المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات مع الدرس الثامن من المجموعة العاشرة من سلسلة "التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة".
ولا زلنا مع كتاب العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، وأظن أننا قد اقتربنا من الثلث الأخير في الفترة القادمة؛ ولذلك نتمنى من الإخوة الذين معنا أن يحرصوا على الاستمرار في الحضور، وكذلك لا ينسوا تسجيل أسمائهم من خلال (الواتساب) الذي عندهم في كل لقاءٍ من أجل إثبات حضورهم من الإخوة والأخوات؛ لأن هذا سيكون محسوبًا ضمن تقييم الاختبار النهائي، أو تقييم الحضور، وكذلك الاختبار الذي سيكون تحريريًّا -بإذن الله- بعدما ننتهي من الكتاب كاملًا.
وكنا قد تحدثنا في اللقاء الماضي عن ثلاث وسائل من هذه الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، وكانت عن السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وتحصيل الأسباب الجالبة للسرور.
وسوف نُراجع قليلًا، خاصةً أن الأسبوع الماضي حدث فيه انقطاعٌ بسبب الإجازة الطلابية، وكان الحديث عن التَّخلية والتَّحلية، يعني: أن الإنسان لا بد له من تخليةٍ وتحليةٍ حتى يحصل على أسباب السعادة، ويبتعد عن أسباب الشقاء، فيبعد عن كل وسيلةٍ تأتي له بالهموم والغموم، ويحرص على الوسيلة التي تأتي له بالسعادة والراحة والطمأنينة مما أباحه الله وشرعه.
ثم تحدثنا عن وسيلةٍ أخرى هي: استعمال الدعاء، وكان هذا تأكيدًا على قضية اللجوء إلى الله ، وكذلك وضع العبد شأنه كله وحاله بيد الله ، وعنايته ورحمته .
وذكر الشيخ الأحاديث العظيمة التي فيها عمق اللجوء إلى الله : اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ، أصلح لي شأني كله[1]أخرجه أحمد في "مسنده" (20430)، وحسنه الألباني في "التعليقات الحسان" (966).، الله أكبر، فيضع الإنسان أمرَه كلَّه بيد الله ، ويسأل الله ألا يَكِله لنفسه طرفة عينٍ.
وعددٌ منا قد وُكِلَ إلى نفسه فخاب وخسر، لكن لو كان مُعتمدًا على الله لكان أمرًا آخر؛ ولذلك أيضًا دعاء: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عِصْمَة أمري، وأصلح لي دُنياي ... إلى آخر الحديث الذي تكلمنا عنه، وأشرنا إليه في اللقاء الماضي.
ثم ختمنا اللقاء الماضي بوسيلةٍ مهمةٍ حصل فيها نقاشٌ، وأتمنى من الإخوة أن يُراجعوا الآن ما يتعلق بها: كيف نستفيد منها؟ وكيف نُطبِّقها؟ وهي: تقدير أسوأ الاحتمالات، وذكر الشيخ أن تقدير أسوأ الاحتمالات له فائدتان، ما هما؟
الفائدة الأولى: توطين النفس على احتمال الأسوأ، يعني: حين يضع الاحتمال الأسوأ يتهيأ له إذا حصل، ولا يكون مثل الذي لم يضع في باله الاحتمال الأسوأ، وهناك فرقٌ بين الاثنين، فالثاني سيٌصْدَم وتُصبح لديه إشكاليةٌ في جانب السعادة والراحة والطُّمأنينة، أما الأول فسيُحقق توطين النفس على أسوأ الاحتمالات؛ لأنه هيَّأ نفسه وأعدَّها تحسبًا لوقوعه، ولو كانت نسبته قليلةً، لكنه من باب أن يُوطن نفسه على أسوأ الاحتمالات في حالة حدوثه، ولا يتفاجأ به.
هذه الفائدة الأولى.
الفائدة الثانية: أنه إذا وضع في حسابه أسوأ الاحتمالات، فعندئذٍ يدفع هذا الاحتمال الأسوأ باتِّخاذ الأسباب المشروعة، فيُخفف منه؛ لأنه وضع في باله احتمال أن يحصل كذا.
طيب، وهذا شيءٌ سيئٌ لا نُريده، ولا يُحقق لنا السعادة، فما المطلوب إذن؟
أحاول أن أبتعد عن أسباب هذا الشيء السيئ، وأُقلل منه، وأُخفف منه.
بينما الذي لا يحتمل أسوأ الاحتمالات هل سيأتي هذا في باله؟! لن يأتي في باله.
إذن هذا ما حصل في اللقاء الماضي، ولعلنا نستمر مع الوسيلة الحادية عشرة كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى.
يقول رحمه الله تعالى: "ومن أعظم العلاجات لأمراض القلب العصبية، بل وأيضًا للأمراض البدنية".
لاحظوا الألفاظ، فالألفاظ مهمةٌ وواقعيةٌ، وتدل على ثقافته رحمة الله عليه.
"ومن أعظم العلاجات لأمراض القلب العصبية، بل وأيضًا للأمراض البدنية: قوة القلب، وعدم انزعاجه وانفعاله للأوهام والخيالات التي تجلبها الأفكار السيئة، والغضب والتَّشوش من الأسباب المُؤلمة من توقع حدوث المكاره"، يعني: الغضب لذلك، أو التشوش لأجل ذلك "من الأسباب المُؤلمة، ومن توقع حدوث المكاره، وزوال المَحَابِّ؛ أوقعه ذلك في الهموم والغموم والأمراض القلبية والبدنية، والانهيار العصبي الذي له آثاره السيئة التي قد شاهد الناس مضارَّها الكثيرة"، هذا كلامٌ عميقٌ ومهمٌّ جدًّا.
مرض توهم المرض!
كنا من قبل قد أشرنا إلى أن هناك مرضًا في مجال التخصص النفسي هو: توهم المرض، فهو في الحقيقة ليس مريضًا بالمرض الذي يتوهمه، وإنما يشعر بهذا المرض، وحقيقة الأمر أنه ليس موجودًا.
ربما أشرتُ لهذا في لقاءٍ سابقٍ في أحد مُعطيات الكتاب، وذكرتُ أيضًا أن أحد القُرَّاء المشاهير -وكان من الثقات- سمعتُ منه مباشرةً أنه يقول: 95% من الحالات التي تأتيني لأجل القراءة فيما يتعلق بقضية المس والعين والسحر ليست حقيقيةً، وإنما مُتوهَّمة.
وذكر لي قصةً: أنه أتى شخصٌ في سيارته، يقول: أنزلناه بالحمل، لا يتحرك، كان في حالة شللٍ تامٍّ. يقول: فلما قرأتُ عليه وحاولتُ أن أعرف هل هناك ارتباطٌ بقضية عينٍ شديدةٍ أو سحرٍ أو مَسٍّ؟ يقول: لا يوجد شيءٌ، فلما عملنا دراسةً لحالته وتحرينا وضع هذا الإنسان إذا به قد استمع لشريطٍ يُقرأ فيه على إنسانٍ فيه جنيٌّ، وطلع الجني، وصار كذا، فبدأ يسمع الجني، ويتخيل أن الجني دخل فيه، واستسلم، وانشلَّت الحركة.
وهذا الأمر معروفٌ في الجانب النفسي فيما يتعلق بأثر هذه القضية الهستيرية الحركية، وربما يُصاب الإنسان بالشلل المُؤقت، ويُصاب بالصَّمم المُؤقت، ويُصاب بجميع هذه الأمور المُؤقتة، وهو في الحقيقة ما فيه شيءٌ، وإنما هو ردُّ فعلٍ لجانبٍ من التوهم والخيالات.
هذا التوهم وتلك الخيالات لا تأخذه فقط في جانب المرض، ولكن تأخذه في جوانب الحياة عمومًا مثلما قال الشيخ: ما يرتبط بقضية المكاره، وزوال المَحابِّ؛ فتُصبح القضية عنده تصوراتٍ وخيالاتٍ ليست مُرتبطةً بدراساتٍ، إنما هي مُرتبطةٌ بأوهامٍ مكانها العقل، فحين تقول له: كيف؟ يقول: صارت في واحدٍ. طيب، وإذا صارت في واحدٍ ما المشكلة؟! فهناك واحدٌ مات، وواحدٌ قُتِلَ، وواحدٌ ذُبِحَ، ... إلى آخره، وكل شيءٍ ممكنٌ.
إذن سنمشي وراء أن واحدًا صار له كذا ... إلى آخره، ونعيش أوهام الخوف من المستقبل والمكاره، وأن المَحابَّ ستُسْلَب منا، ... إلى آخره، ولا نستطيع أن نعيش بشكلٍ جيدٍ.
لكن لو أخذناها بالطريقة التي ذكرها المؤلف في الوسيلة التي قبلها بافتراض أسوأ الاحتمالات، فهذا لا شك أن له الاعتبارين اللذين ذكرناهما، وله قيمته، ... إلى آخره.
لذلك لا ينبغي أن يكون الوهم هو الذي يسوقنا.
والعلماء يُفرِّقون بين الوهم والشك، وبين اليقين والظن، أيُّهم أقلّ درجةً؟ وَهْمٌ، وشَكٌّ، ويقينٌ، وظنٌّ، الوهم، ثم الشك، ثم الظن، ثم اليقين.
حتى في الصلاة: توهم مثلًا أنه لم يتوضأ، جاء له وسواسٌ أنه لم يتوضأ، فلو استجاب لهذا الوهم ماذا سيحصل؟ سيقطع الصلاة.
طيب، حتى لو شكَّ كما جاء في القاعدة الفقهية التي ذكرها الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه:
والشك بعد الفعل لا يُؤثر | وهكذا إذا الشكوك تكثرُ[2]"القواعد والأصول" للشيخ ابن عثيمين (1/ 84). |
فإذا كان من طبيعته أنه تكثر عنده الشكوك، فلا اعتبارَ لها؛ لأنه في الأصل شَكَّاكٌ.
طيب، بالنسبة له هل يستسلم للشك، أو يدفع الشك؟
يدفع الشك، طيب، هل دفعه للشك معناه: بقاؤه في الصلاة؟
نعم، ابقَ في الصلاة ما دامت القضية شكًّا، وليست ظنًّا راجحًا أو يقينًا؛ لأن اليقين انتهينا منه، والظن الراجح يُعْمَل به، فإذا غلب على ظنِّه أنه ربما انتقض وضوؤه مثلًا بعد وضوئه السابق ... إلى آخره، فإنه يأخذ بالظن الراجح، فله اعتباره هنا، لكن الشك والوهم لا قيمةَ له، خاصةً أن قضية الوهم أضعف من قضية الشك، فهذه القضية مهمةٌ جدًّا حتى يعيش الإنسان في وضعٍ طبيعيٍّ.
استرسل فكره فبدأ يشعر بأوهامٍ!
تجدون أصحاب الوسواس القهري والشك يعيشون في أوهامٍ، فهناك أناسٌ عندهم وساوس في العبادات، وأناسٌ وساوسهم في الجوانب الحياتية، فأحدهم يريد أن يُنظف كل شيءٍ، فيأخذ (الكلينكس) مثلًا ويُنظِّف أيَّ شيءٍ يلمسه، على اعتبار أنه من المحتمل أن تكون فيه مادةٌ فيها جراثيم تنقل العدوى، ويقرأ كلامًا ويترك ذهنه يسترسل، ويبدأ يشعر بوهم أنه مريضٌ، وهو في الحقيقة ليس به شيءٌ، فيقول: ربما أُصبتُ بشيءٍ، وربما حصل لي شيءٌ.
لا شكَّ أن هؤلاء أناسٌ ليسوا أسوياء من الناحية النفسية، فعندهم جانبٌ من الاضطراب، وهذا الكتاب يهدف إلى أن يخرجوا من الأوهام، ويخرجوا من الكدر والضيق والهموم؛ حتى يعيشوا حياةً سعيدةً.
إذن ما المطلوب؟
المطلوب ألا أقف عند الأوهام، ولا أقف عند الشكوك، وأطرح ذلك، كما جاء في الأثر: فليستعذ بالله وليَنْتَهِ[3]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، يعني: الرجل الذي جاء للنبي وقال له: يا رسول الله، لأن أَخِرّ من السماء -أو من شاهقٍ- خيرٌ لي من أن أتحدث بما في نفسي! ما القضية التي عنده؟ وسواسٌ في قضايا العقيدة، فيما يتعلق بأمور العقيدة، فقال الرسول : الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة[4]أخرجه أحمد في "مسنده" (2097)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين.، أو ذاك صريح الإيمان[5]أخرجه مسلم (132)..
فقطع هذه القضية مهمٌّ جدًّا؛ لأنها وهمٌ، وإذا وقفنا مع الوهم سنرفعه إلى مستوى أعلى منه، وربما نجعله في مستوى اليقين، وهو وهمٌ لا قيمةَ له.
وهذا صحيحٌ، فقد يكون الأثر الخارجي مثلًا: واحدٌ يُؤثر في كلامه عبر (سناب شات)، وعبر (يوتيوب)، ويُعطي أشياء معينةً، يسمع كلامًا، ويُعطي أشياء معينةً، ويكون سببًا في هذه الأوهام بأي قضيةٍ، سواءٌ كانت فكريةً، أو سلوكيةً، أو مرضيةً، أو صحيةً، ... إلى آخره، لكن القضية في الأساس مُرتبطةٌ بالإنسان.
ولذلك تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الذين لا يتحملون الآيات، فيحصل عندهم ما لم يكن يحصل عند النبي ، ولا عند الصحابة، فيُغشى عليهم، وكان بعضهم يرى أن هذا من قمة الخشوع، فكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذن أوقفوا أنفسكم على الجدار، ودعونا نرى ما الذي يصير؟! اختبارٌ وابتلاءٌ، فهل تظن أنهم يفعلون ذلك؟ لا، سيكون هناك كلامٌ آخر، لماذا؟ لأن هناك عاملًا داخليًّا ذاتيًّا بدأ يتحرك، وهو الاحتياط والخوف من السقوط من الجدار، فيحذر ويخاف أن يسقط من الجدار.
طيب، قُرئت عليه نفس الآيات، ولم يحصل عنده خشوعٌ، ولم يسقط أو يُغْشَى عليه، يعني: أنه إذا قُرئت عليه آياتٌ يحصل عنده تأثرٌ؛ فيسقط ويُغشى عليه، ويعتبرون هذا مقامًا من مقامات العبودية، فكان يتحدث عن مثل هؤلاء، ويتكلم عن أن ذلك ليس من منهج النبي ، ولا منهج الصحابة، وأننا لو وضعناه في اختبارٍ لم يحصل له مثل هذا الشيء.
أنا أتحدث الآن من الناحية النفسية، فهذا لو وُضِعَ في اختبارٍ على الجدار ما الذي يتحرك عنده؟ شيءٌ داخليٌّ؛ فيحذر ويخاف من السقوط؛ لذلك نستطيع أن ندفع الوهم كما دفعه هو الآن بماذا؟ بسبب وجود دافعٍ داخليٍّ مكَّنه من تحمل الآيات وعدم التأثر الشديد بها، فاستطاع أن يدفع الخوف وما يتعلق به، وإذا استسلم للخوف ربما يُغشى عليه، وما شابه ذلك.
والناس يتفاوتون في هذا الجانب، يتفاوتون في قضية قوة التَّحمل: قوة الوارد، وقوة المُسْتَقْبِل.
فهما قضيتان: عندي الوارد: الآيات المُؤثرة، وعندي المُسْتَقْبِل، فهناك أناسٌ ضُعفاء قد يحصل عندهم ما لا تُحمد عُقباه من خلال سلوكياتٍ ليست من هدي النبي ، وهم يظنون أنها -ما شاء الله- تأثرٌ، ... إلى آخره، وشيءٌ من هذا القبيل، لكنها ليست من الهدي، بل قد تكون مما لا يُحمد شرعًا.
انتقاد الأفكار
طيب، على أية حالٍ هذا الموضوع كما قلتُ يا إخواني يدخل في قضايا مُرتبطةٍ بالجوانب الفكرية، فهي أوهامٌ مُرتبطةٌ بقضية انتقاد الأفكار، تخيُّلاتٌ واهمةٌ، جعل فكرةً معينةً هي الفكرة الصحيحة، وما هي إلا أوهامٌ، يعني: بعض المُعتقدات التي تعرفونها عند أهل البدع، وما شابه ذلك، حين تأتي لتقيسها بالمقياس الحقيقي تجد أنها أوهامٌ، فلو حرَّك العقل وحرَّك الاتِّجاه الوجداني الإيجابي ما اتَّخذ هذه القضية.
لذلك تجد بعضهم عنده قضية الخُمْس لا تدخل رأسه، وعنده قضية نكاح المتعة لا تدخل رأسه، ويبقى على مُعتقده مثلًا، لكنه لا يقبل هذه القضية.
وأنا أعرف عددًا من هؤلاء من هذا القبيل، يعني: ما يقبل هذا الجانب؛ لأنه يعتبره أوهامًا.
ولذلك لا بد أن نُبرز نصاعة ما نُقدِّم من أجل أن يكون حُجَّةً واضحةً بَيِّنةً من كلام الله ، وكلام النبي الصحيح؛ فيُساعد في قضية تبني الحقائق وطرد الأوهام، فهذا مهمٌّ جدًّا.
ومنهج القرآن والمنهج النبوي أكَّدا على هذه القضايا، وبَيَّنا العلل والتَّبريرات والأسباب والإقناعات والأدلة النَّقلية والأدلة العقلية وما شابه ذلك؛ حتى تثبت الحقائق.
إذن هذا الأمر لا يدفعه -كما قال الشيخ- إلا قوة القلب.
ولا يمكن -يا أحبتي- أن تكون لدينا قوةٌ في القلب إلا إذا كانت لنا عنايةٌ بأعمال القلوب، وهذا المحك الأساسي في تربية القلب على القوة وعدم الانزعاج والانفعال السَّلبي، فلا بد من العناية بأعمال القلوب المتعلقة بأوجه العبادات ومقامات العبودية القلبية لله : المحبة، والرجاء، والخوف، والخشية، فيكون الله عنده مُقدَّمًا على كل شيءٍ، ونظره لله، وفي الله، وبالله، كما وُصِفَ الصحابة: أولئك قومٌ خلصوا نفوسهم من حظِّ نفوسهم، فيجعلوه لله مَحْضًا قدر المُستطاع، وهذا الأمر فيه مُجاهدةٌ، لكنهم يسعون إلى مثل هذه القضية؛ لأن الذي عنده غير ذلك سيتوهم أنه مُرتبطٌ بأشخاصٍ، وسيتأثر بهؤلاء الأشخاص، وما لديهم من أوهامٍ، ومَن كان مُرتبطًا بمادياتٍ سيكون أيضًا حسب هذا الارتباط بالماديات، وما شابه ذلك؛ لذلك فإن أعمال القلوب وتزكية هذه القلوب من أهم الأشياء التي تُساعد في قضية قوة القلب، وقوة القلب -كما قلنا- سببٌ في دفع الأوهام والخيالات التي تُعيق الإنسان.
يعني: هو مشكلته الأوهام والخيالات، حتى الأوهام والخيالات الإيجابية المُفترض أن الإنسان ما يقف عندها، يعني: يتوهم خيالاتٍ وأوهامًا يعيش معها، غير الأُمنيات، فإنها إذا كانت أمنياتٌ وشيءٌ يتمناه ولحظاتٌ لا بأس، لكن إذا كانت أوهامٌ وخيالاتٌ يغرق فيها، وليس فيها أي نفعٍ، وهي مما يُستلذ به كمثالٍ، فماذا استفدنا وهي أوهامٌ وخيالاتٌ؟! قم اعمل حتى تستطيع أن تُحقق هذه القضية، لكن كلامنا هنا على الأوهام والخيالات السلبية التي تقدح في السعادة، وتُؤثر في راحة النفس وطُمأنينة النفس، وتُوجد التَّعاسة والشَّقاء.
أهمية العلم الشرعي
لأن هذا الذي به تُدفع الشبهات والأفكار اللاعقلانية؛ لأن الأوهام والأفكار والخيالات من أين جاءت؟ من تصوراتٍ، والتَّصورات هذه عبارةٌ عن أفكارٍ وآراءٍ، بغض النظر عن قوتها وضعفها.
فحين يأتيك أفلاطون مثلًا -يعني: أبو الفلاسفة- ويتحدث عن المدينة الفاضلة كما يقول، ثم أين هي هذه المدينة الفاضلة؟ لا أفلاطون، ولا مَن بعد أفلاطون استطاع أن يأتي بها.
قارن هذه المدينة الوهمية الخيالية بما أراده الله من بني البشر في إقامة المُجتمعات وإعمار الأرض، تجد فرقًا كبيرًا يا جماعة.
فالدين واقعيٌّ، واجتهادات البشر قابلةٌ للأوهام والخيالات، وما شابه ذلك؛ لذلك فإن العلم الشرعي الصحيح يُساعد في ضبط ذلك؛ حتى أيضًا لا تردها الشبهات، فلا تُصبح كالإسفنجة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.
فقوة القلب لا شكَّ أنها دلالة الشجاعة المعنوية، وليس شرطًا أن يكون صاحب بنيةٍ جسميةٍ قويةٍ، لكن الشجاعة المعنوية قوةٌ، فلديه شجاعةٌ معنويةٌ؛ لأن قلبه قويٌّ، يعني: انظر موقف النبي وقت الحروب والخوف كيف كان؟ كانوا يجدون النبي يسبقهم: لن تُراعوا، لن تُراعوا[6]أخرجه البخاري (6033).، يعني: يُبادر، وهو الذي يُهدئهم عليه الصلاة والسلام، فيقول: لن تخافوا، لن تخافوا.
حال أبي بكر الصديق مع النبي
أبو بكر الصديق كيف كان حاله مع النبي في الغار؟ وكيف كان تثبيت النبي لأبي بكر؟
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40].
تأمل موقف أبي بكرٍ نفسه، هذا الذي كان في هذا الموقف احتاج لقوة قلب النبي ، فكيف كانت قوته؟ وكيف كانت قوة أبي بكرٍ في قضية حرب المُرتدين كمثالٍ؟ وكيف كانت قوة قلب أبي بكرٍ عند وفاة النبي مُقارنةً بمَن؟ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
أيضًا موقف أبي بكرٍ الصديق في الإسراء والمعراج، وهو الذي وقر الإيمانُ في قلبه -سبحان الله- وتميز بما وقر في قلبه، وهذه دلالةٌ على أن هذا الرجل عظيمٌ رضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي لو وُضِعَ إيمانه في كفَّةٍ وإيمان الأمة في كفَّةٍ -وفيها عمر بن الخطاب- لرجحت كفةُ أبي بكر الصديق، وهو الذي يدخل الجنة من أبوابها الثمانية رضي الله عنه وأرضاه.
فإنه لما قيل له: إن صاحبك يدَّعي أنه قد أُسْرِيَ به وعُرِجَ به! قال: إن قالها فقد صدق[7]"تفسير عبدالرزاق" (2/ 302)..
فقوة القلب تطرد الأوهام والخيالات، وتُثبت الحقائق وتُبقيها.
التوكل على الله
يقول الشيخ رحمه الله: "ومتى اعتمد القلبُ على الله".
على أية حالٍ هذه النقطة كما هي مُعنونة عندكم: "التوكل على الله" بعد قوة القلب، يعني: لها ارتباطٌ بالسابق؛ لأن السابق لن يحصل إلا بهذه القضية.
يعني: قضية مثل الغضب، وما الغضب؟ ... إلى آخره، لا شك أن هذه القضايا التي تحصل هي مُرتبطةٌ بجانبٍ قلبيٍّ، وله أثرٌ عصبيٌّ، ليست العصبية، لا، وإنما ما يتعلق بالخلايا العصبية، وهناك ارتباطٌ بين هذه الأشياء وبين قضايا الأعصاب والدماغ ... إلى آخره.
حدثني أحد أقاربي عن لحظات غضبه فقال: لمحتُ نفسي بطريقةٍ ما، فقلتُ: سبحان الله! هكذا أكون!
فالشخص الغَضُوب يخرج من طوره الطَّبيعي، فهناك إشكاليةٌ عقليةٌ في الارتباط بالخلايا العصبية تُؤثر في قضية مرض القلب، مثلًا: تجده يحقد على الناس، ويغضب منهم، ... إلى آخره، والله أعلم.
"ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا مَلَكَته الخيالات السيئة، ووثق بالله، وطمع في فضله؛ اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثيرٌ من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، فكم مُلِئت المستشفيات من مرضى الأوهام والخيالات الفاسدة؟! وكم أثَّرت هذه الأمور على قلوب كثيرٍ من الأقوياء، فضلًا عن الضُّعفاء؟! وكم أدَّت إلى الحُمق والجنون؟! والمُعافى مَن عافاه الله ووفَّقه لجهاد نفسه؛ لتحصيل الأسباب النافعة المُقوية للقلب".
لاحظوا العبارة: "لجهاد نفسه؛ لتحصيل الأسباب النافعة المُقوية للقلب، الدَّافعة لقلقه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه جميع ما يهمُّه من أمر دينه ودُنياه".
إذن هذه القضية تتعلق بقضية ما يهمُّه وما يُكدِّره، عليه أن يتوكل على الله، لكن هذا التوكل على الله ليس ادِّعاءً.
والدعاوى ما لم تكن عليها | بيِّناتٌ أصحابها أدعياء[8]"شرح العقيدة الطحاوية" للأذرعي (ص31). |
وكلٌّ يدَّعي وصلًا بليلى | وليلى لا تُقرُّ لهم بذاك[9]"شرح العقيدة الطحاوية" للأذرعي (ص31). |
التوكل هو عملٌ قلبيٌّ بلا شكٍّ، وله أثرٌ سلوكيٌّ، لكن كما قال الشيخ هنا: لا بد من جهاد النفس، ويكون باتِّخاذ الأسباب النافعة المُقوية للقلب.
وهذه القضية المَحَكُّ فيها -وهو محل الاختبار- هو ما يتعلق بـ: هل نحن نتَّخذ الأسباب أم لا؟
لذلك النبي لما استغرب قال: ما رأيتُ مثل النار نام هاربُها، ولا مثل الجنة نام طالبُها[10]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1638)، وقال الهيثمي: إسناده حسنٌ. انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (17706)..
يعني: الرسول يستنكر الرجل الذي يدَّعي أنه يريد الجنة، لكنه نائمٌ! طيب، قم اعمل الأسباب، والذي يدَّعي أنه لا يريد النار، لكنه نائمٌ! ما يبتعد عن قضية النار!
إذن هذه الدعاوى لا قيمةَ لها؛ ولذلك فإن التوكل على الله ليست قضيةً جامدةً يا أحبابي، فحين نقول: أعمال القلوب، فعلينا أن نعلم أن لها قيمةً، فأعمال القلوب هي أعمالٌ حقيقيةٌ، تنبع من هذا القلب ابتداءً، لكن لها أثرٌ على السلوك، والحديث المشهور: ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[11]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، فهذا محل الأعمال التي فيها القُربة إلى الله قوةً وضعفًا، فلها أثرٌ على قضية السلوك قوةً وضعفًا.
المتوكِّل قوي القلب لا تُؤثر فيه الأوهام
ثم يقول: "فالمتوكل على الله قوي القلب، لا تُؤثر فيه الأوهام"، بلا شكٍّ، ما عنده مجالٌ للخوف، ويخاف ممن؟! فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175]، الخوف إنما يكون من الله ، وعندئذٍ تعرف كيف تصدّ مكاره الناس؟
"لا تُؤثر فيه الأوهام، ولا تُزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس"، بلا شكٍّ من ضعف النفس، فإذا حصلت حادثةٌ تجده كئيبًا، ضيق الصدر، تعطلت أركانه!
طيب، وطِّن نفسك، توكل على الله ، أين إيمانك بالله؟! أين قوة هذا القلب؟! أين توكلك على الله ؟! فأنت تحتاج الآن مع ضعفك بسبب الذي حصل من حادثٍ مُؤلمٍ أو أوهامٍ طغت عليك، أنت بحاجةٍ إلى قويٍّ، وركنٍ شديدٍ، فإن لم يكن هذا القوي والركن الشديد هو الله، فمَن سيُعينك؟!
إذن الجأ إلى الله، توكل على الله؛ ولذلك كان النبي إذا حزبه أمرٌ ماذا يفعل؟ يفزع إلى الصلاة[12]أخرجه أبو داود (1319)، وحسنه الألباني.، ولما كان -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- في غزوة بدرٍ ينتظر نصر الله ، ويدخل عليه أبو بكرٍ ، ويسقط الرداء من شدة دعاء النبي ورفع يديه وإلحاحه على الله بالدعاء، ويرفع له أبو بكرٍ ذلك الرِّداء[13]أخرجه مسلم (1763)..
فلا شكَّ أن هذه القضية نحن بأمس الحاجة إليها، وهي: عمق التوكل على الله كما قلتُ، وليس هذا كلامًا يُقال باللسان، وإنما هو أثرٌ في القلب، وباعثٌ في القلب له أثرٌ في السلوك، وأسبابٌ تُتَّخذ حتى يكون الإنسان مُتوكلًا على الله، يقول: توكلنا على الله، لكنه ما توكل على الله حقيقةً، وإنما توكل على الأسباب المادية.
يقول: "فالمُتوكل على الله قوي القلب، لا تُؤثر فيه الأوهام، ولا تُزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الخور والخوف الذي لا حقيقةَ له".
فتجد من الناس مَن يخاف من الظلام، ومنهم من يخاف من (البريعصي)، ومنهم مَن يخاف من المُرتفعات، ... إلى آخره، فالقضية عبارةٌ عن مرضٍ بلا شكٍّ، فيحتاج أن يتَّكل على الله، ويحتاج إلى إرادةٍ قويةٍ؛ حتى تُساعده على الحدِّ من هذا الخوف، حتى يمشي مع البرنامج العلاجي بشكلٍ جيدٍ، وإلا فسيبقى في دائرة الأوهام، ودائرة الخيالات.
"ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفَّل لمَن توكل عليه بالكفاية التَّامة؛ فيثق بالله، ويطمئن لوعده؛ فيزول همُّه وقلقه، ويتبدل عسرُه يسرًا، وتَرَحُه فرحًا".
الله أكبر! هذا الكلام -يا إخواني- لا يمكن أن يجده مَن يطَّلع ويعرف النَّظريات النفسية في كتب علم النفس وكتب التَّخصص البتة، والله إن هؤلاء الناس محرومون، أصحاب النَّظريات الغربية في علم النفس والله محرومون، والذي يطَّلع عليهم ويعرف هذه النَّظريات يجدهم محرومين من هذا الخير العظيم الذي آتانا الله إياه؛ ولذلك تخبَّطوا يمنةً ويسرةً، ومات بعضُهم مُنتحرًا، وبعضهم يردُّ على الآخر، ومن نظريةٍ إلى نظريةٍ، ومن رأيٍ إلى رأيٍ، ومن أوهامٍ وخيالاتٍ إلى شيءٍ عجيبٍ جدًّا، فالذي يُتابع مدرسة التحليل النفسي والمدارس الأخيرة يجد هذه القضية، ويعرف هذا الأمر.
بينما عندنا -والحمد لله- مصدرٌ ثابتٌ قبل مدرسة التحليل النفسي وبعدها، وإلى آخر المدارس الموجودة الآن، مثل: مدرسة (فرانكل) في العلاج بالهوية.
المقصود أننا إلى الآن -الحمد لله- عندنا مصدرٌ ثابتٌ، وهو كلام الله ، وكلام النبي ، وهو كنزٌ عظيمٌ يُربي هذا الإنسان لأجل الحصول على السعادة، وطرد هذه الأوهام والأفكار.
كل البشر يُريدون تحقيق السعادة
كل البشر -حتى أصحاب النَّظريات الغربية من الكفار- يريدون تحقيق السعادة، لكن تفاوتوا في ذلك، ولم يصل واحدٌ منهم إلى المستوى الحقيقي للسعادة -ولو وصلوا إلى جزءٍ منه-؛ لعدم فهمهم لحقيقة الإنسان؛ لأن المنهج الذي قدَّموه منهجٌ بشريٌّ، وليس منهجًا ربَّانيًّا، وأبعدوا الدين تمامًا عن نظرياتهم، فحصل الذي حصل.
يقول: "وخوفه أمنًا، فنسأله تعالى العافية، وأن يتفضَّل علينا بقوة القلب وثَباته بالتوكل الكامل الذي تكفَّل الله لأهله بكل خيرٍ، ودفع كل مكروهٍ وضَيْرٍ"، اللهم آمين.
لا شكَّ أن هذا من آثار قوة القلب، حينما يتربى الإنسانُ على قوة القلب، وخذوا أوضاع المسلمين الآن مثلًا، والتَّغيرات العالمية التي حصلت في الانتخابات الأمريكية، والتَّحالفات العالمية بين الشرق والغرب، وأوضاع بعض المسلمين -خاصةً أهل السنة- في بعض البلدان ... إلى آخره، فهذا يجعل بعض الناس يتعاطون مع هذه القضايا بأوهامٍ وخيالاتٍ لا تنفع، لكن هناك آخرون يتعاطون معها بطريقةٍ إيجابيةٍ؛ لدفع المكروه من خلال اتِّخاذ الأسباب المشروعة: المادية، والمعنوية؛ لتحقيق عزِّ الإسلام، ونصر الإسلام، وبعض الناس يعيش في خيالاتٍ وأوهامٍ، فيقول: انتهى الموضوع ... إلى آخره.
يُحدثني أحد الفضلاء أنه التقى بمجموعةٍ من الشباب، وكان لهم رصيدٌ في عملٍ خيريٍّ، يقول: فوجدتُهم قد انقطعوا وأصبحوا مشغولين بالتِّجارة: عقار، وكذا، ... إلى آخره، أو انشغلوا بأهاليهم، وتركوا العمل الذي كانوا فيه من قبل.
يقول: ولمستُ منهم الإحباط، وأن الأمور لم تَعُد مثل الأول.
يقول: فبدأتُ أُعطيهم بعض الإحصاءات، وبعض الأرقام، وبعض الأحداث التي من الواضح أنهم غائبون عنها بسبب انشغالهم بالدنيا في الحلال، لكن الدنيا أشغلتهم عن الرسالة الأساسية.
يقول: فكانوا مبهورين جدًّا؛ لأنهم وجدوا أن بذرة الخير ما زالت موجودةً عند الناس، فالخير موجودٌ، وتجد ذلك حين تُتابع بعض الناس في (تويتر) كمثالٍ، أو في بعض وسائل التواصل الأخرى مثل: (سناب شات)، ... إلى آخره، فتجد بعض الناس العاديين الذين ليسوا مُلتحين، ولا طلبة علمٍ، ولا مشايخ، ولا دُعاة؛ تجدهم يتكلمون في قضايا معينةٍ بكلامٍ رائعٍ جدًّا، فيه الغيرة على الأمة، وفيه العِفَّة، وفيه الحرص على الستر، وفيه أشياء عظيمةٌ جدًّا تُشعر بأن الأمة فيها خيرٌ، وتجد اتِّجاه الناس إلى المُحاضرات واللِّقاءات، وإلى الأخذ من العلماء، نعم هناك في المُقابل أشياء أخرى، لكن لا تصل القضية إلى الانهيار أبدًا، فالآن أكبر نسبة انتشارٍ للمسلمين في أوروبا، فهو الدين الأول، حتى بعد 11 سبتمبر وما تلاه من مصائب ومشاكل مُتعلقة بالتَّوجهات المُعْوَجَّة مثل: داعش، وما شابه ذلك، ومع ذلك تجد الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، وهذا من توفيق الله ورعايته لدينه .
هذه قضيةٌ لا بد أن نؤمن بها؛ حتى لا تكون قضية الأوهام عندنا مُقَعَّدَةً، فالبعض يرى أن الدعوة لم يَعُد لها مجالٌ، وأن الناس قد انفَضُّوا عنها، ... إلى آخره، وقد يذهب البعض إلى ذلك عن قناعةٍ، ولكن هناك آخرون يذهبون إلى ذلك هربًا؛ فهم يريدون أن ينبسطوا في الدنيا، ولا يريدون أن يعود الأمر إلى ما كان عليه من قبل، وربما يشعر أحدهم برسالةٍ ومسؤوليةٍ؛ لأن صاحب الرسالة والمسؤولية ما ينتظر مالًا، وإنما ينتظر ما عند الله، فهو شيءٌ يُريده الله منه: فالله يريد منه إصلاح زوجته، وإصلاح أبنائه، ... إلى آخره، هذا واجبٌ، ويصل البعض إلى مرحلة أنه لا يريد تكاليف شرعيةً، ويريد أن تكون القضية بالمزاج والراحة، وهكذا تجد طبقةً من الناس عندهم هذه القضية بهذا الشكل، فالأمر يحتاج إلى تَنَبُّهٍ.
الموضوع الثاني مهمٌّ جدًّا، وهو من الأشياء المُعينة، وهي وسيلةٌ رائعةٌ جدًّا يحتاجها الزوجان، ويحتاجها الآباء، ويحتاجها الأبناء، وتحتاجها الأسرة، وتحتاجها المدرسة، وتحتاجها المُجتمعات، وهي: ما يتعلق بقول النبي : لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخر[14]أخرجه مسلم (1469)..
الأسئلة
الآن مَن كان عنده سؤالٌ فليتفضل.
بين العقل والقلب
س: ......................؟
ج: على أية حالٍ هذا الموضوع تكلم فيه العلماء كثيرًا، لكنه موجودٌ عند أهل العقيدة أكثر، وممن تحدث بصورةٍ فيها إسهابٌ وواضحةٌ جدًّا الشيخ عبدالرحمن المحمود -وفَّقه الله وحفظه- وجمع الأقوال فيها، ولا أذكر إلى أين وصل؟ لكن لو تُسعفنا بها، أو يُسعفنا أحدٌ بها في الأسبوع القادم.
فالأخ يسأل عن علاقتها بالكلام، وكوننا نتكلم عن قضية العقل والأوهام، ... إلى آخره، وأيضًا أشار الشيخ إلى أمراض القلب العصبية، وما شابه ذلك.
فهذه قضيةٌ كبيرةٌ في الحقيقة، يُناقشها جهابذة العلماء، وهذه القضية ليست مُحرَّرةً عندي؛ لضعف العلم فيها، ولكن يُحتاج إليها.
والذي أذكره في الخلاصة: أنهم ليسوا شيئًا واحدًا، وإنما هناك شيءٌ مُوَجِّهٌ، وشيءٌ مُسْتَقْبِلٌ، فالعقل مُسْتَقْبِلٌ، والقلب مُوَجِّهٌ، إن لم تخنِّي الذاكرة كان هذا هو ختام الكلام فيها، لكن لا تعتمدوا هذا الكلام؛ لأن هذه القضية يتكلم فيها جهابذة العلماء فيما يتعلق بمجال التخصص في العقيدة خاصةً، وأيضًا أهل الشريعة، أما نحن فعلمنا محدودٌ يا شيخ، الله يجزيك عنا الخير.
لكن على أية حالٍ يبقى الإنسان يُفكر بعقله، ونحن بالتَّخصص مثلًا نقول: الإنسان يتكوَّن من وحدةٍ مُتكاملةٍ من ثلاثة أشياء:
- العقل الذي يحمل التفكير، ويحمل القُدرات العقلية، ويحمل الجوانب المُرتبطة بمهام العقل.
- وجانب الوجدان والمشاعر المُرتبطة بالقلب، والجوانب المُرتبطة بهذه القضية، ويدخل فيها القيم والإيمان، وما شابه ذلك، وإن كان إدخال الإيمان بهذا الحصر ليس صوابًا كما قلنا.
- والجانب المهاري السلوكي المُرتبط بالأعمال الظاهرة، وما يرتبط بها.
يعني: هذا اصطلاحٌ صوريٌّ يُعمل به ... إلى آخره، وأظن أننا قد لا نحتاج إلى التفكير كثيرًا في هذه القضية، فإنها قد لا تُقدم ولا تُؤخر في ظني من الناحية العملية، لكن ما دُمتُ سُئِلتُ عنها فإني أقول: ليس عندي إجابةٌ يُمكن أن يُرجع إليها، والله تعالى أعلم، وجزاك الله خيرًا.
القيم والأخلاق عند المسلم وغير المسلم
س: ...................؟
ج: لا شك أننا ذكرنا كلامًا سابقًا في الفرق بين المسلم وغير المسلم، فهناك اشتراكٌ، وقد ذكرنا هذا الكلام في الوسيلة الأولى، فالشيخ تكلم فيها رحمة الله عليه، فالمسلم والكافر يشتركان في أمورٍ، مثل: الشجاعة المعنوية المُرتبطة بقوة الإنسان في مواجهة المخاوف، ... إلى آخره، فقد يبدو أن المسلم والكافر يفعلان هذا الفعل بنفس المستوى، لكن المسلم عنده رصيد الإيمان، فالفارق هنا كما قال الله : إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، إذن الكافر يألم ويتألم كما يألم المسلم: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104] هنا فرقٌ؛ لأن الرجاء من أعمال القلوب، وقوة القلب، فالذي عنده هذه القضية المُفترض أن يكون ألمُه أخفَّ بلا شكٍّ، لكن الذي ليس عنده هذه القضية سيُشابه الكافر من حيث أنه بشرٌ، إنسانٌ، فسيتألم.
ولذلك تجدون بعض القيم عند الكفار كالأمانة أفضل من بعض المسلمين، نقول: "بعض"، انتبهوا، لا نُعمم، وتجد أحيانًا الصدق في التعامل مع بعض الكفار أحسن من بعض المسلمين، هذا موجودٌ.
فهذا لا يرتبط بأن الإنسان لديه قِيَمٌ، فقد يشترك المسلم والكافر في هذه القيم، لكن إذا جاء الإيمان عزَّز هذه القيم، كما جاء في الحديث: إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق[15]أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (20782)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1008)، وجاء في "كشف الخفاء": رواه … Continue reading.
يعني: هناك أخلاقٌ كانت موجودةً في الجاهلية رائعةٌ جدًّا، ... إلى آخره، وجاء النبي فتمم هذه الأخلاق في الإسلام، والله تعالى أعلم.
الفرق بين الخوف الإيجابي والخوف السلبي
س: ....................؟
ج: إذن هو خوفٌ طبيعيٌّ، والعلماء يُفرِّقون بين الخوف الطبيعي والخوف المرضي؛ فالخوف الطبيعي هو الخوف الذي يجعلك تتَّخذ الأسباب، وتحرص، وتدفع هذا الأمر، ... إلى آخره، ويزيدك قوةً بالتوكل على الله، هذا خوفٌ طبيعيٌّ، ومهمٌّ، ومطلوبٌ، هذا الموقف الصحيح منه.
وأيضًا تكلم الشيخ عن هذا، فلو رجعتَ إلى النقطة الأولى ستجد موقف المسلم والكافر من المخاوف.
لكن إذا كان خوفًا مرضيًّا سيُقعدني عن العمل، مثلما ذكرتُ قبل قليلٍ هؤلاء المُحبطين مثلًا، ويقول أحدهم: انتهى الأمر، ما في مجالٌ، المسلمون من الصعب أن يعودوا الآن، والدنيا أصبحت بيد الصليبيين، وبيد اليهود، وبيد الشيوعيين، وبيد المجوس، ... إلى آخره، هذا خوفٌ مرضيٌّ.
يعني: الإنسان لو كان في بيته، وحصل له ما يُسبب الخوف، واللص قريبٌ من بيته، فخوفه سيجعله يُفكِّر بطريقةٍ صحيحةٍ: كيف يستطيع أن يدفع سبب الخوف، ويدفع هذا اللص، وما شابه ذلك؟ لكن إذا كان خوفًا مرضيًّا ستجده ربما يُساعد اللص في مهمته، ويصرخ، و...، و... إلى آخره، وإذا جاء له اللص وقال: ما الذي في جيبك؟ أعطاه الذي في الجيب، والذي في الخزينة، وكل شيءٍ معه.
فهناك خوفُ طبيعيٌّ يُولِّد سلوكًا إيجابيًّا، وخوفٌ مرضيٌّ، ولا شكَّ أنه هو المقصود هنا في قضية ما يُسبب التَّعاسة، والضيق، والكدر، والهموم، والغموم.
هذا، والله تعالى أعلم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | أخرجه أحمد في "مسنده" (20430)، وحسنه الألباني في "التعليقات الحسان" (966). |
---|---|
↑2 | "القواعد والأصول" للشيخ ابن عثيمين (1/ 84). |
↑3 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑4 | أخرجه أحمد في "مسنده" (2097)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين. |
↑5 | أخرجه مسلم (132). |
↑6 | أخرجه البخاري (6033). |
↑7 | "تفسير عبدالرزاق" (2/ 302). |
↑8 | "شرح العقيدة الطحاوية" للأذرعي (ص31). |
↑9 | "شرح العقيدة الطحاوية" للأذرعي (ص31). |
↑10 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1638)، وقال الهيثمي: إسناده حسنٌ. انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (17706). |
↑11 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑12 | أخرجه أبو داود (1319)، وحسنه الألباني. |
↑13 | أخرجه مسلم (1763). |
↑14 | أخرجه مسلم (1469). |
↑15 | أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (20782)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1008)، وجاء في "كشف الخفاء": رواه مالكٌ في "الموطأ" بلاغًا عن النبي . وقال ابن عبدالبر: هو متَّصلٌ من وجوهٍ صحاحٍ عن أبي هريرة وغيره، ومنها: ما رواه أحمد والخرائطي في أول "المكارم" بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: إنما بُعثتُ لأُتمم صالح الأخلاق، ومنها: ما رواه الطبراني في "الأوسط" بسندٍ فيه عمر بن إبراهيم القرشي -وهو ضعيفٌ-، عن جابرٍ مرفوعًا بلفظ: إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الفِعال، لكن معناه صحيحٌ، ومنها: ما عزاه الديلمي لأحمد في "مسنده" عن معاذٍ، لكن قال في "المقاصد": وما رأيتُه فيه، والذي رأيتُه فيه: أبي هريرة . انظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 212). |