المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمد الله وتوفيقه- الدرس الحادي عشر من المجموعة العاشرة من "التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة"، وهو عبارة عن وقفات تربوية ونفسية مع رسالة العلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، وبإذن الله ستكون الخاتمة لهذه الرسالة هذه الليلة، أو في جزء من الدرس القادم بعون الله .
وعمومًا سيكون اللقاء القادم -الثاني عشر- للمراجعة، سواء انتهينا الليلة أو اللقاء القادم سنراجع الكتاب كاملًا، ويكون -بإذن الله - الاختبار التحريري بعد أسبوعين من الآن، وستكون فرصة للإخوة الذين يرغبون في المنافسة بناء على الاختبار والحضور في الفترات السابقة، وعندئذٍ يكون -إن شاء الله تعالى- هو الأسبوع الأخير بعد أسبوعين لهذا الدرس.
ونكمل ما وصلنا إليه من كلام الشيخ، وهو يختم هذه الوسائل المفيدة الرائعة بوسائل مهمة جدًّا، نحن في أمسِّ الحاجة إليها في تعاملنا مع أنفسنا، وفي تعاملنا مع غيرنا فيما يتعلق بدفع الهموم والغموم والكدر، وتحقيق السعادة، وطرد الشقاء.
كنا قد وقفنا عند السادسة عشرة وانتهينا منها، وهي بعنوان: "أذية الناس عليهم ما لم تنشغل بهذا"، وهذا العنوان ليس هو عنوان الشيخ، وإنما من المبوبين.
وكان الكلام يدور حول أن الإنسان لا يُشغل باله بما يكون سببًا في الهم والغم بالنسبة إليه، فإن ما يتعلق بأذى هذا الكلام على المتحدث، فلا تحمل أذاه عليك أنت حتى لا تُصاب بهمومٍ وغمومٍ، فتلك الكلمات أو هذا الأذى أو التصرف يعود على صاحبه، وهذه قضية مهمة جدًّا، وهي: تصرف الذكي الذي يستطيع أن يتعامل مع نفسه بطريقةٍ سليمةٍ؛ لأن أذى الكلام الفاحش والبذيء على صاحبه، وأنت بالنسبة لك فالله أعطاك مجالًا لأن تكسب أجرًا من صاحبك حينما يُؤذيك.
حياتك تبع لأفكارك
يقول الشيخ رحمه الله: "17- واعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكارًا فيما يعود عليك نفعه في دينٍ أو دنيا فحياتك طيبة سعيدة، وإلا فالأمر بالعكس".
هذه قضية من القضايا المهمة جدًّا، وتستحق حلقات، وليس إشارات سريعة فحسب.
وهناك محاولة لمُحدِّثكم حول هذا الموضوع موجودة على (اليوتيوب) بعنوان: "تعديل السلوك باستخدام الأسلوب المعرفي"، قدمت في ديوانية المربي في محافظة الخُبَر حول ما يتعلق بموضوع الجانب المتعلق بالأفكار، وتحدثت بطريقة سهلة، سأشير إلى جزء منها فيما يتعلق بأثر الأفكار على الحياة النَّكِدَة والهموم والغموم، وكيف يستطيع الإنسان أن يتجاوز هذه الأفكار من خلال الأفكار المُعوجَّة أو السلبية، ومن خلال بعض الآليات.
فالموضوع مهم؛ لأن الإنسان -في الغالب- لا يسلك سلوكًا إيجابيًّا أو سلوكًا سلبيًّا إلا بناء عن فكرةٍ في ذهنه تجعله يسلك هذا السلوك الإيجابي أو السلبي، إذا كان سلوكه اختياريًّا، أما المُجبر فهذا شيء آخر.
والحافظ ابن القيم[1]انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص31). رحمه الله تحدث حول ما يتعلق بالخواطر حينما يسترسل الإنسان فيها، فعندما تأتيه خاطرة فهي كما يُقال: شيء يأتي كسحابة صيفٍ في الذهن، هذه الخاطرة التي جاءت من الوهلة الأولى يمكن أن تبقى، ويمكن أن تذهب، أنا ما عندي إشكالية، ولا يوجد عاقل عنده إشكالية في هذا، فإنها إذا كانت خاطرة إيجابية تبقى، بل المطلوب أن تبقى حتى تنتقل إلى فكرةٍ -كما يقول ابن القيم رحمه الله- من خلال الاسترسال فيها، فلماذا لا أفعل هذا المشروع في الحي، أو في هذا المسجد، أو في الأسرة؟
خاطرة جاءت هكذا، هو جاءته القضية هذه، ثم تمعن فيها أكثر فأصبحت فكرة، فأخذ يفكر في تفصيلاتها فأصبحت قضية، فليست مجرد خاطرة عابرة ما جاءت عن دراسة، لا، الآن صار لها محل للدراسة، ومحل للعناية، يقول: فإن استرسل في ذلك انتقلت إلى إرادة وعزيمة. فأصبح الآن يتصل ويُرتّب، فيأتي لإمام المسجد، ويذهب لمركز الحي، ويُرتّب مع أقاربه بالنسبة للأسرة، .. إلى آخره، صارت لديه عزيمة، وصارت فيه إرادة قوية هنا، وتخطيط، فإذا استرسل في ذلك ستنتقل هذه الإرادة إلى عملٍ، وسيجد المشروع قد تم تنفيذه، والعمل إذا تم الاسترسال فيه سيُصبح عادةً، ويُصبح هذا الإنسان ربما في كل سنةٍ وفي كل فصلٍ يُفكّر بمثل هذا المشروع، وهذا شيء رائع إذا كان الأمر إيجابيًّا، ولا شك أن هذا مصدر سعادةٍ.
فيجب علينا أن نصطاد الخواطر الإيجابية، لا تذهب وتضيع علينا، نصطاد الخواطر الإيجابية ونتمسك بها؛ لأن نتيجتها في الأخير عادات إيجابية على مستوى الفرد، أو مستوى الأسرة، أو مستوى المجتمع.
فهذه قضية مهمة، المشكلة في عكس ذلك، والتي هي سبب للهموم والغموم، وهي عكس مصدر وسائل السعادة النفسية، الأولى هي مصدر السعادة النفسية.
فالخاطرة قد يقول مَن يسمعها: سبحان الله! ما كانت في البال. بل إنَّ واحدًا قال في اجتماع: لماذا ما يكون هذا الشيء كذا ..، فتكوَّنت عند المستمع خاطرة من كلمةٍ قالها شخصٌ آخر، لكنه تعامل معها بطريقةٍ سليمةٍ، فانتقلت إلى فكرةٍ، ثم انتقلت إلى إرادةٍ، ثم إلى عملٍ، ثم انتقلت إلى عادةٍ، فأصبحت بالنسبة له مصدرًا من مصادر السعادة، وهكذا يسعد الإنسان حينما يجد إنتاجه أمام عينيه.
وعلى الجانب الآخر: فإن الخاطرة السيئة تقود الإنسان إلى العادة السيئة، وهذه هي المشكلة فيما يتعلق بالأفكار؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله: "فإن كانت أفكارًا فيما يعود عليك نفعه في دينٍ أو دنيا فحياتك طيبة سعيدة"، هذه النقطة التي ذكرناها قبل قليلٍ في فكرة المشروع، وخذ عليها أيّ قضيةٍ فرديةٍ أو جماعيةٍ، المشكلة في: "وإلا فالأمر بالعكس"، إذا لم تكن في شيء له نفع دنيوي أو ديني سيكون مآله الشقاء، عندئذٍ ما الدور المطلوب في مثل هذا الموقف؟
على نظرية ابن القيم رحمه الله فيما يتعلق بالانتقال من الخواطر إلى الأفكار، ومن الأفكار إلى الإرادات والعزائم، ومن الإرادات إلى الأعمال، ومن الأعمال إلى العوائد؛ فإن الدور المطلوب هو أن تصرفها وتدفعها، يقول: فدفع الخواطر أهون من دفع الأفكار، ودفع الأفكار أهون من دفع الإرادات والعزائم، ودفع الإرادات أهون من دفع الأعمال، ودفع الأعمال أهون من دفع العادات.
والذكي الحصيف الذي يتعامل مع نفسه عندما تأتيه الخاطرة السيئة فيقول: "أعوذ بالله" ويقف، ويدفع هذه الخاطرة، وإذا استرسل معها ستنتقل لزامًا إلى فكرةٍ، والفكرة فيها تمكّن أكثر في العقل، ثم تنتقل إلى إرادة وعزيمة ومشاعر تخالط العقل، ثم إلى عملٍ، ثم إلى عادةٍ.
وأي سلوك سيئ موجود مثلًا: كعادة التدخين، وكالذي عنده عادة النظر للحرام، والذي عنده عادة الاختلاط، والذي عنده عادة تضييع الصلوات، وغيرها، أي سلوك سلبي معتاد تجد أنه بدأ بخاطرة، ثم فكرة، ثم كذا؛ لذلك فإن الحصيف هو الذي يُغلق على نفسه باب الهموم والغموم عن طريق دفعها: فليستعذ بالله ولينته[2]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنها إذا انتقلت إلى المرحلة التي بعدها سيكون دفعها أصعب، وهكذا.
وكلام ابن القيم رحمه الله من أجمل ما أعرفه في هذا الموضوع، حتى على مستوى التخصص، فنحن عندنا ما يتعلق بضرب المثال في مبادئ علم النفس كمقرر في الجامعة، وقد كانت عندنا اليوم محاضرة في مبادئ علم النفس حول العادات، ويُسمّونها: السلوك الاعتيادي، فلم أجد مثل كلام ابن القيم رحمه الله في اكتساب العادات والقضايا المتعلقة بالانتقال من خاطرة مرتبطة بالعقل -مصدرها العقل- إلى عادة سلوكية، أو عادة وجدانية، أو عادة عقلية.
فلذلك ننتبه من خواطرنا، وندفع الخواطر السلبية قدر ما نستطيع، حتى لا تتمكن ثم تُصبح بعد ذلك صعبة، عندئذٍ حياتنا ستكون تبعًا لأفكارنا، ولا شك أن الجالس الآن في هذا الدرس وأتى إليه كان الأمر بالنسبة له قبل ذلك عبارة عن فكرة معينة، ما الفكرة بالضبط؟
ليس شرطًا أن تكون فكرة محمد مثل فكرة إبراهيم، لكن جاء بفكرة، تولَّد من هذه الفكرة الحضور في هذا المكان.
فالمقصود أننا نحتاج أن نهتم ونفتش عن أفكارنا، وننتبه للخواطر، ونصطاد الإيجابي، وندفع السلبي، حتى لا يتمكن السلبي بعد ذلك بما يكون بعدئذٍ.
نظرية العلاج المعرفي أشرت إليها في تعديل السلوك واستخدام السلوك المعرفي باختصار شديد جدًّا، وهذا يصلح في أمور كثيرة في الحياة، لا موضوع الشبهات، ولا الشهوات، ولا موضوع التكفير والتفجير، ولا موضوع الليبرالية والعلمانية والتغريب، ولا موضوع اللا أخلاقيات وجوانب الانحراف؛ لأنها هي مصدرها، مثل: الشاب الذي جاء إلى النبي يستأذنه في الزنا[3]أخرجه أحمد في "المسند" (22211)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقات، رجال الصحيح"، وصححه الألباني في "السلسلة … Continue reading، هو يعرف أنه حرام، إذن هنا عنده فكرة لا عقلانية، فما هي؟
فكرته أن الرسول يمكن أن يبيح له الزنا، فخرج من بيته وجاء إلى النبي يطلب الإذن في الزنا، إذن هو يعرف حُرمته؛ لذا يريد الإذن، فهي فكرة لا عقلانية؛ ولذلك نهره الصحابة ، والرسول قال: ادنه، فدنا منه قريبًا، ثم حصل الحوار العقلاني الانفعالي الذي يُخاطب العقل ويُؤثر في المشاعر: أتُحبّه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبّونه لأمهاتهم. قال: أفتُحبّه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبّونه لبناتهم. قال: أفتُحبّه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبّونه لأخواتهم. قال: أفتُحبّه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبّونه لعماتهم. قال: أفتُحبّه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبّونه لخالاتهم.
فذِكره للمحارم: الأم، ثم الأخت، ثم العمة، ثم الخالة، ثم يضع يده على صدر هذا الصحابي ويدعو له عليه الصلاة والسلام، فيذهب وليس في نفسه حاجة.
هذا الأسلوب العقلاني في التعامل مع طرد الفكرة جعله يقول: "لا، فداك أبي وأمي"، يتصور أن أمه يُزنى بها، أعوذ بالله، أو أخته، أعوذ بالله، أو عمته، أعوذ بالله، أو خالته، أعوذ بالله، فنحن نحتاج إلى مثل هذه الأساليب.
وحصل لي موقف من المواقف ربما ذكرته قديمًا في هذه السلسلة، لكن لا مانع من ذكره للفائدة: كنت في سيارتي في المساء، وإذا بسيارةٍ تتعرض لمجموعةٍ من الفتيات، فجاورت السيارة وقلت: السلام عليكم يا شباب، كيف حالكم؟ أظن أن عندكم أخوات! ماذا لو كن هؤلاء أخواتكم؟! ومشيت مباشرةً، قلتُ هذه الكلمة ومشيت في دقيقة تقريبًا، وإذا بسيارةٍ في الخلف تُشير إليَّ بالنور، وما انتبهت في البداية، ثم بدأت أُدقق فإذا بها سيارة الشباب، فخشيت أنهم يُريدون بي سوءًا، مع أني ما فعلتُ شيئًا، يعني: الحمد لله كنت أليفًا، وتحدثتُ معهم بكل بساطةٍ ومشيت، حتى إنني لم أنتظر منهم كلامًا، فإذا بهم هم أنفسهم في السيارة، فوقفوا بنفس الطريقة التي وقفتُ بها معهم، وفتحوا النافذة، وفتحت النافذة، فقالوا: جزاك الله خيرًا، والله لم نسمع أحدًا في حياتنا قال لنا مثل هذه الكلمة، ونعاهد الله أن نترك هذا الشيء.
فالأمر كان عبارة عن فكرة جاءتني بتوفيق الله عندما تذكرت موقف الرسول مع هذا الشاب، وهذه خاطرة تأتي في النفس.
وأحد الشباب عندنا في الجامعة يقول: ما بيني وبين الزنا إلا شعرة، بل المرأة تعرض نفسها عليَّ من خلال صديقاتي. قلت: وما الذي حماك بعد توفيق الله ؟ قال: والله أتذكر أختي مكان هذه البنت فأكفّ. قلت: جميل، لو قلتُ لك[4]أقصد في هذه القصص: الأسلوب الذي أتكلم عنه في الأفكار ومُدافعتها.: إن أختك الآن في الكورنيش جالسة مع شباب يتجولون أترضى؟ قال: لا. قلت له: ممتاز، رائع جدًّا، أنت ما رضيت أن تزني -بارك الله فيك، وحماك الله من الزنا- عندما تذكرت أختك، فليَحْمِكَ الله من العلاقات المُحرَّمة، حينما تتذكر أختك كذلك اعمل نفس العمل.
فنحن يمكن أن نطرد الأفكار السيئة؛ لأنَّ البعض يقول: الزنا لا أرضى به. لكن نحتاج إلى دفع الأفكار السيئة، الأفكار اللاعقلانية، خاصةً إذا كان هو يرى أنها لا إشكالية فيها، فلا بد أن تُدفع، أما الذي يرى أنها فعلًا مشكلة، وليس عنده فكرة لا عقلانية، وهو يرى أن تصرفه خاطئ، فهذا يحتاج إلى علاجٍ آخر بطرقٍ أخرى، لكن نحن نتكلم عن الذي يرى عدم الإشكال فيعمله.
فالداعشي مثلًا يقول: أتقرب إلى الله بذبح الناس. فهذا يحتاج أن يدفع الفكرة اللاعقلانية؛ لكون الفكرة خاطئة، ودفعها سيكون من خلال إقامة الحُجَّة، كما أقامها ابن عباسٍ رضي الله عنهما مع الخوارج، ورجع كثير منهم، وعندما نقرأ في "البداية والنهاية"[5]انظر: "البداية والنهاية" ط. هجر (9/ 197). ما حصل بين ابن عباس رضي الله عنهما والخوارج نجد هذا الكلام.
فلا بد من الاستدلالات ومحاجة الدليل بحجة قوية، وهكذا حسب الإنسان وما يتعلق به، وهكذا الليبرالي، والعلماني، والملحد، وغيرهم، نحتاج إلى النظر إلى ما يتعلق بهذه، يعني: النظرية السلوكية المعرفية فيها جوانب مهمة، وتحتاج أن الواحد يستفيد منها؛ لأننا اليوم نحتاج إلى هذه المجالات في التأثير ودفع الأفكار اللاعقلانية بأفكار عقلانية، وهذا في (اليوتيوب) بعنوان: "تعديل السلوك بالأسلوب المعرفي"، وذكرنا مجموعةً من القصص والمواقف:
أولًا: الشعور بالفكرة اللاعقلانية.
ثانيًا: إيقاف الفكرة اللاعقلانية.
ثالثًا: إحلال الفكرة العقلانية محلها بكل بساطةٍ، هي منطقية، وهذا جانب منطقي، لكن أنت تحتاجها؛ لأن الأول مهم، فإذا كان لا يرى فيها مشكلة، فإننا نحتاج أن نُبين أن فيها مشكلة، فالشاب كان يتصور أنه يمكن أن يأتيه الإذن بالزنا، والرسول أراد كسر هذه الفكرة بالأسلوب المتعلق بالمقارنة: أتُحبّه لأمك؟، أفتُحبّه لأختك؟ قال: لا. فهنا حصل له شعور بأن الفكرة التي عنده لا عقلانية، لا يمكن، كيف لا أرضاه لأمي، ولا أختي، ولا عمتي، ولا خالتي، وأرضاه لبنات الناس؟!
فهذه فكرة الشعور بالفكرة اللاعقلانية، فالشعور بأن الفكرة خاطئة مهمٌّ جدًّا، لا بد أن يشعر بأن فكرته خاطئة، وإذا ما شعر بأن فكرته خاطئة فلا يمكن أن ننتقل لما بعدها.
ويمكن إيقاف هذه الفكرة من خلال الحوار والنقاش وجمع الأشياء العديدة جدًّا، والأخذ بيده، ومحاولة تذكيره، فتتخذ معه وسائل متعددة، وهذا يُسمّى بـ"مهارات تعديل السلوك"، وتأثير أساليب النبي في معالجة الأخطاء كثيرة ومتنوعة، وللشيخ المنجد كتاب رائع جدًّا جدًّا موجود على (الإنترنت) بطبعة (PDF) بعنوان: "أساليب نبوية في التعامل مع أخطاء الناس"[6]على هذا الرابط: https://cutt.us/svOMs.، وهو كتاب نفيس جدًّا، جديرٌ بكل ربِّ أسرةٍ، وكل مُرَبٍّ، وكل أستاذٍ، وكل شيخٍ، وكل فردٍ مسلمٍ أن يقرأه.
فلا بد أن تحلّ الفكرة العقلانية محل الفكرة اللاعقلانية، إذن أحتاج أن أحرر الفكرة اللاعقلانية وتُصبح بالنسبة لي واضحة أنها فكرة غير صحيحةٍ، ثم أعمل على إيقافها بكافة الوسائل، فإذا ما نجحت الوسيلة "أ" ننتقل للوسيلة "ب"، وإذا ما نجحت الوسيلة "ب" ننتقل للوسيلة "د"، وهكذا.
ثم بعد ذلك تحل محلها الفكرة العقلانية؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون خاليًا من الأفكار؛ لذلك عندما جاء عمر بن الخطاب للنبي وقال: يا رسول الله، إننا نقرأ أحاديث من التوراة فتُعجبنا، أفلا نكتبها يا رسول الله؟ قال: أَمُتَهَوِّكُونَ أنتم كما تَهَوَّكَتِ اليهودُ والنَّصارى؟![7]أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 347)، برقم (174، 175)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 270)، برقم (126)، وحسنه الألباني في … Continue reading يُخاطب عمر بن الخطاب ، وعمر ليس شاكًّا، ولكن الرسول أراد أن يُبقي المنبع الصافي هو المؤثر على فكر الإنسان، فكيف بأبنائنا اليوم في عالم التقنية والفضاء المفتوح والإعلام الجديد؟! فإنهم يتعرضون لأفكار ذات اليمين، وذات الشمال، فكيف يكون هذا الأمر؟!
فنحتاج إلى عنايةٍ أكبر في هذه القضية الخطيرة، وبعض الشباب خاصةً عندهم ما يُسمّى بـ"الاستهواء"، وهي طبيعة مرحلة الشباب، فهو يُحبّ أن يأخذ الأمور (فهلوة) كما يُقال؛ ولذلك ترى بعض القضايا في انحراف ذات اليمين، وذات الشمال، ولها شيء من التفسير في هذا الجانب، وهو "الاستهواء"، فتجده يدخل على مواقع نصرانية، ومواقع يهودية، ومواقع داعشية، ويدخل على مواقع ملحدة ويقرأ، ويقول: أريد أن أرى ما يقولون!
لا بد أن يكون لنا منهج، فالرسول هنا أوصد الطريق على عمر بن الخطاب ، وعمر قد تربَّى بين يدي النبي ، ولو وُضع إيمانُ عمر في كفةٍ، وإيمان الأمة في كفةٍ أخرى -ليس فيها أبو بكر - لرجحت كفة عمر بلا شك، فنحتاج إلى مثل هذا الأمر.
هذه إشارة سريعة حول ما يتعلق بجانب الأفكار.
الفكرة اللاعقلانية ليست منطقية، بل مرفوضة، فلا يتصور إنسانٌ أن يأذن النبي لهذا الشاب في الزنا مثلًا، هذا شيء ممجوج، فكرة لا عقلانية، وهي إرادية، لكنها فكرة لا عقلانية، يعني: هو اكتسبها بقدرات عقلية، مثل: لو أن شخصًا في مسألة رياضية فهم المسألة بطريقةٍ معينةٍ يرى أنها صواب، لكنه لما تمت مناقشته تبين له أنها خطأ، ففهمه الأول يُسمّى: غير منطقي، لا عقلاني، فهم خاطئ، بغض النظر عن المصطلح، فيُمكن أن آتي بمصطلحٍ تخصصي: فكرة خاطئة، فكرة سلبية، نُسمّيها: أفكارًا سلبية، أفكارًا خاطئة، أفكارًا غير منطقية، أفكارًا لا عقلانية، لكن هذا مُسمَّاها في نفس النظرية، ومقابلها الفكرة الصحيحة، الإيجابية، المنطقية، هذا دورنا نحن الآن.
لذلك أقول: مهم جدًّا أن نمد الجسور مع أجيالنا، حتى نرى الأفكار التي يفكرون فيها، فأحد الزملاء ممن مَنّ الله عليه بالعمل الخيري يحدثني أنه يعمل في وظيفةٍ لا يخرج منها إلا قبل المغرب يوميًّا، ويقول: وقتي ضيق، مع انشغالاتي الأخرى، وذات يوم ذهبت مع بناتي لتناول العشاء في أحد المطاعم. يقول: فأخذت وأعطيت معهن، وكلهن في المرحلة الثانوية. يقول: والله يا أبا عبدالرحمن -وهو شخصٌ مُتدين، وزوجته كذلك- وجدتُ من بناتي أفكارًا غريبة جدًّا، تُقارب الأفكار الليبرالية فيما يتعلق بقضايا المرأة! وهن مُتدينات وخيِّرات في بيت الأسرة.
يقول: فكنت حزينًا، وفي نفس الوقت فرحًا؛ حزين لأني تفاجأت بما لا أتوقعه من بناتي، وفرح بأنني اكتشفت هذا الأمر فأستدركه قبل أن يستفحل.
فنحتاج أن نكون قريبين؛ لأن موضوع الأفكار خاصةً إذا كان في بيئةٍ آمنةٍ تجعل الابن يتكلم مع أبيه، فالبيئة الآمنة هي التي جعلت الشاب يأتي للرسول ، وهي التي جعلت الرجل الذي عنده إشكالية في الجوانب العقدية يأتي النبي ويقول: "لَأَنْ أَخِرَّ من السماء خيرٌ لي من أن أتحدث بما في نفسي"، فقال له النبي : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[8]أخرجه أبو داود (5112)، وأحمد في "المسند" (2097)، وقال محققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين".، وفي روايةٍ: ذاك صريح الإيمان [9]أخرجه مسلم (132).، فهذا هو الأمن النفسي.
فهل أوجدنا نحن الأمن النفسي لأبنائنا؟
إذا أوجدناه عندئذٍ يأتوننا ويُحدثوننا حتى في الأمور التي يعرفون أنها خلاف ما نعتقد، هذه قضية مهمة جدًّا؛ لأن الوسائل صارت بين أيديهم، فإذا لم نكن نحن الذين نستقطبهم سيستقطبهم المجاهيل.
وكنتُ قديمًا في ملتقى فأمسكني أحد الشباب لا أعرفه، وكان في سن ست وعشرين سنة تقريبًا، فقال: أنا كنت أرى التفجيرات التي حصلت هنا في البلد طيبة ومشروعة. فقلت: كنت ترى، والآن؟ قال: لا، الحمد لله عرفت أن هذا خطأ، وأنه لا يجوز، والحمد لله رب العالمين.
فأدرك الآن أن الفكرة الأولى كانت لا عقلانية، خاطئة، سلبية، وأصبحت فكرة عقلانية، سليمة، فالنقطة هذه فيها أمان.
المقصود أنه تعدَّلت الأفكار عنده، هذا الذي يهمنا، فانتقلنا إلى قضيةٍ أخرى، وكان وقتها ذروة أحداث العراق، فقال لي: أنا أرى الذهاب إلى العراق فرض عين. قلت: هل يمكن أن أسألك سؤالًا؟ قال: تفضل. فقلت: ما معنى فرض عين؟ قال: يجب أن نذهب إلى هناك جميعًا. قلت: تقصد: أبي، وأباك، وأهل الدمام والرياض، وأهل الكويت، وأهل البحرين، وأهل الإسلام كلهم يجتمعون في العراق، هل هذا معنى فرض عين، أو لا؟
فحصل الحوار والنقاش حول هذه النقطة المهمة، مثل مناقشة الرسول للشاب.
فلا بد من هذه البيئة، فنستمع له، ونتركه يقول الذي يدور برأسه وإن كنت لا أحب سماعه، لكن لا مشكلة، فلا أشدّ من طلب الإذن في الزنا، ومع ذلك الرسول صبر عليه.
والآخر عتبة بن ربيعة عندما أتى إلى النبي يُفاوضه، فتكلّم وفاوض وعرض على النبي ما عنده، فقال له النبي : «أفرغت يا أبا الوليد؟»[10]أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 330)، برقم (36560)، والحاكم في "المستدرك" (3002)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم … Continue reading، يعني: عندك شيء ثانٍ؟ وقبلها الرسول كان يستمع له، لكن عنده حُجّة، فبدأ بحُجَّته عليه الصلاة والسلام، فنحتاج إلى هذه القضية.
فقلتُ له: انتبه لهذه القضية، لكن لو قلتَ لي: إنها فرض كفايةٍ، سأحترم رأيك؛ لأنَّ هذا كلام العلماء في الجهاد: أن الأصل فيه أنه فرض كفاية، ويكون فرض عين في أحوال معينة، لكن أنت كم تدخل على (الإنترنت)؟
وفي ذاك الوقت ما كان هناك (سناب شات) والإعلام الجديد، كانت القضية أكثرها في ذلك الوقت في المُنتديات، فقلتُ له: كم تجلس على المنتديات؟
قال: ستّ ساعات تقريبًا في اليوم. فقلت له: الكلام هذا الذي تقوله أنت أخذته من المنتديات؟ قال لي: نعم. فقلت له: هل تعرف لمَن هذا الكلام؟ قال: لا، لكن كلامهم جميل. فقلت له: ما لون جماله؟ قال: فيه قال الله، قال رسوله اللهم صلِّ وسلم عليه. فقلت له: ممتاز، أي واحدٍ يقول: قال الله، قال رسوله، سنقول: كلام جميل، طيب، مَن تعرف من مشايخ المنطقة؟ فقال: أعرف الشيخ سلطان عويد رحمة الله عليه، والشيخ خالد السبت. وذكر شيخين آخرين، فقلت له: ممتاز، تعرفهم؟ قال: أعرفهم، وأعرف مساجدهم. قلت: أنا أسألك وأجبني بصراحةٍ: هل ذهبتَ لأحدهم؟ قلت: وهم طلبة علم، ويقولون: قال الله، قال رسوله، أو لا؟ قال: نعم. قلت: ذهبتَ لأحدهم وسألته؟ قال: لا. قلت: الله يُعطيك العافية، أنت الآن تُزكيهم وتقول: طلبة علمٍ، وتعرف مكانهم، وهذا في المنتديات مجهول، وقبلت المجهول، وتركت المعلوم! فما معنى هذا الكلام؟! تسمح لي أن أقول لك شيئًا؟ قال: تفضل. قلت: أنت لم تذهب إليهم لأنك تعرف أنهم سيقولون لك: لا تذهب إلى العراق. قال: نعم، كلامك صحيح. قلت: هل هذا صحيح في طلب الحقِّ والبحث عنه؟!
فأقصد هنا أننا نحتاج إلى مدافعة الأفكار عن طريق الحوار، لا بد أن ندافع الأفكار عن طريق الحوار؛ لأن هذه قضية مهمة جدًّا لأجيالنا، وأنا أرى أنها تتأكد الآن في ظل الأشياء التي انفتحت علينا، وما كنا نحلم أن نسمع هذه الأشياء، وأيضًا أصبحت وسائلها ووسائطها بين اليد بشكلٍ كبيرٍ، يعني: ليس فقط من حيث الوسائل والمضامين، فقد أصبحت اليوم تزخُّ زخًّا؛ ولذلك نحن في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه القضية.
أقول: الجانب الفكري مؤثر جدًّا في الموضوع، فإذا استطعت تغيير فكرة الإنسان بحيث يفكر بطريقة صحيحة ..، فعندما يأتي شخص ويقول: أنا ما تعوّدت على حضور دروس المساجد. فمشكلته ليست حضوره، وإنما فكرته، فغيّر فكرته هذه، وهنا يأتي دور الأب الناجح، والصّديق الناجح، والمعلم الناجح، وكذا الخطيب الناجح، والفرد الناجح في المجتمع، حتى الخطباء يعرضون قضايا معينة، فيُخاطب الخطيب العقول فيؤثر فيها، فيمسح ويُذيب الأفكار اللاعقلانية والأفكار الخاطئة السَّلبية من خلال حجج نقلية وحجج عقلية، وهذه كلها من الأدلة الشرعية كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله[11]انظر: "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (8/ 605).، فالأدلة الشرعية إما عقلية، وإما نقلية، يعني: نصًّا شرعيًّا؛ لأن هناك أناسًا بمجرد أن تقول لأحدهم: "النص الشرعي" يفيق، وهناك ناسٌ لا، حتى لو قلت له: قال الله، قال الرسول، يحتاج إلى دليلٍ عقليٍّ، مثلما حدث بين النبي والشاب الذي طلب الإذن بالزنا، فيحتاج إلى دليلٍ عقليٍّ ليكسر الأفكار اللاعقلانية بالنسبة إليه.
لا تطلب الشكر إلا مِن الله
يقول الشيخ رحمه الله:
"18- ومن أنفع الأمور لطرد الهم: أن تُوطِّن نفسك على ألَّا تطلب الشكر إلا مِن الله، فإذا أحسنت إلى مَن له حقٌّ عليك، أو مَن ليس له حقٌّ، فاعلم أن هذا معاملة منك مع الله، فلا تُبالِ بشكر مَن أنعمت عليه، كما قال تعالى في حقِّ خواص خلقه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9]، ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد ومَن قوي اتصالك بهم، فمتى وطَّنت نفسك على إلقاء الشكر عنهم فقد أرحت واسترحت".
هذه الفقرة رقم (18) هي ثلاث وسائل مختلفة، وليست وسيلةً واحدةً:
الوسيلة الأولى من بداية ما قرأنا: "ومن أنفع الأمور" إلى "أرحت واسترحت"، هذه الوسيلة التي عنوانها: أن تكون معاملته لله، لا للخلق.
"ومن دواعي الراحة" سنأتي إليها في آخر صفحة (26): "ومن دواعي الراحة أخذ الفضائل" إلى السطر الثالث "وهذا من الحكمة" تنتهي هنا، ثم وسيلة جديدة: "وأن تتخذ من الأمور الكدرة أمورًا صافيةً حلوةً ..." إلخ.
هذا بعد نقاشٍ مع أحد طلبة العلم؛ لأنك لما تقرأ الكلام من أول "ومن أنفع" إلى "تزول الأكدار" لا تستطيع أن تمسك الكلام بعضه مع بعض، حقيقةً الكلام صعب جدًّا، ومن استطاع أن يصل لشيء الآن يخبرنا، لكن فعلًا الكلام ليس مستقيمًا، فهناك قطع بهذه الصورة، خاصةً أن كل موضوعٍ مُستقل، يعني: الموضوع الذي عنوانه: "أن تكون معاملته لله، لا للخلق" هذه واضحة إلى "أرحت واسترحت"، والذي بعده لا علاقة له بهذه القضية.
إذن هذه الوسيلة تتكون من ثلاثٍ، مع تعديل كلمة: "الشر" إلى "الشكر".
باختصار شديد: على الإنسان ألا يشغل باله بالناس وينتظر منهم جزاءً أو شكورًا؛ لأن من كان همه الناس: همه أبوه، همه المعلم، همه الشيخ، همه العمل، همه القريب، همه الصديق، يريد أن يكون في دوامة: ما شكرني، ما قدرني، ما احترمني. هذا يزيده همومًا، يا أخي، اجعل عملك لله، وانتظر الشكر من الله، وانتهت القضية.
وهنا القضية تحتاج إلى شخص يكون عنده توجه لله ، أولئك خلصوا نفوسهم من حظ نفوسهم، إنما يعملون لله ، هذا لا شك؛ لأن الذي يستند إلى غير الله يُخذل كما قال ابن القيم رحمه الله: "ومَن رجا شيئًا سوى الله خُذل من جهته"[12]"بدائع الفوائد" (2/ 246)..
فالإنسان الذي ينتظر الجزاء والشكر من الناس وُكِل لغير الله، لكن الذي ينتظر الجزاء والشكر من الله هو لا شك قد اعتمد على ركنٍ شديدٍ، وهو الله.
فهذه هي فكرة الوسيلة الثامنة عشرة، فالشيخ يقول أن هذه هي القضية، فإذا أحسنت إلى مَن له حقٌّ عليك، أو مَن ليس له حقٌّ -ومن باب أولى مع الأهل والأولاد- فلا تقل: والله ما شكرتني زوجتي، ما أعطتني زوجتي. يا أخي، اعمل لله ، وزوجتك قد تنسى، أو قد تكون طبيعتها النسيان، ففي بعض الحالات الأسرية تكون طبيعة المرأة كُفران العشير كما بيَّن الرسول شيئًا من ذلك الوصف فقال: يكفرن العشير[13]أخرجه البخاري (304)، ومسلم (79)..
فلا بد أن نُدرك هذه القضية حتى لا نحمل الأمور ما لا تحتمل، ولا شك أن التربية مطلوبة، وكذا النصح والأخذ والعطاء، لكن لا تحمل همومًا وغمومًا وكأنك تعمل لأجل الزوجة وتقول: ما شكرتني، ما أعمل لها؛ لأنها ما شكرتني، ولا فعلت لي كذا؛ ولذلك عندما يحصل الخلاف والشجار تبدأ المواقف السابقة في الظهور بهذه الطريقة: أنا فعلت وهي ما فعلت، وهو ما فعل كذا، وأنا ما فعلت.
ولذلك يقول: "فمتى وطّنت نفسك على إلقاء الشكر عنهم" يعني: ما نريد منهم شكرًا، "فقد أرحت واسترحت" يعني: لا تُحمّلهم مسؤولية شكرك، ويحسبون ألف حساب: نسينا أن نشكره. فأرحهم وأرح نفسك. فهذه هي الوسيلة الأولى.
أخذ الفضائل والعمل عليها
الوسيلة الثانية منفصلة تمامًا: "ومن دواعي الراحة: أخذ الفضائل والعمل عليها بحسب الداعي النفسي، دون التكلف الذي يُقلقك، وتعود على أدراجك خائبًا من حصول الفضيلة، حيث سلكت الطريق الملتوي، وهذا من الحكمة".
فسلوك الطريق الملتوي ليس من الحكمة، الذي من الحكمة الكلام الأول، الذي هو: أخذ الفضائل والعمل عليها.
فإذا أردتَ السعادة والراحة والطمأنينة النفسية، والابتعاد عن التعاسة والشقاء والهم والكدر فعليك بالبحث عن الفضائل والعمل عليها، أي فضيلةٍ، أي شيء طيب يُنقل عن السلف الصالح، وبعض السلف الصالح كان إذا عرف هديًا وسنةً طبَّقها ولو مرةً واحدةً في عمره.
فكم نعرف من الفضائل، وهي باقية في الذهن، استمعنا إليها من الخطبة، أو من الراديو، أو من غير ذلك، ثم ليس هناك عمل؛ لذلك مهم جدًّا أن نعمل.
قال: "بحسب الداعي النفسي" يعني: الميل، يعني: اختر الفضائل التي تميل إليها، هذا يُحب القراءة، وهذا يُحب العمل الخيري التطوعي مع الناس وخدمتهم، وهذا يُحب كذا، والناس متفاوتون في هذا، فانظر الشيء الذي تريده نفسك دون التكلف الذي يقلقك، وكن شخصًا طبيعيًّا، وافعل ما تميل إليه نفسك، يعني: لو أنك تكلفت فهذا يؤثر عليك، فترجع خائبًا وما حصلت على الفضيلة؛ لأن هذا يكون هو الطريق الملتوي.
وهذا من الحكمة: أن تختار الأعمال الفاضلة وتُطبقها، وتكون هذه الأعمال هي التي تميل إليها، دون التكلف، لا تقل: والله أنا مُتحمِّسٌ وسأُصلي قيام الليل إحدى عشرة ركعة. وهو ما يصلي إلا ركعة أو ثلاث ركعات، فقد يُسبب هذا الأمر له شيئًا من عدم الالتزام؛ ولذلك كان الرسول يُحب العمل الدائم ويقول: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ[14]أخرجه مسلم (2818)..
ومن وسائل السعادة: يقول الشيخ رحمه الله: "وأن تتخذ من الأمور الكدرة أمورًا صافيةً حلوةً، وبذلك يزيد صفاء اللَّذات، وتزول الأكدار".
أنا أبحث في الجانب السلبي الذي تعرضت له: من المصيبة، أو الفتنة، أو الابتلاء، أبحث عن مجالات الخير التي فيه وأُركز عليها، هذا سيجعلني في حالةٍ نفسيةٍ طيبةٍ، فهذا مهم جدًّا؛ لأن بعض الناس ما أن يُصاب بمصيبةٍ إلا وينشلّ فكره، وتنشلّ حركته؛ لأن شغله في الجانب السلبي الذي قد يكون فعلًا سلبيًّا، فهو شيء فيه شرور، وفيه آلام، وفيه متاعب، لكن لا ينظر إلى الجانب الآخر الذي فيه صفاء وأجور، وأنه سيُعوّض ذلك، فإذا حاول مثلًا ولم ينجح فعليه أن يُرتب أموره، وسيتفوق في المستقبل، وهكذا.
إذن لا بد أن أبحث عن الجوانب الإيجابية فيما يتعلق بالأمور الكدرة كما قال الأخ في المقدمة المهمة، فالله لا يُقدّر شرًّا محضًا، حتى الشيطان ذاته وجوده يجعل هناك تمييزًا، بل نفس الشيطان حصل في قصته مع أبي هريرة رضي الله عنه حين أمسك به وهو يسرق، فأرشده إلى آية الكرسي حتى لا تُسرق أمانته، فقال : صدقك وهو كذوب[15]أخرجه البخاري (2311)..
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص31). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑3 | أخرجه أحمد في "المسند" (22211)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقات، رجال الصحيح"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (370). |
↑4 | أقصد في هذه القصص: الأسلوب الذي أتكلم عنه في الأفكار ومُدافعتها. |
↑5 | انظر: "البداية والنهاية" ط. هجر (9/ 197). |
↑6 | على هذا الرابط: https://cutt.us/svOMs. |
↑7 | أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 347)، برقم (174، 175)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 270)، برقم (126)، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح" (177). |
↑8 | أخرجه أبو داود (5112)، وأحمد في "المسند" (2097)، وقال محققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين". |
↑9 | أخرجه مسلم (132). |
↑10 | أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 330)، برقم (36560)، والحاكم في "المستدرك" (3002)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وأبو يعلى في "مسنده" (1818)، وذكره الألباني في "صحيح السيرة النبوية" (ص160). |
↑11 | انظر: "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (8/ 605). |
↑12 | "بدائع الفوائد" (2/ 246). |
↑13 | أخرجه البخاري (304)، ومسلم (79). |
↑14 | أخرجه مسلم (2818). |
↑15 | أخرجه البخاري (2311). |