المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذا -بحمد الله وتوفيقه- هو اللقاء التاسع من المجموعة الثامنة من "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
ونحن في الحلقة الثانية حول ما يتعلق بموضوعٍ استغرب منه البعض، وقد راسلني أحدهم بأنه عنوانٌ تقليديٌّ حينما نقول: هل التربية مهمةٌ؟
الجواب: بلا شكٍّ إنها كذلك، ولكن أردنا بهذا العنوان -وإن كان هناك عنوانٌ أكثر جاذبيةٍ- بيان أهمية التربية من خلال بعض المحاور.
وقد ناقشنا هذا الأمر في اللقاء الماضي في بعض أجزاء هذا الموضوع من خلال: مفهوم التربية في اللغة، ومفهوم التربية عند أهل الاصطلاح، وكلام ابن القيم، ثم ناقشنا بعض المعالم في أهمية التربية وذكرنا ثلاث معالم.
وسنُكمل اليوم -بإذن الله - ما يتعلق بهذا الموضوع المهم في ظل أزمة التربية مع الصراع الذي يحصل في فقدان التربية، أو ضعف التربية، ونوعية التربية.
فقد يكون هناك فقدانٌ، يعني: لا اهتمام عند بعضنا بأصل التربية، فهم يهتمون بالشغل في الدنيا، وأمور التربية آخر ما يُفكرون به، فهذه مشكلةٌ عويصةٌ.
أو تُسند التربية إلى جهاتٍ الله أعلم بها، فإن وفقنا إلى جهاتٍ تقوم بالتربية حقًّا فقد وفقنا، وإن لم نُوفق فهذه مشكلةٌ وطامَّةٌ كبرى، فينبغي للأسرة أن تُدرك أنها هي المحضن الأول للتربية.
الأمر الثاني: ضعفها، فقد تكون موجودةً لكن ضعيفةٌ، وهذا كثيرٌ، ففي البيئات الإسلامية توجد تربيةٌ، لكن فيها ضعفٌ، وذكرنا مثالًا في ذلك: وجود التقنية وهجومها في وقت ضعف التربية، فلو جاءتنا التقنية والتربية قويةٌ ما حصل الذي حصل من اهتزازٍ داخل الأُسر وإشكالاتٍ كبيرةٍ حصلت في استخدامات التقنية.
التربية مشارب متنوعة
الأمر الثالث: النوعية، فالتربية عندنا مشارب متنوعة، هناك تربيةٌ تقوم على كتاب الله وسنة النبي ، والاستفادة من وسائل العلوم الحديثة، لا مانع من ذلك، وعندنا تربيةٌ تقوم على غير ذلك، وذكرنا بعض الأمثلة في بعض الدورات التي سبقت، وما شابه ذلك.
لذلك اليوم المسؤولية ضخمةٌ جدًّا، فلا نقول: إنها على المُربين الرسميين كالأستاذ والقائد، ولا نُحمل كل أسرةٍ مسؤوليتها في هذا الموضوع.
والله إنه واجبٌ شرعيٌّ، ينبغي أن تُراجع الأسرة ما يتعلق بوضعها في هذا الجانب، فكم من المراجعات تحصل داخل الأُسر في قضايا اقتصاديةٍ، وقضايا معيشيةٍ، وقضايا حياتيةٍ، ممتاز، لا نقول: لا، خاصةً إذا كانت بحوارٍ ونقاشٍ ووصولٍ لنتائج طيبةٍ، لا نقول: لا، بالعكس، هذا مطلوبٌ، لكن المشكلة حين نغفل عن معين التربية التي قامت عليها تربية محمدٍ .
وستكون لنا حلقاتٌ -إن شاء الله- بعدما ننتهي من هذه المقدمة حول أساليب النبي في تربية أصحابه، وفي الوسائل التي استخدمها النبي في التربية.
والعلم وحده لا يكفي، فلا بد من التربية، وذكرنا أزمة التعليم إذا كان بعيدًا عن التربية، فنحن نُعلِّم ونُحفِّظ معلوماتٍ، لكن لا نُربي، فيخرج لنا طبيبٌ ومهندسٌ وعالمٌ ليس مُتربيًا، وهذه أزمةٌ كبيرةٌ.
التَّصدي للمُصنفات التربوية الغربية
وذكرنا طرفًا مما يتعلق بهذا الموضوع، وأثر ذلك على الذين كتبوا في التربية بتلك الأفكار الغربية عن طريق الترجمة والاقتباس، وعن طريق ما هو موجودٌ الآن عبر طريق الإعلام الجديد وما يتعلق به.
التحديات المعاصرة والحاجة إلى التربية
النقطة الرابعة فيما يرتبط ببعض هذه الجوانب المتعلقة بالأهمية هي: حاجة الآباء والمعلمين والمُؤسسات التربوية والاجتماعية لموضوع التربية، ومعرفة منهج التربية الإسلامي الإنمائي، والوقائي، والعلاجي، خاصةً في ظل التحديات المعاصرة.
فاليوم نُواجه تحدياتٍ، شئنا أم أبينا، كقضية تحدي الإرهاب، فهذا بحدِّ ذاته تحدٍّ من أوجهٍ، مثلًا: أن مصطلح "الإرهاب" ما هو بالضبط؟ ولم يصل أي مؤتمرٍ عالميٍّ إلى تعريفٍ دقيقٍ لمصطلح "الإرهاب"، وأفضل تعريفٍ وصل إليه مجمع الفقه الإسلامي هو تعريفه بالعدوان، فهو مصطلحٌ شرعيٌّ: الاعتداء على الآخرين، العدوان على الأنفس والممتلكات ... إلى آخره.
لكن قضية الإرهاب مشكلةٌ عويصةٌ جدًّا، فصار عندنا صراعٌ فيما يتعلق بمصطلح "الإرهاب"، فلو اصطلحنا على أن الإرهاب المقصود به العدوان مثلًا، فعندنا مشكلةٌ في اتجاه بعض الشباب إلى هذه الأفكار العدوانية، فقد أصبحوا وصمة عارٍ على المجتمعات الإسلامية من خلال ما يحملونه من أفكارٍ متعلقةٍ بالتكفير والتفجير، وما شابه ذلك، ... إلى آخره.
ونحن لا نحتاج إلى إثباتات، فالواقع اليوم أصبح شيئًا مريرًا جدًّا في هذا الجانب.
وفي المقابل أيضًا الكلام عن العدل العالمي فيما يتعلق بهذا الموضوع، فهل الإرهاب أو العدوان فقط من المسلمين، أم أن هناك عدوانًا من غير المسلمين؟
فكل هذه القضايا تجعل هناك أثرًا كبيرًا على أهمية التربية، حتى ينشأ الإنسان فكرًا وسلوكًا بطريقةٍ إيجابيةٍ فيما يتعلق بالتحديات المعاصرة.
التقنية
ومن التحديات المعاصرة: التقنية -كما أشرنا إليها- والإعلام الجديد، وموضوع نقل المعرفة وما يتعلق بها، فاليوم تُزَخُّ المعارف عبر الكتب، وانتشرت وسائل الإعلام الحديثة ... إلى آخره، فماذا تفعل؟
لا يمكن أن تمنعها، فكيف تتعامل معها؟
هنا تأتي قضية الجدارة وما يتعلق بها.
عندما قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله، إنا نقرأ أحاديث في التوراة تُعجبنا، أفلا نكتبها؟ فهذا الذي أعجب عمر ليس مُخالفًا للشرع قطعًا، وإنما أعجبه شيءٌ إيجابيٌّ يُوافق الشرع.
قال: أفلا نكتبها يا رسول الله؟ قال: أمُتَهَوِّكون أنتم كما تَهَوَّكَت اليهود والنصارى؟! أي: أشكَّاكون مُتحيرون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتُكم بها بيضاء نقيةً، ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتِّباعي[1]أخرجه أحمد في "المسند" (15156)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ؛ لضعف مجالد، وهو ابن سعيد"، والبيهقي في "شعب الإيمان" … Continue reading.
هذا المنهج التربوي المتعلق بأنك لا يمكن أن تجعل عقلك وعقول أبنائك وأجيالنا في يد مَن يُديرها ذات اليمين وذات الشمال، فينبغي للإنسان أن يُدرك أنه مُعرَّضٌ للشبهات، والشبهات كما قيل: خطَّافةٌ، تخطف الإنسان وتحرفه ذات اليمين وذات الشمال.
ومن أجمل مَن تكلم في هذا الموضوع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وشبَّهه بالإسفنجة التي تتشرب الطَّيب والرديء، والنَّظيف والمُتَّسخ[2]"مفتاح دار السعادة" (1/ 140)..
فنحن في أمس الحاجة إلى التربية حتى يُدرك الآباء أهمية ذلك.
عمل المرأة
ومن التحديات المعاصرة: ما يتعلق بعمل المرأة، أقصد من حيث انشغالها بالعمل، ناهيك عما يتعلق بقضايا الأخلاق والجوانب المُرتبطة بالتَّحرش، وغيرها.
لكن لو أخذنا الأول، حتى لو كان العمل في معزلٍ عن الرجال، وفي مكانٍ آمنٍ عن الرجال، وهذا الذي يجوز شرعًا، يعني: هذا مُؤثرٌ جدًّا، وتحدٍّ كبيرٌ جدًّا في قضايا المعيشة ... إلى آخره.
فهل تحتاج المرأة إلى أن تعمل؟! ولمَن تكون تربية الأبناء عندئذٍ؟! فلا بد من توعيةٍ.
أُعطيكم مثالًا: اليوم كان عندنا مقررٌ اسمه: "تعديل السلوك" في الجامعة، ونُناقش بعض المشكلات مع الطلاب، وبعض القضايا، وبعض فنيات تعديل السلوك ومهاراته.
وكنا كلَّفنا الطلاب بزيارةٍ فرديةٍ إلى جهاتٍ عندها هذا الاتجاه في تعديل السلوك، فكان من الأشياء الغريبة جدًّا: أن طالبًا في مرحلةٍ ابتدائيةٍ يغيب يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوعٍ، فقلتُ للأخ الكريم الذي زار الطالب في المدرسة والتقى بالمُرشد الطلابي كنموذجٍ من نماذج الجهات أو الأفراد الذين يُقدمون خدماتٍ إرشاديةً وتعديل السلوك، قلتُ له: تقصد الأحد والخميس؟ قال: الأحد والأربعاء. قلتُ: عجيبٌ، ما المشكلة؟ فقال لي: إن الأم بدأت تدرس في الكلية، والبيت لا يوجد فيه أحدٌ، فوزَّعوا المهام في البقاء في البيت مع الأطفال الصغار على الأبناء، ومنهم هذا الطالب في الصف الخامس الابتدائي، فهو مسؤولٌ عن البقاء في البيت يومي الأحد والأربعاء.
فالمُربية في الكلية تدرس وتطور نفسها علميًّا، والطفل ينوب عنها في البيت، أتى إلى المدرسة أو لم يأتِ! أهم شيءٍ أن تُطور نفسها علميًّا!
فكل الطلاب الموجودين اعترضوا وقالوا: كيف هذا؟!
بينما حاول المُرشد أن يُقلل المشكلات، ويُعوض للطالب الاختبارات، و...، لكن بقي أصل المشكلة وهو: انشغال الأم عن رسالتها، فهذا تحدٍّ، كيف تُقدم الأم العمل على الأسرة؟! ما هو العمل؟!
الدراسة بدون مقابلٍ، ويمكن أنها تدفع فلوسًا، والدراسة تُقدمها على تربية الأبناء، بل حتى على حساب الأبناء الذين هم في مدارسهم، وما شابه ذلك.
ويقوم أحد الطلاب أيضًا ويقول: حصلتْ قصةٌ أيضًا في مدرسة كذا في حي الجسر في الخُبَر. يقول: بدل الولد بنتٌ، والأم مُطلقةٌ، والأبناء عند الأب، وهو ظالمٌ لها في رؤية الأبناء، فماذا تفعل الأم؟
تذهب وتخطف بنتها من المدرسة أكثر من يومٍ في الأسبوع حتى تجلس معها في الصباح!
فعرفت الاختصاصية الاجتماعية في المدرسة هذه القضية، فرتَّبت الأمور بحيث تأتي الأم إلى المدرسة، وتُفرَّغ البنت لحصتين أو ثلاث حصصٍ وتلتقي معها داخل المدرسة إلى حين حلِّ المشكلة مع الأب الظالم الذي لا يقوم بواجبه الشرعي مع مُطلَّقته.
باختصارٍ التحديات كثيرةٌ، وهذه التحديات تُبرز أهمية التربية وحاجة الآباء والمعلمين والمؤسسات التربوية والاجتماعية لها، يعني: الموضوع مهمٌّ جدًّا، فلا بد أن نعتني بموضوع التربية أيّما اعتناءٍ.
نماذج تُبين حاجتنا للتربية
أذكر أحد الفُضلاء -وهو دكتورٌ في جامعةٍ من الجامعات- كان يتحدث عن أسرةٍ يعرفها فيقول: هذه الأسرة -والعياذ بالله- وقع ابنها في الفاحشة مع الشَّغَّالة، فيذهب الأب إلى عمله في الصباح، والأم غير موجودةٍ، وهذا الشاب عاطلٌ بعد الثانوية، أو بعد الجامعة، وهي ضعيفةٌ، وهو ضعيفٌ، فوقع في الفاحشة، والعياذ بالله.
يقول: جاءني الأب مُتحسرًا وأخبرني أن الولد حصل له كذا! مَن السبب؟
هذا تحدٍّ من التحديات: كيف تستطيع أن تأتي بشغَّالةٍ وتضبط الأمور من حيث عفّة الشَّغالة وحفظ كرامتها، وكذلك لا تُؤثر على وضع أبنائك، أو وضعك أنت، وما شابه ذلك.
سبحان الله! كلما خالفنا الشريعة كلما كانت هناك مزالق خطيرةٌ في هذه القضايا، وهذا يُظهر أهمية وجود المَحْرم، وأهمية الحجاب، وخطر الاختلاط بالرجال، وأهمية ألا تكون خلوةٌ في البيت، وكلما تساهلنا في هذه القضية بدأ الشيطان يلعب.
فيقول: بعد فترةٍ رأيتُ الأب. وانظروا إلى العقلية التربوية الضخمة التي تجعل الواحد منا يضحك ويبكي في آنٍ واحدٍ.
يقول: فرأيتُ الأب، فقلتُ: بَشِّر عن ولدك، ستر الله عليه؟ فقال: أُبشرك، الحمد لله رب العالمين، بفضل الله أوجدنا له عملًا. قال: الله يُبشرك بالخير، الحمد لله. قال: أوجدنا له عملًا في المستشفى.
صاحبنا هذا دكتورٌ، قال: الله يرحم أباك ويهديك ويُصلحك، ولدك ما أمسك نفسه عن امرأةٍ واحدةٍ في البيت، وستُعرِّضه الآن لمجموعةٍ من النساء في المستشفيات! أي عقلٍ هذا؟! وأي إدراكٍ؟!
أرأيتم الغفلة؟!
طبعًا هو ليس مُتعمدًا، لكن هكذا يكون الحال حينما لا نُدرك التربية وحاجتنا إلى الوعي في هذا الجانب في ظل التحديات المعاصرة، فهي غفلةٌ شديدةٌ جدًّا.
ويُحدثني أحد وكلاء مدرسةٍ متوسطةٍ قديمًا -لها سنواتٌ- فيقول: يا أبا عبدالرحمن، أحد الطلاب عندنا مُتميزٌ، ثم بدأ معدله ينحدر بشكلٍ كبيرٍ جدًّا ومُفاجئٍ، فأدركنا أن هناك سببًا عارضًا لانحدار المستوى الأكاديمي بالنسبة لهذا الطالب في المرحلة المتوسطة، والانحدار إلى مستوى الفشل الدراسي. يقول: فعرفنا السبب، وهو أنه أُتي له بـ(ستالايت) خاص، وامتلك الجوَّال ... إلى آخره.
دخلت عليه المُتغيرات الجديدة والتحديات المعاصرة دون أي ضابطٍ، وبلا ترتيبٍ أو أولويةٍ، وهذا ينبغي، وهذا لا ينبغي، وهذا يُمكن أن نُعطيه إياه، وهذا لا يمكن، ناهيك عن القنوات المفتوحة التي هي بلا ضوابط.
يقول: فاستدعينا ولي الأمر، فجاء ولي الأمر، فإذا به يزبد ويرعد: مَن ذا الذي كان السبب؟! مَن هذا الذي سبَّب انحدار مستوى ابني في الجانب الأكاديمي؟
يقول: وبدأ يتكلم، وأصبحنا نحن في قفص الاتهام. يقول: حتى سكت، فقلتُ له: الآن أنت أتيتَ تتهمنا؟ قال: نعم. وانظروا الآن إلى هذا الكلام المهم جدًّا.
قال: نعم؛ لأنني ما طلب مني ابني طلبًا إلا وقد نفَّذته له.
الله أكبر! يا سلام على التربية! فهل هذه هي التربية: ما طلب مني شيئًا إلا وأعطيتُه إياه؟! يعني: حتى لو كان فيه دماره؟! فهو لا يقول لك: أنا أريد تدميره، لكن الغفلة، فأتى إليه وسأله: ماذا تريد؟ فإذا به يريد (ستالايت) خاصًّا به، وعادةً يكون (الستالايت) في الصالة العامَّة.
أريد (ستالايت) خاصًّا عندي، على مزاجي، حتى لا يقع صراعٌ مع إخواني وكذا، وأريد جوالًا آخر.
فلبَّى له طلبه مُباشرةً، والمهم عنده أن يكون ابنه راضيًا، يقولون: التربية أن تكون علاقتك طيبةً بأبنائك، وأنا لا أريد أن أخرب هذه العلاقة، هذه التربية عنده!
وأذكر موقفًا: أن "أستاذ دكتور" أتى من الأحساء إلى الدمام، وكان فرعا الجامعتين بمسمَّى واحدٍ هو: جامعة الملك فيصل آنذاك، وكانت المُحاضرة في المساء، لا زلتُ أذكر هذا.
فهذا مُرَبٍّ الآن اسمه: المعلم، وأنا لا أريد أن أُعطي صورًا تشاؤميةً، لكنها صورٌ موجودةٌ لنُعزز القضية هنا، وإلا فالحمد لله الصور الإيجابية كثيرةٌ وموجودةٌ، وأرجو أن تكون نسبتها تَسُر -إن شاء الله تعالى- في الأُسر والمدارس والجامعات، وغيرها.
وكانت هناك مباراة كرة قدمٍ قبل هذا اللقاء الخاص بالدكتور بفترةٍ لا أضبطها: يوم وليلة، أو ساعات، وكانت تلك المباراة حاسمةً، ويُضحي البعض بالصلوات من أجلها! وأيضًا المشاعر مشحونةٌ جدًّا، وما شابه ذلك.
فقام سعادة الدكتور الذي أتى من الأحساء للدمام حتى يُلقي مُحاضرته في تخصصٍ ما من التخصصات بالحديث عن تحليل هذه المباراة في المحاضرة مع الطلاب! ووجد تفاعلًا شديدًا جدًّا منهم فيما يخص تلك المباراة الرهيبة التي حدثت: فما رأيكم؟ وماذا حصل؟ وهل كان الحكم جيدًا؟ وهكذا!
المقصود أن الطلاب ارتاحوا، وكانت تلك أجمل محاضرةٍ مرَّت عليهم في حياتهم، وكانت رائعةً جدًّا، وبعد أن انتهت المحاضرة ركب السيارة ورجع إلى مدينة الأحساء، هذا هو المُربي!
فهل عندنا الآن مشكلةٌ مع الكرة؟ هل أجيالنا مُقصرون مع الكرة؟
أريد أن يُثبت لي واحدٌ أن عندهم تقصيرًا وأُعطيه ما يريد من المال.
ليس الشباب فحسب، بل حتى بعض كبار السن! وأيضًا ليس الذكور فقط، بل حتى الإناث إلا مَن رحم الله!
فهذه القضية ليس فيها أدنى تقصيرٍ، فالمجتمع لا يحتاج إلى وعيٍ كرويٍّ إضافيٍّ أبدًا.
فيأتي هذا المُربي "الدكتور" ويُحلل المباراة الضخمة التي حصلت، والتي كانت فيها مُفاجآتٌ، والهدف الذي تمَّ إحرازه هل كان هدفًا احترافيًّا أو غير احترافيٍّ؟! ومَن أحسن لاعبٍ؟! وما رأيكم في الحكم؟! ونقاشاتٌ وحواراتٌ حول هذه المباراة!
أرأيتم كم نحن بحاجةٍ شديدةٍ إلى إدراك قضية التربية في ظل التحديات المعاصرة التي تحمل توجهاتٍ إيجابيةً أو توجهاتٍ سلبيةً، أو في مضامينها جوانب إيجابيةٌ، أو جوانب سلبيةٌ؛ لأن عندنا مشاريع إنمائية، ومشاريع وقائية، ومشاريع علاجية، فلا تنتهي القضية.
فهذا المعلم جاء وتكلم بهذا الكلام، وليس من مُفردات المقرر شيءٌ يتعلق بالكرة، فالمقرر في وادٍ، والكرة في وادٍ ثانٍ!
فعندما نقول: عدل سلوكهم، يقول لك بعض المعلمين: ليس عملي تعديل سلوكهم، هذا عمل أُسرهم، وعمل المُرشد الطلابي، أنا عندي مادةٌ أُدرسها لهم وأنتهي منها فقط!
فيُقال: طيب، ولماذا تكلمتَ معهم عن المباراة وأخذتَ وأعطيتَ معهم عنها؟!
فهذه صورةٌ تجعلنا نقول: إننا بحاجةٍ لإدراك أهمية التربية على المنهج الإسلامي، حتى يُدرك الإنسان كيف يستطيع أن يُخرج أجيالًا، وأن يكون مُربيًا، ولا يكون هادمًا للأجيال؟
طبيعة المنهج التربوي الإسلامي
والمنهج التربوي الإسلامي قائمٌ على الجوانب الآتية: الإنمائي، والوقائي، والعلاجي.
والإنسان لا ينتظر حصول المشكلة ثم يبدأ في ترقيعها وعلاجها!
إن حصلت نعم تُحلّ وتُعالج، ما قلنا: لا، لكن المنهج الإسلامي قائمٌ على البناء أولًا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
فانظروا إلى المنهج: آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ هذا المنهج البنائي، أين المنهج البنائي الإيماني في منظوماتنا وبيئاتنا وأُسرنا ومحاضننا التربوية؟ وإذا كانت موجودةً، كيف تُقدم؟ هل تُقدم بجاذبيةٍ وتأثيرٍ أو ليس كذلك؟
هذا كله يحتاج إلى مراجعةٍ: الَّذِينَ آمَنُوا هم سلكوا مسلك الإيمان: آباء وأمهات، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، فكان لهم أثرٌ على ذُريتهم، يُلحق الله الأبناء بالآباء يوم القيامة مُكافأةً لهم.
في مقابل المنهج الوقائي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
وقد يقول البعض: أنا أثق بأبنائي، أنا أثق بطلابي.
أحد أفراد الهيئة في حادثةٍ سابقةٍ يُحدثني فيقول: كان هناك مسلكٌ من بعض الفتيات -يبدو أنهن أخوات- فيه شيءٌ مُعينٌ -يعني- مُخالفٌ للانضباط الشرعي، وفيه شيءٌ من التجاوز الشرعي واضحٌ وبيِّنٌ جدًّا في مطعمٍ من المطاعم، وحين استجوبنا الأب جاء أيضًا كالشخص السابق الذي جاء يزبد ويرعد بسبب ولده، ففي بعض الأحيان إذا كنا لا نُدرك حقيقة التربية فعندنا أننا لا نُخطئ، وغيرنا هم الذين يُخطؤون.
أتى الأب فقال: ما الأمر؟ فقيل: بنتك أو بناتك كذا، وحصل منهن كذا وكذا. قال: بناتي؟! بناتي أنا؟! أنا بناتي أثق بهن، هل تعرفون أني أُرسلها لتُسافر إلى باريس وحدها في الطائرة؟!
يعني: الآن المعيار في الثقة أنه يُرسلها لتُسافر إلى باريس وحدها في الطائرة!
فرب الأسرة يقول: بنتي أثق بها، فمن الطبيعي جدًّا أن تكون مُبتعثةً إلى هناك؛ لأني أثق بها!
فنقول: أخي الكريم، عندما نقول لك: انتبه لبنتك، أو لعيالك، ليس معنى هذا أننا نقول لك: بنتك لا تثق بها، أو عيالك لا تثق بهم. وإنما هذا المنهج هو المنهج الوقائي.
والنبي عندما وقى عمر بن الخطاب وقال له: أَمُتَهَوِّكون أنتم كما تَهَوَّكت اليهود والنصارى؟ كان يخشى عليه ويخاف عليه، ولم يشكّ فيه.
وعندما أدار وجه الفضل بن عباس رضي الله عنهما وهو ينظر إلى نسوةٍ في مُزدلفة[3]أخرجه مسلم (1218). -وكان رجلًا وَضَّاءً، ومرَّت نسوةٌ مُتحجباتٌ بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في الحجِّ- كان وقايةً للفضل بن العباس رضي الله عنهما وخوفًا عليه، ولم يكن شكًّا فيه.
فلذلك من الخطأ أن نشعر بأن هذه الأجيال لا يمكن أن تُمس بشيءٍ من الوقاية؛ لأنهم ثقاتٌ، هذا الكمال الزائف، وهذا الشعور بالكمال الزائف، ثم إذا جاءت المصائب التي لا يُدرى عنها خلف الستار ولاتَ حين مندم؛ لذلك المنهج الإسلامي يهتم بالوقاية، والوقاية خيرٌ من العلاج قبل أن تقع المشكلة.
طيب، هناك أناسٌ ذهبت بناتهم للابتعاث وعُدْنَ وحصلت لهن مشكلاتٌ في الابتعاث، وهناك أشياء الله أعلم بها، وهذا يختلف عندما نُعمل الدين مثلًا.
فالمنهج الوقائي حمايةٌ من أن يقع الإنسان في الخطأ، بغض النظر عن كونه لو وُجد في بيئةٍ غير مناسبةٍ هل سيقع في الخطأ أم لا؟ مثل: قضية الخلوة: ما خلا رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما[4]أخرجه أحمد في "المسند" (114)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الشيخين غير علي بن إسحاق -وهو المروزي- … Continue reading.
ما حكم الخلوة؟
حرامٌ، لماذا؟
لأن الشيطان ثالثهما، طيب، هل يمكن أن يختلي الإنسان بامرأةٍ ولا يحصل بينهما شيءٌ؟
يمكن أن يحصل، ويمكن ألا يحصل، لكن هل معنى هذا الكلام أن أي خلوةٍ ستُوقع الإنسان في الحرام؟
لا، وقد جاءت الشريعة بسدِّ الذرائع، وهذه قاعدةٌ مهمةٌ جدًّا، وهذه هي الوقاية؛ لذلك قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ، كما قال هناك: وَالَّذِينَ آمَنُوا، هنا قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ، في الوقاية: أَنْفُسَكُمْ، وفي البناء: وَالَّذِينَ آمَنُوا، وهنا قال: وَأَهْلِيكُمْ التي هي أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وقاية الأهل.
فهذا في الجانب الوقائي: وقاية النفس، ووقاية الأجيال، ووقاية الأهل، هنا بناء النفس: آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ بناء الأجيال.
هذا مهمٌّ جدًّا حتى لا ننتظر أن تقع المشكلة ثم بعد ذلك نقوم بحلها، والبعض عندما تقول له: كيف وضع أُسرتك؟ يقول: الحمد لله ليست هناك مشاكل. هذا معيارٌ خاطئٌ: كيف طلابك؟ يقول: ليست هناك مشاكل. كيف مُوظفيك؟ يقول: ليست هناك مشاكل.
فالمشاكل ليست هي المقياس، وهذا من انحدار التصور، فدائرة المشاكل من المفترض أنها ليست الدائرة الأهم، ودائرة البناء هي الدائرة الأهم.
هنا نقول: ما الدور التربوي الذي تقوم به الأسرة لرعاية أبنائها؟
الجانب البنائي، والدور الذي تقوم به الأسرة لوقاية أبنائها من الشرور هو الدور الثاني التربوي المهم، ثم لو حصلت مشكلةٌ ما دور الأسرة في حلِّ المشكلة؟
أما أن نقعد وننتظر المشكلة ثم نقوم بحلِّها، وقد ننجح، وقد لا ننجح، أو نقول: الحمد لله لا توجد مشكلةٌ، والأمور تمام. فهذا ليس صحيحًا أبدًا.
أرجو أن تُدرك هذه القضية الأخيرة فهي من القضايا الحسَّاسة جدًّا في أزمتنا حقيقةً، ومن التحديات المعاصرة هذا الفهم المغلوط لموضوع التربية: أن القضية مُرتبطةٌ بجوانب علاج المشاكل فقط.
ونحن في تخصصاتنا نُعاني من هذا الفهم المغلوط عند المجتمع وعند الطلاب إذا جاءت لنا مشكلةٌ، والاستشارات التي تأتينا 99% منها مشكلات، ونادرًا ما تأتي في قضية الوقاية، ونادرًا ما تأتي في قضية البناء، وهذه مشكلة ثقافةٍ تحتاج إلى انتباهٍ ومراجعةٍ وعنايةٍ.
أهمية وجود مُصنفات علمية
النقطة الأخرى: أهمية وجود مُصنفات علمية تُبين واقع المؤسسات التربوية وحاجاتها، والتأليف عند أهل التربية الإسلامية ضعيفٌ جدًّا حقيقةً عندما تُقارنه بالتأليف المُتتالي في الحضارة الغربية -للأسف الشديد-؛ ولذلك هم فرضوا أنفسهم في هذه التخصصات على منهجهم المُنحرف، وهذا من أخطر ما يكون، ولا نحتاج أن نُعيد ما ذكرناه سابقًا.
وهناك محاولاتٌ جيدةٌ، وأنا أدعو إلى تفعيل هذه المحاولات، لا من حيث الكتب، ولا من حيث التجمعات والمُلتقيات، ولا من حيث الكيانات.
سأذكر نموذجًا فيه تواصلٌ عبر (الإنترنت) قريبًا وأعجبني، فالآن يمكن للإنسان أن ينشر ثقافة التربية الإسلامية، وينشر الثقافة التربوية الإيجابية من خلال المنهج الإسلامي، فهذه أكاديميةٌ اسمها: "أكاديمية المُربي" تتبع مؤسسة "المربي" للشيخ الدكتور: محمد الدويش، أنشأ أكاديميةً عبر (الإنترنت)، وهذه الأكاديمية خيريةٌ يُسجل فيها أناسٌ بشروطٍ معينةٍ من العالم، ويتعرضون لمجموعةٍ من المُقررات في التعليم الذاتي، وتُتاح لهم في كل مُقررٍ ساعتان: ساعةٌ وساعةٌ مع أستاذ المُقرر المُرشح، ثم اختبار يُقدم، وقد شاركتهم في مقررٍ قريبًا هو مقرر: التوجيه والإرشاد التربوي، وشعرتُ أنها نموذجٌ من النماذج التي يمكن أن نُحيي من خلالها قضايا الثقافة التربوية السليمة بشكلٍ كبيرٍ.
وقد وجدتُ فيها أناسًا -ما شاء الله! تبارك الله- من داخل البلد هنا، ومن مشارق العالم ومغاربه، ومن أماكن مختلفةٍ في العالم يُشاركون معك عبر (الإنترنت) وتتواصل معهم، ويقرؤون وهم في بيوتهم وفي غُرفهم، ويُختبرون وهم في بيوتهم وفي غُرفهم، وتُنمَّى ثقافاتهم عبر مراحل من المُقررات الرائعة التي اهتموا بها وأنشؤوها خِصّيصى للمُربي.
إذن العملية التربوية مهمةٌ، ولا بد أن نقوم بها -شئنا أم أبينا- بما ذكرناه في الأسبوع الماضي، وذكرناه كذلك قبل قليلٍ، وهنا تبرز الأهمية.
ولعلي أختم في هذا الدرس حتى لا نأخذ حلقةً أخرى في هذا الموضوع، تكفينا حلقتان فيه.
أهمية التربية للفرد
باختصارٍ شديدٍ جدًّا، ونقف مع بعضها:
أولًا: طاعةٌ لله تعالى، كما قال الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا، طاعةٌ لله أن يُربي الإنسان نفسه من خلال المنظور الإسلامي في المجالات المختلفة التي فيها الواجب، وفيها المُستحب؛ طاعةً لله ، حتى إن الله قال في حقِّه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، وَيُزَكِّيهِمْ التزكية هنا هي التربية، وقال: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ فالتعليم يختلف عن التزكية، كما قلنا: التعليم ليس هو التربية، والتربية شيءٌ أعظم من قضية التعليم.
ثانيًا: أمنٌ نفسيٌّ للفرد
تبرز أهمية التربية للفرد في أنها تُشعر الإنسان بالأمن النفسي، فأنعم وأكرم حينما يشعر الإنسان بالراحة النفسية، ستكون حالته مُطمئنةً وسعيدةً، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال المنهج الذي يُسعد البشر، وهو المنهج الرباني الذي أقامه الله : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، ومَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، هذا الأمن النفسي، هذا الشعور بالراحة والأمن النفسي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا في سورة العصر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر].
ثالثًا: تقدير وحب المجتمع
والذين لا يتربون، الذين اتَّجهوا ذات اليمين أو ذات الشمال، فكرًا أو سلوكًا، هم نقمةٌ على أُسرهم وعلى المجتمع؛ ولذلك هؤلاء الذين يتربون التربية الإسلامية الصحيحة يُقدرون ويُحبون المجتمع، وهذا معلمٌ مهمٌّ جدًّا؛ ولذلك يقولون: في النفس السَّوية ثلاثة أشياء مهمة -ربما ذكرناها في لقاءاتٍ قديمةٍ-:
الأمر الأول: الاستقرار الذاتي، وهذا له علاقةٌ بالنقطة الثانية هنا وهي: الأمن النفسي.
الأمر الثاني: الاستقرار المجتمعي، يعني: دوره في المجتمع، وهذا مُرتبطٌ بالنقطة الثالثة وهي: تقدير وحب المجتمع.
الأمر الثالث: الزيادة في الإنتاجية؛ لأن الإنسان إذا شعر باستقرارٍ ذاتيٍّ، وشعر باستقرارٍ مجتمعيٍّ وعلاقته إيجابيةٌ بالمجتمع؛ تتوقع منه إنتاجًا.
وإذا بحثتَ عن سبب ضعف الإنتاج عند أحد أفراد الأسرة، أو في البيئة التعليمية، أو في البيئة الوظيفية، أو في المجتمع ستجد أنه إما يعود لقضيةٍ مُرتبطةٍ بجانب الاستقرار الذاتي، أو مُرتبطةٍ بجانب الاستقرار المجتمعي في الغالب الأعم.
فهذا ما يتعلق بأهمية التربية للفرد.
أهمية التربية للأسرة
أولًا: طاعةٌ لله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ كما قلنا قبل قليلٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.
ثانيًا: أداءٌ لحق المسؤولية: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، فالأب راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والأم راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها[5]أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829)..
ثالثًا: وقايةٌ من عداوة الأبناء: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، ولك أن تتصور قوله سبحانه: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] الذي هو الشيطان، لكن أن يكون الأبناء أعداء لنا! وذلك حينما لا نسلك بهم المسلك الذي يُرضي الله ونُربيهم عليه.
وهذا عند بعض الأُسر حسراتٌ وويلاتٌ، ويشيب الشعر من بعض القضايا التي تأتينا، والله يتوب علينا في التأخر في الرد على بعض الرسائل في الاستشارات المكتوبة، وأحيانًا غير المكتوبة، وأحيانًا تكون رسالةً صوتيةً وتحتاج مع مَن يتصل بك مباشرةً إلى أن ترد عليه مباشرةً بما كتب الله.
إننا والله لا نستطيع الرد في بعض الأحيان على بعض الأشياء، يقف شعر رأسك مما ترى من الوصف الموجود، وتشعر أنك في عالمٍ مُخيفٍ ليس هو الذي قال الله عنه: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، عالمٌ مُخيفٌ لا تشعر فيه بالأمن النفسي.
رابعًا: الأبناء من أسباب سعادة الوالدين، فالوالدان يفرحان حينما يريان أبناءهما مُتربِّين، فهم نعمةٌ من الله.
أذكر أحد الشيبان -رحمة الله عليه- كان عندنا في الحي، فيقول له شايبٌ آخر يُداعبه، وبينهما مُداعبةٌ، والثاني لا زال حيًّا، والأول توفي -رحمة الله عليه-، وهذا الذي تُوفي عنده ابنٌ مُتدينٌ، وهو -الأب- ليس مُتدينًا، فقال: أنا أستغرب كيف خرج هذا منك؟! يعني: يضحك معه، فقال له: والله بتوفيق رب العالمين، فأنا لستُ أعلم التربية على حقيقتها.
فكان الأب سعيدًا ويفخر بأن لديه ابنًا يُشار إليه بالبَنان، فهذا لا شكَّ أنه مصدرٌ من مصادر السعادة.
خامسًا: مصدر ثوابٍ للوالدين في الآخرة، كما في الآية المشهورة: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، والأجور التي تأتي للإنسان حينما يجد أثر بِذرته وعمله التربوي عندما يقف بين يدي الله ، ليس بينه وبين الله ترجُمان، وتُكشف السرائر يوم القيامة، وإذا بسجلات الحسنات فيها تلكم التوجيهات والآثار والقدوة من الآباء لأبنائهم، فلا شكَّ أن هذا شيءٌ عظيمٌ.
فأقول: لو أن الله وفَّق ابنك في أن يسلك مسلكًا إيجابيًّا في التربية ويُصبح شخصًا صالحًا مُصلحًا إيجابيًّا في هذه الحياة، والله ثقيلةٌ أن يكون غيرنا هو الذي ربَّى أبناءنا أكثر منا!
المُفترض أن تكون أنت أيها الأب وأنتِ أيتها الأم مصدر التربية للأبناء، ولا يمنع هذا أن نستفيد من أناسٍ مُؤثرين، لكن لا تفوتنا الفرصة؛ لأن القضية مرتبطةٌ بأجورٍ، ونحتاج أن نتنبه لذلك.
فكم من أجرٍ يأتي للأب الذي أدخل ابنه وحمَّسه وشجَّعه، وعزَّزه وتلطف معه حتى أصبح من أهل القرآن، ثم يحمل بعد ذلك القرآن بين جنبيه، فيكون من حفظة كتاب الله، وربما الأب من أضعف ما يكون في حفظ كتاب الله ، لكن كتب الله له الأجور حينما وُفِّق لمثل هذا الابن حينما ربَّاه على مراد الله .
سادسًا: تربية الابن الأول تُسهل تربية الأبناء الآخرين، وهذا يُعتبر نجاحًا في الأسرة، ودائمًا الأول له شيءٌ من العناية، والذي جرَّب هذا الأمر من خلال الزواج ووُفِّق -أهم شيءٍ أن يكون وُفِّق- إلى تربيته تربيةً صحيحةً سيجد أن هذا الابن الأول أو البنت الأولى بمثابة الأب والأم، لكن لا يمكن أن يحدث هذا الأمر إذا لم يكن المُنتج إيجابيًّا، وهذا من أهمية التربية للأسرة.
سابعًا: تقليل التكاليف الاقتصادية، فعندما تُربي بطريقةٍ صحيحةٍ وتأخذ القضايا في مكانها الصحيح، وكلٌّ يأخذ موقعه ومكانه الصحيح، وتكون إيجابيًّا في هذا الأمر لا تجد نفسك تستهلك من أوقاتك، ومن أموالك ... إلى آخره، فيحصل اقتصادٌ تربويٌّ، وترشيدٌ اقتصاديٌّ، فبدل أن تدفع أموالك قمتَ بدورٍ كبيرٍ جدًّا في التربية، واستطعتَ أن تُنشئه داخل أُسرتك من خلال البرامج التربوية.
أهمية التربية المجتمعية
ذكرنا أهمية التربية للفرد، وذكرنا فيها ثلاث نقاطٍ، ثم ذكرنا أهمية التربية للأسرة، وأشرنا إلى سبع نقاطٍ، وسنذكر الآن أهمية التربية للمجتمع.
والذين تكلموا في أصول التربية الإسلامية كثيرون، منهم الأستاذ الدكتور: الحازمي، صاحب كتاب "أصول التربية الإسلامية"، يمكن أن يُرجع إليه، وقد تكلم في هذا الكلام، وهذا الكتاب جيدٌ، ويمكن أن يُستفاد مما ذكر للمُراجعة والاطلاع والاستفادة منه.
أولًا: الأمن الاجتماعي، فالمجتمع المُتربي مجتمعٌ مُتماسكٌ، يعرف كل شخصٍ فيه دوره، فأفراده يشعرون بالأمن، وليست هناك اضطراباتٌ.
أما المجتمع غير المُتربي فيُخرج عناصر غير مُتربيةٍ، وهو مجتمعٌ دنيويٌّ ماديٌّ، وربما تحصل فيه إشكالاتٌ، ولا يحصل الأمن الاجتماعي الذي ينبغي أن يكون الإنسان عليه.
الأمر الثاني: الترابط الاجتماعي الذي أشرنا إليه هو من مُستلزمات هذه النقطة، لكن التربية لا شكَّ أن لها أثرًا كبيرًا على قضية الترابط، فعندما نتربى على القيم تجد نفسك أنت مع إخوانك في ترابطٍ، أيًّا كان التفاوت بينكم في الجنسيات، وفي اللغة، وفي المال، وفي الوجاهة، لكن تربطكم رابطة الأخوة في الله ، فيحصل في المجتمع ترابطٌ؛ لأن المجتمع يُقدر الجانب التربوي ويعيش هذا المعلم على مستوى كياناته ويهتم بذلك.
لذلك إذا كان المجتمع يُعاني من صراعٍ في الجانب التربوي، إما في الجانب الفكري، بمعنى: أنه يتلقى التربية من مصادر مختلفةٍ، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ، فيحصل اهتزازٌ بجانب الأمن الاجتماعي، ويحصل اهتزازٌ بجانب الترابط الاجتماعي؛ فلذلك ينبغي أن يتلقى المجتمع من مصدرٍ واحدٍ، ونحن نتكلم عن كتاب الله وسنة النبي ، ونستفيد من خبرات الآخرين في مثل هذه الجوانب، وإلا سيحصل تفككٌ.
والمُهاترات التي تحصل من أصحاب المجتمع الواحد مثلًا في وسائل الاتصال في قضايا الكلام والغيبة والقذف والشَّتم؛ لأن كل إناءٍ بالذي فيه ينضح، ولو كانت عندنا قيمٌ تربويةٌ نشأنا عليها وتربينا عليها ما قلنا ذلك.
وقد تجد في بعض الأحيان -وهذه نقطةٌ مهمةٌ- مَن يُخالفك حتى في المنهج -أقصد أنه لا يُمثل المنهج الإسلامي- لكنه تربَّى على قيمةٍ من القيم، مثلًا: قيمة العدل، فتجد أنه يتميز في هذا الأمر، ولا يُحب أن يظلم أحدًا، وهو أصلًا مُخالفٌ لك في المنهج الفكري، وربما في الدين.
ولماذا بعض التَّصرفات عند الغربيين أفضل مما عند المسلمين في بعض الجوانب؟
تجد القضية مُرتبطةً أصلًا بأنهم تربوا في بيئاتٍ مجتمعيةٍ على مثل هذه القضايا القيمية المُعينة، وليس كل القيم، وإنما في بعض القيم وما يتعلق بها، فمثلًا: عندهم حب الإنجاز، واحترام العمل، واحترام النظام، وما شابه ذلك، فهم تربوا على ذلك، فأصبح المجتمع كله يعيش مثل هذه القضية ويتربى عليها، فصارت ثقافة المجتمع فيها هذه القيم، وكما جاء عن النبي : إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق[6]أخرجه البزار في "مسنده" (8949) واللفظ له، والبيهقي في "السنن الكبرى" (20782)، وأحمد في "المسند" (8952) بلفظ: «إنما بُعثتُ … Continue reading، إذن هناك أخلاقٌ إيجابيةٌ كانت موجودةً في الجاهلية، فجاء النبي يُتمّها.
وهذا أمرٌ يُفسر ما يحصل عند بعض الناس من الإشكال فيما يرتبط بكيف يكون غير المسلمين في بعض الجوانب وبعض الأمور أحسن من بعض المسلمين؟ وهذا تفسيرها -والله تعالى أعلم- وهو مُرتبطٌ بالجانب التربوي.
النقطة الأخيرة: تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال التربية الأخلاقية، فيتربون على البذل، واحترام العمل، والعطاء، والإنتاج، وحب الإنجاز، يتربون على هذا فتحصل تنميةٌ اقتصاديةٌ في المجتمع.
أقول لطلابنا: أنتم ستكونون معلمين في التربية، وستتخرجون معلمين، وليس من الحكمة أبدًا أن يشعر الواحد منكم أنه أقلّ قدرًا من الطبيب والمهندس، فأنت أكبر أهميةً من الطبيب والمهندس؛ لأنك أنت الذي تُخرج الطبيب والمهندس.
فحينما يكون الذي يتخرج من الكليات التربوية قويًّا وصاحب إنتاجٍ وحرصٍ وعملٍ وتضحيةٍ، وتكون هذه الصفة موجودةً في الذين يُمارسون التعليم؛ حينئذٍ ستعرف أن المجتمع سيُخرج أفذاذًا وأجيالًا في هذا الجانب.
وهذا يُفسر المُعاناة الموجودة فيما يرتبط ببعض الثقافات التي في مجتمعنا في جوانب معينةٍ سلبيةٍ، وما شابه ذلك، فجزءٌ كبيرٌ من سببها أن الذين ينبغي أن يكونوا قُدواتٍ في التربية هم ضعافٌ في هذا الجانب، وكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح، فتجد الذي يتعامل مع الآلات أكثر إنجازًا وحرصًا وانضباطًا من الذي يتعامل مع بناء الإنسان، وهذه مشكلةٌ عويصةٌ جدًّا.
فيجب ألا نيأس، وأن نتفاءل، وأن ننشر هذه الثقافة، ونكون قُدواتٍ لهم في مثل هذا الجانب، فهذه لها علاقةٌ بالتنمية الاقتصادية.
والتربية المهنية والإبداعية لها علاقةٌ بالتنمية وتحقيق التنمية الاقتصادية؛ لأنه سيكون هناك إبداعٌ، وسيكون هناك تحقيق وجود الإنسان في المهنة المُناسبة له وما يتعلق بذلك.
ضمور واختفاء المُعوقات الاقتصادية السلوكية من الأمور المهمة جدًّا، يعني: التي ستُعيق العملية الاقتصادية كما قلنا: الكسل، وعدم الشعور بالثقة في النفس، وتقليل المصروفات، كل هذه الأشياء لا شكَّ أنها من الثقافة المهمة في مجتمعاتنا حتى ينشأ المجتمع في جانب التنمية الاقتصادية بشكلٍ جيدٍ، وهذا دورٌ كبيرٌ.
وهناك علمٌ خاصٌّ اسمه: علم اقتصاديات التربية، يُشار إليه في مثل هذه الأمور التي أشرنا إلى جزءٍ منها.
هذا تقريبًا ما تمكن الإشارة إليه فيما يتعلق بـ: لماذا التربية مهمةٌ؟
فما كان من صوابٍ فمن الله سبحانه وتوفيقه، وأسأل الله أن يُبارك فيه، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه أحمد في "المسند" (15156)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ؛ لضعف مجالد، وهو ابن سعيد"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (174)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (26421)، وحسَّنه الألباني في تحقيق "مشكاة المصابيح" (177). |
---|---|
↑2 | "مفتاح دار السعادة" (1/ 140). |
↑3 | أخرجه مسلم (1218). |
↑4 | أخرجه أحمد في "المسند" (114)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الشيخين غير علي بن إسحاق -وهو المروزي- فقد روى له الترمذي، وهو ثقةٌ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1116). |
↑5 | أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829). |
↑6 | أخرجه البزار في "مسنده" (8949) واللفظ له، والبيهقي في "السنن الكبرى" (20782)، وأحمد في "المسند" (8952) بلفظ: «إنما بُعثتُ لأُتمم صالح الأخلاق»، وقال مُحققوه: "صحيحٌ، وهذا إسنادٌ قويٌّ، رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عجلان، فقد روى له مسلمٌ متابعةً، وهو قوي الحديث"، والبخاري في "الأدب المفرد" (273)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2349). |