المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمدٍ من الله وتوفيقه- هو الدرس السادس من المجموعة العاشرة من سلسلة "التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة".
وما زلنا مع الرسالة النفيسة للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، جعلنا الله وإياكم من السُّعداء في الدنيا والآخرة، وأذهب الله عنا وعنكم وعن أحبابنا وعن المسلمين الكدر والضيق والأحزان والقلق والتوتر، اللهم آمين.
توجيه الشكر للإخوة المُنظِّمين لهذه الدروس
كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند قضية الذكر، وهو الوسيلة الخامسة.
وقبل أن ننسى: نُقدم الشكر لله ، ثم للإخوة المُنظِّمين لهذه الدروس، جزاهم الله عنا خيرًا، ووالله الذي لا إله إلا هو، إننا نقول: إنهم الأخفياء، ونحسبهم الأتقياء الأنقياء، الذين يعملون لخدمة الخير ونشره، حتى لو لم يكونوا هم المتحدثين، فجزاهم الله عنا خيرًا.
ثم أيضًا الشكر للأخ الكريم الذي لا أعرف مَن هو، فقد أتى بنسخٍ صغيرةٍ للكتاب في الأسبوع الماضي، ونسيتُ أن أشكره، وجزاؤه على الله تعالى، ولكن أيضًا من حقِّه أن أشكره، فجزاه الله عنا خيرًا.
وأيضًا أُكرر وأُؤكد على أهمية التسجيل من أجل التقييم في هذه الدورة التي خُصِّص لها خمسة آلاف ريال للإخوة والأخوات الحاضرين والمُتابعين لنا عبر (الإنترنت)، فمهمٌّ جدًّا أن يُرسلوا (للواتساب) حضورهم لكل درسٍ، ومَن فاته التسجيل في الدروس الماضية يمكن أن يُرسل، ويذكر رقم الدرس الذي حضره على أمانته، فهذا عنصرٌ أساسيٌّ في التقييم، مع الاختبار الذي سيكون في نهاية الدورة، بإذن الله .
أهمية الذكر
جاء في أهمية الذكر قول الله : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فالطمأنينة تكون بسبب ذكر الله ، ومَن أُلهم الذكر ووُفِّق إلى ذلك فهو على خيرٍ عظيمٍ.
وقد قرأنا نص كلام الشيخ السعدي، وتحدثنا عن بعض النماذج فيما يتعلق بقضية الذكر، وكلام النبي ، وبعض النماذج الواقعية.
كلام ابن القيم عن فوائد الذكر
هناك كلامٌ نفيسٌ للعلامة ابن القيم، هذا العالم الرباني المُربي الذي تخرج من مدرسة المُربي ابن تيمية -رحمهما الله تعالى-، فقد تكلم عن فوائد الذكر، وذكر قُرابة سبعين فائدة لذكر الله في كتابه النفيس "الوابل الصيب من الكلم الطيب".
وسأذكر بعض هذه الفوائد كرؤوس أقلامٍ، وقد يظهر من بعضها بشكلٍ مباشرٍ علاقته بقضية دفع الأوهام والهموم والغموم والأحزان والكدر والقلق والتوتر، وقد يظهر ذلك بطريقةٍ غير مباشرةٍ فيما يتعلق بالحصول على الحياة السعيدة.
يقول -رحمه الله-: "وفي الذكر أكثر من مئة فائدةٍ:
إحداها: أنه يطرد الشيطان، ويقمعه، ويكسره.
الثانية: أنه يُرضي الرحمن .
الثالثة: أنه يُزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
الخامسة: أنه يُقوي القلب والبدن.
السادسة: أنه يُنوِّر الوجه والقلب.
السابعة: أنه يجلب الرزق.
الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
التاسعة: أنه يُورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنَّجاة، وقد جعل الله لكل شيءٍ سببًا، وجعل سبب المحبة: دوام الذكر، فمَن أراد أن ينال محبة الله فليلهج بذكره، فإنه الدرس والمُذاكرة، كما أنه باب العلم، فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم"[1]"الوابل الصَّيب من الكلم الطيب" (ص41، 42)..
وأيضًا أنه "يُورثه المُراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان"، وكذلك "يُورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله "، و"يُورثه القُرب منه "، وكذلك "يفتح له بابًا عظيمًا من أبواب المعرفة".
وأيضًا "يُورثه الهيبة لربه وإجلاله"، وكذلك "يُورثه ذكر الله تعالى له"، يعني: أن الله يذكر هذا الذي يذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وكذلك "يُورث حياة القلب"، وذكر كلام شيخه ابن تيمية -قدَّس الله تعالى روحه- حيث يقول: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟".
ومن الفوائد أيضًا التي ذكرها: "قوت القلب والروح"، فيقول ابن القيم: "فإذا فقده العبدُ صار بمنزلة الجسد إذا حِيل بينه وبين قُوته"، أي: أن الذكر يُعطيه قوة القلب والروح.
يقول: "وحضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرةً صلَّى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ"، شيخ الإسلام التفت لتلميذه ابن القيم، "وقال: هذه غَدْوَتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا".
يقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية: "وقال لي مرةً: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وراحتها؛ لأستعدَّ بتلك الراحة لذكرٍ آخر، أو كلامًا هذا معناه"[2]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص42).، يعني: هو يتحدث الآن عن أثر الذكر على قوة القلب والروح، فهذه غدوة الأولياء والمُوفَّقين والمُقرَّبين، فتقوى قلوبهم وأرواحهم من خلال الذكر، كما نقل عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية.
وسيأتينا بعد قليلٍ أثر هذا الذكر على قوة البدن، وليس فقط على قوة الروح والقلب.
وذكر من فوائد الذكر أيضًا: "أنه يُورث جلاء القلب من صدأه"، وكذلك أنه "يحطُّ الخطايا ويُذهبها".
وذكر أيضًا أن من فوائده: "أنه يُزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى"[3]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص43)..
وعلى أية حالٍ، هو في كل فائدةٍ يذكر كلامًا، ويذكر أدلةً على حسب ما تيسر، ولكن نحن نضع هنا فقط العناوين.
ومن فوائده أيضًا: "أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرَّخاء عرفه الله في الشدة"، ونحن بأمس الحاجة إلى ذلك، بسبب الشدة التي تعيش فيها بعض النفوس؛ من الضيق والكدر والتَّعاسة، فحينما يكون الإنسان قد تعرف على الله في الرخاء سيعرفه في مثل هذه الأحوال.
ومن الفوائد أيضًا: "أنه منجاةٌ من عذاب الله تعالى"، وكذلك "أنه سبب نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة"[4]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص43)..
وأيضًا الذكر "سببٌ لانشغال اللسان عن الغيبة والنَّميمة والكذب والفُحش والباطل"، وقد أشرنا إلى ذلك في إحدى الوسائل السابقة فيما يتعلق بالمُزاحمة، فكلما كان اللسان رطبًا بذكر الله شُغِلَ هذا اللسان عن الأمور الأخرى التي لا تُرضي الله .
وكذلك "أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللَّغو مجالس الشياطين".
وأيضًا يقول: "إنه يُسعد الذاكر بذكره، ويسعد به جليسه، وهذا هو المُبارك أينما كان"، لاحظ أثر الذكر على الذاكر نفسيًّا، وأثر الذكر على مَن يجلس عند الذاكر كذلك نفسيًّا.
وذكر أيضًا: "أنه يُؤمِّن العبد من الحسرة يوم القيامة".
ومن الفوائد: "أنه مع البكاء في الخلوة يكون سببًا لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظلِّ عرشه".
وأيضًا "أن الاشتغال به -بالذكر- سببٌ لعطاء الله للذاكر أفضل مما يُعطي السائلين".
وكذلك "أنه أيسر العبادات"، فالذكر ماذا يُكلِّف؟
لا يُكلف شيئًا، كما يُكلف غيره، ومع ذلك -سبحان الله!- الغفلة فيه أكثر من الغفلة في غيره، مع أنه أيسر العبادات، وهو من أجلِّها وأفضلها.
وكذلك ذكر "أنه غِراس الجنة"، وذكر الأحاديث في ذلك.
وأيضًا "أن العطاء والفضل الذي رُتِّبَ عليه لم يُرتب على غيره من الأعمال"[5]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص45).، وذكر أحاديث وشواهد على ذلك كثيرةً.
ثم ذكر أيضًا: "أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يُوجب الأمان من النسيان الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده"[6]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص46)..
ولاحظوا: القضية هنا مُرتبطةٌ بالحياة السعيدة، فالذكر يُوجِب له الأمان والأمن النفسي، بعيدًا عن أسباب الشَّقاء، ونحن لماذا نحضر هذه الدورة ونشرح هذه الرسالة؟ حتى نعرف وسائل السعادة، ونطرد وسائل التَّعاسة والشقاء، كما قال الله : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19]، وذكر أمورًا أخرى عديدةً.
ونختم من كلامه النفيس -وهو طويلٌ جدًّا- الفائدة الثامنة والخمسين، حيث ذكر "أن ذكر الله من أكبر العون على طاعته، فإنه يُحببها إلى العبد، ويُسهلها عليه، ويُلذذها له"[7]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص76).، وهكذا قلنا في أول وسيلةٍ، والتي هي الإيمان والعمل الصالح، فالذكر يُعين؛ لذلك في حديثٍ عن عبدالله بن بسر : أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به، قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله[8]أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وصححه الألباني..
فالرجل جاء إلى النبي يقول: يا رسول الله، لقد كثُرت عليَّ شرائع الإيمان: من صلاةٍ، وزكاةٍ، وصيامٍ، ... إلى آخره، فدُلَّني على شيءٍ أتشبَّث به.
ولاحظ: هذا الصحابي لم يطلب التَّخفيف في العبادات، وإنما طلب شيئًا يتشبَّث به، ويتعلَّق به؛ حتى تكون له قوةٌ على طاعة الله تعالى، فقال له النبي : لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله.
وذكر ابن القيم -رحمه الله- أيضًا من فوائد الذكر: "أن ذكر الله يُسهل الصعب، ويُيَسِّر العسير، ويُخفف المشاق، فما ذُكِرَ الله على صعبٍ إلا هان، ولا على عسيرٍ إلا تيسر، ولا على مشقةٍ إلا خفَّت، ولا شدةٍ إلا زالت، ولا كُربةٍ إلا انفرجت، فَذِكْر الله تعالى هو الفرج بعد الشدة"[9]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص76، 77)..
وهذا عمق الكلام الذي نتكلم عنه حقيقةً فيما يتعلق بالحياة السعيدة، وطرد هذه المُنغصات في هذه الحياة.
ثم ذكر "أن ذكر الله يُذهب عن القلب مخاوفه كلها"، وقد ذكرنا المسارَّ والمكاره والمخاوف، وموقف المؤمن من المخاوف، فذكر الله عونٌ للعبد في إبعاد المخاوف، يقول: "وله تأثيرٌ عجيبٌ في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتدَّ خوفه أنفع من ذكر الله تعالى"[10]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص77)..
ثم ذكر أيضًا: "أن الذكر يُعطي الذاكر قوةً، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه، وقد شاهدتُ"، وهذه من الشواهد التي ذكرها ابن القيم، وهذا يدل على أهمية أثر المُربي على المُتربي، وأثر الأستاذ على تلميذه، وأثر الشيخ على تلميذه، وكان من أقرب الناس لشيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: "وقد شاهدتُ من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مِشيته"، يعني: كلامه هنا عن الجانب الحركي، "وإقدامه، وكتابته" أي: تأليفه "أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعةٍ وأكثر"[11]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص77)..
ويقول أيضًا: "وقد شاهد العسكر أصحاب الجهاد"، وهذا من قوته في الحرب "أمرًا عظيمًا".
وابن القيم يُفسر ما حصل لابن تيمية بسبب حرصه على ذكر الله، وذكرها في النقطة الحادية والستين التي هي "أن الذكر يُعطي الذاكر قوةً" حتى في الجانب البدني، واستدلَّ بواقعةٍ حصلت مع فاطمة وعليٍّ وطلبهما للخادم، فمرَّ رسول الله عليهما فقال: ألا أدلُّكما على خيرٍ مما سألتُما؟ إذا أخذتُما مضاجعكما -أو أويتُما إلى فراشكما- فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ[12]أخرجه البخاري (5361)، ومسلم (2727)..
هم يحتاجون الخادم لأعمال البيت، والرسول جعل البديل الذكر عند النوم، فهذا يدل على أن الذكر له أثرٌ على القوة البدنية، كما استدلَّ بمواقف شيخ الإسلام ابن تيمية في التأليف والمشي والجهاد، وهو يريد بذلك أن الذكر له أثرٌ على القوة البدنية، وكما قلنا قبل قليلٍ: أن له أيضًا أثرًا على قوة القلب والروح، لكن هنا يتحدث عن الأثر في القوة البدنية.
وقد ذكر ابن القيم نقاطًا كثيرةً، لكن نكتفي بهذا القدر من الشواهد التي فيها دلالةٌ على أثر الذكر على الحياة السعيدة.
دعونا نُكمل المشوار بالحديث عن الوسيلة السادسة.
الوسيلة السادسة: التَّحدث بنِعَم الله الظاهرة والباطنة
يقول الشيخ السعدي -رحمة الله عليه-: "وكذلك التحدث بنِعَم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتَّحدث بها يدفع الله به الهمَّ والغمَّ، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها، حتى ولو كان العبد في حالة فقرٍ، أو مرضٍ، أو غيرهما من أنواع البلايا، فإنه إذا قابل بين نِعَم الله" هذا الشاهد: "فإنه إذا قابل بين نِعَم الله عليه التي لا يُحصى لها عَدٌّ ولا حسابٌ"[13]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21).، يعني: الآن لو أمسكنا قلمًا وورقةً وجلسنا نُحصي نِعَم الله علينا، فبالله عليكم هل سيقف القلم لو أردنا أن نذكر نِعَم الله علينا بتجردٍ وكل ما مَنَّ به علينا؟!
"وبين ما أصابه من مكروهٍ، لم يكن للمكروه إلى النِّعَم نسبةٌ"[14]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21).، يعني: لو جعلنا نِعَم الله الظاهرة والباطنة في كِفَّةٍ -ويكفيك الجسد وما بداخله من النِّعَم- وجعلنا في المقابل الابتلاءات، يقول: لا تُساوي هذه الابتلاءات عند النِّعَم الظاهرة والباطنة شيئًا.
وهذا من الأمور التي ينبغي أن نُدرِّب أنفسنا عليها: عندما نعيش الهموم والغموم نقف لحظةً مع ذواتنا ونتذكر النِّعَم التي أنعم الله بها علينا ظاهرةً وباطنةً، ونتخيلها في كِفَّةٍ، ونضع تلك الأمور التي أتت لنا بالضيق والنَّكد والهمِّ في كِفَّةٍ، وننظر كم ستحتل تلك الأمور من نسبةٍ؟
لا شك أن هذا نظريًّا سهلٌ، لكن الكلام في الجانب العملي وتنفيذ هذه الوسائل، وهذا من توفيق الله للعبد، يعني: مثل الذِّكْر، فالذكر -كما قلنا- أسهل العبادات، لكن ممارسة هذه القضية هي المَحَك، وهذا يحتاج إلى دُرْبَةٍ وتربية الأجيال على الذكر، ويحتاج إلى تربية النفس والأجيال على الوقوف لحظة.
وأهل الاختصاص يتكلمون عن هذه اللحظة؛ بأن تقف النفس لحظةً حتى لا تتخذ قراراتٍ سيئةً، وربما تكون ثانيةٌ واحدةٌ كفيلةً بأن تدفع عنه شرورًا لو وقف فقط وتأمل، فكيف لو وقف وقارن بين نِعَم الله عليه الظاهرة والباطنة، وبين تلكم المكروهات التي لا تُساوي شيئًا عند تلكم النِّعَم؟!
يقول: "بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد" حتى لو وضعنا في الكفَّة الثانية المصائب والابتلاءات، فما تُساوي هذه؟
"وأدَّى فيها وظيفة الصبر والرِّضا والتسليم" يعني: هانت عليه، وقد تكلمنا عن ذلك في الوسيلة الثانية، "هانت وطأتها، وخفَّت مُؤنتها، وكان تأمل العبد لأجرها وثوابها والتَّعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا يدع الأشياء المُرَّة حلوةً، فتُنسيه حلاوةُ أجرها مرارةَ صبرها"[15]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21)..
يا سلام! ما أحسن هذا الكلام! كما قال أحد السلف: "مَن لاح له فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف"[16]"اللطائف" لابن الجوزي (ص21)..
وتأملوا الوصف العظيم: "لاح"، و"فجر الأجر"، ولاحظ: الفجر يأتي بعد الظلام، والظلام هنا كنايةٌ عن المشقة والهم والغم والضيق والنَّكد، ثم يأتيه فجرٌ، لكن أي فجرٍ؟
إنه فجر الأجر، فتهون عليه مشقة التكليف لما تصبو إليه النفوس من هذا الفجر الذي يكسب فيه عند الله أجورًا عظيمةً، رزقنا الله وإياكم ذلك.
الأسئلة
س: أحيانًا يكون فينا خوفٌ من الابتلاء أن يكون هذا عقابًا من الله؟
ج: على أي حالٍ، يا أخي الكريم، هذه فرصةٌ للمراجعة، لكن احذر من الشكوك، وتوظيف المواقف بطريقةٍ سلبيةٍ، فالله يُعطينا مجالًا ليكون فرصةً لنا في الخير والسعادة والطاعة، ونحن نجعلها شقاءً.
س: هل لا بد أن نرضى؟
ج: هو يقصد: قد يكون عقوبةً، فإذا كان عقوبةً فلتُراجع نفسك، وأنت أدرى بنفسك، ولا تقل: الله عاقبني وانتهى الأمر، أنا أستحق هذا العقاب، أنا الجاني. وتقف مكانك، فهل خرج هذا من الشَّقاء إلى السعادة؟!
فيحتاج الإنسان هنا إلى أن يستفيد، ويقف مع البلاء، فهذه القضية مهمةٌ جدًّا؛ لأن النفس التي يكون فيها الجانب الوسواسي والشَّكي تجعل الإنسان يغرق في النظر، وصاحب الشَّك والوسواس هل ينظر إلى الحاضر، أم الماضي، أم المستقبل؟
على ما ذكرناه في الوسيلة الرابعة: هو يخاف من المستقبل، ويدور في دائرة المستقبل، ولا يفعل شيئًا في الحاضر، ولا يستفيد منه، مثلما قال الأخ، كأنه تنبيهٌ، وهو تنبيهٌ فعلًا، فإن كان كذلك فلا إشكالَ أن يرى أنه عقوبةٌ بسبب تقصيره، لكن دعه يُفتش عن تقصيره، ويخرج من هذا التقصير.
أما أن يقف ويغرق في هذا الجانب، ويُولِّد له شقاءً، ويحصل عنده قنوطٌ، والقنوط في الشرع مُحرَّمٌ، كما قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، والله أعلم.
الموازنة بين النِّعَم والنِّقَم
أيضًا أخي الكريم فكِّر بالنِّعَم المُقابلة، فكلما جاءتك مصيبةٌ وضائقةٌ لا تقف عندها وتسترسل، فمُشكلتنا في الاسترسال، فأهل التَّعاسة والشَّقاء والضيق يسترسل أحدهم في همومه وغمومه، والمطلوب أن تُفكر في النِّعَم المقابلة لها، فإذا كانت عندك مشكلةٌ في المرض، فالنعمة المقابلة له هي الصحة في الأمور الأخرى؛ فقد تكون أنت في صحةٍ بنسبة 95% والحمد لله، بل أكثر من ذلك، فضع البلاء في مقابله، مع أنه ليس المقصود هنا النِّعَم الظاهرة والباطنة في مقابل الهموم فقط، بل أمام الظاهرة والباطنة وكل ما أعطاك الله .
وإذا كان البلاء في المال، فانظر للنِّعَم التي أعطاك الله إياها في جانب المال، وهكذا دواليك، فهذه ستُعطيك مجالًا أكبر في مُعالجة الهموم والغموم، حتى في التعامل الأكاديمي والمدرسي ... إلى آخره.
يقولون: في الدافعية صفة المرونة، بمعنى: أنه إذا لم يُحقق الإنجاز بوسيلةٍ معينةٍ يمكن أن يُحققه بوسيلةٍ أخرى، ما يلزم أن يكون في الدراسة، قد يكون في التجارة، ويمكن أن يتفوق في الجانب التقني والمهني، ويمكن أن يتفوق في العلاقات الاجتماعية، فتحقيق الإنجاز لا يُشترط أن يكون بطريقةٍ معينةٍ.
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ومجتمعنا لا تزال ثقافته تتمثل في: أن الإنجاز والنجاح مُتعلقٌ بالدنيا، ومُرتبطٌ بالجانب الدراسي، وأيضًا في مستواه الخاص الذي هو الجانب الأكاديمي والبحث، حتى إنه ينظر للدراسات التقنية والمهنية على أنها وضيعةٌ لا قيمةَ لها، وهذا خطأٌ كبيرٌ في النظر.
وأذكر أنني كنتُ أُطبق في برنامجٍ في مدرسةٍ ثانويةٍ في الرياض، وقالوا لي: إن الصف الثاني الثانوي مُشاكسون وأصحاب مشاكل، وأرادوا أن نُطبق عليهم البرنامج المُتعلق بأنماط الشخصية، فطبَّقته عليهم، وهو عبارةٌ عن مقياسٍ لنظرية (هولاند) العالمية في أنماط الشخصية، وأدركتُ السبب تمامًا في فشل هؤلاء، وهو: أن أكثر الموجودين لا يصلح أن يكون في مقاعد الدراسة التعليمية الموجودة في الثانوية العامَّة، وإنما يُناسب أن يكونوا في الجانب التقني والثانوية التقنية أو المهنية، فهذا مجالهم.
الوسيلة السابعة: النظر إلى مَن هو أسفل منا
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: "ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع" أي: ما يتعلق بـ"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة": "استعمال ما أرشد إليه النبي في الحديث الصحيح، حيث قال: انظروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم رواه البخاري ومسلم[17]أخرجه مسلم (2963)، ولم أجده في البخاري.، فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل رآه يفوق جمعًا كثيرًا من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال"[18]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21، 22).، سيجد مئات وآلاف وملايين هو أفضل منهم في العافية، وحتى في الرزق، ولو كان يرى أنه بسيطٌ، لكن هناك أناسٌ أكثر منه بلاءً؛ فتهون عليه الأمور، كما قال رسول الله : فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم.
"وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال؛ فيزول قلقه"، ولماذا تقلق وأنت أحسن من غيرك في كثيرٍ من الأمور؟
تقلق لأنك مشغولٌ بمقارنة نفسك مع مَن هو أعلى منك، والمفترض أن تُقارن نفسك مع مَن هو أعلى منك في أمور الدين والتَّقرب إلى الله والعبادات؛ لأنه مطلوبٌ منك أن تقتدي هنا حتى تكون أفضل، لكن في أمور الدنيا وأمور النِّعَم والرزق لا تنظر لمَن هو أعلى منك: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ [الحجر:88]؛ لأن هذا سيُتعبك، والنفوس البشرية تتعب، وقد يستلف الإنسان ويستدين من أجل أن يكون مثل فلانٍ وفلانٍ، ولا تنتهي الدنيا بحالٍ من الأحوال، لكن حين ينظر لمَن هو أسفل منه يرتاح، خاصةً عند وقوع المصيبة، وما أكثر المصائب اليوم ومُفاجآتها!
"فيزول همه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه"، فيقول الإنسان: الحمد لله، أنا أحسن من غيري "بنِعَم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها، وكلما طال تأمل العبدُ بنِعَم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيرًا كثيرًا، ودفع عنه شرورًا متعددةً، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويُوجب الفرح والسرور"[19]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص22)..
وهذا يحتاج إلى توفيقٍ من الله، وعلاقةٍ بالله قويةٍ، والوقوف مع النفس، ونحن نجاهد النفس جزمًا في بعض الأمور، لكن هل نُحاسبها ونُجاهدها في مثل هذه المواقف؟ وهذه هي الجدارة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
لذلك يا أحبابي لا بد أن نستحضر هذا الميزان النبوي في تربية ذواتنا وعيشتنا في الحياة، وفي تربية أجيالنا، فهو الميزان الحقيقي في النجاح والسعادة، وهو ميزان محمدٍ ، كما جاء في هذا الحديث: انظروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم[20]أخرجه مسلم (2963)..
وتحصل المشكلة إذا حصل انعكاسٌ لهذه الموازين، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا حصلت انتكاسةٌ في الاهتمامات، فالذي همُّه الآخرة وإرضاء الله سيُدرك هذه الحقيقة تمامًا؛ فيُقدِّم هذه النظرة النبوية والميزان النبوي الشريف الجميل في هدوء النفس البشرية: بأن ينظر إلى مَن هو دونه فيحمد الله، لكن إذا كانت اهتماماته دنيويةً ستنعكس على الميزان الذي يتعامل به؛ فسيكون ميزانه عكس ميزان محمدٍ ، فتجده يهتم بقضايا الدنيا، وعندئذٍ لا يشبع، ويقلق.
وذكرنا أن مَن لا يشكر الله على المحابِّ، ولا يأخذها بالإيمان بالله ، وإسنادها شكرًا لله، وإعمالها في الطاعة؛ فإنه يخاف أن تفوته.
وقد حدَّثني أناسٌ ممن وفَّقهم الله إلى نِعَمٍ في هذه الدنيا: أنه لا ينام إلا قليلًا، وعنده همومٌ وغمومٌ، فقلت له: لماذا الهموم والغموم وأنت عندك خيرٌ كثيرٌ؟! فقال أنه يخاف على ذهابها في المستقبل! وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا؛ ولذلك الميزان عنده مُضطربٌ ومُتوترٌ، وليس ميزانًا مُنضبطًا بطريقة النبي ، كما جاء في هذا الحديث الشريف.
الوسيلة الثامنة: السعي في إزالة أسباب الهموم
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: "ومن الأسباب المُوجبة للسرور وزوال الهم والغم: السعي ..."، ولاحظ هنا كلمة "السعي"، إذن هنا بذلٌ ومُجاهدةٌ واهتمامٌ، يعني: الأمر يحتاج إلى عملٍ.
ويأتينا البعض في الاستشارات الهاتفية، أو عبر (الواتس)، أو عبر وسائل التواصل، أو ما شابه ذلك؛ ويريد حلًّا سحريًّا خالٍ من التعب وبذل الجُهد، وهذا لا يصلح، فنحن نتعب في أمور الدنيا: الوظيفة والعمل، وكسب المال، وبناء البيت، ونتعب في كذا، فلماذا نأتي لهذه القضايا ونريد حلًّا سحريًّا جاهزًا؟!
فالإنسان يحتاج إلى أن يُجاهد نفسه.
وتأملوا كلام الشيخ، حيث يقول: "السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور"[21]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23).، ولا تتحقق قاعدة السعادة والحياة الطيبة إلا بهذين الأمرين، هذا نظريًّا، وتكلمنا عنهما من قبل، لكن نُؤكد عليهما هنا، فينبغي أن تبحث عن أسباب الهموم بالنسبة لوضعك الحالي، وسجل ذلك في نقاطٍ، ما المطلوب مني فيها: إزالتها، أم إيقافها، أم التخفيف منها؟
وابحث عن الأسباب الجالبة للسرور في قضيتك التي أنت فيها، وسجل ذلك في نقاطٍ أيضًا، ما المطلوب منك: تحقيقها كلها، أو تكثيرها على أقل تقديرٍ؟
إذن هنا توجد مجاهدةٌ، وقاعدةٌ جميلةٌ هي: التخلية والتحلية، فإذا كنتَ تُنَغِّص على نفسك بجلوسك مع أناسٍ مُثَبِّطين يجلبون لك الهموم، فابتعد عنهم، وسينتهي القلق، وإذا كنتَ تُتابع أشياء فيها ضيقٌ وقلقٌ، فلا تُتابعها.
والشيخ محمد العريفي كان موجودًا قبل أمس، والتقيتُ به، فكان يتكلم مع بعض الإخوة في اللقاء ويقول: أنا لي أربع سنواتٍ أو ثلاث سنواتٍ ونصف ما رأيتُ مقاطع دماء وقتل وأشلاء، ... إلى آخره. يقول: لأن من طبيعتي أنني أتعب إذا رأيتُ مثل هذه المقاطع، فصرتُ لا أرى شيئًا من ذلك.
فمَن عرف من نفسه أنه لا يستطيع أن يتحمل هذه القضية، وأنها مصدر إزعاجٍ بالنسبة له؛ فليبتعد عن هذا المصدر.
ما دمتَ لا تُوطِّن نفسك على ذلك، ولن تستطيع أن تتمالك نفسك، وستشغلك هذه المناظر -كما يقول الشيخ- عن التأليف والخطبة والمحاضرة والدرس؛ فأنت أدرى بنفسك، وهنا كان الشيخ رجلًا عارفًا بنفسه، ويعرف كيف يتعامل معها بطريقةٍ سليمةٍ؟
إذن أي سببٍ من أسباب جلب الهموم علينا أن نُزيله، وأي سببٍ من أسباب جلب السرور نأتي به، ويمكن أن تذهب إلى مَن تستشيره، مثلما كان ابن القيم يفعل.
وأنا أدعوكم إلى دراسة سيرة ابن القيم وابن تيمية، المُربي مع المُتربي، وكلاهما عَلَمان، وهناك رسائل علميةٌ في (الماجستير) و(الدكتوراة) عن الفكر التربوي لابن القيم وابن تيمية للدكتور حسن حجاجي، وفَّقه الله.
المقصود أن ابن القيم حينما كان يتحدث بهذا الكلام عن شيخه ابن تيمية كان ابن تيمية في السجن، فقد أُوذي كثيرًا، فكان يُسجن كثيرًا، ومات -رحمه الله- في السجن!
يقول ابن القيم: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطُمأنينةً"[22]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48).، هو الآن سببٌ للسرور أو للتَّعاسة؟ للسرور، مع أنه في السجن، وفي المأساة، لكنه رجلٌ كما قال -رحمه الله-: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبُستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي، لا تُفارقني، إنَّ حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ"[23]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48)..
يقول أحد الكتاب: فما ترك شيخ الإسلام ابن تيمية لأعدائه فرصةً عليه. يعني: سكَّر عليهم الأبواب كلها، فقال: "أنا سجني خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، ونفي سياحةٌ"، يعني: افعلوا بي ما تفعلون.
إذن نحن نحتاج إلى الوسائل التي تُساعدنا على جلب السرور؛ بأن نلتجئ إليها، ونُجاهد أنفسنا بها، والأشياء التي تجلب لنا الغموم نبتعد عنها.
يقول الشيخ: "وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يُمكنه ردّها"، وقلنا: إن الماضي نُغلقه، فالاسترسال فيه صعبٌ، ويُسبب المشاكل: "ومعرفته أن اشتغال فكره فيها -أي: في المكاره- من باب العبث والمُحال، وأن ذلك حمقٌ وجنونٌ، فيُجاهد قلبه عن التَّفكر فيها، وكذلك يُجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله"، وقلنا أيضًا: لا يفتح باب المستقبل، ويشغل ذهنه بالمستقبل، وإنما يعيش اللحظة الحاضرة.
"وكذلك يُجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله مما يتوهمه من فقرٍ"[24]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23).، فيتذكر الأزمة المالية؛ فيبدأ يُفْقِر نفسه قبل أن يفتقر، وبعضهم يُمرِض نفسه.
وأنا أعرف بعض الشخصيات التي يمكن أن تصفها من الناحية العلمية بأنها شخصياتٌ قَلِقَةٌ، تقول له: كيف أخبارك؟ فيقول: والله يا أخي أمورنا ليست مضبوطةً، وفحوصات، وكذا! وتسأله: ماذا فيك؟ فيقول: والله تعبتُ قليلًا. طيب، كلنا نتعب يا أخي! فتجد عنده اللغة السائدة دائمًا: لغة القلق والخوف، فلا يوجد عنده رضا وسعادةٌ.
تَوَهُّم المرض
عندنا في تخصص علم النفس شيءٌ يُسمونه: توهم المرض، يعني: مرضه نفسي، فهو يتوهم أنه مريضٌ، حتى كان أحد القُرَّاء المُتمرِّسين في قراءة الرقية يقول: نسبة الذين كانوا يأتوننا -من الحالات التي مرَّت عليه عبر سنواتٍ- 95% ما له علاقةٌ بجنٍّ، ولا مَسٍّ، ولا عينٍ، ولا غير ذلك، وإنما عبارةٌ عن توهمٍ فقط.
يقول: في مرةٍ من المرات جاءنا واحدٌ لا تتحرك يداه، ولا رجلاه، ورفعناه من السيارة رفعًا، وهو في باله أن فيه جنًّا، وأهله يقولون: تعالَ يا شيخ اقرأ عليه، أخرج منه الجنيَّ ... إلى آخره.
ونحن نقول: الجن حقٌّ، والمَسُّ حقٌّ، والعين حقٌّ؛ لأن عندنا من أصحاب علم النفس مَن يُنكرون هذه القضايا، ونحن لا نُنكرها، لكن نتكلم عن التشخيص الحقيقي هنا، فماذا يقول؟
يقول: فقرأتُ عليه، فلم أجد به شيئًا، فلما تفحصتُ أكثر إذا به سمع شريطًا مُسجلًا لشيخٍ يقرأ على رجلٍ به جنٌّ، وبدأ الجن يتكلم مع الشيخ، فشعر هذا أن هذا الجن فيه؛ فتوقفت أعضاؤه، وهذا معروفٌ عندنا في التخصص، فقد تتوقف عندك الأعضاء للحظاتٍ، ولا تمشي، ولا تتحرك، والجسم جيدٌ، وهذه تُسمَّى: هستيرية حركية، فتنشلُّ الأعضاء بسبب الجانب النفسي والتوهمي، فهذا جعله لا يمشي، تقول له: امشِ، فلا يقدر أن يمشي، وما فيه شيءٌ، ولو كشفوا عليه وأجروا تحاليل لن يجدوا شيئًا أبدًا، إنما الخوف يُقعد ويُمرض ويفعل كل شيءٍ، إذن هنا أَغْلِق باب القلق.
"وكذلك يُجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله مما يتوهمه من فقرٍ، أو خوفٍ، أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته، فيعلم أن الأمور المُستقبلة مجهولٌ ما يقع فيها من خيرٍ وشرٍّ، وآمالٍ وآلامٍ، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيءٌ إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضرَّاتها"[25]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23).، وهذا المطلوب شرعًا، فأنت عليك أن تسعى، فإذا لم تحصل على شيءٍ فهذه إرادة الله ، وادفع الشرَّ الذي ربما يأتي في المستقبل، وحاول أن تدفع ما كتب الله، فإذا لم يندفع فهذا أمر الله، انتهينا، قم بالأسباب بغض النظر: هل تحصل النتائج، أو لا تحصل؟ لأن النتائج بيد الله .
"ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتَّكل على ربه في إصلاحه، واطمأنَّ إليه في ذلك؛ إذا فعل ذلك اطمأن قلبه، وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه"[26]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23)..
الأسئلة
لعلنا نستفيد من باقي الدقائق في الأسئلة، فمَن يريد أن يسأل في هذا أو في غيره فليتفضل.
س: يقول: يوجد خطأٌ في الكتيب الصغير في آيةٍ؟
ج: ما هي الآية يا شيخ؟ فأنا لم أُراجع الكتاب، ولم أقرأه، جزاك الله خيرًا.
س: هي قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [النحل:97]، سقطت كلمة "أجرهم".
ج: هذا صحيحٌ، جزاك الله خيرًا يا شيخ، والإخوة الذين معهم كُتيبٌ، في صفحة (5) كلمة "أجرهم" سقطت، بارك الله فيكم على هذا التنبيه.
س: هل يعني ألا نُذَكِّر أحدًا بماضيه؟
ج: لا بد ألا نشغله في الماضي، أنت يضيق صدرك، ويضيق صدره، لكن لو كان الماضي بالنسبة له مُشرقًا، قل له: ما شاء الله عليك! كنتَ من قبل جيدًا، فأين وصلتَ الآن؟ فالماضي هنا استرجعناه بطريقةٍ إيجابيةٍ، لا إشكاليةَ عندنا في هذا.
لكن المشكلة في استرجاع الماضي والاسترسال فيه، وهو أصلًا مصدر إزعاجٍ، فهذه هي المشكلة.
يا أخي، انتهى الماضي، فلا نفتح على أنفسنا بابًا للتَّألم، لكن ليس معنى ذلك أني سأُغلقه 100%، ولا أستفيد منه، فإذا جاءت الفائدة فحيهلا.
س: المُقارنة السلبية والإيجابية؟
ج: والله هم يحذرون من المُقارنات، خاصةً بين الأقران، ولا أذكر كلام العلماء في هذا الأمر الآن؛ لذلك على الإنسان أن يحاول الابتعاد عن اتِّخاذ المُقارنة وسيلةً لتعديل السلوك والتوجيه، فلا يقل: انظر إلى أخيك وزميلك ماذا فعل؟
فأنت أيها المُربي ماذا تريد؟
هل تريد أن يكتسب المُتربي مهارةً، وتريد أن تُؤثر فيه؟
فانظر إلى وسائل أخرى غير هذه الوسيلة، فهذه الوسيلة قد تُؤثر سلبًا؛ لأن طبيعة النفس البشرية أنها تُحب أن يكون لها كيانها وقيمتها وقدرها، وقد يشعر في هذا أنه عبارةٌ عن هضمٍ لحقِّه، وهضمٍ لكرامته، والنفس البشرية لا تُحب هذا.
س: ما حكم العدل بين الأبناء؟
ج: إذا كانت هناك دواعٍ، بمعنى: مصلحة واضحة، وراجحة، والمصلحة بينةٌ ومناسبةٌ، ويكون لها أثرٌ في قضية الأُعطيات والهبات وما يتعلق بها؛ فلا مانع.
والأصل العدل، لكن لو كان ابنٌ يحتاج إلى أن أُعطيه أكثر من غيره لمُبررٍ شرعيٍّ، فالعلماء تكلَّموا في هذه القضية، وهنا جاءت مصلحةٌ واضحةٌ وظاهرةٌ.
والمقارنة بين الأبناء إذا كانت لن تُؤثر، وعندي علمٌ أن ولدي هذا إذا قارنت بينه وبين الولد الثاني يتحرك أكثر؛ فلا مانع من المقارنة، إذا كان ولدي يزيده هذا عطاءً وإنتاجًا وتقدمًا فلا إشكالية في هذا، فالكلام -يا جماعة- في أمورٍ معينةٍ اجتهاديةٍ، وليست قطعيةً، وإنما يكون النظر في المصلحة وما يترتب عليها.
وهدفنا أن نبني الإنسان، ونُعدل سلوكه إيجابيًّا، وأن يكسب شيئًا إيجابيًّا: يُعزَّز الشيء الإيجابي، ويُعدَّل الشيء السلبي الذي عنده، فهذا أسلوبٌ مشروعٌ ومباحٌ، وله نفعٌ، بشرطين: مباحٌ، وله نفعٌ؛ فالمباح يُخرج كل المُحرَّمات، فأي وسيلةٍ مُحرَّمةٍ ابتعد عنها، وحين نقول: نافعة، أي: تجلب الفائدة والنتيجة، وإذا لم تكن فيها فائدةٌ فلا تدخل فيها، فإن كانت مباحةً ونافعةً فلك أن تستخدمها.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "الوابل الصَّيب من الكلم الطيب" (ص41، 42). |
---|---|
↑2 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص42). |
↑3 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص43). |
↑4 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص43). |
↑5 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص45). |
↑6 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص46). |
↑7 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص76). |
↑8 | أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وصححه الألباني. |
↑9 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص76، 77). |
↑10 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص77). |
↑11 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص77). |
↑12 | أخرجه البخاري (5361)، ومسلم (2727). |
↑13 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21). |
↑14 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21). |
↑15 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21). |
↑16 | "اللطائف" لابن الجوزي (ص21). |
↑17 | أخرجه مسلم (2963)، ولم أجده في البخاري. |
↑18 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص21، 22). |
↑19 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص22). |
↑20 | أخرجه مسلم (2963). |
↑21 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23). |
↑22 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑23 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑24 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23). |
↑25 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23). |
↑26 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص23). |