المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بعونٍ من الله وتوفيقه- هو الدرس الثاني عشر من المجموعة العاشرة من سلسلة "تطبيقات نفسية وتربوية من الكتاب والسنة".
ونحن في هذه المجموعة العاشرة ندرس كتاب: "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" للعلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر سعدي رحمه الله، وسنختم هذه الرسالة -بإذن الله - في هذا اللقاء، وجميع الدروس تجدونها -إن شاء الله تعالى- في قناة (اليوتيوب) الخاصة، وسيكون -بإذن الواحد الأحد- الاختبار للمنافسة في الأسبوع القادم.
ونطلب من الإخوة والأخوات الذين يرغبون في الدخول في المنافسة -حسبما سبق وأُعلن في بداية الدرس- الحضور في الأسبوع القادم في نفس الموعد -بإذن الله -، ومهم جدًّا أن تكون هناك قراءة للكتاب كاملًا، وستُعطون الأسئلة بشكل شفهي، وستوزع عليكم أوراق أو تأتون بأوراق احتياطًا وتكتبون إجاباتكم فيها، ولن نطيل في الأسئلة -بإذن الله -، وستكون شاملةً، وربما نُعطيكم بعض التطبيقات المعينة في حالات معينة لنرى كيف تستطيعون معالجتها من خلال الوسائل المذكورة كجانب تطبيقي مثلًا.
وفي الأسبوع بعد القادم -بإذن الله - تصلكم رسالة بالموعد الذي يُحدده الإخوة في الجامع هنا لعرض النتائج وتوزيع شهادات الحضور، وبالنسبة للمراكز الأولى ستكون جوائزها خمسة آلاف ريال، ونسأل الله العون والتوفيق.
ولا شك أن الفائدة والنفع هما ما نرجوه لأنفسنا، فرفع الجهل عن النفس وعن الآخرين هو المقصد الأساسي في العلم، بل قال العلماء بأن هذا هو حقيقة إخلاص الإنسان لربه في العلم.
وسيكون التقييم بناء على الاختبار وعلى الحضور، ومَن كان له ظرف معين في قضية الحضور فلا إشكال في سماعه الدروس تعويضًا عن ذلك، فيسمع ثم يرسل رسالة (واتس) للأخ عبدالعزيز سنكر للإفادة بأنه قد تمت متابعة الحلقة بشكل تعويضي؛ ليُحسب له، إن شاء الله.
فالمقصود ليس هو الحضور الجسدي، إنما الاستفادة بما طُرح في تلك الحلقة، أو في ذلك الدرس، فلا مانع من التعويض لمن أحبّ، وسنترك التقييم -يعني: كم للاختبار وكم للحضور- إلى حِينه -إن شاء الله تعالى- كنسبة وتناسب، بإذن الله .
فهذا جانب تحفيزي، ليس هو المقصد الأساسي، نسأل الله العون والتوفيق والسداد، والحمد لله.
ولقاءاتنا في الفصل القادم -وهي المجموعة الحادية عشرة- حسب الدراسة مع الشيخ طارق -إمام الجامع- ستكون -بإذن الله - اختيار سورتين من كتاب الله ، وهما: سورة الحجرات، وسورة التحريم، وسنتناول دروسًا من تفسير العلَّامة الشيخ ابن سعدي لهاتين السورتين من الناحية التربوية والنفسية، لسورتي الحجرات والتحريم -بإذن الله -، وستنزل إعلانات بهذا الأمر، وستكون هناك منافسة -بإذن الله- وجوائز مادية لمَن يرغب أن يدخل في هذه المنافسة.
وصلنا إلى صفحة (27) عند النقطة الثامنة عشرة، وذكرنا أن هذه النقطة ليست نقطةً واحدةً، وإنما ثلاث نقاط، فهي الآن واحد وعشرون وسيلة، فيكون مجموع الوسائل ثلاثًا وعشرين وسيلة في الكتاب، وليست واحدًا وعشرين.
ونكمل الثلاث المتبقية، ثم نُراجع بشكل شامل، ومن أحب أن يسأل أو يُعلق أو يُشارك فله ذلك، أو الأسئلة المتعلقة بالكتاب، أو الموضوع، أو أسئلة تربوية أو نفسية عامَّة، لا يلزم أن تكون خاصةً بالكتاب.
فنقول -وبالله التوفيق-: قال الشيخ رحمه الله: "اجعل الأمور النافعة نصب عينيك، واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضَّارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن، واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة".
وهذه وسيلة مهمة جدًّا، فهي تهتم بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا بما يُسمّى بالضبط الذاتي (Self Control)، وتركز على حاجة الإنسان إلى الإرادة وتقوية الجانب الذاتي عنده؛ لأنه في النهاية الذي سيجمع هذه الأمور النافعة وسيرصدها مَن؟
الشخص نفسه هو الذي سيرصدها، ومَن الذي سيدفع الأمور الضَّارة التي تجلب الهم والغم؟
كذلك هو الشخص نفسه، وهذه مشكلة، فالقضايا التي نعاني منها كثيرًا هي قضايا الصحة النفسية، وقضايا السعادة النفسية، وقضايا المشكلات وما يتعلق بالاضطراب، وهو يرتبط بأن الإنسان ربما يكون في مجلسٍ عامٍّ أو لقاءٍ عامٍّ -مثل هذا اللقاء- فيشعر براحةٍ وسعادةٍ، أو يحضر خطبة فيشعر براحة وسعادة، أو يخرج مع ناسٍ أخيار فيشعر براحة وسعادة، لكنه حين يكون وحده تُصبح القضية صعبة من جهة السبب في ذلك، وهو العامل الخارجي الإيجابي المؤثر فيه.
والمفترض أن يُفَعِّل الإنسانُ العامل الداخلي، وهذه قضية مهمة جدًّا فيما يتعلق ببناء الإنسان وتعديل سلوكه، وهو تفعيل الإرادة الذاتية بالنسبة للإنسان.
والواحد منا أعلم بالأشياء التي تنفعه، والأشياء التي تضره، ويعلم الأشياء التي تسرّه، ويعلم الأشياء التي تأتي له بهم، فلو أخذ ورقةً وقام بكتابة النقاط التي تُزعجه، والنقاط التي تُفرحه، سيجد أن عنده نقاطًا كثيرةً وعديدةً، وهو أدرى بنفسه؛ ولذلك مهم جدًّا للإنسان أن يرصد مصادر السعادة بالنسبة له، ويرصد مصادر التعاسة.
ولا شك أن هذا الكلام في إطار الشريعة، في إطار مرضاة الله ، ولا تكون السعادة مثلًا في حرامٍ، والشقاء في واجبٍ -والعياذ بالله-، هذا أمر غير طبيعي، أمر ليس مقصودًا هنا أبدًا بلا شك؛ ولذلك ينبغي العناية بهذا الأمر، وأن يجعل الأمور النافعة نصب عينيه، يعني: لو أن واحدًا منا سأل نفسه: ماذا سيفعل غدًا من الأمور النافعة؟ أو ماذا سيفعل الليلة بعد هذا الدرس؟
نقول: صلاة العشاء واجبة، ومجيء المسجد فضله عظيم، فماذا سيفعل الليلة؟ وماذا سيفعل غدًا؟ ما الأمور النافعة التي سيفعلها؟ وما الأمور التي تجلب له الهم والغم ليتركها؟
بعضنا يدرك هذه القضايا، فأنا أعرف بعض الناس في أمور عادية مثل: أخبار إخواننا في حلب، أسأل الله أن يلطف بهم، وينصر إخواننا هنا وهناك في الموصل، فبعض الناس يقول: أنا ما أستطيع أن أتحمل رؤية هذه القضايا. أعرف عددًا من الأشخاص لا يتابع هذه القضايا، فهو الآن عرف أن هذا مصدر إزعاج، وهو ممتاز، لكن لا تُقصي نفسك من الواجب تجاه إخوانك، فلا ينبغي أن تكون بهذا المستوى: أنك لا تستطيع ولا تتحمل أن تسمع الشيء الذي ينبغي أن تسمعه أصلًا.
فلذلك يحتاج الإنسان أن يعرف هذا الشيء، يعني: هموم وغموم المعصية، فكل واحدٍ أدرى بنفسه، ويعرف أن إطلاق النظر في الحرام هو مدعاة إلى الهم والغم.
وقد ذكرتُ قصةً لا أنساها لأحد الأشخاص أراد أن يتزوج بثانيةٍ، وزهد في الأولى، فقلت له: أنت لم ترَ الأولى؟ قال: رأيتها. لكن لأنه كان مدمن النظر في هذه الشاشة في الحرام الشرعي، وليس الذوقي كما يتبادر للبعض، فهناك أُناس عندهم الحرام هو الإباحية الجنسية فقط، لكن رؤية امرأة كاشفة في الأخبار يجوز!
والله سبحانه لم يُفرّق بين هذا وذاك، الله حمانا فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]؛ فلذلك قلت له: يبدو أنك زهدتَ بأهلك بسبب نظرك للحرام. فطأطأ رأسه وأقرّ بهذا، وهذا من رحمة الله بنا حين يعصمنا؛ لأنه يصبح بحالةٍ من الهم، فهو يُقارن هذه بزوجته، ويقارن تلك بزوجته، فيدخل في متاهةٍ، مثل: صاحب الدنيا الذي لا يشبع، فهناك اثنان لا يشبعان: منهم صاحب الدنيا، صاحب المال، فهو يرى غيره لديه أموال أكثر من التي عنده، فيتمنى أن يكون مثله.
وذكرنا في وسيلة سابقة: أنه يجب النظر إلى مَن هو أسفل منه في أمور الدنيا، وفي أمور النِّعَم؛ لأن ذلك كما قال : انظروا إلى مَن أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم، فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم[1]أخرجه مسلم (2963)..
أحسنتم؛ فلذلك سيقتنع بأن الذي هو عليه خيرٌ والحمد لله رب العالمين؛ ولذلك الله قال: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ .. [الحجر:88]، فالذي ينظر يمينًا ويسارًا في هذه القضايا سيتعب ويشقى، ويا ليتنا ننظر في أمور الآخرة، فهذا الذي وصل -ما شاء الله- حمامة المسجد دائمًا، والذي يختم القرآن في كل شهرٍ أو أقلّ من ذلك، والذي هو من أهل الخير والصيام، يا ليتنا نفزع إلى مثل هؤلاء حتى نصبح مثلهم، هذه قضية مهمة.
إذن النقطة المهمة هنا أن ترصد الأمور النافعة لك فتفعلها، وترصد الأمور الضَّارة لك فتتجنبها، ولا أحد يقول: أنا لا أعرف إلا الشيء المفاجئ، خاصةً إذا كان مفاجئًا وأتى لك بالسعادة، والله يرضى عنك والحمد لله، كمّل مشوارك فيه، وإذا كان شيئًا ضارًّا، ويجلب لك الشقاء، والله لا يرضى عنه فاتركه حتى لو كان مباحًا؛ لضرره، كذلك إذا كان مصدر شقاء وتعاسة.
فطلب الراحة النفسية والطمأنينة قضية مهمة جدًّا، وهي هدف كل شخص في العالم، فكل واحد من الجنس البشري يريد أن يُحقق السعادة، والمشكلة ليست في الهدف، المشكلة في حقيقة الهدف ووسائل الوصول لهذا الهدف، هذه المشكلة: حقيقة الهدف، ثم كيف أصل إلى هذه السعادة؟
هذه القضية التي يفترق فيها الناس بناءً على أديانهم وثقافاتهم واهتماماتهم، .. إلخ.
حسم الأعمال في الحال
يقول الشيخ رحمه الله: "ومن الأمور النافعة: حسم الأعمال في الحال، والتفرغ في المستقبل؛ لأن الأعمال إذا لم تُحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة، فتشتد وطأتها، فإذا حسمتَ كل شيءٍ بوقته أتيت الأمور المستقبلة بقوة تفكيرٍ وقوة عملٍ".
هذه يذكرونها في الجانب الإداري، يعني: أنت يمكن أن تفرق بين شخصيتين: تدخل على مديرٍ وتجد الأوراق مُجتمعةً وكثيرةً وكذا، تدخل في أول الصباح، وفي نصف الدوام، وآخر الدوام، والأوراق هي هي، فهذا في الغالب يعطيك مؤشر أن الأعمال متراكمة عليه، أما سبب التراكم فهذا شيء آخر.
بينما أنا أحيانًا أتحدث وفي الصورة الأولى أشخاص، وفي الصورة الثانية شخص أغبطه، لا أكاد أدخل عليه إلا والأمور مرتبة؛ لأنه يأتي للدوام مبكرًا، ويُنجز المهام، والأوراق كلها منتهية، ويستقبل الناس، ويجلس معهم، ويُنهي أعمالهم، ويذهب إلى البيت وليست معه حقيبة الأعمال التي تنتقل إلى البيت، وينقل معه كدر متابعة الأعمال إلى هناك.
هذا في أمور حياتية ودنيوية، وهي لها علاقة بالسعادة، خاصةً إذا كانت النفس لا تملّ، لكن عندما يُنجز ويخدم الناس، ويجد الناس أن بابه مفتوح، وفي نفس الوقت ما عنده تراكم، ولا همَّ له إلا الانتهاء من هذه المعاملة، ويرتب أموره الإدارية بشكل جيد، لا شك أنه سيُريح نفسه.
الكلام هنا متعلق بقضايا ربما تكون أهم من هذه القضايا، قضايا متعلقة بحقوق الناس، متعلقة بتربية الأبناء، وتأجيل بعض الأمور، ونحن في أمور معينة على قولتهم: (جلدي) مشتغلين بطريقةٍ صحيحةٍ، بينما في أمور أخرى نُسوِّف ونُسوِّف حتى تتراكم علينا الأعمال، وما نقدر أن ننجزها بسهولةٍ؛ فلذلك لا بد من حسم العمل بوقته، فهذا سيُعطيك شعورًا بالإنجاز، ودافع الإنجاز دافع نفسي قوي جدًّا بالنسبة للإنسان.
ثم في نفس الوقت ستتفرغ في المستقبل للأشياء التي تأتيك بكل قوةٍ وحيويةٍ، ما عندك الهموم الماضية وما يتعلق بها.
أنا أُعطيكم مثالًا اليوم: لو أُريكم جوالي، ورسائل الجوال من طلابي اليوم واجتماعهم، فما بقي عندنا في الفصل الدراسي إلا الأسبوع القادم وننتهي، فالأسبوع القادم آخر المحاضرات.
فمَن الآن تكدّست عليه الواجبات ويُرسل لي الرسائل؟
الطلاب المتخلفون في الواجبات، والمتخلفون في المذاكرة، فهم يريدون أن يعرفوا ما عليهم، ويريدون أن يُعوِّضوا، وأنا أُعطيهم فرصة للتعويض، لكن بنصف الدرجة فقط، فالتعويض عبارة عن قراءة وتلخيص للمنهج، فهي تأتي متأخرة، اذهب وابحث عنها الآن، والآن عنده اختبارات في مقررات أخرى، وعنده تسليم بحوث، وتسليم أشياء أخرى، فأصبحت كل القضية عليه متراكمة، لا يستطيع إنجازها، ولو أنجزها سيقول: أشقى أيامي، أو أصعب أيامي، كانت هذه الأيام!
أنتَ السبب، فلو أنك سرتَ مثل غيرك لارتحت، فغيرك جاء مرةً وقال لي: هل بقي عندي شيء من الواجبات؟ قلت: لا، أكملت واجباتك، ممتاز. فراح وهو مبسوط وسعيد، هو يشعر بالسعادة لأنَّه أنجز ما عليه، وليس عنده شيء، الآن سيتفرغ للمواد الأخرى، ويتفرغ للاختبار النِّهائي، وما شابه ذلك.
أما صاحبنا الذي يقعد ويقرأ صفحات، وعليه أربعة واجبات، وكل واجبٍ عليه سبع صفحات أو عشر صفحات، فعنده مثلًا أربعون صفحة، هذا تسديد الماضي، فأين استعدادك للقادم والمستقبل؟! وأين الأشياء المطلوبة منك الآن في هذه الأيام من اختبارات أساسية؟! فستدخل القضية بعضها مع بعض، وتُسبب لك قلقًا وانزعاجًا، وهمومًا وغمومًا.
لذلك لا يوجد أحسن من التصفية والحسم للأعمال أولًا بأول، وبالذات الشخصيات التي فيها شيء من الاهتمام، وشيء من القلق، وكل واحدٍ منا أدرى بنفسه؛ لأن هناك قلقًا طبيعيًّا يجعل الواحد يعمل بطريقةٍ صحيحةٍ، وقلقًا لا يشعر معه الإنسان بنفسه، فالأفضل له أن ينجز المهمة؛ ليُزِيل الهم الذي على رأسه، خاصةً الناس المشغولين، فهذه قضية مهمة جدًّا.
أخيرًا يقول الشيخ رحمه الله: "وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم فالأهم، وميّز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يُحدث السآمة والملل والكدر، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة، فما ندم مَن استشار، وادرس ما تريد فعله درسًا دقيقًا، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله، إن الله يُحبّ المتوكلين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم".
أصحاب الإدارة يُدركون مثل هذه الخاتمة وأهميتها وما يتعلق بها.
رحم الله العلماء الذين كان عندهم من الوعي ما يُدركون به مثل هذه الحقائق، ويوجهون الناس إليها، كما أدركها الشيخ، وهي ليست فقط تحمل نقطة واحدة، ففي ثناياها مجموعة من النقاط، وهي:
- سُلّم الأولوية الأهم فالأهم: هذه هي القضية هنا؛ ولذلك حتى في الإدارة لا بد من ترتيب الأولويات كما يفهمها أصحاب الإدارة الاستراتيجية، فهم يعرفون هذه القضايا وما يتعلق بها، فيقول لك أحدهم: هذا مربع المهم العاجل، وهذا مربع المهم غير العاجل، وهذا مربع غير المهم وغير العاجل، ...، إلى آخره، فيضعون لها مراحل، وهناك فرقٌ بينها، فعلى الإنسان أن يفعل المهم العاجل فورًا، لكن غير المهم وغير العاجل هل أشغل نفسي به؟ لا، هذا لا يدخل العقل.
- الاستشارة مهمة جدًّا: "ما ندم مَن استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره"[2]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص112).، لا يندم، فإذا جاء شخصٌ وقال: يا أخي، استشرت واستخرت. فالعاقل سيقول: استشرت واستخرت الحمد لله، ويطمئن.
- النظر إلى الشيء الذي تميل النفس إليه، وتشتد الرغبة فيه؛ لأنك إذا أخذت عكسه تأتي الكآبة والملل، حتى عند غيرك لو كان مفيدًا بالنسبة لك أنت؛ فلذلك انتقِ من الأمور النافعة ما تميل إليه نفسك، خاصَّةً في أوقات الاستجمام، وفي الأوقات التي يُسمّونها: أوقات الفراغ، وكيف تمضي أوقات الفراغ؟ وما شابه ذلك، فحاول أن تُمضيها بالشيء المفيد النافع الذي تميل نفسك إليه، وتشتد رغبتك إليه.
فادرس ما تريد فعله درسًا دقيقًا بإخلاص، وتوكل على الله، إن الله يُحب المتوكلين، واجعل الأمر بين يدي الله باستخارتك له.
وكنت أتوقع أن يُشير الشيخ إلى الاستخارة، لكنه لم يُشر إليها.
ولذلك كما قيل: "لا ندم مَن استخار الخلق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره".
وكلامه هنا: "فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله"، فأنت أسندت أمرك لله في الاستخارة، واستشرت ودرست القضية، فظهرت لك مصالح ومفاسد، وبعض الناس يبقى مُعلَّقًا، وكأنه ينتظر الوحي الذي يُشير إليه بالفعل المناسب!
فإذا أسندتَ أمرك لله، وتحريتَ، ونظرتَ، فما بقي عليك إلا أن تعزم.
وعدم العزم إشكالية، ودليل اضطراب في الشخصية، يبقى في همٍّ وغمٍّ، ونحن نريد أن نطرد الهم والغم، نريد أن نتخذ قرارًا، فكيف نتخذ قرارًا؟
جعلنا القضية لله: استخارة، واستشرنا أهل الخبرة، هذه استشارة، بقي التوكل على الله، فاعزم: "اعقلها وتوكل"، فإذا تبين شيء فيه خلل فالحمد لله، لا يلزم أن يكون كل شيء فعله صوابًا، يعني: الحمد لله، جاء في الحديث: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر[3]أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716)..
فهذا الإنسان بذل جهده، واجتهد، وقد حصلت اجتهادات زمن النبي : كقصة تأبير النخل، فالنبي مرَّ بقومٍ يُلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصًا، فمرَّ بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم[4]أخرجه مسلم (2363)..
فالنبي أعطى رأيه بناءً على علمه، لكن هذه القضية ليست دينيةً وشرعيةً، هذه قضية اجتهادية، فالرسول يقول: أنتم أعلم بأمر دنياكم، يعني: أنتم أصحاب خبرةٍ أكثر مني، فكان رأيكم أولى من رأيي عليه الصلاة والسلام.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والعمل النافع الصالح، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
الأسئلة:
أهمية جمع المعلومات في المسألة
لا بد من دراستها دراسةً دقيقةً، يعني: محاولة جمع المعلومات عن قضيةٍ ما، فأحيانًا يستخير إنسانٌ في زواجٍ مثلًا ويستشير، ولكنه لا زال تنقصه المعلومات، فيُحاول قدر ما يستطيع أن يدرس القضية تمامًا فيما يرتبط به، وإمكاناته، وجوانب معينة كالجوانب الأسرية، والعادات.
فكلما استطعت أن تجمع معلومات أكثر في القضية التي تريد الذهاب إليها كلما كان أحسن؛ ولذلك فإن: التؤدة في كل شيءٍ خيرٌ إلا في عمل الآخرة[5]أخرجه أبو داود (4810)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3009)..
العبادات وقضية الأولويات
الأخ الكريم يتكلم عن قضية الأولويات، ومن ذلك ما يتعلق بالعبادات وتوفيق الله للعبد حينما يمارس العبادة في الوقت المعين لها، وسبق أن تحدثنا عن كلام ابن القيم الجوزية في "مدارج السالكين"، وذكرنا كلامه في أفضل العبادات، وقد ذكر أربعة اتجاهات للعلماء في أفضل العبادات، فبيَّن رحمه الله أن من العلماء مَن يرى الزهد في الدنيا هو الأفضل، ومنهم مَن يرى أن العبادات التي فيها مشقة هي الأفضل، ومنهم مَن يرى أن العبادات التي نفعها مُتعدٍّ أفضل، ..، أما الصَّحيح فالتي هي حسب الحال والمكان والزمان[6]انظر: "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 107) وما بعدها.، وله كلام نفيس جدًّا في مقدمة "مدارج السالكين" حول أفضل العبادات، يجدر بالإنسان أن ينظر فيه ويتأمّله؛ فإذا أذَّن المؤذن فليس هناك مثل السماع والمتابعة للمؤذن، وإذا استيقظ قبل الفجر فليس هناك مثل الاستغفار والدعاء في هذا الوقت، وإذا جاءك الضيف فليس هناك مثل أن تُكرمه وتُضيّفه، بل إن ذلك أحسن من أن تقرأ القرآن، وهكذا حسب الوضع الموجود عليه معظم أحوال الناس.
فلا يكون شيئًا مبالغًا فيه: كأن يجلس ليستقبل الضيوف مثلًا 24 ساعة، ومن هذا القبيل.
فالمقصود أن القضية مرتبة، وهذا من رحمة الله بالعبد إذا أخلص النية، فلا شك أن هذه الأعمال لا بد فيها من أن تكون النية لله ، فالله وسّع مجالات العبادات.
اكسر حاجز التردد
التردد: فليستعذ بالله ولينتهِ[7]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، ما فيه مثلها، يعني أنا أقول: المشكلة في الانتصار على النفس، والانتصار على النفس لن يكون إلا بإرغام النفس، وما ذكرناه في كلام ابن القيم[8]"الفوائد" لابن القيم (ص31). رحمه الله في الخواطر سابقًا حين تكلمنا عن النقطة رقم (17)، وحين تكلمنا عن الأفكار، وأن حياة الإنسان تبعٌ لأفكاره، وأن مدخل الإنسان بالخواطر، فإن استرسل معها صارت أفكارًا، وإن استرسل معها صارت إرادات، وإن استرسل معها صارت أعمالًا، ثم صارت عادات، فإن كانت سيئةً فدفع الخواطر أهون من دفع الأفكار، ودفع الأفكار أهون من دفع الإرادات، ودفع الإرادات أهون من دفع الأعمال، ودفع الأعمال أهون من دفع العادات.
لذلك أنا أقول: مهم جدًّا أن الإنسان يُثبت جدارته حتى لو تعب، كالذي يأخذ دواء غير مرغوبٍ فيه بالنسبة إليه، فهو مُرٌّ، لكن لا بد أن يأخذه، فليس هناك مثل هذا الجانب، أما النتيجة فأقول: ما عندي إشكالية في النتيجة.
والعلَّامة الشيخ عبدالله بن غديان عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة، عالم أصولي، كان من أقران الشيخ ابن باز رحمة الله عليهم جميعًا، أذكر مرةً كنا عنده في البيت حين كنا طلابًا في الجامعة فزرناه في الرياض، وكنا عنده في صبيحة يوم خميس، ولا أنسى كلامه رحمة الله عليه، فواحدٌ من الإخوان سأله فقال: كيف أستطيع أن أنمي عندي القراءة؟ أنا ما أحب القراءة. قال له: اقرأ أي شيءٍ حتى إذا لم تفهم. فاستغربت من إجابته: كيف أقرأ أي شيءٍ وأنا ما أفهم؟! بينما إجابة الشيخ مهمة جدًّا؛ لأن القضية ليست بالفهم، الآن القضية في اقتحام القراءة بسبب العامل النفسي، ومن المستحيل أنك لن تفهم، ستفهم، ولكن اكسر الحاجز هذا: اعقلها وتوكل[9]أخرجه الترمذي (2517)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1068).، فليستعذ بالله ولينتهِ، هذا هو أفضل طريقٍ للتردد.
قضية ما المنتج الذي لا تكون عندي إشكالية فيه؟
إذا كانت المُقدمات سليمة ستكون النتائج سليمة، وقضية حققت، ما حققت، أنا بالعكس سأعجل من الموقف السلبي إن لم يتحقق موقف إيجابي بالنسبة إليّ؛ لأنني قد خطوتُ خطوةً.
ومشكلة الشخصيات المترددة أنها تريد ألا تُقدِم إلا وهي ضامنة للنتيجة، وهذا مستحيل.
ولذلك هؤلاء أدعى لأن يكونوا من الشخصيات الشكاكة الموسوسة، يعني: عندها قابلية للميل إلى الجانب الوسواسي والشخصيات الشكاكة، والمفترض أن هذا من الأمور التي لا تُحقق الراحة والطمأنينة والسعادة، بل تُحقق الهموم والغموم.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، والرسول كان يتعوّذ من علمٍ لا ينفع[10]أخرجه مسلم (2722).، وأسأل الله ألَّا يجعل هذا العلم حُجَّةً علينا، وإنما يجعله حُجَّةً لنا ولكم، وأن يبارك فيه، وأن ينفعنا به.
ولنا أملٌ أن يُيسر الله مَن يقوم بتفريغ هذه الدروس كاملةً من الإخوان الحاضرين باستمرار، وعنده همَّة في ذلك، ويخدمنا جزاه الله خيرًا، وإلا فهذا كان في الخطة قبل بداية الدروس، لكن ما كتب الله أن وجدنا أحدًا يُفرغ الدروس كاملةً، ثم تُعاد صياغتها صياغةً لغويةً، ونقوم بإصدار كتابٍ -إن شاء الله- بنفس الرسالة، لكنها بحواشٍ بها تعليقات نفسية وتربوية بناءً على هذه الدروس.
أسأل الله أن يُتمم هذا الأمر بإذنه سبحانه، وأن يسهل حصوله بإذن الواحد الأحد.
وسنبقى مع الشيخ رحمة الله عليه وغفر له -إن شاء الله- كما قلنا لكم مع سورتي: الحجرات والتحريم في الفصل الثاني بإذن الله .
هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه مسلم (2963). |
---|---|
↑2 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص112). |
↑3 | أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716). |
↑4 | أخرجه مسلم (2363). |
↑5 | أخرجه أبو داود (4810)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3009). |
↑6 | انظر: "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 107) وما بعدها. |
↑7 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑8 | "الفوائد" لابن القيم (ص31). |
↑9 | أخرجه الترمذي (2517)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1068). |
↑10 | أخرجه مسلم (2722). |