المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الحادي عشر من هذه السلسلة؛ سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، وهي المجموعة الثامنة، بحمد الله وتوفيقه.
وفي كل مجموعةٍ تقريبًا ثنتا عشرة حلقة إلى أربع عشرة حلقة، وبالنسبة للمجموعة الثامنة في السنة الرابعة نحن -بحمد الله - في الحلقة الحادية عشرة.
وقد تكلمنا في اللقاء الماضي حول أساليب تربوية، وقلنا أن هذا الموضوع طويلٌ جدًّا، حيث إن موضوع الأساليب مهمٌّ للمُربين أيًّا كانوا: آباء، أو معلمين، أو أفرادًا في المجتمع: ذكورًا وإناثًا، هم في أمس الحاجة لتلكم الأساليب؛ ليستطيعوا أن يُربوا أنفسهم ويُربوا غيرهم.
وبدأنا بأول أسلوبٍ تربويٍّ مهمٍّ ومُؤثرٍ وهو: القصة، ونواصل الحديث عنها من خلال بعض النماذج من قصص النبي .
وسنستعرض في هذا اللقاء قصتين من القصص المشهورة لنبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، لعلها أن تكون وغيرها نماذج نستفيد منها لأنفسنا كدروسٍ تربويةٍ ونفسيةٍ من جهةٍ.
وكذلك نستطيع أن نُدرك حاجتنا إلى أن نُغذي أبناءنا وأُسرنا وأجيالنا بمثل تلك القصص، وما أجمل أن تجلس الأسرة في لقاءٍ أسبوعيٍّ وتختار قصةً من كتاب الله ، أو من سنة النبي ، ويبدأ الآباء والأبناء -ذكورًا وإناثًا- يستنبطون دروسًا من تلك القصص!
وهي لا تُكلف شيئًا، ولا تحتاج إلى مزيد علمٍ، ولا تحتاج إلى تخصصٍ، وإنما تحتاج إلى إرادةٍ بعد توفيق الله ، ثم معاني القرآن بشكلٍ عامٍّ، وكذلك أحاديث النبي يستطيع عوام المسلمين أن يكتشفوا ويستنبطوا منها أمورًا واضحة الدلالة والمعاني، كما سنأخذ بعض هذه المعاني.
وليعذرنا الإخوان، وإن كان الأولى أن نبدأ أو نأخذ نماذج من قصص النبي ، لكن بسبب عامل الزمن فلعله أن يكون هناك شيءٌ من التقديم أو التأخير.
وليس المقصود هنا تقديم الأولى والأفضل، وإنما سنأخذ نماذج حسب المُتيسر، فقد نعود إلى قصصٍ في القرآن، ثم نعود إلى السنة، أو بعض قصص التاريخ، أو ما شابه ذلك، إلى أن نُدرك أن هناك اكتفاءً بمثل هذه القضية، فننتقل إلى أسلوبٍ آخر من الأساليب التربوية.
وغالبًا إذا أحيانا الله وأبقانا فإن هذه السلسلة المتعلقة بالأساليب التربوية ستستمر إلى نهاية العام الدراسي مع الفصل الثاني كذلك، وهي قابلةٌ أن تزيد أكثر من ذلك، فنترك الأمر إلى حينه، بإذن الله .
ولنأخذ هذا النموذج، ونستعرض بعض الدروس التربوية والنفسية من خلال قصة النبي .
وحينما يكون القاصُّ محمدًا عليه الصلاة والسلام فهذا أكبر دليلٍ على أهمية هذا الأسلوب في التأثير والتربية.
أثر برِّ الوالدين في تفريج الكربات
جاء عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله يقول: انطلق ثلاثة رهطٍ ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أغبق قبلهما أي: لا أُقدم في الشرب أهلًا، ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، وكرهتُ أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا ....
فهؤلاء الثلاثة كانوا في غارٍ، فسدت الغارَ عليهم صخرةٌ، فلا بد من إجراءٍ وعملٍ مُعينٍ لتنفرج هذه الصخرة، وكان الرأي أن كلًّا منهم يدعو بصالح عمله.
فالأول أراد ألا يُقدّم على والديه أحدًا، فأحضر المطلوب، وإذا بالوالدين قد ناما، فلم يُوقظهما، بل انتظرهما حتى يستيقظا.
فلبثتُ والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي أي: يصيحون من الجوع.
أنا أسأل نفسي، وأسأل إخواني وأحبابي: هل نستطيع أن نفعل ذلك؟ هل يُمكننا أن نفعل هذا؟
الرسول عندما قصَّ هذه القصة لا شك أنه يُثني ويمدح صنيع هذا الرجل، فلا يأتي شخصٌ ويقول: هؤلاء الأطفال يموتون ويصيحون، وكذا!
لن يفقدوا الحياة، فلا نُغالط أنفسنا ونُضخم القضية ونقول: سيفقدون الحياة!
والقضية عندنا ليست مجرد أنني الآن أسقي هؤلاء الأبناء إلى أن يستيقظ الآباء، فليست القضية أنه حلالٌ أو حرامٌ، وأن القضية لا يجوز، وما شابه ذلك.
فالقضية هنا مرتبطةٌ بشيءٍ عظيمٍ جدًّا، مستوًى عالٍ من قيمة برِّ الوالدين.
فهذا النموذج الذي ذكره النبي وأثنى عليه كان أول مَن انفرج به جزءٌ من الصخرة، بسبب صنيع هذا الرجل.
فاستيقظا فشربا غَبُوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه، هذا الأول.
مَن خشي الله فرَّج الله كربه
قال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عمٍّ، كانت أحب الناس إليَّ، وفي روايةٍ: كنت أُحبها كأشد ما يُحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها يعني: فأراد -والعياذ بالله- بها الحرام، فامتنعت مني حاول فامتنعت، حتى أَلَمَّت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني يعني: أُصيبت بضائقةٍ في سنةٍ مُجدبةٍ، فاضطرت أن تأتي إلى ابن عمِّها.
الآن جاءت في موقف ضعفٍ، وأخطر ما يكون بالنسبة للمرأة الضعيفة أن تقف موقف ضعفٍ مع الرجل، وهي تحتاج إليه: فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومئة دينارٍ على أن تُخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، في البداية رفضت، والآن فعلت لأنها تحتاج إلى المال.
حتى إذا قدرتُ عليها، وفي روايةٍ: فلما قعدتُ بين رجليها قالت نطقت بالفطرة: اتَّقِ الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه.
يقول: فانصرفتُ عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتُها يعني: عندما كاد أن يزني بها ذكَّرته بالله، فالإيمان باقٍ عندها مع ضعفها، فقالت له: لا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه وهذه كنايةٌ عن أنه لا يحصل ما يحصل بين الرجل وامرأته إلا بالحلال، فأنت الآن في موقع حرامٍ.
فوقف الرجل، وترك لها المال، وتركها خوفًا من الله ، ولم يتركها لوجود شخصٍ يُراقب ويُتابع مثلًا، وإنما تركها حين قالت له: اتَّقِ الله.
وتركتُ الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرةُ، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، هذه الصورة الثانية.
الأمانة وتفريج الكُربات
وقال الثالث: اللهم استأجرتُ أُجراء، وأعطيتُهم أجرهم غير رجلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهب، كلهم أخذوا أجورهم إلا واحدًا مشى وحقُّه باقٍ عندي.
فثَمَّرْتُ أجره قام هذا الشخص باستخدام مال هذا الإنسان يريد أن يستثمره لصاحب المال الذي ذهب ولا يدري متى سيأتي؟
فثَمَّرْتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبدالله، أدِّ إليَّ أجري هاتِ حقِّي، ما أخذتُه.
فقلتُ: كل ما ترى هذا أجرك كل الذي تراه من الإبل والبقر والغنم والرقيق هو لك!
فقال: يا عبدالله، لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك أنا صادقٌ.
فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا يعني: أصبح هذا المال نصيبه، فأخذ ماله كله الذي أشار إليه، وهو من نتاج الاستثمار.
قال هذا الثالث: اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرةُ، فخرجوا يمشون متفقٌ عليه[1]أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (2743)..
الدروس المُستفادة من قصة الثلاثة والغار
القصة واضحةٌ، وكلٌّ منا يستطيع أن يُدلي برأيه، ويعرف الدروس المستفادة، مثل القصة التي تُقرأ على أبنائنا وعلى الأطفال من الذكور والإناث، وعلى الصغار في البيوت وخارج البيوت، ألا يمكن أن نستخرج منها دروسًا تُربي نفوسنا، وتُربي غيرنا في أمورٍ عديدةٍ إيجابيةٍ فنحرص عليها، وأشياء سلبيَّةٍ فنخاف منها ونحذر منها؟ لا شكَّ.
وهكذا التربية تحتاج إلى روافد وأساليب من ذلك، مثل: أسلوب القصة التي تحدثتُ بها معكم الآن.
دعونا الآن نأخذ بعض الوقفات التربوية والنفسية لعلنا نستفيد منها أكثر، ونُركز على بعض القضايا، وإن كنت أجد أنها مليئةٌ جدًّا.
إبراز قضايا أساسيةٍ لهؤلاء الثلاثة:
القيمة المُبرزة للشخص الأول: قيمة برِّ الوالدين.
القيمة الثانية للشخصية الثانية: قيمة العِفَّة.
القيمة الثالثة للشخصية الثالثة: الأمانة، والصِّدق.
هذه القِيَم مهمةٌ، والأمم اليوم والمجتمعات -حتى غير المسلمة- تتحدث عن صراع القِيَم، وتتحدث عن حاجة الأمم إلى بناء القِيَم وزراعتها ورعايتها، ومَعِيننا الإسلامي يُؤكد ذلك من قبل أن يتكلم أحدٌ في هذا الموضوع تمامًا، ودعوة الأنبياء قبل ذلك أكَّدت مثل هذه القضايا.
المُوَفَّق مَن وفَّقه الله لبرِّ والديه
فلما نقرأ مثل هذه القصة نجد أننا في أمس الحاجة لنكون مثل الأول، وأن نُحاسب أنفسنا ونُراجعها، ويُحاسب أجيالنا أنفسهم فيما يتعلق ببرِّ والديهم.
فالمحظوظ والمُوَفَّق الذي شابه الرجل الأول في صنيعه، مع أن ذلك ليس من السهولة بمكانٍ أبدًا، وهو أمرٌ مُمكن الحصول، لكنه ليس من السهولة بمكانٍ؛ لأنه يحتاج إلى إرادةٍ.
وأحد المشايخ رحمه الله يُذكر عنه أنه كان لا يمر من مكانٍ في الدور العلوي لأن أمه في الدور الأسفل تحت هذا المكان، وهذا الكلام يُنقل عن معالي الشيخ: صالح بن حصين رحمه الله، رئيس شؤون الحرمين سابقًا، ورئيس مركز الحوار الوطني -رحمة الله عليه-، وغير ذلك من الأمور.
فهذه أمورٌ قد لا يتصورها الواحد، هل فيها محظورٌ شرعيٌّ: يجوز أو لا يجوز؟
فمَن كان لا يمر فوق المكان الذي فيه الأم فإنه بلا شكٍّ لن يُهين الأم، وسيكون من البارِّين، ولكنه أمرٌ طبيعيٌّ أن يمر، ولكن بلغ به المبلغ إلى أن يصل إلى مثل هذا المستوى، كما بلغ المبلغ بالشخص الذي حدَّث به النبي أنه ينتظر إلى الفجر وهو يُمسك الغَبُوق، لعل واحدًا من والديه يستيقظ فيشربه، والمشكل أن الأبناء يصيحون.
أين نحن من ذلك؟ وأين أجيالنا من التربية على برِّ الوالدين الذي هو أعظم شيءٍ بعد حقِّ الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] بعد عبادة الله ؟!
فنحتاج أن نُراجع أنفسنا في هذه القضية، نحتاج أن نُراجع أنفسنا في الواجب؛ لأننا قد نكون مُقصرين في الواجب، وعلينا أن نُحذِّر أجيالنا من التقصير في الواجب؛ من العقوق أو بعض أجزائه.
ونحتاج أن نُربي أنفسنا على الفاضل من الأعمال، مثل هذه الصورة المُشرقة العجيبة المتعلقة بالمستوى العالي من زراعة قيمة برِّ الوالدين ورعايتها والتربية عليها.
هذا ما يتعلق بالنقطة الأولى.
قيمة العِفَّة
النقطة الثانية: جيلنا كما أنه يحتاج إلى هذه القيمة: بر الوالدين، يحتاج إلى قيمة العفة، فقيمة العفة اليوم من القيم الخطيرة جدًّا بسبب وجود المُؤثرات والمُثيرات المُتعارضة للعفة التي أصبحت اليوم بمجموعها وكثرتها وتنوع وسائلها تُشَكِّل خطرًا كبيرًا، فلم يسبق لجيلٍ أبدًا أن تعرض لمثل هذه الوسائل فيما يتعلق بقضية محاربة العفة.
وصدق الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله -عضو هيئة كبار العلماء سابقًا- لما ألَّف كتابه العظيم الراقي: "حراسة الفضيلة"، فهناك أناسٌ لا يريدون أن يحرسوا الفضيلة، وهناك أناسٌ هم أهلٌ لحراسة هذه الفضيلة.
فنحن في أمس الحاجة إلى العفة لأبنائنا وبناتنا، فعلينا أن نقوم بالآتي:
أولًا: إبعادهم عن المُثير السلبي.
ثانيًا: تحليتهم بالمثير الإيجابي، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
ولا يمكن أن تتحقق العفة إلا بهذين الاتجاهين: التخلية، والتحلية، فلا بد من إبعاد كل مثيرٍ سلبيٍّ عليهم، فلا نتساهل فيما يُبَثُّ لهم من قنواتٍ فضائيةٍ، ولا نتساهل فيما يتعلق بصداقاتهم، ولا نتساهل في السفر يمنةً أو يسرةً.
أنا لا أدخل الآن في قضايا الكلام الشرعي فيما يتعلق بالنقطة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، ... إلى آخره، فهذه القضايا لأهل الشريعة، ولكني أتكلم من الناحية التربوية، ومن ناحية زراعة القِيَم.
فكل إنسانٍ يريد أن يُربي أبناءه على العفة، والشاشة في البيت تبث عكس ذلك، فكيف يريد المُربون أن يُربوا الجيل على العفة وبيئة الأصدقاء لا تُساعد على هذا، بل تدفع إلى عكس ذلك؟!
كيف يريد هؤلاء أن يربوا أبناءهم على العفة وهم يُسافرون بهم يمنةً ويسرةً، ويرون في الشوارع والمطارات وهنا وهناك ما يخرم هذه القضية؟!
والرسول وضع يده على وجه الفضل بن عباس رضي الله عنهما في الحج[2]أخرجه مسلم (1218). وفي المزدلفة بعد أن مرت نسوةٌ وهن حاجات بين يدي النبي ، يعني: تصور ماذا يكون وضعهن في الستر والعفاف؟ لكن وقعت عين الفضل بن عباس عليهن، فالنبي أدار وجه الفضل بن عباس ليحميه، هذه هي الوقاية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، فالتخلية هي الوقاية.
أهمية الوقاية في تحصيل العفة
هناك أناسٌ في طرائق تربيتهم لا يؤمنون بالوقاية، بل يُفسرون الوقاية من الناحية التربوية على أنها شكٌّ؛ تشكيكٌ في أبنائنا.
ومَن قال: إن هذا شكٌّ؟! فالرسول لم يشك في ابن عمه الفضل بن عباس رضي الله عنهما، هذه فطرةٌ غرسها الله في البشر: الميل إلى مثل ذلك، إذا لم يجد مَن يُعينه على الكف بالتخلية فلا يرى ما حرَّمه الله، ولا يرى ما يُثير الشهوة، ولا يسمع كذلك ما هو ضد العفة، ولا ... إلى آخره من تلك الأمور التي لها علاقةٌ بالجوارح، ويتخذ قراراتٍ حاسمةً.
وهناك أناسٌ ناجحون، وهم من عِلية القوم، وقد تخصصوا في تخصصاتٍ راقيةٍ: علماء، وأطباء، ومهندسين، ولا توجد عندهم هذه الأشياء في بيوتهم من أول ما نشأت أُسرهم.
وبعض الناس يكاد أن يكون حاله في مثل هذه القضية مثل حال السمكة، فالسمكة لا تستطيع أن تعيش خارج البحر، وهو يقول: ما أقدر أن أعيش إلا بقنواتٍ فضائيةٍ! وبنفس هذه القنوات الفضائية.
ما أقدر أن أعيش إلا بالسفر إلى بلاد أوروبا! أو بعض البلاد الإسلامية الأخرى التي فيها -للأسف الشديد- انفتاحٌ، وما شابه ذلك!
قد يكون الله حماه بغض البصر، ... إلى آخره، ولكنه لا يُفكر في الجيل الذي يتربى على مثل هذه الأشياء.
وهنا نُدرك أن أحكام الشريعة ما جاءت للتشدد، جاءت لحفظ الضروريات: حفظ الدين، وحفظ العِرْض، وحفظ المال، وحفظ العقل، وحفظ النفس.
وهذه الأشياء تذوب بمثل هذه التصرفات -للأسف الشديد-، ونقول: إنهم عفيفون، وأنا أريد أن أعفهم.
هذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا، فلو وقع أحد أجيالنا في مثل ما وقع فيه هذا الرجل في مثل هذا الموقف، أو وقعت بنتٌ من بنات أحد أجيالنا في مثل ما وقعت فيه هذه المرأة، فضعفت، وضعف، ماذا سيكون حال أبنائنا وبناتنا؟ هل ستقول البنت لو ضعفت: اتَّقِ الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه؟
وهل لو ضعف الابن سيفعل مثلما فعل هذا الرجل حين سمع: اتَّقِ الله فيقوم ويترك الفاحشة؟
سؤالٌ كبيرٌ، ولا شك أن هناك رصيدًا من التربية حتى مع الضعف، لكن -كما قلت- هناك خطورةٌ، وهنا تبرز أهمية منهج الوقاية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
هذا المنهج الوقائي لا بد أن نُحافظ عليه، فنحافظ عليه في صحتنا؛ لأننا لا نريد أن نُصاب بالسكري، ولا نريد أن نصاب بالجلطات، هذه وقايةٌ، فلماذا نتخذ الوقاية في الجانب الصحي، ولا نريد أن نخسر الأموال فنتخذ الوقاية في الجانب المالي، ولا نتخذ الوقاية في الجانب الأخلاقي والقِيَمي؟! لماذا؟!
أنا أستغرب من الذين يكيلون بمكيالين؛ يتخذ أحدهم في أمور الدنيا أسلوب الوقاية والخوف والحذر، ولا يتخذ في أمور الدين والقِيَم أسلوب الخوف والوقاية والحذر! لماذا هذا الإسقاط؟!
وإذا وقع الفأس في الرأس: ولات حين مندم، ومَن الذي سيكون حاله مثل حال هؤلاء؟!
فنحتاج أن ننتبه إلى هذه القضية المتعلقة بموضوع العِفَّة، فموضوع العفة ليس أهم حالًا من موضوع بر الوالدين، لكن ربما بسبب المعاناة التي أشعر بها من خلال الاستشارات الأسرية التي تأتي، وخاصةً من الشباب -ذكورًا وإناثًا- ... إلى آخره؛ أجد أن هذا الموضوع ضاربٌ أطنابه.
فلا أكاد أسمع حول قضية بر الوالدين أو عكس ذلك إلا القليل، وهو موجودٌ، فعندنا تقصيرٌ، ومحدثكم أول المُقصرين.
أسأل الله أن يعفو عنا وعنكم، وأن يغفر لوالدينا ويرحمهم كما ربونا صغارًا، ويُعيننا وإياكم على برِّهم أحياءً وأمواتًا.
لكن موضوع العفة ضاربٌ أطنابه في كل زمنٍ، كما وصف أحد الأطباء النفسيين المسلمين الرائعين فقال: عصرنا عصر تفجر الشهوة. وهو كذلك.
فكيف نقيه من الشهوة؟
قد يُقال: أُزوجه!
طيب، فهل وقيته من الشرور؟
فهناك حالاتٌ كثيرةٌ تأتيني لمُتزوجين وقعوا في خياناتٍ، ما السبب؟
التحلية موجودةٌ، والتخلية غير موجودةٍ.
فالإنسان عندما يريد أن يشرب الماء في كأسٍ فارغٍ مُتَّسخٍ، ويصب فيه الماء العذب الزلال، هل سيبقى هذا الماء نظيفًا؟ هل سيشربه؟ لن يشربه، العاقل يقول: أُنظف الكأس المُتَّسخ أولًا، ثم أضع فيه الماء لأشربه.
فهذا التنظيف هو التخلية: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، وصبّ الماء هو التحلية، فلا ينفع أن يتزوج أو تتزوج وهو أو هي ما زال عندهم اتِّساخٌ في قلوبهم، أو في الوسائل التي يُتابعونها، وما شابه ذلك، فتحصل الخيانات، وتحصل قضايا عديدةٌ، وما شابه ذلك.
فلذلك هذا المنهج ينبغي أن يكون منهجًا مُبكرًا في تربيتنا: المنهج الوقائي، والمنهج البنائي، والمنهج العلاجي كذلك، كما سبق وأشرنا إلى هذا الأمر من قبل.
الأمانة والصدق
القيمة الثالثة: قيمة الأمانة، وقيمة الصدق، والتي جعلت قريشًا تضع أسرارها وأمانتها عند النبي ، وهكذا ينبغي أن يكون الناس في تعاملاتهم، وخاصةً الذين عندهم من الأُجراء والعُمَّال، كما في هذا الحديث في مثل هذه القضايا.
فالواحد يتألم جدًّا حينما يسأل هذا العامل: كيف الحال؟ إن شاء الله تكون مرتاحًا؟ فيُجيب قائلًا: لا والله.
فتقول: متى آخر مرةٍ استلمت الراتب؟
فيقول: منذ خمسة أشهر أو ستة أشهر ما استلمت الراتب!
والعقد مكتوبٌ، وفيه راتبٌ شهريٌّ، ثم يأتي هذا المسكين ليُصبح بين نارين: إما أن يرجع، أو يأكل تبنًا كما يُقال، فيسكت.
وينبغي تفعيل الدور الإجرائي فيما يتعلق بأخذ الحقوق لمثل هؤلاء الناس؛ ليشعروا أن لهم كيانًا يُدافع عنهم بعد الله ، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وهذا الرجل لم يكن سببًا في أن الأجير ذهب دون أن يأخذ ماله، وإنما ذاك اختفى ومشى، ولا يدري متى سيأتي؟ ولا يدري هل سيأتي أم لا؟ وما قال: سنرى إن أتى أتى، وإن لم يأتِ ما أتى.
وإنما قضيته الأساسية منذ البداية تمثلت في أن هذا المال هو مال هذا الشخص، فأنا أحتاج أن أستثمره، وفيه فرصةٌ استثماريةٌ، وسيكون -إن شاء الله- هذا خيرًا له، مع أنه ليس موجودًا، هذا فضلٌ وإحسانٌ.
فهذا الصدق موجودٌ، وليس وليد اللحظة، أو بسبب ضغطٍ، أو موقفٍ مُحرجٍ، وإنما سِمَةٌ وسجيةٌ، وما أجمل القيمة حينما تكون سجيةً! وقد سبق أن تكلمنا في هذه القضايا.
والقيمة في المنهج الإسلامي قيمةٌ ثابتةٌ، لها صفة الديمومة، وليست مُتغيرةً، فلا يصلح أن أكون صادقًا مع أناسٍ، وغير صادقٍ مع أناسٍ، أو أكون أمينًا مع أناسٍ، ومع غيرهم أكون نصَّابًا مُحتالًا، وأكون عفيفًا في وضعٍ معينٍ، وخلف (الكواليس) أكون غير عفيفٍ، وأُعطي تصورًا حول بر الوالدين وأنا أُخالف ذلك، ... إلى آخره، كل هذا لا يصلح، فالقيمة فيها صفة الديمومة والثبوت كما يُقال.
فنحن في أمس الحاجة إلى هذه القضية، والله مع الصادقين، وهذه المعاني العظيمة بالحد الواجب، فكيف بالإحسان مثلما فعل هذا الرجل؟
أنا أريد فقط أن أقول: مع التقصير الذي عندنا إلا أن الناس يُحبون أن يبقوا في بلاد الحرمين، ... إلى آخره.
يعني: من الناحية المادية من جهةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى ربما ارتياحٌ نفسيٌّ، أو لوجود ناسٍ أخيار أكثر مما يجدونه في بلادهم، فيتوجهون إليهم و...، لكن هناك نماذج أخرى تُخرب، مثل هذه القضايا.
فكيف لو كانت هذه النماذج -خاصةً الذين لديهم العُمَّال- يُحسنون إلى هؤلاء الناس؟ ليس فقط أن يقوموا بالواجب الذي عليهم، بل يُحسنون، فإن لم يكونوا مُسلمين، هل سيكونون أقرب إلى الإسلام ودخول الإسلام؟
وإن كانوا مسلمين أليس هذا أدعى لئلا يكون هناك مجالٌ للاضطراب عندهم في قِيَمهم؟ خاصةً إذا كانوا ينظرون إلينا نحن كأن دم الصحابة يجري في عروقنا، شيءٌ عجيبٌ والله يا إخواني!
أنا كنت أمس مع إمام الجامع -جزاه الله خيرًا- خارج المملكة لأيامٍ، ووصلنا أمس في آخر الليل إلى المطار عائدين من تلك البلد إلى هنا، إلى السعودية.
وحين كنا في تلك البلد بمجرد أننا نمشي -أنا والشيخ طارق- ونلبس لباسنا الطبيعي هذا، كان الناس ينظرون إلينا على أن الواحد منا كأنه أبو بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب، أو عثمان بن عفان ، والرجال كبار السن ينظرون إلينا ويقولون: مكة، مدينة، مكة، مدينة، مكة، مدينة. وما بقي إلا أن يتمسحوا بنا!
فعندما يأتيك شخصٌ من هناك ويُصدم بطريقة التعامل، ويُصدم بالظلم عند البعض، ويُصدم بأسلوب التعامل، ويُصدم بأكل الحقوق وعدم القيام بالواجب! فكيف لو قمنا بالواجب، ناهيك عن أن نقوم بالإحسان؟
سنُؤثر كثيرًا في النفوس، وسنُربيها على تلك القِيَم، وإلا سيعود هذا ويحتال مثلما يحتال كفيله، ويقول: هذا الذي في السعودية! فأنا ما أفعل؟!
وكنت قبل فترةٍ قريبةٍ جدًّا في طريق الرياض- الدمام، وتعطلت السيارة، فاضطررتُ أن أقوم بنقلها عبر (السطحة)، وأعجبني الأخ الكريم الذي كان في (السطحة) بطريقة تعامله، فجذبني إليه بشكلٍ كبيرٍ، فقلت له بصريح العبارة: أنا أجهل الشيء الفلاني، أعطني إياه بصدقٍ، وأنا سآخذ منك، هل هذا الموضوع فعلًا كذا؟ قال: والله ليس إلا كذا، هذا هو الموضوع، وهذه هي القضية الفلانية، فهناك شغلٌ لهم مُرتبطٌ بنقلٍ وكذا. قلت: جزاك الله خيرًا، أنا أُصدقك. قال: لكن والله، إني أتمنى اللحظة التي أرجع فيها إلى بلدي. قلت: لماذا؟ قال: مما أراه من الجهة التي أشتغل فيها، والشركة التي أعمل بها؛ حيث يضعوننا في موقعٍ وأمورٍ لا يرضاها الله ، وما شابه ذلك.
كان يتكلم بأسى وضيقٍ وحسرةٍ، وليس له مصلحةٌ ماديةٌ أبدًا، وهو يُدرك ذلك تمامًا.
قلت: أما وأنك تقول هذا الكلام، هل تريد نصيحتي؟ اذهب وغادر إلى بلدك إن لم تستطع أن تنتقل من هذا الكفيل إلى كفيلٍ آخر، فجزاك الله خيرًا، سيُعوضك الله خيرًا.
فنحتاج إلى التنبه إلى مثل ذلك.
هذه دروسٌ عامَّةٌ لهذه القصة فيما يتعلق بالقيم الأساسية التي تكلمت عنها القصة التي ذكرها النبي فيما يتعلق ببر الوالدين، وما يتعلق بالعفة، وما يتعلق بقضية الصدق والأمانة، وهذا شيءٌ مما يمكن ذكره في هذا الموضوع.
نعود إلى بعض النقاط الأخرى التي قد تكون تبعًا لهذه القصة لنستفيد منها في باقي الوقت، ويمكن أن تكون أيضًا مجالًا لاستنباط الدروس والفوائد التربوية والنفسية:
الدور الفعَّال للتذكير الإيجابي
عندما قال النبي : إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، هنا الدور الإيجابي في التناصح والتذكير، فلو سكت هؤلاء الثلاثة كلهم هل كانوا سيرشدون إلى ذلك؟ لكن أنطق الله واحدًا منهم فكان في كلامه خيرٌ، وكل واحدٍ منهم كان يملك ما يتقرب به إلى الله من الأعمال الصالحة.
فلا تستصغر نفسك بأن تُذكّر إخوانك وتقف مثل هذا الموقف البسيط الذي قد يكون فيه فتحٌ عظيمٌ عليك وعلى غيرك.
ماذا يُكلفنا ذلك حينما نُذكّر بالخير؟ وننصح بالخير؟ ونُوجّه للخير؟
غيرك قد يكون غافلًا ومشغولًا، وأنت قد تكون سببًا في تذكيره ورجوعه.
وقد انحلَّت مشكلتهم هذه بعد توفيق الله بتذكير هذا الإنسان الذي هو أحد هؤلاء الثلاثة، وهنا لا بد أن يكون بيننا تناصحٌ، ولا عيبَ في ذلك.
وبعض النفوس تكون عندها أَنَفَةٌ، فتضيق ذَرْعًا حينما تُذكّر أو تُنصح.
ونحن نتكلم عن الأسلوب الجميل، ولا نتكلم عن الأسلوب غير الجميل، نتكلم عن النصيحة بمثل هذه الطريقة، فبعض النفوس تأنف، فعلى هذه النفوس أن تُراجع نفسها وإيمانها بالله فيما يتعلق بقضية تقبّل النصيحة، يعني: الدين النصيحة كما قال النبي [3]أخرجه مسلم (55)..
وهناك نفوسٌ تسكت، وتقول: ليس عملي! وهؤلاء يحتاجون إلى الشعور بالمسؤولية كما شعر هذا الإنسان، فأصحاب المُبادرات والشعور بالمسؤولية هم الذين يمكن أن يُنتجوا إنتاجًا رائعًا جدًّا في التأثير على المحيط الموجود، فلنكن إيجابيين. هذه نقطةٌ.
ضعف المرأة وقوة الرجل
النقطة الثانية: في موضوع العفة، وموضوع المرأة وابن عمِّها، في صورةٍ من هذه الصور التي علَّقنا عليها قبل قليلٍ، لكن أنا سأقف عند ما يتعلق بموضوع ضعف المرأة وما يرتبط بهذا الجانب.
فالمرأة ضعيفةٌ، وتكون في بعض أحوالها أضعف عندما تكون هناك حاجةٌ، والرجل أقوى من المرأة، ولكن مع ضعف المرأة تُصبح في الإغواء والإغراء أقوى من الرجل، كما قال النبي : ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ولا دينٍ أغلب لذي لُبٍّ منكن[4]أخرجه أبو داود (4679)، وابن ماجه (4003)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5624)..
فالرسول يقول: ما رأيتُ أحدًا أكثر إذهابًا لعقل الرجل من المرأة حينما تُذهب عقل الرجل، فتكون الضعيفة مُضْعِفةً للقوي، فهذا ابتلاءٌ للطرفين.
فالمرأة ضعيفةٌ بذاتها، وعندما تكون في حاجةٍ في بعض الأحيان تضعف أكثر.
والرجل الأصل فيه القوة، لكن يضعف عند المرأة خاصةً.
والرسول يقول: ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء[5]أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740)..
واللُّب الموجود هنا: العقل، يذهب بسبب النساء.
إذن علينا الالتزام بما يحفظ ويَقِي من مثل هذه الآثار المُترتبة على ضعف المرأة، ومقابل ذلك ضعف الرجل، ألم يُحرم الإسلامُ الاختلاطَ؟
ألم يأمر الإسلام بالحجاب الكامل الساتر؟
ألم يُحرم الإسلامُ الخلوة بين الرجل والمرأة، وأنه متى وقعت الخلوةُ كان الشيطان ثالثهما[6]أخرجه أحمد في "المسند" (114)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ، رجال الشيخين، غير علي بن إسحاق -وهو … Continue reading؟
ألم يُحرم الإسلامُ السفر من غير محرمٍ [7]كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (1086، 1087، 1862)، ومسلم (1338، 1341).؟
وبعض الغربيين كتبوا كتابات في هذا الموضوع، وهم عقلاء، حتى إن أحدهم ألَّف كتابًا سمَّاه: "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة" يعني: أن الرجل شيءٌ، والمرأة شيءٌ آخر.
والله قد قال: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، وبعض المسلمين يريد أن يجعل الذكر كالأنثى.
لذا ينبغي أن تكون هناك حمايةٌ للأعراض وحمايةٌ للأخلاق برعاية هذه الأمور، فالمرأة ضعيفةٌ، والرجل يضعف بضعف المرأة، إذن كلا الطرفين قابلان للضعف، فلماذا نُؤجج هذا الضعف بينهما؟!
هذه القضية مهمةٌ جدًّا.
لذلك لا بد من الحذر في تعامل الأستاذ مع الطالبات، وقد أتتني اليوم قضيةٌ على الهاتف الاستشاري: امرأةٌ تشتكي زوجها، وهو (دكتور) بالخمسين من عمره، اكتشفت في جواله أن هناك مُلاينةً بينه وبين طالبةٍ في الماجستير!
فلا تستغربوا، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، ويحفظنا وإياكم من زلَّات الفتن.
فإذا أصبحت القضية مُلاينةً أصبح فيها تساهلٌ: ما رأيتُ فتنةً هي أضر على الرجال من النساء شئنا أم أبينا، فلا نُغالط أنفسنا، هذه القضية واضحةٌ ومُنتهيةٌ تمامًا.
فلذلك حتى التعامل من بُعْدٍ كثر عبر التقنية، وموجودٌ بعضه من قبل في الهاتف، وليست القضية في المقابلة فقط، حتى من بُعْدٍ، فإذا لم تكن هذه القضايا مأخوذةً في الاعتبار ستحصل مزالق، وليس لزامًا أن تكون الفتنة باللقاء المُباشر.
حتى إن بعض أهل العلم فسَّر حديث النبي ، أو وصف النبي للتي لا تردّ يد لامسٍ[8]أخرجه أبو داود (2049) ط. الرسالة، والنسائي (3465)، وأشار إلى تعليله فقال عقبه: "قال أبو عبدالرحمن: هذا خطأٌ، والصواب … Continue reading بأنها المرأة التي لا تردّ مَن يطلب الزنا بها.
وقال بعض أهل العلم: قد لا تكون كذلك، فهي لا ترضى أن يُزنى بها، ولكن تُحبّ أن يُتحدث معها، وأن تُلامس، وأن كذا، وأن كذا، ... إلى آخره، لكن لا ترضى بالزنا، يُضاحكها، يُؤنسها، يُرسل لها ورودًا وقلوبًا، ويُعطيها من العبارات الجميلة، هذا هو المقصود بمُلامستها، وهذا بالنسبة لبعض النساء ما عندها مانعٌ فيه، ليس هناك إشكاليةٌ في هذا بالنسبة لها، وترفض تمامًا الزنا؛ ولذلك قال الرسول : إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة: فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكذِّبه[9]أخرجه مسلم (2657).، فنحتاج أن نستفيد من مثل هذه المعاني.
أثر تقوى الله في رجوع الإنسان إلى فطرته
اتَّقِ الله الله أكبر! عندما يقول هذا شخصٌ -ولو كان ضعيفًا- فهذا يدل دلالةً واضحةً على أن الإنسان حتى وهو في الضعف يمكن أن يعيى ويُذكّر نفسه.
والله استدرك على بني إسرائيل الذين: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، قال العلماء: حقٌّ وفرضٌ على أهل الكؤوس أن يأمر بعضهم بعضًا، وينهى بعضُهم بعضًا. يعنون بذلك الذين يشربون الخمر مع بعضٍ، يقولون: شرعًا يجب عليهم أن يأمر بعضهم بعضًا، وينهى بعضهم بعضًا!
فهذه الآن وافقت على أن يُزنى بها لأنها احتاجت المال، وجلست بين يدي ابن عمها، وكاد أن يقع عليها، ثم قالت له: اتَّقِ الله، هذه الكلمة هي التي جعلته يتذكر ويعيى.
فيُمكن أن يقول أحد الذين يشربون الخمر لرفاقه: ألا نتقي الله؟! ويكون مُؤثرًا، وهذا معنى كلام المُفسرين في قول الله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].
فالمُحاجة العقلية مهمةٌ في مثل هذه المواقف وغيرها: لا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه، فيبدأ يفكر في الصحيح، فلم تقل له: حرام، وإنما خاطبت العقل: اتَّقِ الله، وخاطبت المشاعر، وما أجمل مُخاطبة العقل مع المشاعر في التأثير والتربية!
قمة الإرادة، يا رب، ارزقنا إياها، يقوم عن ألذ ما يتمنى، وقبل أن يُشبع حاجته!
قد يتصور أنه لو فعل ذلك بعدما أشبع حاجته فإنه يكون قد أشبع حاجته فتاب إلى الله، ولكنه قام قبل ذلك.
وهذه أدلةٌ على ما ذكرناه في اللقاءات السابقة حول التربية على قوة الإرادة، وقوة الإرادة قضيةٌ مهمةٌ، ومَعْلَمٌ كبيرٌ يجعل الإنسان يسلك مسلكًا عظيمًا جدًّا.
أثر التَّعلق بالله في انفراج الكُرَب
آخر درسٍ في هذه القصة: لا شك أن هذا كله يُعطي الحاجة التي نُكررها دائمًا، ألا وهي: حاجتنا إلى التربية الإيمانية وعلاقتنا بالله .
فهؤلاء أُصيبوا بمُصيبةٍ، فانفرج كربُهم بعدما لجؤوا إلى الله، وتذكروا أعمالهم الصالحة التي عملوها بينهم وبين الله.
وأيضًا كانت عبارةً عن مواقف: هذا مع والديه، وهذا مع بنت عمِّه، وهذا مع الأُجَراء، وكلها تُعطي دلالةً على مراقبة هذا الإنسان لله .
فنحن في أمس الحاجة إلى أن نستفيد ذلك لأنفسنا ولأجيالنا؛ حتى يكونوا مُتَّكلين على ركنٍ شديدٍ، وهو الله، فهناك ناسٌ ركنهم الشديد البشر، أو ركنهم الشديد المستشارون.
أحيانًا يُتَّصل علينا في بعض القضايا في هذه الجوانب، فأقول لهم: أنتم الآن استشرتم إنسانًا، فهل أوكلتم أمركم لله رب العالمين؟
فنحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه اللمحات.
أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (2743). |
---|---|
↑2 | أخرجه مسلم (1218). |
↑3 | أخرجه مسلم (55). |
↑4 | أخرجه أبو داود (4679)، وابن ماجه (4003)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5624). |
↑5 | أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740). |
↑6 | أخرجه أحمد في "المسند" (114)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ، رجال الشيخين، غير علي بن إسحاق -وهو المروزي-، فقد روى له الترمذي، وهو ثقةٌ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1116). |
↑7 | كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (1086، 1087، 1862)، ومسلم (1338، 1341). |
↑8 | أخرجه أبو داود (2049) ط. الرسالة، والنسائي (3465)، وأشار إلى تعليله فقال عقبه: "قال أبو عبدالرحمن: هذا خطأٌ، والصواب أنه مُرسلٌ"، والبيهقي في "السنن الصغرى" مرسلًا (2430). |
↑9 | أخرجه مسلم (2657). |