المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هذا هو اللقاء الرابع من المجموعة الثامنة من سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
وكنا قد انتهينا في اللقاءات السابقة من الكلام عن: "التربية على علو الهمة"، وسنبدأ في هذا اللقاء -بإذن الله- الكلام على ما يتعلق بــ"التربية على قوة الإرادة".
قوة الإرادة مرتبطةٌ بالإنسان
قوة الإرادة مهمةٌ جدًّا؛ لأنها ترتبط بالإنسان نفسه بالدرجة الأولى، فكل واحدٍ منا لديه إرادةٌ ذاتيةٌ، والدراسات الحديثة دلَّت على أن ما يُفَعَّل من القدرات العقلية في المتوسط العام للبشر 10% فقط، وبقيت 90% أين هي؟
موجودةٌ، لكنها كامنةٌ، إذا فُعِّلَتْ من خلال قوة الإرادة تجد الإنسان يستغلها: 20 -30 -40، وما شابه ذلك.
الآن الذين حضروا لصلاة العشاء، ما الذي أتى بهم إلى هذا المكان؟ خاصةً الذين تنازعتهم قضايا معينةٌ: إما رغباتٌ شخصيةٌ في شيءٍ هم يُحبونه، وأُذِّن للصلاة، أو أُقيمت الصلاة، أو شيءٌ من هذا القبيل، أو شيءٌ آخر تصارع معهم، ثم أتوا.
والآخر الذي جاء ابتداءً كما كان النبي إذا نُودي بالأذان كأنه لا يعرف أحدًا[1]أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" (1/ 188)، وقال بنكارته الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (5965)..
ما الذي جعل هذا الإنسان يأتي ليُصلي؟ وما الذي جعله يأتي مُبكرًا؟ وما الذي جعله يترك رغباته وملذَّاته ويُقدّم الصلاة؟
وما الذي جعل هذا الإنسان يتأخر؟ وما الذي جعل هذا الإنسان لا يأتي للمسجد؟ وما الذي جعل هذا الإنسان القادر على الصلاة لا يُصلي في هذه اللحظة، بل ربما لا يُصلي أصلًا؟ كلها مُرتبطةٌ بإرادة الإنسان.
ولذلك الإنسان معفوٌّ عنه إذا لم تكن عنده إرادةٌ أصلًا، يعني: لا يستطيع أن يُصلي قائمًا فيُصلي جالسًا، وإن دخل في غيبوبةٍ فهو معذورٌ.
فالمقصود أن مناط القضية مرتبطٌ بقضية الإرادة.
والإنسان يتميز عن غيره فيما يتعلق باستخدام الإرادة بالعقل؛ لأن الجمادات لها إرادةٌ: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77]، لكن إرادته تختلف عن إرادة الإنسان بلا شكٍّ.
والإنسان نظرًا لأنه محل التكليف، وأنه هو المُكلَّف؛ لذلك لديه العقل، ويختلف عن باقي المخلوقات به؛ فأصبح الإنسان جزاؤه وحسابه مربوطًا بالإرادة، ويتدرب عليها من وقتٍ مُبكرٍ قبل التكليف، ثم إذا أصبح مُكلَّفًا لم يجد فيها مشقةً.
وكلٌّ منا يملك تلك الإرادة، لكن أين هذه الإرادات؟ هل هي إلى الجانب الإيجابي أم السلبي؟ وإذا كانت في الجانب الإيجابي فهل هي للواجبات أم لغير الواجبات؟ مُباحاتٌ فقط.
تجد الواحد منا عنده إرادةٌ قويةٌ بشيءٍ يُحبه الله، أباحه، فتجد أنه راغبٌ في الشيء المباح، وليس حرامًا، لكن يبذل جهده في وظيفةٍ، وفي طلب رزقٍ، فما الذي جعله يصل لهذا المستوى؟
الإرادة بعد توفيق الله، لكن ربما تكون هذه الإرادة ليست موجودةً في الواجبات، فتجده مُنتظمًا في الوظيفة، وغير مُنتظمٍ في الصلوات، ومنتظمًا في قضايا يُحبها، حلالٌ، لكن غير منتظمٍ في أمورٍ أوجبها الله عليه.
ناهيك عن أن البعض لديه الإرادة القوية في الحرام، فيبذل ويجتهد: كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمُعتقها، أو مُوبقها[2]أخرجه مسلم (223)..
كل الناس يغدو في الصباح، لكن هناك فرقٌ بين مَن يغدو فيبيع نفسه لله فيدخل الجنة، أو أنه يُوبِقها في نار جهنم؛ فلذلك لا بد أن نتنبه لهذا الأمر في قضية الإرادة وقوتها.
والتربية الناجحة الذاتية تربية الإنسان لنفسه، وتربية الإنسان لغيره في الأسرة: زوجته، أبنائه، وتربية المعلم لطلابه، ... إلى آخره، وكلما نجحنا في تقوية هذه الإرادة بحيث تكون لدينا الإرادة ذاتيةً، لا يُحركها الآخرون.
صحيحٌ أن الإنسان يتأثر بالآخرين؛ فإذا كان معه ناسٌ حريصون على الصلاة سيكون حريصًا على الصلاة، وإذا ما كانوا حريصين على الصلاة، أو كان وحده لن يحرص على الصلاة! مشكلةٌ.
إذن هنا لا يرتبط الأمر بتقوية الإرادة الذاتية، ومقصودنا بالدرجة الأولى هو تفعيل الإرادة الذاتية، تفعيل ما بداخل الإنسان فيما يتعلق بأفكاره وسلوكه وتصرفه.
يذهب لعمله البعيد مُبكرًا.. ولا يذهب للمسجد القريب!
أذكر أحد الجيران في مرةٍ من المرات كان لا يحضر معنا في المسجد البتة، وبيته قريبٌ من المسجد، لا يحتاج إلى سيارةٍ، ويذهب إليه مشيًا، بينما لا نراه البتة، وهذا في الرياض، والذي يعرف الرياض وطرق الرياض يعرف كم يحتاج من الوقت، فيحتاج أن يذهب قبل الدوام بساعةٍ إلا ربع، وبعد الدوام يأخذ مثلها.
فتجد أن هذه الإرادة مُفعَّلةٌ عنده فيما يتعلق بالوظيفة، بينما هي غير مُفعَّلةٍ في الصلاة مثلًا.
فكنتُ أنصحه فأقول: الله حَبَاك بقوة إرادةٍ؛ حيث تُشغل السيارة وتذهب مُبكرًا حتى تصل في بداية وقت الدوام ولا تتأخر، فلا يعتب عليك المسؤول، وتشق الطريق الشاقَّ شرقًا وغربًا في الرياض حتى تُداوم، وهكذا في العودة، ويُنادي المؤذنُ عند المسجد: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، ولا تخطو خطواتٍ لا تُكلفك 1% أو 2% مما يُكلفك الدوام اليومي!
إذن لدينا قدراتٌ وإراداتٌ قويةٌ موجودةٌ، تُفَعَّل في جوانب، وقد تكون حلالًا، ولكنها لا تُفعَّل في جوانب أخرى قد تكون واجبةً في تفعيلها!
ضعف القراءة لدى العرب
مثالٌ آخر: وهذا نذكره دائمًا فيما يرتبط بقضية القراءة، فعندما تسأل شريحةً من المجتمع العربي، وتُقارنها بمجتمعاتٍ أخرى، تجد -للأسف- أن المجتمع العربي ضعيفٌ في ممارسة القراءة، ناهيك عن الرسائل السلبية تجاه القراءة: لا أُحبّ القراءة. ويا ليتَه يقول: أود أن أقرأ، وأُحبّ القراءة، لكني مُقَصِّرٌ. فهذا أهون من: أنا لا أريد أن أقرأ أصلًا.
لكن تجده أحيانًا يُخرج الطاقة الكبيرة إذا كانت عنده مقابلةٌ تحتاج إلى أن يُحَضِّر لهذه المقابلة لأجل الوظيفة، فتجده يقرأ الكتاب والكتابين والثلاثة، عنده اختبارٌ ويحتاج أن يقرأ مئة صفحةٍ أو مئةً وخمسين صفحةً في تلك الليلة، فيجلس ليقرأ المئة والخمسين صفحةً، وتخرج طاقة القراءة السريعة، وقراءة النظر، والقراءة الأولية، والقراءة الثانية، وما شابه ذلك، وتُفَعَّل القُدرات العقلية في مثل هذه الأمور، فالقدرة موجودةٌ، وكذا الإرادة، لكن مع ذلك يقول: أنا لا أقدر على القراءة.
وقس على هذا المثال في أشياء عديدةٍ: في علاقة الإنسان بربه، وفي علاقة الإنسان بنفسه، وفي علاقة الإنسان بالناس، وبوالديه، وبأزواجه، وبأبنائه، وبطلابه، وبزملائه، وبالمجتمع عمومًا.
فنحن نحتاج أن نقف مع هذه القضية.
والذي أراه ويراه غيري: أن أقوى الإشكالات فيما يتعلق بحق الله والقيام به، وما يتعلق بمعرفة الإنسان لنفسه وحقِّ ذاته، وكيف يتعامل معها بطريقةٍ صحيحةٍ؟ وكذلك معرفة حقوق الآخرين والتعامل معها بطريقةٍ صحيحةٍ؛ هو قضية الإرادة: قوتها وضعفها.
وللأسف كثيرٌ منا لا يُفعِّل هذه الطاقة، وكلٌّ منا رقيب نفسه، يعرف أن الطاقة مُفعَّلةٌ في أشياء، قلت: حتى لو كانت حلالًا، لكن هناك شيءٌ أولى منها وأهم، فكيف لو كانت مُفعَّلةً في أمورٍ لا يرضاها الله ، أو لا تُقبل عُرفًا ومجتمعًا، وما شابه ذلك مما يُنافي العُرف، أو يُنافي الذوق، أو يُنافي أصحاب الفِطَر السليمة.
القوة الذاتية في ضبط الأفكار والمشاعر
استخدام القوة الذاتية في ضبط الأفكار والمشاعر والتصرفات، بحيث تُصبح في إطار المشروع أو المقبول، هذا تعريفٌ يذكره أهل الاختصاص والذين يتحدثون حول قوة الإرادة.
إذن أنا لدي قوةٌ ذاتيةٌ أريد أن أستخدمها، هي موجودةٌ، هذا الذي نقصده الآن في التربية على قوة الإرادة: استخدام القوة الذاتية، وليست قوةً خارجيةً، أنا عندي طاقةٌ ذاتيةٌ أريد أن أُفعِّلها في ضبط الأفكار والمشاعر والتصرفات؛ حتى أتبنى أفكارًا مُعينةً، ولا أتبنى أفكارًا أخرى، أريد أن أتبنى تلك الأفكار التي تجعلني إيجابيًّا، وأترك الأفكار السلبية، وأتبنى المُعتقدات الإيجابية، وأترك المُعتقدات السلبية.
وهناك من الناس مَن يتبنى الأفكار السلبية والمُعتقدات السلبية، ويتركون المُعتقدات الإيجابية، وكل هذا مُرتبطٌ بقضية الإرادة، فضبط الأفكار وفعل الإرادة بشكلٍ صحيحٍ، وكذلك المشاعر: كالحب، والكُره، والرغبة، والميل، والاتجاه؛ مبنيةٌ على قضية الإرادة، فهل أنت تُحب مَن يستحق المحبة أم لا؟ أم أنك تُفرط في المحبة؟ أو أنك تضع محبتك لمَن يستحق؟ وما شابه ذلك.
وكذلك الكُره، والبُغض، والغضب، وغيرها من القضايا المتعلقة بالمشاعر.
وكذلك التصرفات والسلوكيات نفس الكلام، تصرفٌ إيجابيٌّ، وتصرفٌ سلبيٌّ: كريمٌ، بخيلٌ، هذا كريمٌ بإرادته، وهذا بخيلٌ بإرادته.
وأعرف كُرماء وهم فُقراء، فقيرٌ وكريمٌ، وأتكلم معكم الآن وفي ذهني صورٌ، وليس صورةٌ واحدةٌ: فقيرٌ وكريمٌ، كريمٌ مع الآخرين، بل إنه يُعطي غيره مالًا وهو يحتاج إليه، فقيرٌ يُساعد غيره بالمال، ويُكرم غيره.
وأتكلم معكم وفي ذهني الآن غنيٌّ (ملياردير) بخيلٌ وشحيحٌ، لا يُخرج المال، فهو شحيحٌ حتى على أهله وأبنائه، بل تجد بعض أبنائه فُقراء! وهو واجبٌ عليه النفقة.
إذن هذه التصرفات تضبطها الإرادة: ادفع، قم بالواجب، قم بالنفقة؛ حتى لا يُصبح شحيحًا، هو أصبح شحيحًا بإرادته، بحيث تُصبح في إطار المشروع والمقبول.
نريد أن نصل إلى الشيء المشروع الذي شرعه الله ، والشيء المقبول في عُرف الفِطَر السليمة والعقول الصحيحة، فلا يُخالف الإنسان شرع الله، ولا يُخالف العُرْف السليم والعقل والفِطَر السليمة عن طريق ضبط ذلك.
ما الذي يجعله لا يتصرف بهذا السلوك؟ ما الذي يجعله لا يلبس هذا اللباس؟ لماذا لا يلبسه؟
مخالفٌ لأمر الله .
هذا التصرف لا يرضاه الله .
لماذا لا يفعل هذا الفعل مع أنه مباحٌ؟
لا يريد أن يراه الناس به، فضابط نفسه كذا، ويُمارس قضية ضبط التصرفات، كما يُمارس قضية ضبط الأفكار، كما يُمارس قضية ضبط المشاعر.
لماذا لا يقبل الأفكار الإلحادية والتغريبية والعلمانية؟ لماذا لا يرضى بأفكار التطرف والتكفير والتفجير والداعشية ... إلى آخره؟ لأنه ضابطٌ فكره كذا.
لماذا لا يُفرغ الجانب العاطفي في الحرام: فيُكوّن علاقاتٍ مُحرَّمةً، وينظر للحرام، ويُتابع الحرام؟
عنده ضبطٌ لإرادته، يضبط هذه الإرادة، فعنده قوة إرادةٍ تمنعه من ذلك: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
ومَن عنده ضعف إرادةٍ يقتحم الأشياء التي يُبررها هو لنفسه على أنها إشباعٌ للجانب العاطفي، ولكنها حرامٌ، لكن إرادته ضعيفةٌ.
مثل: الذي يتعاطى الدخان، ويعرف أنه سلوكٌ خاطئٌ، حرامٌ، حتى لو كان كافرًا، يقول: هذا خطأٌ، أضراره كثيرةٌ؛ لأن الكافر غير مُهتمٍّ بقضية الحلال والحرام، لكنه مهتمٌّ بقضية الصحة، يقول: ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أترك! والمشكلة هنا هي الإرادة.
يقوم ويُشغل سيارته، ويذهب يمنةً ويسرةً، ويذهب إلى الكورنيش، ويذهب إلى الأسواق، ويذهب إلى زملائه، ويذهب إلى الاستراحات، ويذهب إلى وظيفته.
بينما صاحب التدخين يُشغل سيارته ويذهب إلى مكافحة التدخين، فيجلس مع الاستشاري، ويُعطيه استشاراتٍ: كيف يمتنع عن التدخين؟ يقول: صعبةٌ! ما عندي وقتٌ!
ما عنده إرادةٌ، ضعيف الإرادة.
فنحن نُغالط أنفسنا عندما نقول: ما عندنا وقتٌ! ونُغالط أنفسنا عندما نقول: بعض العلماء يقولون: جائزٌ.
فما بقي الآن في الحياة إلا أن يقول بعض العلماء بجوازه، وإذا قلتَ له: لا يجوز، العلماء قالوا: لا يجوز، الله قال كذا.
قال: بعض العلماء قالوا بالجواز.
أحلَّ كل شيءٍ، بعض الناس أحلُّوه، مع أنه في قرارة نفسه لو قلتَ له: اصدُقني القول: هو حلالٌ أم حرامٌ؟
سيقول لك: حرامٌ، لكن النفس عندما تضعف تريد أن تُبرر ضعفها، وهذا من ضعف الإرادة.
فقضية الإرادة قضيةٌ مهمةٌ جدًّا: كيف نُربي أنفسنا، ونُربي أبناءنا وأجيالنا عليها؟
قوة الإرادة أحد أسرار النجاح
من أشد الأشياء في التعامل مع النفس البشرية، ونجدها في الجلسات الإرشادية، وفي الاستشارات النفسية والتربوية، حينما يقول الإنسان: أنا لا أستطيع، أنا لا أقدر.
مَن قال لك: لا تستطيع؟! هناك فرقٌ بين قولك: صعب. وقولك: لا أستطيع.
ودائمًا أقول للذين يقولون هذا الكلام: أنا مستعدٌّ أن أُثبت لك أنك تستطيع، وأن عندك وقتًا.
وكثيرًا ما نستخدم هذا في العلاج النفسي، وتجد المشكلة هنا فعلًا ضعف الإرادة.
عندما يقول الله : أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، الشاهد هنا وبسهولةٍ: أنه عندما تصير مصيبةٌ نقول: هذا من اليهود، أو من هؤلاء الحكام، أو من هؤلاء العُصاة والمنافقين، أو من هؤلاء العلماء. نستطيع أن نتكلم بأي شيءٍ، لكن لا تسمع إلا من القليل الذي يقول لك: من عند أنفسنا. فقليلٌ ما تسمع أن المشكلة في ذواتنا، وأن المشكلة عندنا ابتداءً، وفينا نحن: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، فالله أنزل هذه الآية وتُلِيَت على الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد غزوة أحدٍ.
فإذا كان الصحابة مخاطبين بهذا، إذن نحن الضعفاء من باب أولى أن نُخاطب بأن المشكلة فينا.
فهدفي من هذه القضية وغيرها مما سيأتي: أن الذي يجعل الإشكال موجودًا ابتداءً في نفسه يتعامل مع تفعيل الإرادة وقوة الإرادة أحسن من الآخر الذي يقول: أبي هو السبب، والشيخ هو السبب، والمؤسسة هي السبب، والجامعة هي السبب، والمدرسة هي السبب، والمجتمع هو السبب، والحي هو السبب. ونفسه لا، فهو قام بالدور الذي عليه، فهذا لا يمكن أن يُفعِّل الإرادة الذاتية عنده أبدًا.
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ هذه إشارةٌ من كتاب الله أن القضية ابتداءً ينبغي أن تكون الإصلاح من النفس والذات، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ ولهذا لا يمكن أن يُصبح الإنسان صاحب قوة إرادةٍ إلا بعد أن يتهم ذاته، ويُعدِّل ما فيه من إشكالاتٍ، فالله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، هذه لفتةٌ، وهناك آيةٌ أخرى يقول فيها الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
قال في التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، وفي الطور قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا آمَنُوا أولًا، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ فهم أثَّروا في ذُريتهم، وأصبحوا من أهل الإيمان.
واللفتة هنا أن الله بدأ بوقاية النفس، فعلى الإنسان أن يقي نفسه قبل أن يقي غيره، لن تنجح في وقاية غيرك إذا لم تقِ نفسك أولًا، فابْنِ نفسك قبل أن تبني غيرك، ولن تنجح في بناء غيرك إذا لم تَبْنِ نفسك، وهذا صاحب قوة الإرادة.
أما أن تُخرج نفسك من المعادلة ولا تُدخلها فهذا من أكبر أسباب ضعف قوة الإرادة، فالبعض يُلقي الإشكالات على زوجته، وعلى أبنائه، وعلى المدير، والصديق، وهو -ما شاء الله، تبارك الله- ما عنده أي إشكاليةٍ أبدًا!
أول مَن ينبغي أن نُحاسب هو أنفسنا وذواتنا، ولا يعني ذلك ألا تأخذ حقك من الآخرين، أو لا يُشخص الأمر تشخيصًا سليمًا، لكن ابتداءً الذي يتعامل مع نفسه، ويجعل منطلق القضية من النفس، ويبدأ في العلاج والإصلاح هو الذي سيُفَعِّل إرادته الذاتية.
أما إذا كان يرى نفسه بخيرٍ، ويقول: لا، الحمد لله، أنا أحسن من غيري، وأموري طيبةٌ، المشكلة في الناس، أنا على الأقل كذا وكذا، أنا قمتُ بالواجب!
هذا الكلام نسمعه من البعض، فعندما تُخاطبه -للأسف- يجعل نفسه كأنه في قفص الاتهام، يقول لك: الحمد لله، أنا قائمٌ بالواجب. طيب، مَن قال لك: إنك قائمٌ بالواجب يا أخي؟! وهل كلنا قائمون بالواجب؟!
الله وصف نبيه ووصف الصحابة بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فعائشة رضي الله عنها ظنت أنهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، فبين لها النبي أنهم ليسوا كذلك، فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويُصلون، ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تُقبل منهم[3]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (162)..
هذا الشعور السليم، شعورٌ بأني أفعل، لكن أخشى أن الله لا يتقبل مني حتى أزيد، فأفعل، لا أقول: الحمد لله أنا ضامنها! والحمد لله أموري زينةٌ، وما شاء الله، يتعب في أمور الدنيا ولا يشبع، لا يشبع في أمور الدنيا أبدًا، ولا يقنع، يتقدم ويبذل جهده ووقته، لكن في أمور الآخرة لا؛ كافٍ لنفسه: الحمد لله أنا أحسن من غيري!
هذا يُفَعِّل إرادته في أمور الدنيا على حساب تفعيل إرادته في أمور الآخرة، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ؛ لأن الإرادة موجودةٌ ومُفعَّلةٌ، ولكنها مُضيعةٌ في أمورٍ أخرى، للأسف الشديد.
فلذلك الله يقول: قِ نفسك قبل أن تَقِ غيرك، فالمشكلة أنه لا يقِ نفسه، ولا يقِ غيره، ويقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21]، لن تستطيع أن تؤثر في أبنائك إذا كنت أنت لست على مسار الإيمان السليم، فأنت قَوِّ إرادتك، واتَّبع طريق الإيمان؛ ليكون أبناؤك مثلك.
تأتينا استشارات لبعض الأسر، عائشة في ضياعٍ، والسبب الأب، هو الذي ضيَّعها، فالسبب الآباء والأمهات أنفسهم، هم الذين ضيَّعوا الجيل، وأتوا للأُسَر بما يُدمرها، ثم يقول: نعضّ على أصابع الندم، تبين لي كذا، اكتشفت أن بنتي كذا، اكتشفت أن ولدي كذا، أو ولدي ما أدري أيش.
هناك اتجاهاتٌ فكريةٌ مُنحرفةٌ، أو اتجاهاتٌ سلوكيةٌ وأخلاقيةٌ مُنحرفةٌ، والسبب أنك لم تُقَوِّ إرادتك، وأننا لم نُقَوِّ إراداتنا فيما يتعلق بالمشروع، مثل: الإيماني والبنائي في المشروع الوقائي؛ حتى نستطيع أن ننجح.
لا نُنكر الدنيا والعمل لها: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، لكن من الخطأ أن تكون الدنيا رقم واحدٍ، والآخرة رقم اثنين، أو رقم ثلاثةٍ، أو رقم أربعةٍ، أو رقم خمسةٍ، هذا من أكبر الأخطاء: حينما تتعامل الأُسَر -للأسف الشديد- بمثل هذا: الكيل بمكيالين في قضايا الأفكار والقِيَم والأخلاق، فضُيِّعت أُسَرٌ كثيرةٌ، ووُجِدَ لنا جيلٌ هَشٌّ في تفكيره، وهَشٌّ فيما يتبناه من أفكارٍ، وهَشٌّ في قِيَمه وسلوكه وأخلاقياته، مَن الذي أوجد هذا الجيل؟
أنا لا أُثَبِّط، أنا أتكلم عن فئةٍ، لكن هناك فئةٌ أخرى ناجحةٌ، رائعةٌ؛ لأنها فعَّلت الإرادة، كما فعَّلتها في أمور الدنيا، فعَّلتها أكثر في أمور الآخرة والدين، هذا الذي نحن في أمس الحاجة إليه.
ابدأ بنفسك
والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، وهذه لفتةٌ عظيمةٌ جدًّا، من أكبر اللفتات القرآنية العظيمة في الإرادة وقوتها.
ربط الله التغيير المجتمعي: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ، لن يتغير حال المسلمين، لن يتغير حال الأسرة، لن يتغير حال قومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، غيِّر ما بنفسك، الفرد: محمد، إبراهيم، فاطمة، نورة، ... إلى آخره، فإذا فعلتَ ذلك يتغير القوم.
إذن البداية في المجتمع، وفي القوم، وفي الأسرة، وفي المدرسة، وفي الحي، وفي البلد، وفي الدولة، وفي العالم الإسلامي، وفي الأفراد: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
غيِّر ما بنفسك، وهذا معناه: أن البداية من الذات.
وأنا أقول لكم: إن كثيرًا من الأمور المُرتبطة -وربما أشرتُ إليها قبل قليلٍ لكن ما أكملتُ- بما يتعلق بحقِّ الله وحقِّ الناس وحقِّ الذات هي بسبب ضعف قوة الإرادة، فالقضية في الإنسان نفسه، ولو نجحنا في تقوية إرادته حتى يُصبح ذا إرادةٍ قويةٍ، فإننا سننجح بشكلٍ كبيرٍ جدًّا فيما يتعلق بقضايا: حفظ حقِّ الله، وحفظ حقِّ النفس، وحفظ حقوق الآخرين، وفي أمور الدين والدنيا معًا.
وعندما يقول الله : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، الله يلطف بنا وبكم، فليست القضية فقط في التغيير في الحياة؛ لأن لها ارتباطًا بما سيحصل في الآخرة في يوم القيامة: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ آتي الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، ليس بينه وبين الله ترجمان، الله يلطف بنا وبكم: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان[4]أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016).، ويُعرف بحاله: فَرْدًا.
فليس من السهولة أن نقول، أو يقول أحدُنا كما كان يقول في الدنيا: فلانٌ هو السبب، أبي هو السبب، صديقي هو السبب، ما وفَّر لي هذا الكلام، القرارات لا تُساعدني، ما أدري ما يُعينني! لن تكون هذه الإجابات موجودةً هناك: كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، سيُجيب عن ذاته، وعن نفسه، لماذا لم يفعل؟
أسأل الله ألا يحصل النقاش والحساب؛ لأنه: مَن نُوقِش الحساب عُذِّبَ، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها[5]أخرجه البخاري (6536).، كما أسأله أن يلطف بنا فيعفو عنا وعنكم، اللهم آمين.
إذن حتى الحساب يوم القيامة مربوطٌ بالفرد نفسه، ويقول الله أيضًا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
فإذا كنت تريد أن تتحصل على مُرادك وتتحقق أهدافك فعليك أن تُجاهد نفسك: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ألا تُحصِّلها في أمور الدنيا، إذا كنت تقدر أن تُحصلها، تبغي السعادة؟
ولستُ أرى السعادة جمع مالٍ | ولكن التَّقي هو السعيد[6]انظر: "أمالي القالي" (2/ 202)، و"التذكرة الحمدونية" (1/ 156)، و"الحماسة البصرية" (2/ 67). |
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وقال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124- 126].
الحل هو مُجاهدة النفس
إذن الحل هو مُجاهدة النفس على رغباتها وشهواتها لتحقيق مُراد الله.
الله يُحبك أن تكون كذا فلتكن كذا، الله ماذا يُحب أن تفعل؟ فتفعل، الله ماذا يُحب أن تترك؟ فتترك، ... إلى آخره، فهذا عمق قوة الإرادة.
وإننا نعجب من (الفطحل) الذي يكدّ يوميًّا أربع عشرة ساعةً، ويذهب مكدودًا، ويرجع مكدودًا، ويُنتج أيّما إنتاجٍ، وتجده في حقِّ الله لا يفعل شيئًا من ذلك إلا النزر اليسير، بل ربما تجده مُقَصِّرًا في حقوق أهله وأسرته، ولكنه مستعدٌّ أن يسمع أصحابه، ومستعدٌّ أن يتجاوب مع توجيهات مديره، ... إلى آخره، لكن مع زوجته لا يتجاوب، سلبيٌّ، شخصٌ آخر مع زوجته، ومع أبناءه شيءٌ آخر تمامًا، هناك مثل الحَمَل الوديع مع زملائه ومسؤوليه ... إلى آخره، وهنا مثل الوحش المُفترس.
السبب في ذلك أن عندنا إشكاليةً -كما قلتُ لكم- في تفعيل الجوانب الذاتية المُرتبطة بمُجاهدة النفس.
هل تعرف الصواب؟ سمعتَ عن الواجب الذي عليك؟ قم به، مَن الذي سيقوم به غيرك؟ لن يقوم به أحدٌ غيرك، مَن الذي سيقوم بالواجب الذي عليَّ غيري؟!
لا يوجد أحدٌ يمكن أن يقوم به بالوكالة عني، إذن أنت مطلوبٌ منك: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
هل تريد السعادة على مستوى أسرتك؟ غيّر ما في نفسك، وغيّر أفراد أسرتك وما فيهم، .. إلى آخر تلك الأشياء.
عندك مشكلةٌ حصلت، راجع نفسك، قد تكون المشكلة في ذاتك: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
في بعض الأحيان تأتي استشاراتٌ نجد هذه الآية مُنطبقةً عليها تمامًا؛ أن المشكلة من عند صاحبها، كيف علاقتك بالله؟ تجده مُضَيِّعًا ذلك، فكيف لا تريد أن تكون مهمومًا ومُتضايقًا؟! وتجد عنده الكَدَر والحزن والضيق، ... إلى آخره، كما أنه سلك مسالك المُحرَّمات والمُوبقات، ما السبب؟
لا توجد كبسولةٌ تأكلها فتكون سعيدًا! لا يوجد شيءٌ كهذا، لن تجد كبسولةً تأخذها مرةً أو مرتين أو ثلاثًا وتنتهي القضية.
ما الذي يدفع الواحد إلى الدوران حول المُحرَّمات؟!
أنا سألتُ أحد هؤلاء: أنت الآن ما الذي يجعلك تفعل هذا الفعل؟ ما الذي يجعلك تشرب السيجارة؟ أو تنظر للمواقع الإباحية؟ قال: أريد أن (أُفرفش). طيب، ثم ماذا؟ قال: يضيق صدري. ثم ماذا؟ قال: أرجع و(أُفرفش). يرجع للدخان والمواقع الإباحية والعلاقات و...، و... دوَّامةٌ!
إذن أنت ما وضعتَ حلًّا للمشكلة حقيقةً، فأنت جالسٌ في نفس الدَّوَّامة، إذن حلُّك للمشكلة خطأٌ بلا شكٍّ؛ لأنك تُمارس ما يُسبب التعاسة والشَّقاء، لا ما يُسبب السعادة والهناء.
فلا بد أن تستبصر بذاتك: كيف تستطيع أن تكون سعيدًا؟ ما يُريد لها (شطارةً)، لو استطعنا أن نقتحم وسائل السعادة فعلًا لما تأخرنا، والاقتحام ابتداءً يكون من الذات.
تعالَ -بارك الله فيك- وسِّع لي صدري! وقد وسَّع صدرك في البداية وجعلك تضحك وتنبسط، وإذا رأى مقطعًا من المقاطع التي تُضحكه ضحك، ثم بعد ذلك ضاق صدره، فما الفائدة؟!
إذا كنتَ أنت في دوَّامتك، أو أنا في دوَّامتي التي تضيق الصدر، وتُقسي القلب، وما يُحبني الناس، وقبلها ما يُحبني الله ، فليس من فائدةٍ!
السبب في ذلك أننا لم نتخذ الوسائل السليمة، ما جاهدنا أنفسنا، البيت يُبنى -ما شاء الله، تبارك الله- صباحَ مساءَ، ويقوم بالبناء أفضل الخُبراء والمهندسين، ووصل التفكير بصاحب البيت إلى مستوى أن يدخل المسجد ويحكّ فرش المسجد برجله وهو يُصلي، ويقول: هل هذا يُناسِب البيت أو لا؟!
هذه القصة حصلت مع أحد الإخوان، جالسٌ هو وأم العيال يبحثان عن فرشٍ مناسبٍ للبيت، وجاء وقت الصلاة، يقول: فوقفتُ ودخلتُ المسجد وأنا مهمومٌ بسبب موضوع الفرش، وإذا بفرش المسجد جميلٌ جدًّا، وناعمٌ جدًّا، وبدأتُ أُحرِّك رجلي وأقول: هذا الفرش لماذا لا أشتري مثله؟ وفي أي مكانٍ يُباع؟ ودخل في الدنيا، سبح في الدنيا سباحةً!
فنوازع النفس البشرية كثيرةٌ، وضعف النفس البشرية واردٌ، لكن هذا مثالٌ لنُدرك أهمية ما نقول.
ضبط النفس باستخدام قوة الإرادة
يقول الله : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، ما علاقتها بقوة الإرادة؟
تريد أن تدخل مع الجاهلين وتُجادلهم، وتُتعب نفسك معهم، ولِجَاجٌ معهم، فالله يقول لك ببساطةٍ: حلُّها بسيطٌ، قل: سلامًا، واتركهم. هذه تحتاج لقوة إرادةٍ.
جالسٌ يتحرش بك بالكلام، ويُسيء إليك، ويقلّ أدبه، فإذا ما ضبطت انفعالاتك تكون مثله، وربما أسوأ منه.
إذن الحل أن تقول: سَلَامًا، قل: سَلامًا، واتركه، لا يوجد مثل هذا الذي يقتل أصحاب الجهل، هذا لا يمكن أن يفعله الواحد منا إذا كان من النوع المنفعل والغَضوب الذي لا يقدر أن يملك نفسه، لكن عندما نضبط ذواتنا، ويصير عندنا ضبطٌ لذواتنا (self-control)، ونضبط الانفعالات؛ نستطيع أن نقول هذا الكلام ونترك.
ولذلك يعيش هذا الإنسان في هناءٍ؛ لأنه انتصر على نفسه، وأدَّب غيره بطريقةٍ غير مُباشرةٍ، وأثَّر عليه بطريقةٍ غير مباشرةٍ.
أما إذا دخلت معه في خصامٍ وقولٍ وردٍّ فقد جلبت لنفسي العناء وضيق الصدر، والكلام الذي لا أول له ولا آخر، وقد أكون أسوأ منه في الردِّ، وفي نفس الوقت هذا الثاني استشاط، وبدأ يتحدى زيادةً.
لذلك هذا من المواقف الجميلة في استخدام قوة الإرادة والضبط الذاتي لقوة الغضب الذي هو صورةٌ من صور المعاناة في بعض مجتمعاتنا، أو بعض أفرادنا، يعني: أشياء بسيطة جدًّا بدون أن يقصد: لفَّ عليه بالسيارة بدون قصدٍ؛ فقامت قيامته: سَبٌّ وشتمٌ، وكأنه انتهك عِرْضَه! بسبب أنه سقط عليه وعلى هذا من غير تعمدٍ، هناك ناسٌ هكذا.
بل أعرف قصةً حصلت في الجلوية قديمًا، قد يذكرها مَن هم في أعمارنا: أحد أبناء الحي قُتِل بالسكين في السوق القريب، واحدٌ من الشباب انفعل عندما نهاه آخر عن المنكر بسبب تعرُّضه لإحدى الفتيات في الـ(سوبر ماركت)، فأخرج السكين وطعنه، ثم نُقل إلى المستشفى المركزي، وتوفاه الله ، رحمة الله عليه.
ثم يُحكم على هذا الإنسان بالقتل، ويُؤتى به إلى ميدان إقامة الحدِّ، ويُنزل في هذا المكان، ويعلم أنها خاتمته؛ أمام الناس والملأ، فإذا بوالد الشاب القتيل -أهل الدم- يعفو عنه في هذه اللحظة، لكنه ذاق الموت، فكم عانى في السجن! ناهيك بأنه أزهق نفسًا بشريةً، والسبب الغضب، وهو المُخطئ، فهو الذي اعتدى على بنت الناس، والذي قُتِل ليس مُتدينًا رحمه الله، عنده غيرةٌ؛ فنصحه، فدخلوا في شجارٍ، وقُتِل رحمه الله.
فقضية ضبط النفس واستخدام قوة الإرادة مهمةٌ جدًّا، وإلا فالإنسان تعترضه تصرفاتٌ، ولا يضبط تصرفاته، ولا يضبط مشاعره، فيتولد منها مشاكل لم تكن في الحسبان؛ مما يُؤثر عليه في الدنيا، أو في الآخرة، أو في كليهما.
أتى رجلٌ إلى النبي وقال له: أوصني، فقال له: لا تغضب[7]أخرجه البخاري (6116)..
اضبط نفسك ضبطًا ذاتيًّا: لا تغضب، يُوصيه ألا يغضب، طيب، أنا أعرف نفسي، وأعرف أني من المُفترض ألا أغضب، ما في إلا كذا، لا يوجد دواءٌ تأكله لتكون ممن لا يغضبون، لا حلَّ لمثل الانفعال السلبي إلا أن تستخدم قوة الإرادة، وتضبط نفسك وتمنعها من الغضب، ولو جرَّبْتَ وراجعتَ نفسك ستجد أن عندك أمورًا معينةً تضبط فيها أعصابك.
وهذا الشخص الغضوب لو كانت له حاجةٌ ماسَّةٌ عند شخصٍ، ويحتاجها في أمرٍ دنيويٍّ، وهذا الشخص أغضبه، سيملك نفسه؛ لأنه محتاجٌ إليه، إذن هنا فُعِّلت الإرادة الذاتية الموجودة الكامنة: قوة إرادةٍ.
ولذلك ما أجمل أن نعقد هذه المُقارنات مع أنفسنا، وأن نعقد هذه المقارنات مع غيرنا؛ حتى نُقنعهم بتفعيل الإرادة وقوة الإرادة! وأيضًا نُقنع أنفسنا، فنحن نُمارسها في حياتنا؛ فلنُمارسها دائمًا.
لا تقل: لا أقدر! تقدر، لو فعلت هذا الأمر، ماذا ستفعل؟
يقول: لا شكَّ أني سأضبط نفسي.
لو دخل على الملك، وأغضبه الملك بأي طريقةٍ من الطرق، هل سيفعل شيئًا للملك؟
لا، هذا ملكٌ، يعني: ضبط نفسه، إذن أنت قادرٌ أو لا؟
فعندما نبدأ ونُخاطبه بهذا الأمر: أخذٌ وعطاءٌ؛ يقتنع أن لديه قدرةً.
المشكلة -كما قلنا- في قوله أن ذلك صعبٌ ومستحيلٌ، درِّب نفسك وستكتشف أنك تقدر، وأنه لا مستحيل، وعندئذٍ يكتشف البعض أنه ليس عنده استعدادٌ أن يُمارس.
كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[8]أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829).، فلا بد من تحمل المسؤولية، وقوة الإرادة، فالأب راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته.
وعندما يُسَبُّ الإنسانُ ويُشتم وهو صائمٌ يقول: إني صائمٌ[9]أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).، ما في مثلها، لا تدخل أنت معه، فهذا الجاهل الذي يسبك ويشتمك قل له: إني صائمٌ. تكبت نفسك، وتضبط مشاعرك وانفعالاتك، وتُؤدب وتُربي الذي أمامك.
الرسول يقول: فليستعذ بالله ولينتهِ[10]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، إذا جاءتك أفكارٌ وأمورٌ ليست سليمةً، وخواطر سلبيةٌ، وخواطر مُحرَّمةٌ، وخواطر وضيعةٌ، ... إلى آخره، لا تسترسل معها، مثل: أن تصير عندك إرادةٌ وعزيمةٌ أن تفعل هذا الفعل المُحرم، أو هذا الفعل الخطأ، ... إلى آخره، أو هذا الاعتداء المُعين، أو كذا، ... إلى آخره.
الحل مع النفس حين تأتيها في حيّز الأفكار قبل أن تُصبح أعمالًا، ليس هناك مثل أن تقول: أعوذ بالله، وتصرف ذاتك.
طيب، مَن يقدر أن يقول: أعوذ بالله؟
هل هناك أحدٌ من البشر لا يقدر أن يقول: أعوذ بالله؟!
لو أتينا بشخصٍ يابانيٍّ أو أمريكيٍّ، وقلنا له: قل: أعوذ بالله. يعرف ويقول: أعوذ بالله. فهي سهلةٌ في اللسان، فتُقال حين تأتي الخواطر والأفكار السيئة، قل: أعوذ بالله.
وأذكر موقفًا لا أنساه في حياتي: أنه اشتد نقاشٌ بيني وبين أحد الأحباب، وكان هذا الأخ الكريم أضبط مني لنفسه في قضية الانفعال، وكان هناك كلامٌ وأخذٌ وعطاءٌ ومُشادةٌ من جهتي، ومن جهة غيري، وعندما جاء دوره أول كلمةٍ قالها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فكانت رسالةً قويةً، هي تهدئةٌ لذاته ولنفسه؛ لأن الموقف كان موقفًا انفعاليًّا للجميع، وهو هدأ بذلك نفسه، وربَّى بها الآخرين، وكأنه صبَّ علينا الماء صبًّا، ثم قدَّم رأيه بكل هدوءٍ.
فليستعذ بالله ولينتهِ، يصرف نفسه عن هذه الأفكار والخواطر السلبية في حقِّ الله، أو في حقِّ الناس، أو أساء الظن بهم، أو ما شابه ذلك، أو حتى في حقِّ ذاته، وأن يُسيء الظن بنفسه، وأن ينظر إلى ذاته نظرةً سلبيةً وسوداويةً، أو أن يُدخلها في دهاليز لا يرضى عواقبها.
لذلك الرسول يقول: اعقلها وتوكل[11]أخرجه الترمذي (2517)، وابن حبان في "صحيحه" (731)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1159)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1068).، مَن الذي سيعقلها؟
أنت وأنا، هذه قوة الإرادة، تفعيل هذا الجانب: اعقلها وتوكل.
أنا قصدي أنه في مثل هذه الآيات ومثل هذه الأحاديث يكون الخطاب المتعلق بالذات والنفس البشرية؛ لأن الابتداء والإصلاح والتعديل مبنيٌّ على الإنسان نفسه، لا في الدنيا من حيث التكليف، ولا من حيث تشخيص المشكلة، فسبب المشكلة هو أنت قبل أن يكون غيرك.
ولا من حيث تحقيق الأهداف: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
ولا من حيث الوقوف بين يدي الله : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95].
فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
وجزاكم الله خيرًا.
↑1 | أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" (1/ 188)، وقال بنكارته الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (5965). |
---|---|
↑2 | أخرجه مسلم (223). |
↑3 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (162). |
↑4 | أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016). |
↑5 | أخرجه البخاري (6536). |
↑6 | انظر: "أمالي القالي" (2/ 202)، و"التذكرة الحمدونية" (1/ 156)، و"الحماسة البصرية" (2/ 67). |
↑7 | أخرجه البخاري (6116). |
↑8 | أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829). |
↑9 | أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151). |
↑10 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑11 | أخرجه الترمذي (2517)، وابن حبان في "صحيحه" (731)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1159)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1068). |