المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فبحمد الله نحن في اللقاء السادس من المجموعة الثامنة من سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
وما زلنا نتحدث عن التربية على قوة الإرادة، وهذه هي الحلقة الثالثة من هذا الموضوع، وستكون -إن شاء الله تعالى- خاتمةً لهذا الموضوع، وننتقل -إن شاء الله تعالى- في الأسبوع القادم لموضوعٍ آخر.
كنا في اللقاءين الماضيين فيما يتعلق بالتربية على قوة الإرادة تحدثنا عن بعض المُقدِّمات، وما يرتبط بما جاء في كتاب الله وسنة النبي التي تُؤكد أهمية التربية؛ تربية أنفسنا على الإرادة وقوة الإرادة.
ثم كان هناك نقاشٌ في الأسبوع الماضي حول ما يتعلق بمظاهر قوة الإرادة.
ولعلنا في هذه الليلة -بإذن الله - والتي هي خاتمة المطاف فيما يتعلق بهذا الموضوع، نتناول ما يرتبط بـ: كيف نُقوي إراداتنا؟ ونجعل الإرادة لدينا قويةً؟ وأيضًا في المقابل ما الأمور التي قد تُضعف تلك الإرادة؟
وما زلنا نؤكد أن الإنسان -الذي هو أنا وأنت، وابني وابنك، ... إلى آخره- من المعالم المهمة له ما يرتبط بقضية الإرادة، فهذا الإنسان يملك إرادةً، وهو مُحاسَبٌ على هذه الإرادة؛ ولذلك تنبغي العناية والاهتمام بهذا الموضوع.
فكل فردٍ يملك طاقةً، ويملك إرادةً، ويستطيع أن يُفَعِّل هذه الإرادة إذا وُجدت القناعة، وكذلك الممارسة، مع الاتجاه الإيجابي لهذا الإنسان نحو هذا العمل، وقبل هذا وبعده توفيق الله .
ولذلك أقول: هذا من معالم نجاح التربية في أُسرنا، وفي بيئاتنا التربوية، وفي مجتمعاتنا: مدى قُدرتنا على تفعيل إراداتنا.
معالم تقوية الإرادة
نأخذ بعض المعالم المتعلقة بتقوية الإرادة، ونتناقش حولها بإذن الله .
تقوية المجال الإيماني
المعلم الأول: ما يرتبط بتقوية المجال الإيماني، ولنا سوابقُ فيما يتعلق بهذا الموضوع وأهميته.
والسر في هذه القضية: أن النفس البشرية تُربط بالله ، الركن الشديد، وحينما نكون مُعتمدين على الله وقريبين منه يُوفقنا؛ ولذلك تجدون هذه من معاني قراءتنا لسورة الفاتحة وتكرارها في الصلوات، فقد حوت قول الله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يعني: نحن نعبد الله، لا نعبد غيره، ونحتاج إلى معونة الله في تلك العبادة، ليس الأمر بهذه السهولة، لو وكلنا إلى إراداتنا لم نُوفق.
ولذلك من أفضل ما يكون في هذا الجانب: مراجعة الجانب الإيماني؛ مدى قُرب الإنسان من ربه، ومدى بُعْده عن ربه، وأنعم وأكرم حينما تكون التربية -تربية الأبناء- مُنطلقةً من هذه القضية، وهي ربط الجيل بالله ، سيرتاح المُربون مهما كان وضع هذا الجيل.
يعني: أصبحنا نعاني مما يظهر، فكيف بما يخفى؟! لكن حين يكون هذا الابن أو المُتربي -أيًّا كان- صاحب علاقةٍ بالله قويةٍ فأنت تطمئن، وهذا هو الذي نحن في أمس الحاجة إلى مُراجعته في هذا الموضوع.
وسبق لنا كلامٌ حول الدوافع، وذكرنا أن أي سلوكٍ إنسانيٍّ -أيًّا كان هذا السلوك: مُرتبطٌ بالعقل، أو مُرتبطٌ بالمشاعر، أو مُرتبطٌ بالمهارات- لا بد له من دافعٍ، لكن الفرق بين منهجنا الإسلامي -المنهج التربوي الإسلامي- والمنهج غير الإسلامي أن المنهج الإسلامي مُرتبطٌ بالدوافع الأُخروية، وسمة الدوافع الأخروية الديمومة والاستمرار، ففي الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشرٍ[1]أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824)..
فهذه لا تتوقع أن تنقطع بحالٍ من الأحوال؛ لذلك لما يُربى الجيل على هذا الدافع ستجد أنه ينطلق للعمل، بينما لا توجد حوافز ماديةٌ، لا يوجد حتى تشجيع، مع أهمية الحوافز وأهمية التشجيع، لكن عنده دافعٌ معنويٌّ أكبر من هذا، فتجد أنه ينطلق، وتشتغل الإرادة وتقوى؛ لأن علاقته بخالقه ، فالله يريد منه ذلك .
بعضنا يمكن لو طلب أن يعمل عملًا، والذي طلبه شخصٌ له أثرٌ عليه، أو له قدرٌ ووجاهةٌ، فربما كسلي في هذه اللحظة، أو كسلي في حياتي وفتوري ينقلب إلى إرادةٍ قويةٍ حينما يطلب هذا الشخص الذي لديه مكانةٌ، وأريد أن أخدمه، وقد خدمني، وأُصبحُ شخصًا آخر، وهذا جزءٌ من طبيعة النفس البشرية، فكيف لو كان الأمر مرتبطًا بالله ؟
لذلك ليس من الخسارة أبدًا حينما نحرص على التربية الإيمانية: العلاقة بالله واليوم الآخر، هكذا تربى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهكذا ربى القرآن صحابة النبي ، وهكذا ربى النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه، وهكذا يجب أن تُربى الأمة، فنحن بأمس الحاجة إلى أن نعود ونتحدث حول هذه القضية.
ودائمًا نقول لأنفسنا ولغيرنا: أين نحن من هذا الموضوع في بيوتنا؟ كل واحدٍ منا يكون صريحًا مع نفسه، أين هذا المشروع الإيماني في البيوت؟ أين هذا المشروع الإيماني وتقوية المجال الإيماني مع النفس؟
كل واحدٍ منا يعرف ذاته، ويعرف خبيئته، ويعرف ضعفه، ويعرف ما تقترفه نفسه بعيدًا عن نظر الناس، ويعرف قوته، ويعرف ضعفه، ... إلى آخره.
فهذا كله من الأشياء التي نحتاج أن نقف معها، ونسلك مسالك الوسائل المتعلقة بالإيمان، وما أعظم التعلق بكتاب الله ، وسنة النبي ، ومنهج النبي في التربية على الإيمان، واستثمار الفرص في هذا الجانب!
فالصحابة كانوا يُعلِّمون أبناءهم منذ نعومة أظفارهم علامات الساعة الكبرى، ويقفون معهم حول اليوم الآخر وهم أطفالٌ؛ ليعظم في قلوبهم هذا الأمر، يعظم في قلوبهم اليوم الآخر، وعندئذٍ سيعظم في قلوبهم الخالق ، وهنا فرقٌ بين هذه التربية والتربية المادية.
فحسبكم هذا التفاوت بيننا | وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح[2]انظر: "وفيات الأعيان" (2/ 365)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (7/ 477). |
يعني: تجد أن التربية تختلف، مع أن المعدن واحدٌ، أو مُتشابهٌ في مرحلةٍ، لكن هذا يُغذِّي بشيءٍ، وهذا يُغذِّي بشيءٍ آخر، حتى لو كان مُباحًا، لكن هناك فرقٌ بين المباح الدنيوي والأُخروي؛ فلذلك هذا من أكبر عوامل تقوية الإرادة.
يعني: رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله[3]أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031).، ولما اجتمعت كل دواعي الفتنة -بل من أقواها كما قال العلماء- في قصة يوسف وامرأة العزيز، قال يوسف: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
فالكلام في هذا سهلٌ أن نتحدث به، ولكن كلنا -وأولكم مُحدِّثكم- في أمس الحاجة إلى مثل هذا الأمر، فالأمر يحتاج إلى رصيدٍ، قد يكون جزءٌ منه ظاهريًّا، لكن هناك رصيدٌ عظيمٌ باطنيٌّ يكشف الحقائق.
وما أجمل أن يُحاسب الإنسان نفسه بين فترةٍ وفترةٍ، وبينه وبين غيره! وما أعظم أن يُعطي نفسه مكانها الحقيقي! فلا تعظم عنده هذه النفس في حقِّ الله ، بل يشعر أنه مُقصِّرٌ في حقِّ الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، تظن عائشةُ رضي الله عنها أنهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، فبيَّن لها النبي أنهم ليسوا كذلك، فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويُصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تُقبل منهم: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61][4]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162)..
هذا الحس الإيماني المُرْهَف نحن في أمس الحاجة إليه، وهذا بخلاف مَن تربى على غير ذلك؛ تمشي الأمور كأن لم يكن شيءٌ!
وإذا كان الذنب الصغير عند الصحابي ومَن على طريقته كأنه جبلٌ فوق رأسه، فهذا الآخر الذنب عنده كأنه ذبابٌ على أنفه، يقول به هكذا، وتنتهي القضية بالنسبة له.
هذه دعوةٌ لي ولإخواني لتقوية هذا الجانب، ولا شك أنه مَعِين قوة الإرادة والتربية عليها.
وإذا قرأ الواحد في قصص غير المسلمين وسيرهم ممن بذل في هذه الحياة وأنتج واخترع وجد شيئًا من قوة الإرادة وتفعيل هذا الجانب بشكلٍ كبيرٍ.
وكنت أقرأ لأحد الأدباء أنه كان ينعزل عن الناس، ويترك بيته وأسرته، ويعيش في مكانٍ ما، ... إلى آخره ليُنتج، فهو يفعل شيئًا غير مألوفٍ للناس؛ ليُنتج، فهذه إراداتٌ قويةٌ في إنتاجٍ دنيويٍّ.
فأصحاب الإيمان ماذا سيكون شأنهم وحالهم؟
لا شك أن هناك نماذج عظيمةً جدًّا فاقت هذه النماذج، وعملت، لكن نحن في أمس الحاجة إلى ذلك.
أقول: في أحداث القدس الأخيرة -أسأل الله أن يُفرج عن إخواننا في فلسطين وفي كل مكانٍ- عندما يُشاهد الواحد المشاهد الدالة على غطرسة اليهود وأعوانهم، ويرى في المقابل طفلًا يعترض دبابةً، ويعترض جنودًا بحجرٍ، وهم يقدرون على قتله بسهولةٍ! وغير ذلك من النماذج التي حصلت من بعض النساء اللاتي اختارهن الله في مثل هذه الأحداث، أو صورة ذلك الشايب الذي يُدافع عن الشباب وعن إخوانه ثم قُتِل!
أنا أقول: ما الذي يجعلهم يفعلون ذلك؟
أصلًا من طبيعة النفس البشرية أنها مفطورةٌ على حب البقاء، يعني: له ألا يفعل ذلك بشكلٍ عامٍّ، بغض النظر عن أحوالٍ خاصةٍ، أنا لا أتكلم عن القضايا عند أهل العلم، لكنني أتكلم بالمجمل، ومع ذلك يفعل.
هذه الإرادة القوية والشجاعة شيءٌ عجيبٌ، يعني: الذين يُرابطون في المسجد الأقصى، وقد رأيتُ بعض الصور وبعض المشاهد (فيديو)، فهذا شيءٌ عجيبٌ، أعجب من الإصرار والإرادة والمجاهدة، هكذا حينما تُخالط بشاشة الإيمان القلوب.
فالمبادئ إذا دخلت في النفوس وفي العقول أصبحت القضية مُؤثرةً: لقد أُوتينا الإيمان قبل القرآن، ولقد أدركتُ أقوامًا أوتوا القرآن قبل الإيمان، يهُذُّونه هَذَّ الشعر، ويَنْثُرونه نَثْرَ الدَّقَل.
فالتربية الإيمانية لا بد منها، حتى قبل التواصي بكتاب الله ، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهذا منهج السلف الصالح: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، ولن تستقيم هذه المعاني ويظهر أثر التربية القرآنية ومثيلاتها -مثيلات هذه التربية- إلا حينما نتربى ابتداءً على الإيمان، فتخلص النفوس كما وصف الصحابة ، فخلصت نفوسهم من حظِّ نفوسهم.
تصور واحدًا ليس لنفسه حظٌّ، يخلص نفسه من حظِّ نفسه، وتكون نفسه لله ، فالمكان الذي يريده الله سيكون فيه، والوقت الذي يريده الله سيكون موجودًا فيه، والحال الذي يريده الله سيكون فيه، فهو في الله، وبالله، ومع الله، ... إلى آخره.
هذه التربية يا أحبابي لا بد أن تبقى موجودةً، لا نعطيها فضول التوجيه، وفضول الأوقات، وفضول الاهتمامات، ... إلى آخره.
ولذلك تُنقد كثيرٌ من الدورات التدريبية واللقاءات والاهتمامات المتعلقة بالقضايا الأسرية وما شابه ذلك حينما تكون في معزلٍ عن هذه المعالم المتعلقة بالجانب الإيماني والتربية الإيمانية.
التدريب العملي على مخالفة الهوى
النقطة الثانية: التدريب العملي على مخالفة الهوى، وهذه أيضًا قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ لأن هنا إثبات جدارةٍ، فمَن يفعل ذلك يُثبت فعلًا أنه صاحب إرادةٍ، فعندنا قضيتان: هوى النفس ورغبتها، وهي بخلاف مراد الله ، وهذا الصراع يكشف قضية قوة الإرادة.
طيب، أيش العمل؟
الذي يستسلم سيفشل في هذا الاختبار -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم-، والذي سينتصر على قدر ما ينتصر سيُحقق رصيدًا فيما يتعلق بالتربية على قوة الإرادة.
يعني: ما أجمل أن يُرغم الإنسان نفسه فيقول لها: لا تفعلي، خلِّ! دعه ينجح في مواقف، ولا ينجح في مواقف، لكنه لا بد أن يكون عنده هذا الهاجس: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، هناك هوًى ورغبةٌ وميلٌ، فحينما يُخالف رغبته وميله لا شكَّ أنه سينجح.
لذلك في التربية الإسلامية يقولون فيما يتعلق بالدوافع مثلًا -أعني: الأشياء التي تدفع إلى العمل في هذه الحياة-: إن الدوافع الإيمانية والروحية مُهيمنةٌ على كل الدوافع، وهذا الأمر ليس موجودًا في المناهج التربوية العالمية.
معنى هذا الكلام: أنه سيُشبع دافع الجوع، طيب، هل يجوز له أن يُشبعه بحرامٍ؟ فيأكل الحرام؟
لا، هل يجوز له أن يُشبع هذا الأمر بالسرقة؟
لا يجوز له ذلك، وهكذا.
الدافع الجنسي دافعٌ موجودٌ في فطرة الإنسان، ولا يُنكر، فهل يجوز أن يُشبع هذا الدافع بحرامٍ: من نظرٍ، واستماعٍ، ومُباشرةٍ، ... إلى آخره؟
لا، لا يجوز.
إذن يُشبع بالحلال: تخليةٌ وتحليةٌ؛ إبعاد المُثيرات السلبية، وإيجاد المُثيرات الإيجابية، من: زواجٍ، وصيامٍ، وإشغال وقت فراغٍ، وحرق هذه الطاقة بالرياضة الشريفة، ... إلى آخر تلك الأشياء، والابتعاد عن تلك المُثيرات من: أصدقاء سوءٍ، أو مُثيراتٍ مرئيةٍ أو مسموعةٍ، أو ما شابه ذلك.
ما الذي جعله يفعل هذا الفعل؟
هو الدوافع الإيمانية والروحية التي ذكرناها قبل قليلٍ، والنقطتان مُتعلقتان ببعضٍ، فلا يمكن للإنسان أن يُخالف هواه إلا بالإيمان بالله .
ولذلك فالبداية بالعقيدة، والبداية بالإيمان في التربية، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فمنا مَن يُجيد مجالاتٍ في التربية، من: وسائل، ومهارات، وحضور دورات، وقراءات، ممتازٌ، لا نقول: لا، لكن انظر نصيب هذا الأمر في مقابل التربية الإيمانية، فلا تكاد التربية الإيمانية تكون لها نسبةٌ تُذكر، هذا لا يجوز يا جماعة، هذا لا يجوز بحالٍ، هذا جزءٌ من التضييع والتيه الذي ذهب بأصحاب التربيات غير الإسلامية المُنحرفة يمنةً ويسرةً؛ لذلك نحتاج إلى العناية بمثل هذا الأمر.
وأفضل طريقٍ في موضوع مُخالفة الهوى هو الضبط الذاتي، يعني: أثبت لنفسك أنك قادرٌ على أن تقول: لا، أثبت لنفسك أنك قادرٌ على أن تغضَّ البصر، أثبت لنفسك أنك لا تذهب إلى الحرام، وكانت نفسك تُحدثك أن تذهب إلى الحرام، أثبت لنفسك أنك تقوم وتُبَكِّر إلى الصلاة، وأنت أصلًا من النوع الذي يتأخر عن الصلاة، ... إلى آخره.
هذا من الممارسات الجميلة التي تُعين الإنسان على مخالفة هواه، فعليه أن ينظر إلى الشيء الذي اعتاد عليه، وأصبح في القضية ترهلٌ، يعني: كل ما يطلبه ويتمناه ويريده يُحصِّله، خاصةً إذا كانت البيئات التي حوله تُعينه على هذا الشيء، من: دلالٍ أو دلعٍ، أو مالٍ، أو غير تلك الأشياء.
أنا أعرف بعض البيئات الغنية التي تضع سياسةً لها في تربية الأبناء تتمثل في أن القائمين على الأسرة لا يُعطون أبناءهم كل شيءٍ يُريدونه؛ ليتعودوا على أن يُحرموا من بعض الأشياء، وهذا مهمٌّ جدًّا، وإلا سيُصبح مجرد طالبٍ فقط، يطلب وينتظر فقط، فيُصبح رجلًا لا يُبالي، ولا يتحمل مسؤوليةً، ولا بد من تحميله المسؤولية، مع القيام بالواجب المُتعلق بالنفقة، وما شابه ذلك، ولكن الكلام في التربية على مخالفة الهوى.
فالابن دعه يتعلم، وكذا الطالب دعه يتعلم أن كل ما يتمناه لا يمكن أن يُحصِّله، هذا من مخالفة الهوى بطرفٍ خارجيٍّ، يعني: لا الأب، ولا المعلم، ولا كذا، وهذا مهمٌّ أن تتم التربية عليه، لكن الشيء الأقوى من ذلك حينما يصل مستوى هذه المخالفة عند الإنسان إلى أن يُخالف نفسه من خلال ضبط الذات (self-control)، هذه هي القضية الناجحة.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يُراجع نفسه في هذا الأمر، هل لديه شيءٌ في سلوكه اليومي أو شبه اليومي مخالفٌ لرغباته؟ لا بد أن يصير عنده واحدٌ، أو اثنان، أو ثلاثةٌ، وهكذا.
يضع في باله أنني والله قمتُ عن الشيء الذي أُحبه لأذهب إلى الصلاة في المسجد وأُدرك تكبيرة الإحرام، هذا جزءٌ، هذا مثالٌ، فأنا أترك هذا الشيء الذي أُحبه لله.
فإن حصل شيءٌ من هذه التربية فلا شك أن هذا من التدريب على مخالفة الهوى، خاصةً أن بعض هذه الأمور واجبٌ، فينبغي إلزام النفس بهذا الجانب، وبعضها ليس واجبًا، ولكنه مُستحبٌّ، فمن الطيب أن يتدرب على مثل ذلك، فالتدريب العملي على مخالفة الهوى مهمٌّ.
وهذا لا يحتاج لفلسفةٍ، ولا مهاراتٍ، صحيحٌ أنه قد تُقدم مهاراتٌ موجودةٌ في الضبط الذاتي، وهذه موجودةٌ، ولكنه جانبٌ واضحٌ وبيِّنٌ لا يحتاج إلى شيءٍ، فالواحد منا لا يحتاج إلى مهارةٍ ليذهب للدوام ولو ما نام في الليل، أو ما نام إلا نصف ساعةٍ، لا يحتاج إلى مهارةٍ ليقوم من النوم ويُشغل سيارته ويذهب إلى الدوام، فهي طاقةٌ ذاتيةٌ داخليةٌ موجودةٌ اشتغلت في مثل هذا الوضع، فهي موجودةٌ ومفهومةٌ، فلو اتصل المدير، أو أرسل رسالةً: ليس هناك دوامٌ. فلن يأتي.
وقلتُ في بعض المرَّات: لو أن الشرع لم يأمرنا بأداء صلاة الفجر وجوبًا، هل سنقوم لنُصلي؟
لا، بل لو قلنا في دائرة الاستحباب، ناهيك عن غير الاستحباب، يعني: من أجل أنها مُستحبةٌ، فمثلما يترك المُستحبات أحيانًا سيترك القيام، ومَن ذا الذي سيفعل المُستحب دائمًا؟!
سيكون وضعنا مثل وضعنا الآن، مع إشكاليات الوضع في صلاة الفجر على مستوى الأمة عمومًا، لكن أنا أتكلم على المستوى الفردي الآن، الذي هو المحافظة على الصلوات، وما شابه ذلك.
فما الذي أيقظه مُبكرًا وهو ما نام إلا مُتأخرًا؟ وما الذي أقامه وهو صحيحٌ؟ وما الذي أقامه وهو مُتعبٌ؟ نفس الشخص، وما الذي أقامه وهو مهمومٌ؟ وما الذي أقامه وهو مُرتاحٌ؟
فالقضية مرتبطةٌ بهذا الجانب: التدريب العملي على مخالفة الهوى.
ولذلك من التوجيهات للأطفال والأجيال أن يترك الشيء الذي يُحبه، ومن الخطأ أن يُقال: اتركه، ما زال طفلًا صغيرًا، اتركه على ما هو عليه، هو جالسٌ يلعب ومبسوطٌ، دعه الآن يترك الصلاة، وسيقوم إلى الصلاة فيما بعد!
الصلاة لها وقتها، وهذه الألعاب لها وقتها.
فهذا التدريب العملي لا شكَّ أنه يُعوِّد النفس البشرية على تقوية الإرادة.
ممارسة العبادات وأعمال الخير
النقطة الثالثة من وسائل تقوية الإرادة: ما يتعلق بممارسة العبادات وأعمال الخير؛ لأنها مرتبطةٌ بالمُجاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]؛ ولأنها فيها كما جاء في حديث عبدالله بن بُسْر : أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، لقد كثرت عليَّ شرائع الإيمان، فدلَّني على شيءٍ أتشبث به.
يعني: شرائع الإيمان عليَّ كثيرةٌ.
والواحد منا يتصور أنه لو أن واحدًا منا -نسأل الله أن يتوب علينا- كان يمكن أن يقول: هذا الرجل ما جاء يطلب التَّخفيف، جاء يطلب شيئًا يتعلق به، ويتشبَّث به، ويتمسَّك به؛ حتى يُقيم شرائع الله ، هي كثرت، فلا شكَّ أنها تكاليف، فلا نقول: لا، مع أننا قد رُحمنا بالتخفيف في عددٍ من التكاليف مُقارنةً بغيرنا من الأمم.
فماذا نفعل في مثل هذا الشيء؟
لا شك أن هذا من رحمة الله بنا، فالعبادات والقيام بها وأعمال الخير من الأشياء المُعينة في قضية قوة الإرادة؛ لأن الأشياء فيها مجاهدةٌ، وفيها تعبٌ.
نعود إلى حديث عبدالله بن بُسْر : فقال له النبي : لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله[5]أخرجه الترمذي (3375)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه"، وابن ماجه (3793)، وأحمد في "المسند" (17680)، وقال … Continue reading، يعني: هنا رجعنا إلى النقطة الأولى، وهي قضية تقوية المجال الإيماني، هذا هو الحل.
وحين تنظر في سِيَر بعض العلماء غير المسلمين الذين أبدعوا في مجالاتٍ معينةٍ، ثم تقرأ عن أواخر حياتهم تجد بعضهم قد انتحر، وبعضهم كذا، رغم أنهم أنتجوا، فنقول: الإرادة موجودةٌ، لكن هناك شيءٌ كبيرٌ مفقودٌ.
لذلك كان (ألكسيس كاريل) صاحب كتاب "الإنسان ذلك المجهول" وهو طبيبٌ (فسيولوجيٌّ) -وظائف أعضاء- يقول: لدينا أسئلةٌ كثيرةٌ لم نستطع أن نُجيب عنها فيما يتعلق بوظائف الأعضاء، فأدركنا أن جهلنا بالإنسان مُطْبَقٌ، وأن وراء هذا الإنسان خالِقًا.
فمن المهم جدًّا أن نعتني بهذه القضية، يعني: قناعة وممارسة: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله.
فالرسول في قصة علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما، لما أرادا أن يأتيا بخادمٍ، ماذا قال لهما؟
ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من خادمٍ؟ إذا أويتُما إلى فراشكما، أو أخذتُما مضاجعكما، فكبِّرا ثلاثًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادمٍ[6]أخرجه البخاري (6318)، ومسلم (2727)..
وابن القيم رحمه الله في "الوابل الصيب" استنبط من هذا الحديث: أثر الذِّكْر على تقوية القوة البدنية[7]انظر: "الوابل الصيب" (ص77)..
والإنسان يأتي بخادمٍ لأنه يحتاج إلى مساعدةٍ؛ نظرًا للتعب، فالرسول هنا ذكر البديل: ألا أدلكما على خيرٍ لكما من خادمٍ؟ احرصوا على الذكر، فهنا وجَّههم للذكر، وحديث عبدالله بن بُسْر في الرجل الذي جاء ووجَّهه للذكر، وهذه الطاقة الإنسان في أمس الحاجة إليها.
فالعبادات وأعمال الخير -وعلى رأسها الذكر- نحن في أمس الحاجة إليها، والمُوفَّق مَن وفَّقه الله لذلك.
وإننا نغبط مَن كان لسانه رطبًا من ذكر الله .
وما زال الواحد يتذكر بعض العلماء الذين اختارهم الله، وعلى رأسهم مثلًا: سماحة الشيخ: عبدالعزيز بن باز -رحمة الله عليه- وأمثاله، فقد كان هذا السلوك واضحًا جليًّا عليه، ورأيتُ هذا بأم عيني، وسمعتُ بأذني على مائدة الطعام أكثر من مرةٍ، ففي مائدة الشيخ -رحمة الله عليه- انظر إليه وهو في الأمام، وإذا به يُسبح الله ، ويحمده، ويذكره، ويُسمِّي الله قبل الأكل والشرب، ويحمد الله بعد كل أكلةٍ وشربةٍ من غير تكلُّفٍ؛ لأن المُتكلف ينقطع، لكن الشيخ لا ينقطع، فالذكر سجيته.
ومَن استمع لبرنامج "نور على الدرب" للشيخ عبدالعزيز -رحمة الله عليه- يجد هذه السمة طبيعةً وسجيةً له.
هذا المُوفَّق هنيئًا له، وما هو إلا أن يتعود الإنسان على ذلك، فيُحرِّك هذا اللسان بشيءٍ، وكلما استطاع أن يزداد كلما كان أفضل.
وتصور الأبناء، يعني: أنت تأنس عندما ترى طفلًا في الابتدائي يجلس في المسجد أو في الصلاة، سبحان الله! سبحان الله! واضحٌ أن عنده تربيةً، وهنا حصلت تربيةٌ فيها تلقينٌ، وفيها توجيهٌ.
وانظر إلى مستوى الأغلب والكثير: لا يوجد هذا الكلام، هذا في الظاهر، وهم نتاج الظاهر والأغلب الذي هو موجودٌ في الكبار؛ لذلك نحتاج إلى العناية بمثل هذا الأمر.
وعندما تأتي العبادات مثل: الحج، وفيها الجهد البدني، والجهد المالي، وتأتي عباداتٌ أخرى، ستجد أنها فعلًا تُساعد الإنسان: كالصدقة، فالصدقة ليست سهلةً: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، يعني: هذا وصفٌ من الله للإنسان بأنه يُحب المال.
لذلك شعر عمر بن الخطاب أنه سيفعل شيئًا لم يفعله أحدٌ، فأتى بنصف ماله، لكن كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنهم أجمعين- على أكثر من ذلك، فتصدق بكل ماله[8]أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، والحاكم في "المستدرك" (1510)، وقال: "هذا حديثٌ … Continue reading.
أنا أقول في بعض المرات لنفسي، وأقول للبعض: عندما نأتي ونقف لنشتري وجبةً، وربما الوجبة هذه تجريبيةٌ، لا نعرف مذاقها وطعمها، سمعنا عنها أنها جيدةٌ، أو محلٌّ جديدٌ.
وأنتم تعرفون أننا صرنا نسعى خلف الإعلانات، فما هو إلا أن يظهر إعلانٌ عن منتجٍ جديدٍ إلا وتجد الكثيرين يسعون خلفه من أجل التجربة، فلا بد من التجربة، والتجربة خير برهانٍ.
ويدفع الواحد ما يُطلب منه مقابل الوجبة، فإن طُلِبَ منه خمسة عشر دفع، وقد يُقال له: عشرون، أو خمسة وعشرون، أو أكثر، فيدفع ما طُلِبَ منه مباشرةً، بل أشد من ذلك؛ ففي بعض المطاعم -وأنا أعرف هذا السلوك من خلال بعض مَن أتعامل معهم- جاءت الفاتورة بثلاثمئةٍ، فقام الشباب بدفعها!
وهذا الأمر مباحٌ، ونتصور أنه في حدِّ الاعتدال، لكن هؤلاء ما حالهم عندما يكون الدفع في شيءٍ يستحق الصدقة؟ ماذا يفعل الواحد منهم؟ حينما يُخرج كيس النقود ماذا يفعل؟ كم يُخرج؟
أعجبتني صورةٌ جاءتني في (الواتس آب): لماذا نهدي أغلى ما نملك للتجار، ونهدي أقل ما نملك للضعفاء والفقراء؟ يعني: صورة قد يُفسرها البعض بتفسيراتٍ وتخريجاتٍ وكذا، لكن تُعطي انطباعًا معينًا، فصاحب التعلق بالله تتغير عنده هذه المعادلة بلا شكٍّ.
الالتزام بالشرع والنظام
النقطة الرابعة: الالتزام بالشرع والنظام، هذا مما يُدرب على قوة الإرادة، فقوة الإرادة أن تكون كما يريد الشرع، وهذا حق الله ، وكن عاملًا وفق النظام.
هذا مما يُساعد على أن يتخذ الإنسان قراره، وإرادته كذلك قويةٌ، يعني: لا يلزم أن يكون مخالفًا مثلًا للنظام، كأن يكون شخصًا صاحب رأيٍ وصاحب كذا، لا يلزم، قد يكون بالعكس: هو من الدعة والكسل؛ لأنه يُكلفه الانضباط والنظام شيئًا كبيرًا، لكن عندما يتعود على الحضور، والانصراف، والانضباط بأشياء معينةٍ، ويعرف ما له، وما عليه، وينضبط في هذا الأمر؛ تستقيم حياته، وتقوى إرادته.
وضوح الهدف والغاية
النقطة الخامسة: وضوح الهدف والغاية، لا شك أن هذا مما يُساعد على تقوية الإرادة، فكلما علا الهدف وعَلَت الغاية كلما كانت الإرادة المُفَعَّلة أقوى.
ولذلك لا بد من التذكير دائمًا يا أحبابي بقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وتراها لا تُكلِّف فهمًا، ومن الأبجديات التي يتعلمها أبناؤنا في كتاب "التوحيد" لمحمد بن عبدالوهاب، ... إلى آخره.
لكن من أهم ما يكون أن يبقى عنده شيءٌ اسمه: الله، وأنه ما خلقنا إلا لعبادته؛ لذلك فإن إشباع الدوافع والحاجات والرغبات في هذه الحياة لا بد أن يكون في هذا الإطار، فلا تُخالفه، ولا تُضعفه، وإنما تكون في نفس الاتجاه، وهو ما يتعلق بتحقيق العبودية لله ، قلَّت أو ضعفت، على حسب الأمر، أما أن ننسى العبادة، وننسى مراد الله لنا، وننسى لماذا خلقنا الله؟ فهذه قضيةٌ خطيرةٌ تحتاج إلى انتباهٍ، كما يقول الشاعر:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ | فلا تقنع بما دون النجوم[9]انظر: "شرح ديوان المتنبي" للعكبري (1/ 166)، و"محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء" (1/ 524)، و"صيد الأفكار في … Continue reading |
وكلما علا هدف الإنسان وشرف مُبتغاه كلما فُعِّلت هذه الطاقة؛ لذلك من أجمل ما يكون التذكير بالهدف، والتذكير بالغاية، فالغاية التي عندنا نحن المسلمين هي في قول الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فمصب كل الأهداف وكل الأغراض هو هذه الغاية الكبرى، وعندنا أهدافٌ يمكن أن نُفرعها من الغاية الكبرى في حياتنا بما يخدم هذا الجانب في أمور الدين وأمور الدنيا، فيكدّ طلبًا للرزق، ... إلى آخره، وتكون عنده إرادةٌ، فيحفظ ماء وجهه، ويُرزق بالحلال، ولا يُذلّ نفسه للآخرين، ... إلى آخره، وكذلك في أمور الدين، فهذا مهمٌّ جدًّا.
وقد تغيب الأهداف والغايات عند الانهماك في الوسائل والإجراءات والقضايا العملية والمهارات -والوسائل والمهارات مهمةٌ-، لكن المهم أن نعرف كيف نُؤثر في الآخرين: مهارات فن التعامل مع الناس؟ كيف تكون صاحب ذكاءٍ اجتماعيٍّ، أو وجدانيٍّ، أو عاطفيٍّ؟ وتؤثر في الآخرين، ممتازٌ، رائعٌ، هذا نحتاج إليه، لكن لا يَغِب هذا الكلام عن الغاية؛ حتى لا تتمحور القضية من أجل المصالح الشخصية فتتغير، وهذا مما يجعل هناك قوة إرادةٍ.
مع أنه حتى لو كانت هناك مصالح شخصية ربما تقوى إرادته، لكنها لن تكون مثل الأخرى: لا من حيث الديمومة والاستمرارية والشمولية، ولا من حيث النِّتاج والأثر الذي يُحدثه الله في قلوب العباد بإرادةٍ من رب العالمين.
التنفير من العواقب الوخيمة للذنوب
النقطة السادسة مما يتعلق بـ: كيف نُقوي إرادتنا: التنفير من العواقب الوخيمة للذنوب.
نسأل الله أن يلطف بنا وبكم، وأن يعفو عنا وعنكم، ويتجاوز عنا وعنكم الذنوب والمعاصي.
ومبدأ التنفير يُستخدم في مهارات تعديل السلوك في جوانب، ولا نريد أن نتكلم عن هذا المبدأ، لكن هو من الأساليب التي تجعل النفس تشعر بمُؤلمٍ لا تُطيقه.
مثال: الذي عنده السرعة مئة وعشرون في السيارة، يحصل صوتٌ مُزعجٌ، وهذا تفسيرٌ تحليليٌّ نفسيٌّ كما يقول أهل الاختصاص، وتوظيف مثل هذه القضية مُرتبطٌ بما يُسمَّى بأسلوب التنفير الذي يجعل الإنسان يُعدل سلوكه، فيضبط السرعة كي لا تأتي له بشيءٍ مُزعجٍ، ولو أتيتَ له بشيءٍ مُؤنسٍ سيزيد في سرعته، فهذا التنفير.
وهنا فيما يتعلق بهذا الجانب لدينا شيءٌ مُعِيقٌ لقوة الإرادة، ألا وهو ما يُخالف الإيمان والأعمال الصالحة، وهو الذنب، فالذنوب لها عواقب وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، وممن تكلم في ذلك الحافظ ابن القيم رحمه الله[10]انظر: "الداء والدواء" (الجواب الكافي) ط. عالم الفوائد (1/ 132) وما بعدها.، فقد تكلم عن أثر الذنوب على الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، فهذا يُنفره.
وأعرف قصةً مرت عليَّ في استشارةٍ، وهي عبارةٌ عن علاقةٍ سيئةٍ شاذَّةٍ بين اثنين -والعياذ بالله-، ولم يكن قرار الانتهاء من هذه العلاقة واعظ الله في كتابه، أو وعظًا من سنة النبي ؛ لأن هناك أناسًا لا يكفيهم الوعظ الذي يسمعونه من كتاب الله؛ ولذلك جاء: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"[11]ذكره السيوطي في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (5/ 329) موقوفًا على عمر رضي الله عنه..
فكان سبب القطع أن أحد الطرفين دخل ابنه في دهاليز المخدرات، وسُجن، فتنغَّصت الحياة على أحد الطرفين، وهو والد هذا الشخص، فبدأ يُراجع نفسه، فربط ما حدث لابنه بأن هذا من عواقب هذه المعصية الشنيعة، فقال للطرف الآخر: إنني أريد أن أتوب إلى الله ، ونقف عن هذا الأمر الذي لا يرضاه الله ، وقد وجدتُ أثر ذلك في أبنائي وأسرتي ونفسي، ... إلى آخره.
فهذا الجانب لا شكَّ أنه مُحرِّكٌ ومُنَفِّرٌ، فالمتعة واللَّذة التي كانت موجودةً أصبحت مُقرفةً، فكان هذا الشخص يستمتع ويتلذذ ويعيش هواه، وأصبح من خلال التنفير لا يُطيق ذلك، سبحان الله!
النفوس البشرية عالمٌ عجيبٌ، يعني: يكفي أنه: يُصبح مُؤمنًا، ويُمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا، ويُصبح كافرًا، يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدنيا قليلٍ[12]أخرجه مسلم (118).، فإذا كانت هذه التَّقلبات في أعظم شيءٍ، فكيف بما هو دونها حقيقةً؟!
نسأل الله أن ينفع بما قِيل، وينفعنا وإياكم، ويُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824). |
---|---|
↑2 | انظر: "وفيات الأعيان" (2/ 365)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (7/ 477). |
↑3 | أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031). |
↑4 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162). |
↑5 | أخرجه الترمذي (3375)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه"، وابن ماجه (3793)، وأحمد في "المسند" (17680)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7700). |
↑6 | أخرجه البخاري (6318)، ومسلم (2727). |
↑7 | انظر: "الوابل الصيب" (ص77). |
↑8 | أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، والحاكم في "المستدرك" (1510)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يُخرجاه"، وقال الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1473): "إسناده حسنٌ، وهو على شرط مسلمٍ" |
↑9 | انظر: "شرح ديوان المتنبي" للعكبري (1/ 166)، و"محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء" (1/ 524)، و"صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال" (1/ 280). |
↑10 | انظر: "الداء والدواء" (الجواب الكافي) ط. عالم الفوائد (1/ 132) وما بعدها. |
↑11 | ذكره السيوطي في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (5/ 329) موقوفًا على عمر رضي الله عنه. |
↑12 | أخرجه مسلم (118). |