المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هذا -بعونٍ من الله وتوفيقه- هو الدرس الخامس من المجموعة الثامنة من سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
ونحن في الجزء الثاني من موضوع: "التربية على قوة الإرادة"، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن مقدماتٍ في هذا الموضوع المتعلق بقوة الإرادة، وأهميتها بالنسبة للشخص، وكذلك لتربية الأسرة، وتربية الأبناء والأجيال على مثل ذلك.
نُكمل -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بهذا الموضوع، ونسأل الله العون والتوفيق.
طبيعة النفس البشرية
في هذا الجزء الثاني حول التربية على قوة الإرادة ينبغي أن نُدرك ما يتعلق بقضية طبيعة النفس البشرية، وأن هذه الطبيعة الإنسانية: طبيعتي أنا، وطبيعتك أنت، وطبيعة زوجتي وزوجتك، وأبنائي وأبنائك، وطبيعة أي فردٍ في هذه الحياة، أنه كما جاء في الإسلام: أنه مُكلَّفٌ حُرٌّ في إرادته، عليه مسؤوليتان: فرديةٌ وجماعيةٌ، فهو شخصٌ مسؤولٌ.
فلا بد أن نُدرك هذه الحقيقة في طبيعة النفس البشرية؛ لأن هذه مرتبطةٌ بموضوع قوة الإرادة: أن الإنسان مُكلَّفٌ، لو لم يكن مُكلَّفًا لما كان طُلِبَ منه أن يُفعِّل إرادته ويُقوِّي إرادته، وأن يكون التمايز بيني وبينك، وبين ابنٍ وابنٍ، وطالبٍ وطالبٍ فيما يتعلق بقوة الإرادة، أو ضعف الإرادة.
فقضية الإنسان أنه مُكلَّفٌ، ثم أيضًا له إرادةٌ، وهو حرٌّ في إرادته، يعني: له أن يفعل الشيء الإيجابي، وله أن يفعل الشيء السلبي، ولكنه مسؤولٌ عن اختياره، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
لذلك هذه المعالم المتعلقة بطبيعة النفس البشرية تُؤكد لنا ما يتعلق بأهمية التربية على قوة الإرادة.
قوة الإرادة عاملٌ أساسيٌّ في مواجهة المشكلات
هناك قضايا كثيرةٌ يُشتكى منها، مثل: الأجيال، الإسراف، التجاوز في النوم، الإسراف في الأكل، الإنفاق المالي ومشكلته وما يتعلق به، قضية التدخين، والقضايا المتعلقة بالمخدرات وبالخمر، والعلاقات المُحرمة، والنظر المُحرم، ... إلى آخره.
كل هذه المشكلات قوة الإرادة عاملٌ أساسيٌّ جدًّا في الكفِّ عنها، وعن هذه المُحرَّمات، وعن هذه المناحي.
وضعيف الإرادة قد يعلم أنها خطأٌ ومُحرَّمةٌ، والله لا يرضى عنها، وأنها مُؤذيةٌ للنفس، ولها سلبياتٌ طبيةٌ، ... إلى آخره، ولكنه ضعيفٌ، يقول: أنا أعرف أن هذا خطأ ولا يجوز، ولكن الشكوى إلى الله. هذا ضعيف الإرادة، لكن قوي الإرادة يتجاوز هذه المشكلات.
ولذلك فإن كثيرًا من مهارات حل المشكلات، وكثيرًا من الأساليب التي يذكرها أهل الاختصاص في تجاوز المشكلات وتجاوز الأمور الخاطئة أيًّا كانت: حياتيةً، أو دينيةً؛ نجد قضية قوة الإرادة قضيةً أساسيةً فيها، إن كان الإنسان قوي الإرادة تجاوز هذه المشكلات وهذه الأخطاء، وإن كان ضعيف الإرادة استسلم لها؛ ولذلك توجد فئةٌ تعلم أنها تفعل خطأً، وتُفكر خطأً، وتسلك مسلكًا خطأً، ولديها شعورٌ خاطئٌ لا يرضاه الله، أو غير لائقٍ، ... إلى آخره، لكنها تستسلم لهذا الأمر لضعف إرادتها.
لكن الصورة الإيجابية التي نُربي أنفسنا عليها: كيف نقدر أن نجعله -كما قلنا سابقًا الأسبوع الماضي- يُفكر بطريقةٍ صحيحةٍ، ويتفاعل بمشاعر صحيحةٍ، ويُمارس سلوكياتٍ صحيحةً بقوة إرادته بعد توفيق الله ؟ هذه القضية مهمةٌ جدًّا.
فلذلك موضوع قوة الإرادة والتربية عليه يُساعدنا في حلِّ المشكلات فيما يُسمى بالبرنامج العلاجي، فكلٌّ منا يحتاج إلى برنامجٍ علاجيٍّ؛ فلذلك إما أن نُعالج أنفسنا، أو نُعالج غيرنا، أو يُعالجنا غيرنا.
كذلك يُستخدم في البرنامج البنائي والوقائي، يعني: قوة الإرادة يمكن من خلالها أن أبني نفسي، وأُطور نفسي في مهارات القراءة، وأُطور نفسي فيما يتعلق بقضية تنظيم الوقت، وأُطور نفسي في العلاقات الاجتماعية، مع أنني قد لا يكون عندي مثلًا ضرب المثال، يعني: يوجد خللٌ في هذا الجانب، وتوجد مشكلةٌ، لكن أريد أن أُطور نفسي.
فالبعض يدخل في دوراتٍ ويتدرب، ويقرأ، ويلتقي بشخصياتٍ في مجال تطوير الذات، مثلًا في الجانب الاجتماعي يلتقي مع الناس اجتماعيًّا، وفي الجانب العلمي يجلس مع ناسٍ أهل علمٍ واطلاعٍ وقراءةٍ في الجانب الشرعي، أو في تخصصاتٍ أخرى، فهو بهذه الصورة يُنَمِّي نفسه، فقوة الإرادة تُساعد في قضية الجانب البنائي: تُساعد في تنمية هذه النفس، وتُساعد في قضية النمو في النفس البشرية في الجانب الوقائي.
فصاحب قوة الإرادة تجده يتجنب ويخشى أن يقع فيما وقع فيه الآخرون من مشكلاتٍ في أمور الدين أو الدنيا؛ فلذلك قوة الإرادة تبرز فيها الأمور الثلاثة:
- الجانب البنائي التطويري في النفس البشرية.
- الجانب العلاجي للنفس البشرية في المشكلات.
- الجانب الوقائي، حتى لا تقع النفس البشرية في المشكلات.
فلدينا مهاراتٌ في علاج المشكلات، ولدينا مهاراتٌ في التعامل مع الآخرين، ولدينا مهاراتٌ في تعديل السلوك، ولدينا مهاراتٌ كثيرةٌ ووسائل وأساليب.
وخير مَن سطر هذه القضية واقعًا عمليًّا وتوجيهًا النبيُّ ، وللشيخ الفاضل محمد المنجد كتابٌ رائعٌ جدًّا بعنوان: "أساليب نبوية في التعامل مع أخطاء الناس"، ضمَّنه عشرات الأساليب، هذه الأساليب وأمثالها لا يمكن أن نُفعِّلها أو نُفعِّل بعضها لأنفسنا أو لغيرنا إذا لم تكن لدينا قوة الإرادة، فتفشل الوسيلة الفلانية، أو الطريقة الفلانية، أو المهارة الفلانية، وحين ترجع لسبب الفشل تجد -في الغالب- أن هناك مشكلةً متعلقةً بضعف الإرادة.
لذلك لا بد من العناية بهذا الموضوع، مع الموضوع السابق: "التربية على علو الهمة"، فهذه من القضايا المهمة في النفس البشرية.
عندما تُصبح لدى أجيالنا همةٌ عاليةٌ كما تحدثنا في اللقاءات السابقة -بحمد الله رب العالمين-، وعندهم إرادةٌ، فإن الشيء الذي يريد أن يفعله يفعله بعد توفيق الله ، ويُتعب نفسه حتى يُنجز المهمة، فيبني نفسه، أو يقي نفسه، أو يُعالج نفسه ويحلّ المشكلات؛ كلما كانت القضية أكثر نفعًا وفائدةً.
مظاهر قوة الإرادة
هناك أشياء مُعينةٌ تُعطينا مؤشرًا بأن هذا الإنسان قوي الإرادة، وأن هذا الإنسان حقًّا لديه إرادةٌ قويةٌ، وفي مقابل ذلك نجد أن عكس هذا يكون صاحب إرادةٍ ضعيفةٍ.
نهي النفس عن الهوى
فنهي النفس ومنعها عن الهوى وكبحها مؤشرٌ قويٌّ فيما يتعلق بقوة الإرادة، فهل هو ممن ينهى نفسه عن الهوى؟
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، الله مدح هؤلاء الناس؛ لأن هؤلاء عندهم سمةٌ ليست عند غيرهم، لا تقودهم ملذاتهم وشهواتهم وهواهم، إنما هم الذين يقودون أنفسهم بعد توفيق الله من خلال قوة الإرادة.
فإذا كان الهوى، يعني: النفس أرادت أن تضلّ تأتي قوة الإرادة فتمنع هذا الإنسان، فكلما كانت لديه قوة النهي وقوة المنع فيما تهواه النفس، كلما كان هذا الأمر مؤشرًا على قوة الإرادة في أمور المُحرمات، وفي أمور المباحات أيضًا.
في أمور المُحرَّمات: كشخصٍ كان يتعاطى شيئًا لا يرضاه الله ، وتاب منه، ونفسه تُحدثه أن يعود، هذه صورةٌ من الصور لها وضعيةٌ خاصةٌ ذكرها ابن كثيرٍ رحمه الله عند قول الله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3][1]"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (7/ 368).، ذكر كلامًا لعمر بن الخطاب : أن هؤلاء الذين يُحبون المعصية كانوا يفعلون المعصية وتركوها، ونفوسهم ما زالت تميل إليها، لكن يكبحونها.
فعندنا اثنان كلاهما ترك المعصية: النظر الحرام، لكن واحدٌ نشأ في بيئةٍ لا يرى فيها الحرام، وتربى على عدم النظر للحرام، ويغضّ بصره، فهذا مُوفَّقٌ مأجورٌ، وقام بالواجب: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].
والثاني كان ينظر للنساء عبر الشاشة، وينظر للأسواق، ويُطلق بصره، ولكنه تاب إلى الله .
فكلاهما أصبح لا يفعل هذه المعصية، كلاهما ترك، وكلاهما مأجورٌ على تركه، لكن الثاني -يقول عمر بن الخطاب- أكثر أجرًا من الأول؛ لأن فيه شيئًا زائدًا عليه، وهو قضية المجاهدة، فنفسه جرَّبت مثل هذه القضايا في السابق، فتُحدثه نفسه أن يرجع إلى ما كان عليه، ولكن يكبحها.
وذكر هذا عند قول الله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى يعني: هؤلاء اختبارهم وابتلاؤهم أكبر من اختبار وابتلاء الفئة الأولى، مع أن كليهما ترك، لكن هذا عنده مجاهدةٌ؛ لأنه يُصارع.
لذلك كلما كان الإنسان ناهيًا نفسه ومانعًا نفسه عن الهوى كلما كان هذا مؤشرًا على قضية قوة الإرادة في قضايا المُحرَّمات كما ذكرنا في المثال.
حتى في قضايا المُباحات، يعني: انظر لهذه القضية: عندما يكفّ الإنسان عن أكل بعض المأكولات محافظةً على الصحة؛ خوفًا من أن يقع في المرض، أو يزداد عليه المرض، يعني: إما وقايةً، وإما علاجًا.
فهو الآن منع نفسه من حلالٍ، هذا لديه إرادةٌ؛ لأن بإمكانه أن يتناول ما منع نفسه منه، ولا أحد يقدر أن يقول: إنه فعل ذلك غصبًا عنه، فهو يملك الإرادة، فيأكل ويشرب، بينما غيره ما أخذ بكلام الطبيب.
وهكذا الناس يتفاوتون؛ تجد أن هذا الإنسان المصاب مثلًا بنوعٍ معينٍ من المرض، نقول: سكري مثلًا، وآخر عنده قابليةٌ، كلاهما عنده قابليةٌ، ولكن هذا تمادى في نوعية الأكل فأُصيب بالسكري، والآخر لم يُصب، اختلفوا في ضبط النفس في الأكل، فالأول لم يضبط نفسه، والآخر ضبط نفسه.
هذا تجنب بعض الأشياء حتى لا يُصاب بـ(الكوليسترول)، والآخر ما عنده، فجاء يفحص وإذا به مصابٌ.
وهذا أيضًا مثل اثنين كليهما مُصابٌ بـ(الكوليسترول)، لكن واحدٌ قام بحِمْيَةٍ وهو في بداية المرض فنزل عنده المعدل، والآخر بقي المعدل عنده كما هو أو ازداد.
فكل هذه قضايا مرتبطةٌ بمنع النفس عن الهوى، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهي أكثر وضوحًا في قضية المُحرَّمات؛ لأنه أمرٌ من الله فيجب أن نكفّ، وهذا تدريبٌ للنفس؛ ولذلك في شهر رمضان نكفّ عن الحلال في النهار؛ لأنه أمرٌ من الله لنا، ومن أكبر الدروس في ذلك: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
فالذي يستطيع أن يكفَّ عن الحلال في نهار رمضان يستطيع أن يكفَّ عن الحرام في نهار رمضان وفي غير رمضان.
هذا درسٌ تربويٌّ عظيمٌ جدًّا مُرتبطٌ بمنع النفس عن الهوى، فلا بد من إلزام هذه النفس وتعويد الأجيال على هذا الشيء.
ومن اللطائف التربوية: ألا نُعطي أبناءنا كلَّ ما يتمنونه، فالبعض يُحقق لأبنائه كل شيءٍ يتمنونه، ويرى أن هذا هو الأسلوب التربوي السليم، وتضيق نفوسه إذا لم يُلَبِّ لهم ما يُريدون، حتى في المباحات، أنا لا أتكلم عن المُحرمات، فالتعامل في المُحرمات يجب أن يكون مثلما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، لكن أتكلم عن المباحات.
والهدف من ذلك أن يتعود الأبناء على قضية: أنه ليس كل ما يتمناه الابن يحصل عليه، لا يلزم ذلك، يتربى على قضية أن هناك أمورًا تحصل، وأمورًا لا تحصل؛ ولذلك عندما تكون عندنا هذه الثقافة نستطيع أن نمنع أبناءنا من أمورٍ معينةٍ دنيويةٍ مباحةٍ؛ حتى لا يحصل لهم مكروهٌ، حتى لا يتمادى الابن في الأمر فيتجاوز إلى المُحرمات، حتى لا يُصاب بمشكلةٍ صحيةٍ، وما شابه ذلك، مع أنه الآن ما في شيء؛ فلذلك مهمٌّ جدًّا أن نستفيد من هذا المظهر، ألا وهو: نهي النفس ومنعها عن الهوى وكبحها.
الجد في الأمور والأخذ بها بحزمٍ
المظهر الثاني من المظاهر: الجد في الأمور، والأخذ بها بحزمٍ ونظامٍ، والبُعد عن الفوضى.
هذا مظهرٌ أيضًا لصاحب الإرادة القوية: أنه جادٌّ، شخصٌ ليس هزليًّا، ليس فوضويًّا، ليس رخوًا، وإنما صاحب حزمٍ، حتى لو كان صاحب قلبٍ حيٍّ، ودودٌ، رحيمٌ، شفوقٌ، لكنه حازمٌ.
وهذا مما ابتُليت به الأُسَر اليوم، خاصةً الأُسَر التي تُجيد العلاقات الطيبة فيما بينها، لكن ينفلت منها زمام الحزم والنظام، لا يوجد نظامٌ في البيت، فتنفلت الأسرة في بعض الجوانب، فالعلاقات ممتازةٌ، والأبناء يُحبون الآباء، والزوجان علاقتهما جيدةٌ، لكن لا يوجد نظامٌ.
وصاحب قوة الإرادة يضع النظام في التعامل مع التقنية في البيت، فتجتمع الإدارة العُليا في الأسرة وتتخذ قرارًا، وتذيع الخبر في نشرة الأخبار العائلية، وتكتب هذه القضية وتُعلِّقها، لا إشكالَ في ذلك.
وللدكتور خالد المنيف مقالةٌ رائعةٌ جدًّا في (الإنترنت) بعنوان: "في بيتنا قانون"، أدعوكم للنظر فيها.
ولك أن تتصور الشوارع التي ليس فيها قوانين، وليس فيها نظامٌ مروريٌّ، وكذا الوظائف، والشركات، وأنظمة الحضور والانصراف، كيف سيكون وضعنا؟!
ونفس الكلام من اللخبطة، والفوضوية، واللامبالاة، والضياع، عندما تكون الأسرة من غير نظامٍ، حتى ولو كانت الأسرة شريفةً، متدينةً، محافظةً، مُنضبطةً، أقصد: مُتعاونةً، لكن ما عندها حزمٌ.
فالحزم يُعطي مؤشرًا قويًّا على قوة الإرادة عند صاحب الحزم، وهذه القضية مهمةٌ في القضايا العالمية، يعني: كعاصفة الحزم، فهذا المُسمَّى أثَّر في نفوسنا كثيرًا، فالاسم أعطى دلالةً على قوة إرادةٍ، والمسلمون في أمس الحاجة إليها.
فالحزم مَعْلَمٌ ومُؤشرٌ في قضية قوة الإرادة: أن لدينا الإرادة، ونستطيع أن نُفعِّلها، وتكون قويةً؛ فلذلك هذا الأمر مهمٌّ جدًّا.
وليس المقصود أن يكون الإنسان مُوسوسًا في النظام، وأيضًا في الحزم، ... إلى آخره، لا، إذا انتقل الحزم إلى مستوى الشدة -وهذا تكلمنا عنه كثيرًا- لا يُعتبر هذا الحزم إيجابيًّا.
وإذا أصبح النظام جانبًا من القلق والتوتر، وارتبط بالوسواس والتدقيق الزائد أيضًا؛ فهذا ليس مقصودًا، وإنما على الإنسان أن يضع نظامًا في البيت، مثلًا الـ(Wi-Fi( يُغلق الساعة الحادية عشرة ليلًا، يُغلق وانتهى الأمر.
فلو جاء الولد وقال: يا أبتي، أريد الـ(Wi-Fi(. لا يفتح له، هذا صاحب نظامٍ، وصاحب حزمٍ، لا، أبدًا، وإذا فتح له سيكون مثل الذي ما عنده نظامٌ أصلًا.
كثيرٌ من الناس يشتكون أن أبناءهم يجلسون في غُرفهم إلى الساعة الثانية ليلًا، أو إلى الفجر، وصرنا الآن نعاني من قضية الدوام المبكر، ونعاني من مشكلاتٍ تأتي لنا الآن، ونعاني من قضية أننا نُوقظهم للصلاة ونتعب في إيقاظهم -بالنسبة لمَن يحرص على الصلاة-، وكذلك نتعب في إيقاظهم للمدرسة بسبب السهر، فلماذا يسهر؟!
يحتاجون إلى نظامٍ، وهذا دليلٌ على قوة إرادةٍ عند ولي الأمر في الأسرة مثلًا، من أجل أنه يسلك مع الأبناء مسلكًا إيجابيًّا في الحياة.
أما إذا قلنا: لا نريد أن نُغضبهم. وتصبح هذه قاعدةً عامَّةً، ستُصبح القضية تسيُّبًا وتَرَهُّلًا ودلالًا ودلعًا، وستكون نتائج ذلك وخيمةً، كنتائج القسوة والشدة والغِلْظة.
المبادرة بفعل الخيرات
ومن مظاهر قوة الإرادة أيضًا: المبادرة بفعل الخيرات قبل حصول الموانع، فالله أعطاني وأعطاك الصحة، فلماذا نُسوف في فرص أعمال الخير والبرِّ؟
أعطاك الله فرصة أن تكون في آخر الليل مستيقظًا، وأنت قد لا تكون من النوع الذي يُصلي بالليل، ولكن هذه الليلة كنت مستيقظًا، قُمْ وصَلِّ، فرصةٌ: فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً [الإسراء:79] من الليل، فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا.
فصاحب قوة الإرادة يعزم على نفسه، ويأخذ بهذه الذات حتى يستثمر فرص الخير، حتى يأتي المانع، والمانع قد يكون مانع ضعف النفس والهوى، وقد يكون مانع الصحة، وما شابه ذلك، خارجٌ عن إرادته كمثالٍ، ... إلى آخره.
فيستثمر فرص الخير، لا يُضيِّع ويقول: إن شاء الله فيما بعد، اتركه فيما بعد، ونفعله فيما بعد، وإن حصلت طاعاتٌ من الصلاة فيما بعد، اتركه، عاشوراء -إن شاء الله- أصومه السنة القادمة. فلِمَ لم تصم الآن؟!
فصاحب قوة الإرادة سيقول: أنا أخشى ألا أُدرك عاشوراء في المستقبل، فيصوم.
وهكذا في أشياء معينةٍ: كتربية الأبناء، والقراءة، والاستفادة، والعلم الشرعي وطلبه، جاءت فُرصه، طيب، لماذا لا تُحافظ على الحضور مع الشيخ الدرس بعد الصلاة، أو بالسماع عن طريق (الإنترنت)، وما شابه ذلك؟! وتقول: اتركه فيما بعد! استثمرها الآن، ما دام -الحمد لله- سمعك طيبًا، وصحتك طيبةً، في الصدقة تصدَّق، بادر بها؛ لأنه بعد ذلك قد يُعيقك أنك لا تستطيع أن تتصدق لسببٍ أو لآخر، فالنفس تضعف، ويقلّ المال، وتقع خسارةٌ، ... إلى آخره، وهكذا في أمورٍ عديدةٍ.
فالمبادرة مظهرٌ مهمٌّ فيما يتعلق بقضية قوة الإرادة، فيُبادر: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المُظلم[2]أخرجه مسلم (118).، فسارعوا، سابقوا، هذه كلها دعوةٌ لقضية المبادرة والعمل قبل أن تحصل موانع: كالمرض، أو الموت، وما شابه ذلك.
لذلك تجد الإنسان كثير التأخير والتأجيل، كثير التَّحسر، خاصةً إذا كان عنده خيرٌ، وعنده رغبةٌ في الخير، يتحسر على ما فاته: يا ليتني فعلتُ كذا، ويا ليتني فعلتُ كذا، ويا ليتني كذا. لكن صاحب قوة الإرادة تقلّ عنده هذه القضية بسبب أنه مُنجزٌ للأعمال، مُبادِرٌ.
التفاؤل وصرف الناس عن التشاؤم
النقطة الرابعة من مظاهر قوة الإرادة: التفاؤل وصرف الناس عن التشاؤم.
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا لصاحب قوة الإرادة، فتجد هذه الشخصية مُتفائلةً؛ لأن صاحب التشاؤم -المُتشائم- بينه وبين تحقيق الهدف عقباتٌ نفسيةٌ، مُحبطٌ، مُتشائمٌ، ناهيك عن أن يكون لك أثرٌ على غيرك -كأبنائك وغيرهم- في قضية التشاؤم: ما منك خيرٌ، ما أظن الأمور تتحسن. وهكذا، إما أن تُعطي صورةً سلبيةً عنه، أو صورةً سلبيةً عمَّن يتعامل معه -المجتمع-، وهذه خطيرةٌ، ويُحتاج أن يُتنبَّه لها.
وكان الرسول يُعجبه الفأل الحسن[3]أخرجه أحمد في "المسند" (24982)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ لغيره"، وابن حبان في "صحيحه" (5824)، والحاكم في "المستدرك" … Continue reading، حتى في وقت الضيق ينبغي أن نبحث عن النور الذي نُظهره لأنفسنا ولغيرنا.
فصاحب التفاؤل هو شخصٌ يُمارس مظهرًا من مظاهر قوة الإرادة.
لا تتصور شخصًا صاحب قوة إرادةٍ متشائمًا في الأغلب الأعم، إنما هو صاحب تفاؤلٍ.
الصبر وعدم الحزن
النقطة الخامسة -قبل الأخيرة- فيما يتعلق بمظاهر قوة الإرادة: تلقي الأحداث بالصبر وعدم الحزن على ما فات والتطلع للمستحيل.
وهذه أيضًا قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، تأتينا أحداثٌ، وتتراكم علينا الأحداث، وصاحب قوة الإرادة يُوطن نفسه على ذلك بالصبر، يُدركها من الناحية المفهومية والخطاب الشرعي، ويُدركها من الناحية العملية وتطبيقها؛ لأنه شخصٌ عنده إرادةٌ قويةٌ على أن يصبر، أما الشخص الآخر فحتى لو كان يعرف أنه يجب عليه أن يصبر، إلا أنه ضعيف الإرادة؛ فلذلك لا يصبر.
مثل قضية التفاؤل والتشاؤم: ضعيف الإرادة؛ لأنه عندما يرى المشاكل والأمم تجتمع على المسلمين، ويرى الأشياء المُعينة السلبية -وإرادته ضعيفةٌ- يُصاب بالتشاؤم؛ لأنه ضعيف الإرادة، تجد أنه ما عنده تحمُّلٌ وصبرٌ، ... إلى آخره، فتجد أنه بسهولةٍ ينهزم عند تلك المظاهر السلبية.
وكذلك ينهزم عند الأحداث، فلا يصبر، ولا يتحمل، ويجزع، وربما يجعله هذا مُنزويًا، أو عدوانيًّا، يعني: إما أن ينزوي وينطوي وينعزل عن الناس فيُخالف فطرته، وإما أن يكون عدوانيًّا، فيكون تصادميًّا مع المجتمع بأي صورةٍ من الصور السلبية، صَغُرَت أو كَبُرَت.
وعدم الحزن على ما فات؛ لأنه شخصٌ مُنجزٌ كما قلنا، ثم هذا شيءٌ فات، ما نجح، والآن الشخص يُفكر باللحظة الحاضرة، ويحاول أن يُنجز ولا يقف.
وأنا أرى في هذه النقطة خاصةً أهميةً كبيرةً، وهي من المُعيقات النفسية، وسبق أن درسناها حقيقةً في هذه اللقاءات، وهي قضية الوقوف عند الماضي، أو الوقوف عند المستقبل ونسيان الحاضر.
فصاحب قوة الإرادة من مظاهر قوة إرادته أنه مُنجزٌ في الحاضر، لا يشغل باله بما مضى، فلن يعود إليه، ولا يشغل باله بالمستقبل، فالأمر بيد الله، والأمر مجهولٌ.
فلذلك ما العمل؟
قم الآن بالذي عليك أن تقوم به، قم صلِّ الآن، اذكر ربَّك الآن، برّ والديك الآن، استغفر ربك الآن، قم لوظيفتك، نَمْ، كُلْ، ... إلى آخره، يعني: مارس وضعك الحالي، ومَن يفعل ذلك يكون صاحب قوة إرادةٍ، لكن ضعيف الإرادة يستسلم للأفكار ويسترسل فيها؛ حزنًا على ما مضى، وقلقًا وتوترًا على ما سيأتي.
ولذلك تجد أن مثل هؤلاء عندهم تطلعٌ حتى للمستحيل، أقصد الشخص ضعيف الإرادة يعيش الأحلام، أما صاحب قوة الإرادة فشخصٌ واقعيٌّ.
امتلك نفسك عند الغضب
النقطة السادسة في المظاهر لصاحب الإرادة القوية: امتلاك النفس عند الغضب وعند مواجهة الغير.
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا تتعلق بضبط الانفعالات والتحكم في الذات (self-control)، فصاحب قوة الإرادة يمكن أن يكون مشحونًا في الداخل أكثر من الآخر الذي يجلس يزبد ويرعد ويرفع صوته، وربما يضرب، لكن صاحب قوة الإرادة رغم أنه قد يكون مشحونًا أكثر من الداخل، إلا أنه ضابطٌ لنفسه.
ولذلك أشرنا في اللقاء الماضي إلى وصية النبي لما قال له رجلٌ: أوصني، قال: لا تغضب.
فكلمة: لا تغضب سهلةٌ جدًّا، لكن لا يستطيعها كل أحدٍ، فعندما يأتي موطن الإثارة لانفعال الغضب يظهر معدن صاحب الإرادة القوية، وصاحب الإرادة الضعيفة.
فصاحب الإرادة القوية مهما كان عنده من شحناتٍ داخليةٍ انفعاليةٍ، تجد أنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإن كان واقفًا جلس، ويملك أعصابه، ويُفكر في عواقب الأمور فيما لو أنه فعل كذا وفعل كذا؛ فيضبط نفسه.
والآخر أبدًا، يُصبح خارج التغطية (out of control)، ليس عنده قدرةٌ على التفكير الصحيح، ولا يُدرك ماذا يفعل؟ لأن إرادته ضعيفةٌ، فيريد الانتقام، فربما مارس سلوكًا أعظم من سلوك الشخص الآخر الذي أغضبه، فيقع في المشكلة الشرعية، ويقع في العواقب الدنيوية الوخيمة، وقد يصل إلى مستوى القتل عند البعض بسبب مثيرٍ أغضبه، فأخذ حديدةً وضرب بها الشخص الآخر، والقصص في ذلك معروفةٌ وموجودةٌ.
فامتلاك النفس عند الانفعال قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ولا بد من تدريب النفس على هذا الجانب، لا بد من التدريب العملي، فإن كان الإنسان وقت الغضب واقفًا يجلس، ويتوضأ، ويذكر الله، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويُغير مكانه، ... إلى آخره.
لا بد من ممارسة هذه القضية، فصاحب قوة الإرادة لديه هذا النفس عند مواجهة الآخرين.
هذه بعض المظاهر المتعلقة بقوة الإرادة، فهي نقاطٌ مهمةٌ جدًّا، وهي عمليةٌ، ويمكن لكل واحدٍ منا أن يختبر نفسه ويختبر مَن يتعامل معه في حياته، فأنت يمكن أن تعرف هذه في ابنك، ويمكن أن تُعرِّضه إلى موقفٍ انفعاليٍّ، وتكون أنت سببًا في أن تُغضبه بطريقةٍ تمثيليةٍ، وتنظر ردَّة فعله، فيمكن أن تظهر لك أشياء معينةٌ.
أنا اليوم كان عندي مقرر تعديل السلوك في الجامعة، وكنت قد كلفتُ الطلاب أن كل واحدٍ منهم يأخذ حالةً من حالات الأسرة عندهم ويُتابعها من بداية الفصل إلى نهاية الفصل، ويُطبق الأشياء التي نحن نأخذها من مهارات تعديل السلوك والمشكلات والقضايا المتعلقة بها.
فكنتُ أسألهم اليوم عن بعض المشكلات التي اختاروها، فوجدتُ أن عددًا من الذين تحدثوا اليوم أغلب العينة التي اختاروها من إخوانهم أو أقاربهم عمومًا، أغلبهم -إن لم يكن كلهم- من الأقارب: في المرحلة الابتدائية، في مرحلة الطفولة، وقد اختاروا قضية العصبية والغضب والانفعال، فإذا ما فاز في الألعاب الإلكترونية وانهزم يقول: يُصبح وحشًا؛ صُراخٌ وغضبٌ وانفعالٌ.
فبعضهم معه من هذه الحالات تقريبًا اليوم ثلاثة أو أربعة، كلها متقاربةٌ في هذا الجانب.
الآن هو في أول ابتدائي أو رابع ابتدائي، وأصبح عنده من مُثيرات الانفعال التي لو استمر عليها ماذا سيحصل بعد ذلك؟ وما سيكون وضعه؟ وعندما يمارس الحياة ويصبح في مراحل متقدمةٍ، ويصبح بعد ذلك زوجًا، كيف سيكون مع زوجته وأبنائه؟ وحين يعمل كيف سيكون مع الموظفين؟ وأيضًا كيف سيكون مع أقرانه؟
مشكلةٌ كبيرةٌ؛ لذلك ينبغي أن نتنبه ونُساعدهم على قوة الإرادة، فقل له: قل: أعوذ بالله يا ولدي، وإذا شعرت أن أحدًا أغضبك أمسك نفسك، واجلس إذا كنت واقفًا، وغيرها من التصرفات التي تجعله يُمارس دورًا ولا يستسلم.
ثم أيضًا قضيةٌ أخرى مهمةٌ، وهي: أن المُثيرات لها علاقةٌ بالحزم والنظام، وهي المتعلقة بقوة الإرادة؛ عندما يُتابع أي ألعابٍ إلكترونيةٍ، وفي أي وقتٍ يريد، وينام على ما يريد.
من آخر الألعاب الخبيثة التي طالعناها -للأسف الشديد- بعد هذه الاتفاقية الأخيرة سيئة الذكر في الأمم المتحدة، والتي -ولله الحمد والمنة- أنطق اللهُ لسان موفد المملكة بالحق فاعترض عليها علنًا، وكان اعتراضًا مُشرِّفًا جدًّا، وهي الاتفاقية التي تتعلق بالتنمية المُستدامة لمدة خمس عشرة سنةً قادمةً، وفيها ما يرتبط بإقرار المثلية -والعياذ بالله- في العلاقات.
وقد وقعت عليها دول العالم ولم تستنكرها، ولم نسمع موقفًا مُشرِّفًا إلا من المملكة -بحمد الله - في اللقاء الذي كان قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا.
وقد ظهرت بعدها ألعابٌ إلكترونيةٌ رياضيةٌ، مثل: لعبة الكرة التي يُحبها أجيالنا اليوم، ويُشاهدها الكبير والصغير، ويلعبونها، حتى في البيئات المُتدينة تجد هذه الألعاب الإلكترونية المتعلقة بالرياضة موجودةً، ويتجاوزون فيها كثيرًا، ليست مباراة، وإنما ألعاب.
وفي هذه الألعاب يُحرز لاعبٌ هدفًا، فيأتيه زميله اللاعب الآخر ويُقبل فمه، ويُقبلان بعضهما البعض كما يفعل الرجل مع زوجته، وقد رأيتُ هذا في ألعابٍ جديدةٍ، وإن شاء الله تُمنع من السوق، ويُتنبه لهذه القضية؛ حتى لا نقع في فخاخٍ قديمةٍ، فنقع في أمورٍ أشد مما كان عليه الحال سابقًا في قضايا الشذوذ الجنسي -والعياذ بالله- والمثلية، وما شابه ذلك.
فالمقصود أنه لا بد من النظام الذي يحفظ قيمَ أبنائنا، ويحفظ فكرهم، ويحفظ انفعالاتهم، ويحفظهم أيضًا من المُثيرات السلبية التي تُؤثر عليهم؛ حتى تكون عندنا قوة الإرادة الإيجابية، وبهذه المثابة ينتفع أبناؤنا، حتى لو بكى الابن يبكي الآن، ثم لا يبكي مرةً أخرى.
وصورة أن ابني يُشاهد هذا عند غيره من الزملاء، ويسمع هذا في المدارس، ما يطلبه المُشاهدون والمُستمعون لن ينتهي، فإذا كان ابني كل شيءٍ يسمعه أُلبيه له فسيصير هو الذي يُحرك الأسرة، وهذا غير صحيحٍ، وعندئذٍ تُصبح القضية عندنا هي قضية الاتجاه الآخر المتعلق بغير الحزم، وهذا صاحب ضعف الإرادة.
بعض أولياء الأمور يقول: كيف أستطيع؟
أقول له: لا يا حبيبي، كيف لا تستطيع أن تقول له: لا؟! لو جاءت قضيةٌ مُرتبطةٌ بشيءٍ دنيويٍّ يهمّ ولي الأمر، وهو عنده ضعفٌ في الإرادة لفعَّلها، قال: لا، لأمرٍ يراه، قال: لا، لا يمكن، أبدًا.
ولذلك من الإجراءات المُقنعة في هذا الجانب: أن يختبر الإنسانُ نفسه فيُفعِّل إرادته، فهو يُثبت في أمورٍ أن لديه قوة إرادةٍ، بينما في أمورٍ أخرى تضعف إرادته، والسبب في ذلك الثقافة والاهتمام، والسبب في ذلك الوعاء: الوعاء الشرعي، والفكري، والوجداني، وما شابه ذلك، فنحن في أمس الحاجة إلى أن نتنبه إلى مثل ذلك.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يُقوي إراداتنا في الخير فعلًا، وفي الشر تركًا، وأن يُعيننا على تربية الأبناء والأجيال على مثل هذا الشيء؛ حتى لا يكونوا مسلُوبي الإرادة.
لا تكن كالإسفنجة
في ظل هذه الفتن والزوابع، ومعنا طلابٌ من جميع التوجهات: سنة وشيعة، وكنت أُخاطب الجميع وأقول لهم -شباب السنة وشباب الشيعة- بهذه العبارة: حينما يكون الإنسان مُستخدِمًا للتقنية كمثالٍ، وأنتم جيل التقنية، وفكره ليس له، وإنما لغيره، ومشاعره ليست له، وإنما لغيره، وسلوكه ليس له، وإنما لغيره.
فغيره هو الذي يُدير فكره ومشاعره، وهو الذي يُدير سلوكياته، فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا.
ترى، هذا تفسيرٌ عامٌّ بالنسبة لما يتعلق بالأفكار المُنحرفة أيًّا كانت: ذات اليمين، وذات الشمال؛ داعشية، أو إلحاد، أو بدع وخرافات وشركيات، ... إلى آخره.
وكذلك بالنسبة للسلوكيات والانحرافات الأخلاقية، وما شابه ذلك.
السبب في ذلك: أنه ما عنده قوة إرادةٍ إلى أن يقول لهذا الفكر الذي قرأه عبر (الواتس) أو رآه عبر الرابط: أن هذا خطأ، ولا يقبله، ولا يقبل أن ينشره؛ لأنه فكرةٌ مُنحرفةٌ.
كذلك فيما يتعلق بتوظيف جوانب العواطف والمشاعر، وما يتعلق بالجوانب السلوكية وما يرتبط بها.
لذلك اليوم هناك صراعٌ، وأنا أتكلم معكم الآن وفي ذهني شخصياتٌ معينةٌ أعرفها من أبنائنا وطلابنا يتعرض بعضهم -وقد كانت له في التدين سنوات- إلى مثل هذه الهجمات، أيًّا كان اتجاهها، وتجد أنه يصبح مثل الإسفنج؛ يتشرب الأفكار المُنحرفة أو السلوكيات المُنحرفة، ولا يكون كالزجاج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[4]"مفتاح دار السعادة" (1/ 140).، فينفذ منه الضوء نفذًا دون أن يحصل ما يحصل مع الإسفنج؛ فيمتص السيء والطيب في آنٍ واحدٍ، والسبب في ذلك ضعف إرادته.
مثلًا: لعب زميلٌ في عقله، وذهبا معًا إلى الأسواق والسينما، خاصةً أنها قريبةٌ من هنا، وكان رجلًا فاضلًا وطيبًا فانحرف في هذا الاتجاه السلوكي اللاأخلاقي، وأصبحت له علاقاتٌ، وأصبح يطلق النظر، ... إلى آخره.
وكذلك بالنسبة للجانب الفكري اتجه إلى الجوانب الفكرية المُنحرفة، والسبب في ذلك -أنا أُلاحظ وأتكلم معكم عن شخصياتٍ أعرفها- ضعف الإرادة لديه، فمن السهل أن يُؤخذ ذات اليمين وذات الشمال.
والآخر قد لا يكون متدينًا، ولكنه محافظٌ، ولا يقبل إلى هذه اللَّحظة أن يُصبح مثل الذي انحرف سلوكيًّا أو فكريًّا، بينما كان قبل ذلك مُتدينًا، والسبب -بعد توفيق الله- قوة الإرادة.
أبدًا لا يقبل أن ينخر أحدٌ فكره الذي لديه، ويعرف أن لديه الحقّ، بل يقول: الله يتوب علينا، نحن مُقَصِّرون، الله يتوب علينا؛ لأن عنده قوة إرادةٍ في المنع والدَّفع.
وهكذا بالنسبة لجانب السلوكيات الأخرى المُنحرفة اللاأخلاقية، أبدًا لا يمكن أن يقبل الجلوس مع شبابٍ ضائعين يأخذونه ذات اليمين وذات الشمال، فيقول لهم: لا، لا أفعل.
وأنا أتكلم معكم وفي ذهني صورٌ لهؤلاء الشباب بأعيانهم وأسمائهم.
فنحن في أمس الحاجة إلى تكثير الصورة الثانية، وتقليل الصورة الأولى، كم هذا عظيمٌ لو كان أبناؤنا مثل الصورة الثانية: كانوا مُتدينين، أو كانوا غير مُتدينين، أقصد: محافظين، لكنهم باقون -الحمد لله- في الخير العام.
وكم نحن في أخطر ما يكون حينما يكونون من الفئة الأولى، حتى لو كانوا متدينين، فيُفاجئك أحدهم بفكرٍ مُنحرفٍ، أو يُفاجئك بسلوكياتٍ مُنحرفةٍ، ولا نعرف شيئًا عنه إلا وهو داخل دهليز (الإنترنت)، وإذا به تعرَّف على واحدةٍ في بلد كذا.
أنا أتكلم عن أشياء تصلني وأعرفها، وأعرف أشخاصها، وبعضهم مُتدينٌ، ويذهب إلى البلد الآخر ليقع في الزنا والحرام، ثم يندم حين لا ينفع الندم، وهو من أهل القرآن، ومن أهل الصلاة، هذا مثالٌ.
أو يتجه في الفكر للانحراف ذات اليمين وذات الشمال.
فإذا كان هذا يقع من أمثال أهل التدين، فكيف بغيرهم؟!
وهذا في ظني وتشخيصي مرتبطٌ بالتربية على قوة الإرادة، أو ضعف الإرادة، فالشخص المُحافظ صاحب قوة الإرادة حتى لو لم يكن مُتدينًا ولديه حصيلةٌ مثل الأول، لكن عنده قوة الإرادة؛ ستجد أنه في الغالب لا يمكن أن ينحرف كما ينحرف الآخر صاحب الإرادة الضعيفة ولو كان مُتدينًا، وخذ على ذلك وقِسْ.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
والحمد لله رب العالمين.