارغًا أو عاطلًا من العلم والعمل، وهذه مُزاحمةٌ؛ ولذلك هذه الوسيلة مهمةٌ جدًّا.
وهنا نجد أهمية المُزاحمة والمُدافعة، وعدم الاستسلام للواقع والمُعاناة والمأساة، فلا تستسلم لهمومك وتبقى تتخيل وتسترسل مع الأفكار التي أنت فيها، فهذا يُتعبك جدًّا، طيب، ما الحل؟
أشغل نفسك بعلمٍ نافعٍ، أو عملٍ صالحٍ، وهذا بلا شكٍّ سيأخذ حيزًا من الهموم والغموم التي تُعاني منها.
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ويشترك فيها -كما قال الشيخ- المؤمن وغيره، ثم ذكر ما يُميز المؤمن في هذه القضية فقال: "ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه، وإخلاصه، واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يُعلِّمه، ويعمل الخير الذي يعلمه: إن كان عبادةً فهو عبادةٌ، وإن كان شغلًا دنيويًّا، أو عادةً دنيويةً أصحبها النية الصالحة، وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله؛ فلذلك أثره الفعَّال في دفع الهموم والغموم والأحزان، فكم من إنسانٍ ابتُلي بالقلق ومُلازمة الأكدار، فحلَّت به الأمراض المُتنوعة، فصار دواؤه الناجع: نسيانه السبب الذي كدَّره وأقلقه، واشتغاله بعملٍ من مهماته.
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه؛ فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع، والله أعلم"[9]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص18)..
وهنا لنا وقفاتٌ في هذا الموضوع مهمةٌ جدًّا، وهي: أن المؤمن يتميز عن الكافر في الإخلاص والنية؛ ولهذا يُساعده الله تعالى أكثر في إذهاب الغموم، ونيل الأجر، وما شابه ذلك.
والقضية هنا -كما قلنا- مُزاحمةٌ، فأنت عندك شيءٌ يشغلك فزاحمه.
وأنا أُعطيكم تجربةً حصلت لي لا أنساها، حتى إني أذكر الموقف الذي حصل لي عند إشارة المرور الموجودة عند سكة الحديد الموجودة عند هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكنتُ في السيارة وأشغلتني قضيةٌ، حتى تعكَّر مزاجي من كثرة التفكير، ولما وصلتُ كنتُ في همٍّ وغمٍّ، فألزمتُ نفسي بعملٍ معينٍ وأنا في السيارة، والله يا إخوة لم تمر عليَّ ساعتان إلا وأنا في حالةٍ طيبةٍ جدًّا، ونسبة القلق والهمِّ صارت بسيطةً جدًّا وطبيعيةً، وزال التفكير السيئ عني بسبب إلزامي لنفسي بهذا الإلزام.
والشيخ يقول: أشغل نفسَك بعلمٍ أو عملٍ، فابحث عن العلم والعمل الذي يمكن أن تشغل نفسك به؛ فيُمكن أن تفتح إذاعة القرآن، أو تُشاهد فيلمًا مفيدًا، أو تُكلم أحدًا بالهاتف، فأنا أخذتُ ورقةً وفرَّغتُ كل الذي في ذهني؛ لأن الموضوع كان يحتاج إلى شيءٍ من المُتابعة، فأردتُ ألا أكون في شتاتٍ في فكري، وخشيتُ أن يكون جزءٌ من الهموم والغموم مرتبطًا بضياع هذه القضية؛ فأثبتها في ورقةٍ، وجلستُ أكتب نقطةً، نقطتين، ثلاثًا، أربعًا، خمسًا، ستًّا، سبعًا، والله يا جماعة ذهب الهمُّ شيئًا فشيئًا، فنحتاج لهذه السياسة للنفس البشرية، لكن من خلال العمل والعلم، وإشغال النفس بذلك.
وأسوأ مَن يُعاني من هذه القضايا أولئك الذين لا يشغلون أوقات فراغهم؛ ولذلك من أسباب انحراف أجيالنا اليوم -كما جاء في بعض الدراسات-: عدم إشغال أوقات الفراغ، فالشاب عنده فراغٌ، ولا يعرف كيف يستثمره؟ ويبدأ يشتغل بالتَّافه من الأمور، وبعض الشباب يستغرق في همومه وغمومه وما شابه ذلك، حتى يُمارس بعض الممارسات التي ينشد بها السعادة، هكذا يظن.
وقد ناقشتُ عددًا من هؤلاء، فمثلًا: يشعر بضيقٍ؛ فيشرب الدخان، ويُشغل الموسيقى، ويذهب إلى الأسواق، ويُغازل النساء، ويتعرض للبنات، وما شابه ذلك.
وحين ناقشتُ أحدَهم قلتُ له: لماذا تفعل هذا الفعل؟ وهل تشعر بالسعادة؟ قال: نعم، أنا أشعر بسعادةٍ ومتعةٍ. فقلتُ له: وبعد ذلك؟ قال: ضيقٌ وكدرٌ. فقلت له: طيب، وماذا تفعل بعد ذلك؟ قال: أرجع لنفس العملية.
والعلماء تكلموا في هذه القضية، بل إن الله بيَّن هذه القضية بقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [النحل:97]، وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124].
متعة الطاعة وتعب المعصية
يقول العلماء: إن الطاعة فيها تعبٌ آنيٌّ في لحظة العمل، وهذا من الاختبار والابتلاء، ولكن فيها متعةٌ بعد أدائها، والمعصية فيها متعةٌ آنيةٌ في وقتها، ولكن فيها تعبٌ بعد ذلك.
فتأمل اختبار الله وابتلاءه للإنسان، وكيف حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات؟! والمعصية سهلةٌ، وفيها متعةٌ، يستمتع بها العاصي في لحظتها؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يشغل نفسه حتى تذهب الهموم والغموم من خلال علمٍ نافعٍ، أو عملٍ صالحٍ.
النبي المُربي وتعامله مع مُثيري الفتن
تأمل هذا الموقف للنبي : جاء في السيرة -أظن في غزوة بني المُصطلق- أن عبدالله بن أبي بن سلول -وهو رأس المنافقين- أثار كلامًا أوجد شَوشرةً بين الصحابة، ورأس المنافقين ماذا تتوقع أن يقول؟! لا يقول إلا ما يكون سببًا في تفريق الصفِّ بين المسلمين، فماذا فعل النبي بالصحابة؟
أمرهم أن يمشوا يومًا كاملًا بالنهار، والنبي هذا المُعالج -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- لم يُناقش، ولم يسأل: ما رأيكم بكلامه؟ ولا أخذ، ولا أعطى، ولا ردَّ على كلام عبدالله بن أبي بن سلول، وإنما أمرهم بالمشي حتى أنهكهم التَّعب بعد المشي في النهار تحت الشمس، فلما وصلوا إلى المنطقة التي وقفوا عندها بعدما دخل المساء، لم يجد أحدٌ منهم بُدًّا من أن يضع رأسه وينام بسبب الجهد والتعب، ونسوا مقالة عبدالله بن أبي بن سلول.
رأيتم كيف أذهب العملُ والإشغالُ المُكدِّرات وزاحمها وأبعدها؟ ولو بقي الصحابة في أماكنهم لانشغلوا بذلك، ولو أخذ الرسول يرد لكانت القضية ستبقى موجودةً، لكن جاءت طاقةٌ أخرى أشغلت الصحابة؛ فأبعدت عنهم مصدر الهموم التي كانت سببًا في تكديرهم، فانشغلوا بذواتهم وأنفسهم وتعبوا.
والذين تكلموا في السيرة ذكروا أن النبي تصرف هذا التصرف حتى يشغلهم عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك من الأساليب النبوية في التعامل مع الأخطاء وتعديل السلوك: أن تُخرج هذا الإنسان من همِّه وغمِّه، ليس فقط بالكلام، فقد لا يُفيد الكلام أحيانًا، لكن هناك أساليب معينةٌ قد تأخذ وقتًا، فهؤلاء أمضوا يومًا تقريبًا في المشي، وأصابهم الجهد؛ فنسوا هذه القضية، ونجح -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فيما فعله.
أشغل نفسَك بأمرٍ تُحبه
أيضًا من الفوائد -ونختم بها حتى نأخذ سؤالين سريعين قبل نهاية اللقاء-: أهمية الميول مع القُدرة، فقال الشيخ: "وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس، ويشتاق له"، وهذا مهمٌّ جدًّا، فلا تعمل عملًا أنت لا تُحبه؛ حتى تبذل نفسك في هذا الشغل.
وفي بعض الأحيان يكون الشغل غير محبوبٍ، مثلما أمرهم النبي بالمشي، ولم يكونوا يُحبون أن يمشوا، فالرسول اضطرَّ إلى ذلك حتى يُعالج هذه القضية، لكن بالنسبة لك -كممارسةٍ مع ذاتك- إذا أردتَ أن تُبعد الهموم أشغل نفسَك بعلمٍ نافعٍ وعملٍ صالحٍ، أو اذهب لشيءٍ تُحبه؛ حتى تتشربه، وتشتاق إليه، وتنشغل به، ويُزاحم الهموم والغموم التي تُعاني منها.
الأسئلة
ورد سؤالان في اللقاء الماضي:
الفرق بين القلق الطبيعي وغير الطبيعي
س: أليس من حقِّنا أن نقلق ونتوتر في ظلِّ الظروف الموجودة الآن، والأزمة المالية العالمية، ووضع البلد فيما يتعلق بالقضايا المالية ... إلى آخره؟
ج: لا شكَّ أن هناك قلقًا طبيعيًّا، وقلقًا غير طبيعيٍّ، هناك قلقٌ مرضيٌّ، وقلقٌ ليس مرضيًّا، وهناك خوفٌ مرضيٌّ، وخوفٌ طبيعيٌّ؛ لأن الإنسان لو دخل عليه أسدٌ سيخاف، والشخص الطبيعي يخاف.
فكذلك هناك قلقٌ طبيعيٌّ، وقلقٌ غير طبيعيٍّ، فالقلق الطبيعي هو الذي تُتَّخذ معه الأسباب، ويسعى الإنسان إلى ترشيد الاستهلاك المالي، وتُوجِد لك أعمالًا إضافيةً، وتُرتب أمورك المالية بأي طريقةٍ، فلا يمنع هذا من اتِّخاذ الأسباب المادية.
ولا إشكالَ في اتِّخاذ الأسباب كما قلنا، وقد ذكرها الشيخ لما ذكر الأسباب الطبيعية، أو من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يعملها حتى يدفع بها الهموم والمضارَّ: المقاومة، فإن لم يستطع فالتَّخفيف، فإن لم يستطع فالصبر الجميل، فأنت تحتاج أن تُقاوم، لكن لا يكون هذا مُولِّدًا لاضطرابٍ نفسيٍّ وقلقٍ غير طبيعيٍّ، فتتعامل مع الناس بطريقةٍ مزاجيةٍ! فإذا جاءتنا هذه المزاجيات والصور غير المُتزنة نقول عندئذٍ: القلق غير طبيعيٍّ.
أما القلق الذي يدفعني لاتِّخاذ الأسباب المشروعة، فهذا قلقٌ مطلوبٌ، مثل: قلق الطالب من أجل أن يُذاكر حتى ينجح، فهذا قلقٌ طبيعيٌّ، أما إذا جعله لا يثق في ذاته، وفي الاختبار، وفقد التركيز، ولم يستطع أن ينام أو يأكل؛ فهذه كلها سُلوكياتٌ تدل على قلقٍ غير طبيعيٍّ، مرضيٍّ، يحتاج إلى التَّنبه.
اختلاف موقفي أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما عند وفاة النبي
س: ما تفسير ما ورد عن أبي بكرٍ وعمر في وفاة النبي ، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام؟
ج: هذه الفاجعة الكبيرة بفُقدان النبي مُرتبطةٌ بالمكاره؛ ولهذا اختلف فيها موقف أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، وهذا الجانب مُتعلقٌ بالوسيلة الأولى التي هي الإيمان، فليس أبو بكرٍ مثل عمر في اليقين وقوة الإيمان، فلو وُضِعَ إيمان أبي بكرٍ في كِفَّةٍ، ووُضِعَ إيمان الأمة في كِفَّةٍ أخرى فيها عمر؛ لرجحت كِفَّة أبي بكرٍ، وهذا دليلٌ على أن الإيمان عند أبي بكرٍ أعظم من الإيمان عند عمر رضي الله عنهما وأرضاهما؛ ولذلك اختلف موقفهما عند تلقي خبر وفاة النبي ؛ لاختلاف الإيمان، واختلاف الشخصيات.
فهذا هو تفسير هذه القضية، والله تعالى أعلم.
↑1 | من قصيدته المعروفة بـ"الطلاسم" على الشبكة العنكبوتية. |
---|---|
↑2 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص16، 17). |
↑3 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص17). |
↑4 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص17). |
↑5 | البيت في "الدر الفريد وبيت القصيد" (7/ 477) لأبي الفوارس الحلبي. |
↑6 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5787)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (6662). |
↑7 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6026). |
↑8 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص18). |
↑9 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص18). |