المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هذا -بحمد الله - هو اللقاء العاشر من المجموعة الثامنة من سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
وقد سبق الكلام في اللقاءين الماضيين عن أهمية التربية: هل التربية مهمةٌ؟ وأدركنا حاجتنا الكبيرة جدًّا إلى التربية على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأسرة، وعلى مستوى المجتمع.
ونظرًا لطول هذه السلسلة المتعلقة بأساليب التربية في المنهج الإسلامي سنتحدث عن مجموعةٍ من الأساليب التي نحن في أمس الحاجة إليها في تربيتنا للأجيال: لأنفسنا ولغيرنا.
هناك أساليب معروفةٌ، لكنها تحتاج إلى الوقوف عليها، وقد تحتاج إلى شيءٍ من التوضيح أكثر.
فبإذن الله نستمتع بهذه السلسلة، وسنبدأ معكم فيما يتعلق بأسلوب القصة.
أسلوب القصة
المقصود بهذه الأساليب أنها عبارةٌ عن طرائق، هذه الطرائق تحمل مجالات التوجيه، ومجالات التأثير، ومجالات التربية وزراعة القيم، والتأثير على العقائد والمبادئ والأخلاق والقيم والمهارات.
فنحن من خلال بعض هذه الأساليب نستطيع أن نزرع في أبنائنا، وفي طلابنا، وفي زوجاتنا، وفي أصدقائنا، وفي المسلمين وغير المسلمين، نزرع فيهم من خلال هذه الأساليب ما نريد أن نُربيهم عليه، ونحن في أمس الحاجة إلى تلك الأساليب.
وسأبدأ في قضية القصة بذكر آثارها: فالأستاذ عبدالرحمن بن حسن حبنكة الميداني -رحمة الله عليه- في كتابه الرائع: "غزو في الصميم" تكلم عن مجالات الغزو التي يقوم بها الأعداء للأمة الإسلامية، فكان مما ذكره من مجالات الغزو ما يتعلق باستخدام القصة.
فذكر حكايةً من نسج الخيال، لكنها تحكي أثر القصة، وكيف نستطيع من خلال القصة واستخداماتها أن نُؤثر في الأجيال؟
يقول: من عجيب نوادر السامعين بالقصص التي تُلقى عليهم ما كان يحدث في الأندية والمقاهي القديمة؛ إذ كان يجلس فيها بعض القصَّاصين، ويُلقون على مُرتاديها للتسلية قصة عنترة الخرافية، أو قصة الظاهر بيبرس، أو غيرهما من قصص البطولات، وربما سمع مرتادو هذه الأندية والمقاهي القصة نفسها مراتٍ عديدةً، فالواحد منهم يجلس ويسمع القصة للمرة الأولى، والثانية، ولا يملّ.
وطريقة هؤلاء القصَّاصين أنهم يقولون في كل ليلةٍ مقطعًا من القصة، ويقف في نهاية السهرة عند عقدةٍ مثيرةٍ من عُقدها؛ ليكون ذلك مُشوقًا لهم حتى يحضروا في الليلة التالية ويُتابعوا الاستماع إلى القصة.
يقول: وفي أحد هذه المقاهي تحزَّب مُرتادُوها حزبين -الكلام هنا عن شيءٍ أصبح واقعًا-: حزب عنترة، وحزب منافسه وخصمه عمارة في القصة المصنوعة التي يقرأها عليهم القصَّاص، وذات ليلةٍ وقف قارئ القصة عند عُقدة أسر عنترة وتكبيله بالحبال والسلاسل.
وكان أنصار عمارة قد أحضروا معهم مجموعةً من الحبال والسلاسل، أتوا بها لكونهم يعرفون أن عنترة في هذه الليلة سيُكبّل انتصارًا لعمارة ضد عنترة الذي ينتظرون سقوطه أسيرًا في مقطع تلك الليلة من الحكاية التي يعرفونها سابقًا.
فلما وصل القصَّاص إلى حكاية أسر عنترة رمى أنصار عمارة الحبال والسلاسل بين يدي القصَّاص، وصاحوا فرحين: كتفه، وكبِّله بالحديد. فقصَّ القصَّاص حكاية أسره وتكبيله، ووقف عند هذه العُقدة.
الآن مَن المأسور؟ مَن المُكبل؟ عنترة البطل.
وغضب أنصار عنترة وحزنوا، مع علمهم بأنه سينتصر بعد ذلك، ويفك قيوده في مقطع الليلة التالية من القصة، وانفضَّ الجمع، وذهب القصَّاص إلى داره، واستغرق في نومه، لكن أحد أنصار عنترة لم يستطع النوم تلك الليلة من فرط حزنه، ولم يجد سبيلًا إلا أن يذهب إلى دار القصَّاص، ويُوقظه من نومه، ويطلب منه برجاءٍ شديدٍ أن يقرأ له مقطع الليلة التالية الذي يفك فيه عنترة قيوده، وينتصر فيه على خصمه عمارة.
هذه صورةٌ تعبيريةٌ لتوظيف القصة وأثرها على النفس البشرية إلى مستوى أن تضع هذه النفس البشرية نفسها في أحداث القصة، تعيش القصة.
ولذلك تجد أن هذا اللون من الأسلوب التربوي -والذي اعتنى به الإسلام في كتاب الله وسنة النبي وفي التاريخ، ... إلى آخره- أو هذا النوع من الأسلوب التربوي يعشقه الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والفقير والغني، والجاهل والمتعلم.
فهو أسلوبٌ جاذبٌ بشكلٍ كبيرٍ؛ لأنه مُحبَّبٌ إلى النفوس، وله أثرٌ عليها؛ ولذلك اعتنى المنهج الإسلامي بالقصة، ونحن في أمس الحاجة كذلك إلى أن نعتني بها.
وسأذكر نموذجًا لقصةٍ قصَّها النبي ، ولي فيها موقفان: مع كبيرٍ في السن تجاوز الثمانين أو التسعين، ومع طالبٍ في الكلية درَّسها لطلاب المرحلة الابتدائية، كيف كان الموقف مُتشابهًا من هذه الفئات الثلاث: الأطفال، الشباب، الكبار؟
يقول الله : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، ويقول سبحانه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111]؛ ولذلك أمر الله نبيَّه فقال: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]؛ ولهذا سلك النبي عليه الصلاة والسلام هذا المنهج واستخدمه كثيرًا في أسلوبه في التوجيه والإرشاد .
مثال: وهو من الأمثلة الصعبة التي مرَّت على صحابة النبي في وقت العهد المكي وشدّته، ولعل هذا المثال يتناسب مع ظروف الأمة، وخاصةً بعض إخواننا المسلمين الذين هم في أمس الحاجة إلى أن يستفيدوا من هذا الأسلوب، ومثل هذه القصة؛ حتى يُسلوا أنفسهم، كما سلَّى النبي أصحابه.
خباب بن الأرت يشكو إلى النبي أذى المشركين
جاء في حديث خباب بن الأرت ، حيث بلغ به الأذى كل مبلغٍ، فيأتي إلى النبي شاكيًا ما أصابه، فيقول : أتيت النبي وهو مُتوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدةً، فقلت: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد النبي وهو مُحْمَرٌّ وجهه، فقال: لقد كان مَن قبلكم ليُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحمٍ أو عصبٍ، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُوضع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشقّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله[1]أخرجه البخاري (3852)..
هذا الموقف قصةٌ واقعيةٌ، وليست خياليةً كتلك القصة التي ذكرها الميداني رحمه الله، وهذا يدل على أثر القصة أيًّا كان اتجاهها، سواء كانت في اتجاه الواقع، أو في اتجاه الخيال.
هنا واقعٌ؛ فالرسول حصل له هذا الموقف مع خباب -من صحابة النبي - حيث اشتكى للنبي ؛ لكونه الرجل الأول في ذاك الوقت عليه الصلاة والسلام -أقصد من حيث وجوده، وإلا فهو رقم واحدٍ في كل وقتٍ- فيذهب إليه خباب، ويطلب أن تكون له نُصرةُ النبي عليه الصلاة والسلام؛ لهذا الضعف الذي وصل إليه صحابة النبي ، ووصل إليه المسلمون، فيُبين النبي ما حصل لمَن هم أشد منهم.
تصور: لو كنتُ أنا وأنت في موقف خباب بن الأرت بين يدي النبي ، ونشكو ما يشكوه خباب ، ونسمع ما قاله النبي لخباب، كيف ستكون القضية؟
هنا أثر المُقارنة الذي يمكن أن تُحدثه هذه القصة على النفس البشرية من تسليةٍ، فما ذكره النبي أصعب بكثيرٍ مما اشتكاه خباب بن الأرت .
فالواحد منا يمكن أن يُعاني من شيءٍ، لكن عندما يُسلَّى بقصة غيره وموقف الآخرين الذين عانوا مما هو أشد مما هو فيه؛ إما لمرضٍ هو فيه، أو عناءٍ، أو بلاءٍ، أو فقرٍ، أو أزمةٍ، أو صدمةٍ، ناهيك عن أن تكون مثلًا على مستوى المجتمعات وأوضاع المسلمين؛ كما في سوريا واليمن وفلسطين، وما شابه ذلك!
فحينما يُسلون بمثل هذا الموقف القصصي لا شك أن النفوس ستبدأ في المقارنة، وعندما تُقارن حالها بحال هؤلاء الذين ذكرهم النبي تهدأ هذه النفوس، وتُدرك أن نِعَم الله عليها أكثر، وأنه لو أراد الإنسان أن يُقارن ما هو عليه من بلاءٍ بما وقع لغيره سيجد غيره أشد بلاءً منه.
الكل مُبْتَلًى فتصبَّر
يذكرون في التاريخ: قصة الشاب الذي سُجِنَ وحزنت عليه أمه حزنًا شديدًا، فأرادت أمه أن تفعل ما تستطيع حتى تفكه من أسره ومن سجنه، وأدرك ابنها أن أمه حزينةٌ عليه، فأرسل لها رسالةً، وطلب منها طلبًا، فتحمست جدًّا لتنفيذ هذا الطلب، لكنها لم تستطع أن تفعله، وهدأت نفسها، وأدركت ما يُريد منها ابنها، فوصلتها الرسالة، وكان الحدثُ مُسليًا لها، بعد أن أدركت الأمر كما أراده ابنها.
ابنها طلب منها أن تجمع الأقارب والجيران على وليمةٍ، واشترط شرطًا على أمه: ألا يحضر هذه المناسبة إلا مَن هو سالمٌ من البلاء، فنشطت الأم وذهبت تدعو هذا وذاك، وتدعو البيت الفلاني، وكلما وقفت عند هذا الشرط وجدت أن هذا البيت مُصابٌ بمصيبةٍ، فيه بلاءٌ.
فوجدت أن في كل بيتٍ من بيوت الأقارب والجيران مصيبةً، بل وجدت أن هناك من المصائب التي ابتُلِيَ بها بعض هؤلاء ما هو أكثر من مُصيبتها.
فأدركت الأم أن طلب ابنها لم يكن إلا لأجل أن تقوم بالمقارنة؛ حتى تُدرك نعمة الله عليها بأن مُصيبتها أهون من مصيبة غيرها، وأنه لا يوجد بيتٌ إلا وفيه بلاءٌ ومصيبةٌ.
هذا موقفٌ قصصيٌّ تاريخيٌّ، يستطيع الإنسان من خلاله أن يُسلي نفسه ويستفيد من مثل تلك القصص.
استلهام الدروس والعِبَر من القصص
يجد القارئ في قصة يوسف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] الفوائد العظيمة، والعلماء والمُفسرون استنبطوا من هذه القصة دروسًا كثيرةً يحتاجها الإنسان: في قضايا الغيرة، وفي تربية الآباء للأبناء، وفي العدل بين الأبناء، وفي الغُربة والاغتراب، وفي الموقف من الفتنة والشهوة، وفي تمكين الله ، وفي قضايا عديدةٍ جدًّا.
وهذه السورة مثالٌ ونموذجٌ واحدٌ، وسورة يوسف لا تنتهي فيها الفوائد والدروس.
والسنة النبوية مليئةٌ بالقصص، فعندما نأتي لقصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غارٍ[2]أخرجها البخاري (2272)، ومسلم (2743). قد نُعطي إطلالاتٍ بسيطةً جدًّا، لكن قد تأتينا بعض هذه القصص ونأخذها ونختارها: إما من كتاب الله ، أو من سنة النبي في لقاءاتٍ قادمةٍ؛ حتى نأخذ منها وقفاتٍ تربويةً ونفسيةً، بإذن الله .
وقصة الذي قتل مئة نفسٍ[3]أخرجها مسلم (2766).، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع[4]أخرجها البخاري (3464)، ومسلم (2964).، وقصة أصحاب الأخدود[5]أخرجها مسلم (3005). الذين نزلت فيهم الآيات كذلك، وغيرها من القصص القرآنية والنبوية التي فيها دروسٌ يمكن أن تُستلهم من مثل هذه المواقف، فيستفيد الإنسان في بناء قِيَمٍ، أو تصحيح سلوكٍ، أو تعديل خطأ، أو بناء مبدأ، ... إلى آخر هذه الأمور التي يمكن أن نُمارسها في تربيتنا لأبنائنا وأجيالنا عمومًا؛ لذلك ينبغي أن يُفتش المُربون: أين هم من مثل هذا الأسلوب؟ وكيف يستطيعون أن يستثمروا هذا الأسلوب؟
يعني: ما المانع، وما المُشكل أن يكون للوالدين في البيت نصيبٌ من ذلك؟ والآن الكتب موجودةٌ: كتبٌ في قصص القرآن، وكتبٌ في صحيح القصص النبوي -مثل: كتب الأشقر وغيرها- يمكن أن يُستفاد منها، وتُقرأ هذه القصص، ويُستنبط منها، ولو كان ذلك في درسٍ أسبوعيٍّ يقف فيه الإنسان مع قصةٍ قرآنيةٍ، أو قصةٍ نبويةٍ، هو وأبناؤه وزوجته، أو مع طلابه، أو المصلين في المسجد، أو أصدقائه.
استغلال الأعداء لأسلوب القصة
هذه القصص ستحمل معانٍ عظيمةً جدًّا؛ ولذلك الأعداء استغلوا هذا الأسلوب التربوي في اتجاهٍ سلبيٍّ أيَّما استغلالٍ.
وأكثر الأرقام في إحصاءات المجتمعات المحلية والإقليمية والعربية -وحتى العالمية، لكن خذ المجتمعات العربية والإسلامية كمثالٍ- نجد فيها أن الأرقام الأولى في الاهتمامات والمُتابعات في استخدامات التقنية مُرتبطةٌ بالمسلسلات والأفلام و(الفيديو كليب) والألعاب الإلكترونية، وما شابه ذلك، يعني: حلالها وحرامها.
وستجد أن العنصر الذي يجمع بين هذه الأمور هو أسلوب القصة والإثارة، والأعداء دخلوا في هذا بقوةٍ؛ فاتجهوا إلى إنتاج الأفلام، وإنتاج المسلسلات، وسبقوا فيها -للأسف- العقلية المسلمة من حيث الجانب الفني والذوقي.
صحيحٌ أن هناك منتجاتٍ معتدلةً، لكنها لا تُقارن بالمنتجات المُنحرفة -والعياذ بالله- كمًّا، وجاذبيةً، وما شابه ذلك، للأسف الشديد.
وهكذا في أفلام الكرتون، والألعاب الإلكترونية، قصةٌ تحكي حدثًا، حتى الألعاب أصبحت عبارةً عن قصةٍ مثيرةٍ، فيها صراعٌ، ثم الحصول على الهدف، وتحقيق الهدف من خلال قصةٍ، حتى الأُغنية أوجدوا لها إطارًا وحكايةً؛ مثل الموجود فيما يُسمى بـ(الفيديو كليب)، وهكذا، غزوٌ شديدٌ!
أسلوب الرواية وأثره
ولقد استطاع أعداؤنا أن يُؤثروا في الأجيال الناشئة من خلال الروايات المقروءة -وهذا عنصرٌ مُؤثرٌ جدًّا- ناهيك عن الروايات المرئية، فقد أنتجوا -كما قلت- المسلسلات والأفلام، وما شابه ذلك، وأصبحت مُؤثرةً جدًّا.
ورأى المُتابعون لمعارض الكتب التي حصلت في مجتمعاتنا المحلية -مثل: معرض الكتاب الذي كان في الرياض في السنوات الماضية- أن أكبر مجالٍ تم الاتجاه إليه من الأجيال الصغيرة الشابة المُراهقة -ذكورًا وإناثًا- هو الروايات.
وعندما تقول: الروايات ستجد أنك بين أمرين: بين رواياتٍ نافعةٍ، ورواياتٍ ضارَّةٍ. وللأسف غالب تلك الروايات من النوع الثاني.
ولي في ذلك مع العديد من الشباب مُقابلات تمَّت لأجل اكتشاف أنماط الشخصية، ولمستُ هذا الجانب بشكلٍ واضحٍ جدًّا، فهو لديه ميولٌ فنيةٌ أو ذوقيةٌ، أو لديها ميولٌ فنيةٌ أو ذوقيةٌ، لكنها مُستثمرةٌ استثمارًا سلبيًّا من خلال قراءة الروايات والاطلاع عليها.
فيعيش أو تعيش الحدث في الرواية، ويشعر أنه بطل الرواية، ويعيش أو تعيش مع الرواية من أولها إلى آخرها.
وفئة الشباب بهذه المرحلة العمرية يُنجزون قراءة الروايات بشكلٍ كبيرٍ، وبنَهَمٍ كبيرٍ جدًّا، فينبغي الانتباه لمثل هذا الأمر، لا إشكالَ في ذلك، لكن من خلال قوالب إيجابيةٍ؛ فيقرؤون شيئًا نافعًا، لا يقرؤوا أشياء مُنحرفةً عقديًّا، أو أشياء مُنحرفةً أخلاقيًّا، وتُصبح قراءة المادة المتعلقة بالقضايا الجنسية هي المادة الأساسية في الروايات، ويُبررون لأنفسهم ذلك بأن هذا من قبيل القصص، ومن قبيل الخيال، لا من قبيل الحقيقة!
فما الفرق بين الخيال والحقيقة؟ يعني: هل المنهج القرآني والمنهج النبوي والمنهج الإسلامي في التربية يُحرك العواطف ويُحرك الغرائز؟! هل هذا هو المنهج؟!
أبدًا، حتى عندما تستقرئ قصة يوسف مع امرأة العزيز مثلًا ستجد أنها محفوفةٌ بأن لا تُثير الغرائز، لكن انظر ماذا يُكتب في الروايات؟ وما يُقدم في الأفلام والمسلسلات هنا وهناك؟ ... إلى آخره، وانظر إلى تلك الإثارات التي استغلها الأعداء من خلال القصة!
فالناس يُحبون القصة، ويُحبون الأحداث المُثيرة، ويضعون أنفسهم مكان البطل، ويتأثرون، ويبكون، ويفرحون، ويعجبون، ويعيشون بصورةٍ مُنقطعة النَّظير.
وتجد بعض الأشخاص مُستعدًّا لمتابعة مسلسلٍ حلقاته تبلغ المئة والخمسين! لا إشكالَ عنده.
وعُرف عن بعض كبار السن أنهم كانوا يُتابعون بعض المسلسلات التي كانت تُسمّى بـ(المُدبلجة) -التركية وأمثالها- وهي تبلغ مئةً وعشرين حلقةً، أو مئةً وثلاثين حلقةً، وهم يُتابعونها، ناهيك عن المضامين!
أنا أتكلم عن الانهماك والجاذبية، وكونها أحداثًا وقصةً، لكن المضامين والرسائل المدسوسة تجد منها الشيء العجيب المُخيف.
لكن لو قدمنا لهم المادة الإعلامية الإيجابية المرئية والمسموعة والمقروءة من خلال القنوات المحافظة، ومن خلال الروايات الجاذبة الإيجابية، ومن خلال أفلام الكرتون التي تحمل القِيَم الإيجابية؛ لاستطعنا أن نجذبهم بصورةٍ صحيحةٍ، وليس بصورةٍ مُنحرفةٍ.
رؤيا النبي
أختم كلامي في هذا اللقاء اليوم، وقد قلتُ لكم: أن ما يتعلق بهذا الأسلوب ومجالات الاستفادة من قصص القرآن وقصص السنة -يعني- قد يستغرق كثيرًا جدًّا، ناهيك عن الأساليب التربوية عمومًا، فلعل هذا يكون مشوارًا نافعًا لنا ولكم جميعًا، بإذن الله .
سأقرأ لكم قصةً قصها النبي -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام-، ولي مع هذه القصة -كما قلت لكم في بداية اللقاء- موقفٌ مع أحد كبار السن، وموقفٌ مع أحد طلاب الكلية، وموقفٌ أيضًا مع الطلاب في المرحلة الابتدائية.
وهو حديثٌ مشهورٌ معروفٌ، وسنقف معه لنستفيد منه.
روى البخاري عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله مما يُكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟ فيقصّ عليه مَن شاء الله أن يقصَّ.
يعني: يأتِ شخصٌ ويقول: أنا رأيتُ كذا. ويأتِ شخصٌ ويقول: أنا رأيتُ كذا ... إلى آخره.
"وإنه قال لنا ذات غداةٍ" أي: في صبحٍ: إنه أتاني الليلة آتيان أي: ملكان، وإنهما يعني: أن النبي هو الذي رأى هذه الرؤيا، فهذه رؤيا النبي ، ورؤيا الأنبياء صلى الله عليهم وسلم حقٌّ.
وأنهما قالا لي: انطلق. وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجلٍ مُضطجعٍ، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرةٍ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيَثْلَغ رأسه، فيَتَدَهْدَه الحجرُ هاهنا أي: يتدحرج، فيتبع الحجر هذا الرجل، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحَّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل المرة الأولى.
صورةٌ مُخيفةٌ بلا شكٍّ: رجلٌ قائمٌ، ورجلٌ مُضطجعٌ، وحجرٌ، ويرمي رأسه بالحجر، والرسول عاش هذا الموقف في الرؤيا.
قال: قلتُ لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ مُسْتَلْقٍ لقفاه، وإذا آخر قائمٌ عليه بكَلُّوبٍ من حديدٍ، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيُشَرْشِر شِدْقَه إلى قفاه، ومَنْخِره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان مثل الصورة الأولى، فإذا صحَّ يرجع إليه فيضربه بالصخرة.
هنا كذلك يصح الجانب الأول بعدما ينتهي من الجانب الثاني.
ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود فيفعل مثلما فعل في المرة الأولى. وهذه أيضًا صورةٌ مُخيفةٌ.
قال: قلت: سبحان الله! يستغرب رسول الله ويستنكر: ما هذان؟ قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا، فأتينا على مثل التَّنور فأحسب أنه قال: فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عُراةٌ، وإذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللَّهَب ضَوْضَوا أي: صاحوا، قلت: ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق، انطلق.
فانطلقنا، فأتينا على نهرٍ حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجلٌ سابحٌ يسبح، وإذا على شطِّ النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارةً كثيرةً، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذاك الذي قد جمع عنده الحجارة فيَفْغَر له فاه، فألقمه حجرًا، فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فَغَرَ له فاه، فألقمه حجرًا، قلتُ لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق، انطلق.
فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ كَرِيه المرآة، أو كأكره ما أنت راءٍ رجلًا مرأى يعني: شكله كَرِيهٌ، فإذا هو عنده نارٌ يحشُّها، ويسعى حولها، قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلق، انطلق.
فانطلقنا، فأتينا على روضةٍ مُعْتِمَةٍ فيها من كل نورٍ ربيعٌ، جاءت الآن الصور المُشرقة بعد هذه الصور.
وإذا بين ظهري الروضة رجلٌ طويلٌ، لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان ما رأيتهم قط يعني: حول هذا الرجل ولدان صغارٌ، أطفال.
قلت: ما هذا؟ وما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا.
قرأتُ هذه القصة في مسجد الدكتور عبدالله الخاطر رحمه الله، وكان جالسًا أمامي السفير الغنيم رحمه الله، وكان في التسعينات من عمره، والله -يا جماعة- كان يُتابع كلمةً كلمةً، فوقفتُ مثلما وقفتُ قبل قليلٍ، صَمَتُّ، فقال لي: ماذا حصل بعد ذلك؟
هل أدركتم الآن كيف تُؤثر القصة في سامعيها؟ وكيف أن القصة مهمةٌ؟
قرأتها على طلابي، بل جعلتها نموذجًا من نماذج مادة التوجيه والإرشاد، وكنت أقول للطالب المُتدرب وهو يُطبق على الصف الرابع الابتدائي: بشِّر.
قال: تذكر القصة التي أعطيتنا إياها يا أستاذ خالد؟
قلت: أي قصةٍ؟
قال: قصة رؤيا النبي والملكان وكذا وكذا.
قلت: نعم.
قال: قرأتها على طلاب رابع ابتدائي.
قلت: عجيبٌ! وكيف كانوا مُنجذبين؟
قال: جدًّا، انتهت الحصة وأنا ما انتهيت من القصة الطويلة، وهي -كما تعرف- قصةٌ طويلةٌ.
قلت: ماذا فعلتَ؟
قال: قلتُ لهم: سأُكملها لكم في الحصة القادمة.
قالوا: لا، الآن، أكمل يا أستاذ الآن، أكمل الآن.
يقول: فاضطررتُ والله أمام إلحاحهم أن أعتذر للأستاذ صاحب الحصة التي بعدها، وأخذتُ من وقته حتى أكملتُ لهم القصة، وكانوا مشدودين لي أيّما انشدادٍ.
نحن نتكلم الآن عن الجانب الذوقي والجاذبية، وهذا يمكن أن يحصل في الخُزعبلات، وفي القصص الجنسية، والقصص الغرامية، والقصص التافهة ... إلى آخره، لكن سنُدرك ما تحمله هذه القصة التي قصَّها النبي من معانٍ عظيمةٍ جدًّا.
فقال: قلت: ما هذا؟ وما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا، فأتينا إلى دوحةٍ عظيمةٍ، لم أرَ دوحةً قط أعظم منها ولا أحسن، قالا لي: ارقَ فيها. فارتقينا فيها إلى مدينةٍ مبنيةٍ بلبن ذهبٍ ولبن فضةٍ، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففُتِحَ لنا، فدخلناها، فتلقانا رجالٌ شطرٌ من خلقهم نصف الجسم كأحسن ما أنت راءٍ من الجمال والحُسن، وشطرٌ منهم كأقبح ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهبوا الملكان قالا لهؤلاء الذين نصفهم كذا ونصفهم كذا: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، وإذا هو نهرٌ مُعترضٌ يجري، كأن ماءه المحض في البياض شدة البياض، فذهبوا، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أحسن صورةٍ.
قالا لي -يعني: الملكان-: هذه جنة عدنٍ، رزقنا الله وإياكم.
وهذاك منزلك يقول الرسول -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام-: فسما بصري صعودًا، فإذا قصرٌ مثل الربابة البيضاء، قالا لي: هذاك منزلك. قلت لهما: بارك الله فيكما، فذراني فأدخله، فالنبي بشرٌ -بأبي هو وأمي-، فكيف نحن؟! فطلب منهما أن يدخل منزله في الجنة الذي رآه النبي ، وحقًّا رآه.
قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله الآن لن تدخله يا رسول الله، لكنك ستدخله.
قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيتُ؟
قال الملكان لي: أما إنا سنُخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يُثْلَغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشَرْشَر شِدْقُه إلى قفاه، ومَنْخِره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
يا أصحاب (الواتس آب)، و(التويتر)، والإعلام الجديد، وانتشار الكذبات يمنةً ويسرةً: فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العُراة الذين هم في مثل بناء التَّنور، فإنهم الزُّناة والزواني.
الصورة الرابعة: وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يسبح في النهر، ويُلقم الحجارة، فإنه آكل الربا.
أكل الربا يا أصحاب البطاقات! وأنا أرى بعض الطلاب عندنا ما عنده قروش، ومع ذلك يدخل في معاملاتٍ ربويةٍ، ويدخل في أسهمٍ ربويةٍ، وهو ليس بغنيٍّ!
فالربا قليله وكثيره حرامٌ، لكن -للأسف الشديد- يتساهل فيه البعض من أجل أن يكسب المال، سواء كان حلالًا أو حرامًا! فعلى الإنسان أن يتقي الله، فهذا مصير آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشُّها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الوِلْدان الذين حوله فكل مولودٍ مات على الفطرة، وفي روايةٍ: وُلِدَ على الفطرة.
فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال الرسول : وأولاد المشركين.
وأما القوم الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ، وشطرٌ منهم قبيحٌ، فإنهم قومٌ خلطوا عملًا صالحًا، وآخر سيئًا، تجاوز الله عنهم[6]أخرجه البخاري (7047)..
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.