المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير، ونحن في الدرس الثاني من المجموعة الثانية من "سلسلة تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسنة" وكنا قد بدأنا في الدرس الماضي عن فنون التعامل وسنواصل في هذا الدرس في فنون التعامل.
وكنا قد بدأنا في اللقاء الماضي عن الفن الأول وهو: أن الناس يحبون هذه الفنون، وذكرنا بأننا بأمس الحاجة إليها؛ لأننا نتعامل في أسرنا، ومع أبنائنا، ومع أهلينا، ومع أزواجنا كذلك يتعامل المعلمون مع طلابهم، والفرد في المجتمع مع غيره، والصديق مع أصدقائه، والمسؤول مع من تحته.
فهناك فنون ومهارات لهذه التعاملات حتى يحصل التأثير المطلوب، وتحقيق الرسالة المنشودة، وتحقيق الهدف الذي يمتناه العبد لإرضاء الله ، ثم لتحقيق السعادة في الدنيا قبل الآخرة.
فالناس يحبون من طبيعتهم الذي ينصحهم سرًا، ثم ذكرنا المهارة الأخرى، وهي: أن الناس يحبون الذي يوجه وينقد بطريقة غير مباشرة.
وفي هذا اللقاء نكمل إن شاء الله تعالى ما بين أيدينا، ثم نجيب على الأسئلة.
ثالثًا: أن الناس يحبون من ينتبه إلى الحسنات والإيجابيات، ولا يركز على السلبيات، وهذه قضية مهمة في التعامل، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر[1]أخرجه مسلم، رقم: (1469).
فالنبي ﷺ يقول لا تستعجل؛ لأنه بلا شك أن سبب البغض والكره شيء سلبي، والسلبي وارد من كل النفوس البشرية، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن كره منها خلقًا رضي منها آخر.
فنحتاج أن ننبته إلى الجانب الإيجابي بالنسبة لهذه الزوجة، فلا يوجد أحد يسلم من العيوب، لا زوجة، ولا زوج، ولا ابن، ولا صديق، ولا مسؤول، ولا عالم، ولا جاهل، ولا رئيس، ولا مرؤوس.
والمشكلة في جعل هذه العيوب هي القضية في التقييم، والناس يأنفون إذا نسيت الإيجابيات في مقابل إيراد السلبيات فحسب.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: "ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب، لا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"[2]الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص: 79).
ويقول الشاعر:
لا يزهدنك في أخ | لك أن تراه زل زله |
ما من أخ لك لا يعيب | ولو حرصت الحرص كله[3]الصداقة والصديق، لأبي حيان التوحيدي (ص: 127). |
فكل واحد معرض لزلل، وكل واحد معرض للخطأ، فلا بد نضع هذه القضية في بالنا.
وهذا الأمر في الأصل طبيعة في النفس البشرية، وهو شيء طارئ، لكن قد يغلب عند البعض، فلا ننسى الجانب الآخر، بل حتى الذي يغلب عندهم في بعض الأحوال، لا ننسى الجانب الإيجابي لديهم.
يقول الشاعر:
عتبتُ على عمرو فلمَّا فقدتُه | وجرَّبتُ أقوامًا بكيتُ على عمرو[4]الوافي بالوفيات (16/380). |
حال الناس في الخصومات والاختلاف
هناك أناس ممكن أنه يخاصم الطرف الآخر، كأن يخاصم الزوج يخاصم زوجته، والعكس، أو الوالدين، أو الأبناء أو المعلم، أو الطلاب فيبكي منه، ويتضايق منه، لكن لما يتركه، ورأى غيره بكى عليه، وقال: ليتني ما فعلت هذا الشيء، ولو كل واحد منا راجع نفسه في مواقف المحكات في الإشكال التي بين الزوجين، أو ما بين المربي والمتربي، أو بين الأب والابن سيجد أن الشعور الذي يأتيه في لحظة الضيق واتخاذ قرار الهجر مثلا أو بعض التصرفات بعد فترة يجد نفسه يندم على ما سبق، وربما أنه بدأ يشعر بأن هناك أمورًا أخرى هو بحاجة إليها قد خسرها؛ لأن العلاقات قائمة على جوانب من المنافع المتبادلة بين الأطراف بين الزوجين وغيرهم.
فنحن نحتاج حاجة كبيرة إلى الوقوف عند الإيجابيات، ومن هذا الشخص الذي مستعد أن تذكر سلبيته فقط، ولا تذكر إيجابيته؟
والنبي ﷺ لاحظ سلوك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل[5]أخرجه البخاري، رقم: (1122)، ومسلم، رقم: (2479). فكان هذا الوصف والثناء، والذكر للجانب الإيجابي الذي قدمه الرسول ﷺ من أجل تعديل السلوك.
وهناك موقف آخر يعجب منه الإنسان لهذا المربي الأول عليه الصلاة والسلام، حينما يؤتى بالرجل شارب الخمر إليه مرارًا، ويُجلد أمام النبي ﷺ، وأمام الصحابة، فيقوم أحد الصحابة فيقول: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي ﷺ: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله[6]أخرجه البخاري، رقم: (6780)..
فهذا الصحابي ذكر الحقيقة، لكن الرجل يُجلد، ويُقام عليه الحد، وهو قد اقترف الكبيرة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله.
انظروا إلى هذا الجانب الإيجابي، الذي كل واحد منا يتمنى أن يشهد به النبي ﷺ له، ويذكر لشخص يقام عليه الحد، بل ما أكثر ما يؤتى به، فلا شك أن هذه صورة عظيمة جدًا في التعامل والتأثير منه عليه الصلاة والسلام.
وفي قصة أبي هريرة مع الشيطان؛ حيث قال : وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، فقص الحديث، فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وقال النبي ﷺ: صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان[7]أخرجه البخاري، رقم: (5010).. فأثبت النبي ﷺ الصدق الجزئي في هذه الحال للشيطان.
فنحن في أمس الحاجة أن ندرك أن الذي نتعامل معهم ليسوا شياطينًا، فنحن نتعامل مع بشر، ومع أقرب الناس إلينا، فهم بأمس الحاجة إلى إبراز الجوانب الإيجابية حتى تسعد نفوسهم، ومن أجل تغيير وتعديل السلوك السلبي لديهم.
وجاء عند البخاري عن أنس بن مالك قال: مر أبو بكر، والعباس رضي الله عنهما، بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي ﷺ منا، فدخل على النبي ﷺ فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي ﷺ وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم[8]أخرجه البخاري، رقم: (3799)..
أهمية معرفة الفضل لأهله ومنازل الناس
فهذه قضية مهمة جدًا، فلا ننسى فضل من هو أمامنا، والذي مارسه في سابق عهده، وإذا ربطنا القضية بالدنيا فصاحب المنصب إذا تقاعد فلا يذكر خيره، هؤلاء أصحاب الدنيا، لكن الذي يكون عنده مثل هذه الخصيصة لا شك أنه مهما تغير حال الإنسان ما دام أن له فضل يبقى ذكر الفضل لأصحابه، وهذه من ذكر الإيجابيات في حق الناس، وفي حق البشر؛ إذ نحتاج هذه المهارة، وهي أن نفتش عن إيجابيات زوجاتنا، وأن تفتش الزوجات عن إيجابيات أزواجهن، وأن نفتش عن إيجابيات الأبناء، وأن نفتش عن إيجابيات الأصدقاء، ونفتش عن إيجابيات كل من نريد أن نؤثر فيه، وأن نفتش عن إيجابيات الطلاب.
وإذا أخلصت النية كان باب من الخير والأجر، ناهيك عما يترتب عليه من التأثير، وهذا هو مجال التربية، عندما ينظر الإنسان لإيجابيات الشخص المقابل سيجد أن ما لديه من سلبيات ربما يذوب عند هذه الإيجابيات.
رابعًا: أن الناس يحبون الذي يتناسى زلاتهم، ويتغافل عنها، ولا يقف عندها، ولا يُذكَّر بها، ولا يدقق عليها، وبعض الأحيان تفتح قضايا بين شخص وآخر، ويبدأ أحد الأطراف يذكر بأمور سابقة وزلات، وأخطاء، وهذا لا شك أنها ضريبة الانفعال، وعدم ضبطها، والله يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].
فمن صفات أهل الإيمان العفو عن الناس، خاصة العفو عند المقدرة، فمثلًا أب يعفو عن ابنه، وهو قادر على أنه يتشفى منه، والزوج من زوجته، والمعلم من طالبه، لا شك أن الذي يمارس هذا التغافل أنه يستر عيوب هذا الإنسان، ولا شك أن هذا هو من أساليب التأثير والتعامل مع الآخرين، يقول النبي ﷺ: من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة [9]أخرجه مسلم، رقم: (2699)..
والذي يريد أن ينتصر لنفسه سيتجه اتجاه التشفي، والتشفي يقتضي أنه يبحث عن الزلات، ويرجع الزلات القديمة، ويذكر بها، ويقف عند الدقيقة، والصغيرة، والكبيرة، وهذه مشكلة كبيرة؛ لأن النفوس تأبى وتكره من يتعامل معها بهذه الطريقة، فلا بد أن نضع هذه القضية في أذهاننا.
خامسًا: أن الناس يحبون من يتعامل معهم بتواضع، ويكرهون من ينظر إليهم نظرة استعلاء أو تكبر، خاصة في موقف المسؤولية، كمسؤولية الأبوة، أو مسؤولية الرئاسة، أو مسؤولية التعليم، وما شابه ذلك؛ والذي يحدث جانب تأثيري في الآخر، فيأتي قضية الاستعلاء يقطع الطريق ما بين الطرفين، وقد دلت الدراسات قاطبة على المجتمعات الإسلامية والغربية أن المربي والمعلم الذي لا يتعامل من خلال مبدأ التواضع واللطف والعطف هو شخص منبوذ عند الطرف الآخر، وكانت الخصائص المتعلقة بالتواضع والعطف هي الخصائص رقم واحد عند طلاب المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية في الدراسات المختلفة الذين ينجذبون إلى المعلمين بسببها.
وقد قمنا في الجامعة بدراسة مسحية حول هذه القضية ووجدنا أن القضية فعلًا مثل باقي الدراسات، وليست القضية هي الكم المعلوماتي، وليست القضية هي شكل المعلم وهندامه، وإن كانت هذه كلها مؤثرة بلا شك، لكنه لا يُساوى تأثيرها في قضية قيمة المعلم والمربي والأب حينما يكون متواضعًا، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان: 19]، هذه الوصية وصية لقمان لابنه، وإذا جاء التواضع جاء اللطف، وجاء التودد، وجاءت المحبة.
وانظر إلى تواضع النبي ﷺ في قصته مع أخ لأنس بن مالك الذي كان يكنى بأبي عمير، فعن أنس قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، قال: أحسبه، قال: كان فطيمًا، قال: فكان إذا جاء رسول الله ﷺ فرآه، قال: أبا عمير ما فعل النغير قال: فكان يلعب به[10]أخرجه مسلم، رقم: (2150)..
ويأتيه الأعرابي، ويأتيه العالم، والجاهل عليه الصلاة والسلام كل واحد منهم يظن أن لا أحد أهم عند النبي ﷺ منه هو، كأن النبي ﷺ في هذا الموقف ليس من أحد إلا الذي أمامه موطن العناية والاهتمام، وهذا من تواضع النبي ﷺ.
أهمية مداعبة الأبناء والتواضع معهم
فنحن نحتاج إلى هذه القضية، مداعبة الآباء للأبناء وتواضعهم لهم، وتواضع الزوجين فيما بينهم، ومن التواضع التنازل عن بعض الحقوق الشخصية في مقابل المصلحة العامة كمصلحة الإصلاح، ومصلحة تربية الأبناء.
وقد كنت سألت الطلاب في مادة "مهارات الاتصال" عن مواقف لا تنساها في حياتك؟ فرفع أحد الطلاب يده، فقال: كنت في مرحلة المتوسطة لا أنسى هذا الموقف، وفي حصة الرياضة، أخطأت في حق المعلم بكلام أسأت فيه إليه، ويبدو أن المعلم عمل شيئًا معينًا، وكأنه كان حجر عثرة في رغبات الطلاب، وأنتم تعرفون الرياضات تتحرك النفوس شجاعة وحيوية، فيبدو أن المعلم قال شيئًا معينًا، فانزعج هذا الطالب، يقول: فتلفظت عليه بألفاظٍ فلم يتكلم بشيء، ولما رجعنا تكلم أمام الطلاب، وأنا موجود ويعتذر هذا المعلم، ويقول: أرجو ألا أكون قد أخطأت في حقكم، أو أسأت إليكم، يقول الطالب: والله ما ملكت نفسي، فوقفت واعتذرت من الأستاذ لما رأيت هذا الموقف.
فانظروا إلى هذا التواضع الكبير لدى هذا الأستاذ إلى مستوى أنه يعتذر، وكان هذا المعلم ذكيًا، وأنا أجزم أن هذا الموقف قد درسه دراسة سليمة، وأصبح سجية في طبيعة وشخصيته، لكن في نفس الوقت درسها؛ لأنه يعرف كيف يستطيع يجعل الطالب هذا يعتذر، وهكذا الناس الناجحين الذين يجيدون فنون التعامل ومهارات التعامل.
قال هارون بن عبد الله الجمال: جاءني أحمد بن حنبل بالليل، فدق علي الباب، فقلت: من هذا؟ قال أنا أحمد. وهذا أول وجه من أوجه التواضع، ونحن بعضنا قد يقول: معك الدكتور، إلى آخره من هذه الألقاب.
يقول هارون بن عبد الله: فبادرت، وخرجت إليه فمساني ومسيته، فقلت حاجة لأبي عبد الله؟ قال: شغلت اليوم قلبي. انظر إلى نبض المشاعر.
فقال: بماذا يا أبا عبد الله شغلتك؟ قال: جست عليك اليوم، أي مررت عليك، وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس، يعني: المعلم جالس في الظل، والطلاب في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر حريصين، لكن الشيخ جالس في الظل، والطلاب جالسين في الشمس، قال: لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس[11]تاريخ بغداد (16/31)..
وهذا عين التواضع، وتوجيه للمعلم المربي أن يتواضع للناس، وما فعله الإمام أحمد أتى في المساء، وقال معك أحمد، ثم لم يبدئ معه مباشرة في قضية التوجيه، وهذا التوجيه غير المباشر، وإنما قال له: قد شغلت قلبي أدخله في مشاعره، كما يقوله أهل الاختصاص، ثم وجهه.
ومن الذي روى هذه القصة؟ الجواب هو نفسه، وهذا يدل على أن القضية كان فيها تأثيرًا كبيرًا، لكن لابد يكون فيه توجيه، وهذا التوجيه جاء من خلال بيئة تواضع.
سادسًا: الناس يحبون الذي لا يوبخهم في غير محل التوبيخ، ولا يؤنبهم في غير محل التأنيب، ولا يحبون الشخص الذي يتسرع في هذا الجانب، إنما يحبون الشخص المتأني الذي إذا جاء بالعتاب جاء به في مكانه ومحله الصحيح، ولا يستعجل في ذلك.
أريد أن أقف معكم، وننزل هذه القضية على تعاملاتنا من القائم مع الخدم، وسأقص عليكم به قصة النبي ﷺ وبينه وبين خادمه، وينبغي نحن أن نجعل أنفسنا في المعيار، نرى أنفسنا مع هؤلاء الخدم، فكيف بالأبناء؟ فكيف بالزوجات؟ فكيف بالمجتمع؟ فكيف بمن هم خير منا وأفضل منا كأهل العلم؟ كيف بالرئيس والمرؤوس، فكيف بالطلاب؟
فقد جاء عند الترمذي وغيره عن أنس قال: خدمت النبي ﷺ عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خلقًا، ولا مسست خزًا قط ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق النبي ﷺ[12]أخرجه الترمذي، رقم: (2015)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، رقم: (296)..
بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، هل هذا الذي فيه هذه الصفات سيندفع إلى التوبيخ والتأنيب؟
نحن عندنا ذكورًا وإناثًا، هذه القضية -نظرًا لانتشارها- نقلت للأجيال شدة الانفعال والعصبية إلى الأجيال إلى الطلاب إلى الأبناء، وأنا أقول من خلال استقرائي البسيط، ومن خلال الاستشارات الموجودة، والاستشارات الحضورية، والاستشارات الهاتفية.
وهذه القضية منتشرة انتشارًا كبيرًا، وهي مرتبطة بسرعة الغضب والعصبية بين الأطراف، والإنسان الغضوب سيوبخ في غير محل التوبيخ، ويعاتب في غير محل العتاب، ويستعجل، وربما لو تأنى لوجد أنه مخطئ في عتابه، وأدرك القضية على حقيقتها، وقال: الحمد لله ما استعجلت، وإن استعجل تصبح القضية ولات حين مندم، فالناس لا يحبون ذلك أبدًا.
خطورة التأنيب غير المنضبط!
هناك دراسة لمهندس سويسري، وعملت الدراسة هذه على عدد كبير من العمال، وجد أن عددًا كبيرًا من هؤلاء يعتبرون أن التأنيب بدون ذنب أمام الأصدقاء أصعب ما يلاقون من متاعب، حتى لو أعطيتهم من الحوافز المادية، فقضية التعامل مع النفوس قضية أخرى تمامًا؛ لذلك جاءت الدراسات مؤكدة تمامًا ما يسمى بالرضا الوظيفي، ويمكن نسميه الرضا الأسري، والرضا التعليمي.
وهناك سؤال من الأسئلة التي وصلتني منكم لعلنا نجاوب عليه، يشير لهذه القضية، وهو عدم ارتياحه في المدرسة التي هو فيها، مع أنه يتكلم عن أناس متفوقين، وعدم رغبتهم، بسبب عدم وجود الأمن النفسي في المدرسة التي سيتجهون إليها.
إذا ما وجد الإنسان الوظيفة سيتجه إليها، فيها رضا وظيفي، فيها أمن نفسي، الأسرة فيها أمن نفسي، التعليم والمدرسة فيه أمن نفسي، سيصبح هناك اضطراب في التعامل مع هذه الجهات أو غيرها؛ لذلك ترى الناس يبحثون أين يجدون أمنهم النفسي، ولذلك إذا كان هناك غش في الأمن النفسي، ولو لحظة عبر المخدرات اتجه للمخدرات عبر أصدقاء سيتجه لأصدقاء السوء إلى آخره، فينتبه لمثل هذه القضية، ومن أشدها في الحقيقة هي أن نوجد هذه الفَنيَّة، وننتبه لها المرتبطة بقضية التعامل الحسن.
وصلنا اليوم يا إخوة أننا نحتاج أن نوجد أماكن لاستقبال الأطفال المعتدى عليهم بما يسمى بالإيذاء الأسري، وهناك إيذاء في المدرسة، وهناك إيذاء وظيفي، وهناك إيذاءات جنسية خصوصًا مع وجود بعض أوجه الاختلاط، فالآن الوظائف بدأت تأخذ منحى آخر، كل هذا من القضايا الخطيرة التي ينبغي أن ننتبه لها، وينتبه لها المجتمع.
سابعًا: الناس يحبون الذي لا يتمادى في خطئه، خاصة إذا أصبح الخطأ واضحًا، وبينًا، يعترف به، ويقر، والاعتراف بالحق فضيلة، فعن أنس أن النبي ﷺ قال: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون [13]أخرجه الترمذي، رقم: (2499)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم: (3139)..
هذه قضية واضحة، كل واحد معرض للخطأ، لكن الذي يتوب معناه أنه أقر واعترف بخطئه، أما الذي يتمادى فالناس ينفرون منه، وهذا الإمام مالك يأتيه الرجل ويسأله مسائل، ويجيب عن أكثرها بلا أدري، ولا أعلم[14]انظر: سير أعلام النبلاء (8/108).، هذا وهو إمام عالم، إمام أهل السنة في وقته، ولا إشكال في هذا، وبعضنا لا يساوي شيئًا عند الإمام مالك رحمه الله، ولا يساوي شيئًا عند علماء اليوم، وتجده يأنف أن يقول لا أدري، أو يقول لا أعلم، يرى أن هذا شيء من ضعف الشخصية، وهذا نعيده في طلابنا لما يذهبون يطبقون في المدارس تبدأ عنده القضية هذه، وهو أنه يجيب عن كل مسألة يسأل عنها، ولو بالخطأ، وهذا خطير، والناس يدركون الصواب والخطأ، والطفل يدرك ويعرف بعض الأشياء، وإذا لم يكتشف الآن يكتشف فيما بعد، ولو لم يكتشف تسعة وعشرون طالبًا اكتشف طالب من الطلاب.
ثامنًا: الناس يحبون الذي لا ينسب الفضل لنفسه، فانسب الفضل لله، وما أجمل عندما يفعل الأب جهدًا، والأم جهدًا مع الأبناء، ثم يقول للأبناء: أن هذا الأمر بفضل الله أولًا وآخرًا، الناس يحبون الكلام هذا، والفطرة السوية السليمة تحب هذه القضية، أما تسمع بعض الناس من الآباء، أو من المعلمين يتكلم عن نفسه، ويقول: أنا فعلت كذا، يبدأ يتكلم ويسرد تقريرًا عن ذاته، سيرة ذاتية ليس لها حاجة، بل هي تنفر الطرف الآخر؛ لأنه في الأخير سيأخذها على أنه جالس، وينتصر لنفسه، ويتكلم عن ذاته، والقضية ليست تمحور حول الذات، نحن عندنا تمحور حول الحق والصواب، وتمحور حول ما هو المصلحة العامة، ما هو فوق ذواتنا ما يريده الله منا، وما يرضاه الله عنا، هذا الذي ينبغي أن نتمحور حوله، ويتمحور حوله الأفراد والأسر والتعليم والمجتمع.
وهؤلاء الذين ينسبون الفضل لله، ولا ينسبون الفضل لأنفسهم هم -في الغالب- تجدهم في وقت الأزمات، وتجد الناس الذين دائمًا ينسبون الفضل لأنفسهم إذا حصلت أزمة في الغالب يسند المشكلة لغيره؛ لأنه متمحور حول ذاته؛ مثال ذلك: يحدثني أحد وكلاء المدارس عن طالب في مدرسة متوسطة انخفض مستواه بعد أن كان متفوقًا، يقول: فلما درسنا حالته وجدنا أن السبب في القضية تمكينه من أجهزة التقنية والرسيفر الخاص في غرفته، فبدأ ينهمك في القنوات الفضائية وينهمك في الأجهزة التي يستخدمها من غير ضوابط، نحن وصلنا لهذه النتيجة.
يقول: فلما أتى الأب أول ما جلس، ماذا تتوقعون قال؟
الشخص الذي لا ينسب الفضل لنفسه لو حصل خطأ يقول: أنا مخطئ، بل ربما إذا أخطأ يعترف بخطئه، ولو لم يكن قد أخطأ يتحمل المسؤولية، هنا النجاح، هنا المعلم الكفء، هذا المعلم المربي يتحمل المسؤولية.
قال هذا الأب: أكيد أتيتم بي من أجل معدل ولدي أنه منخفض، وأنا الحمد لله كل شيء يحتاجه وفرته له، وكل قضية وفرتها له، هو المشكلة فيكم، المشكلة في المدرسة، أنتم المشكلة.
كل طلباته نفذها وزيادة، لكن ما هي الطلبات هذه التي نفذها، هل هي صالحة؟ هل فيها ضوابط؛ بحيث يعرف الابن كيف يتعامل معها؟
وندمر الابن أخلاقيًا، وندمره أكاديميًا، فهذه صورة من الصور قد تتكرر هنا هناك.
أسئلة وأجوبة
نقف عند هذا، حتى نجيب على بقية الأسئلة.
هذا السائل يقول: ما هي السبيل الناجحة الناجعة لممارسة الأخلاق عمليًا، ويفضي في النهاية عن الالتزام الحقيقي لينال المسلم الأجر والقبول من الله؟!
حقيقة تكرر هذا السؤال من أكثر من أخ من قبل ومن بعد، وهذا جيد أن يكون هاجس عندنا، وقد سبق أن ناقشنا هذا الموضوع نقاش في أربع حلقات في الفصل السابق، في تطبيقات القدوة، وذكرنا تطبيقات حول كيف نستطيع أن نجري مثل الجوانب النظرية، ونجعلها واقعًا عمليًا تكلمنا في هذا الموضوع؛ ولذلك نحن وزعنا عليكم الحلقات الأولى اثنا عشر حلقة، وفيها الكلام الذي ذكرت لكم إياه والذي لم يكن معنا ممكن بعد نهاية الدرس نعطيه نسخة إن شاء الله تعالى، فأنا أحيل إلى الشريط يسمعونه؛ لأننا تكلمنا عن مجموعة كبيرة حول التطبيقات، وهذا موضوع مهم، وموضوع فعلًا مؤرق، كم من كم معلوماتي نعرفه، نسمعه في الخطب، وفي الدروس وفي مثل هذا اللقاء، وفي المدارس والمناهج، ومع ذلك الكم المقدار العملي التطبيقي فيه شيء من الضعف، صورة واضحة.
هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل [15]اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 36)..
والشيء الإيجابي من الأخلاق لا يحتاج إلا التطبيق، فلا يوجد كبسولات من الصيدلية نأكلها حتى نطبق هذا الشيء، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]، فالمشكلة فينا.
نعيب زماننا والعيب فينا | وما لزماننا عيب سوانا [16]عيون الأخبار، لابن قتيبة (2/ 284). |
نحن المشكلة، وضعف الإرادات، تحتاج تقوية، ومجتمعنا يحتاج تقوية في الإرادات، فالذي منا يشغل بسيارته من أول الصباح، ويذهب، ويتعب، ويرجع، ويشتغل ربما ثمان، أو تسع، أو عشر ساعات ينهك بسبب حافز، فلماذا لا نجعل هناك من الحوافز التي تقوينا إلى أن نعمل، ومن ذلك أن نوجد لأنفسنا قدوات لأجيالنا من خلال تطبيق هذا الجانب النظري.
يقول: إذا كان الولد صعب المراس، فما رأيكم بالمحفزات؟
لا شك المحفزات مهمة، وسبق في هذه اللقاءات أن تكلمنا في حلقتين عن الحوافز والدوافع يمكن يرجع إليها، لكن لكل نفس مفتاح، مفاتيح ينبغي أنت أيها الأب، أنت أيها الصديق، أنت أيها المعلم، وهكذا الأخوات ينبغي أن نبحث عن مفاتيح الطرف الآخر، كيف أستطيع هذا الطرف مهما كان صعب المراس جزمًا فيه شيء يحبه، فأبدأ أحفزه من خلال الشيء الذي يحبه ما يمكن يكون ما يحب شيئًا، لا بد يحب شيئًا معينًا، فأنا أبحث، وهنا ما يسمى في الجانب النفسي، ما يسمى بدراسة الفروق الفردية، وهي لا شك أن مستوى من العناء الذي يحتاجه المربي، لكن ما في عناء إلا ويأتي بنتيجة، أما نريد كل شيء جاهز، وكل شيء مريح، لا يمكن أبدًا.
الإعلام هو الذي يربي عيالنا، إذا كنا بهذه الصورة، أما الذي يتعب هو الذي يمكن يكون مدرسة إعلامية، تربي الأبناء والأجيال، ومدرسة تعليمية تربيهم في المدارس فعلًا، ويكون الناس، وتكون هذه الأجيال هي منتج رائع جدًا لمثل هؤلاء الناس، فهذا صعب المراس أيضًا يحتاج له صبر وتحمل لا بد، ثم افتح مجال حوار وإياه، ترى بعض الأحيان هؤلاء عندهم عناد والعناد هذا هو جاء بسبب طريقة التعامل، فنحن عندنا إشكالية في فنون التعامل، ولذلك هو يريد أن يقفل الطريق فيعاند.
أيضًا الواقعية، يعني أنت لا تضع لك مثالية، أنا أوصله للشيء الذي في رأسي طبعًا هو أيضًا صعب المراس ما هو مثل الابن الآخر، أو الطالب الثاني الذي يسمع وبسهولة يتجاوب، لا، هو صعب المراس عندئذ أقبل بالتدرج في تعديل سلوكه شيئًا فشيئًا، فالتقدم ولو كان بطيئًا أنفع من عدم التقدم، لكن هناك من يتقدم بسرعة.
الأمر الآخر: اشغله، واجعله في بيئة مشغلة له؛ حتى لا يتفرغ، ويبدأ يتعنتر من خلال التعامل مع الآخرين، وأنا أقول: من أنفس الأساليب في أجيالنا لو أشغلناهم بشيء مفيد نافع في الدنيا والآخرة لاستطعنا أن نكسر أكبر عقبة عند الأبناء، وعند الأجيال وهي عقبة أوقات الفراغ.
وهذا السائل سؤاله طويل، ويبدو أنه طالب في ثاني ثانوي، يقول: من السبب في خوف الطلاب المجتهدين من المدارس والقلق الموجود من هذه النوعية للطلاب؟ هل هم أهليهم؟ هل هم معلميهم؟ لأنهم لم يحسنوا تربيتهم فيأتون بالمشاكل فلا يرتاح الطلاب المجتهدون، أو بسبب قسوة المعلمين، أو بسبب النظام الدراسي لدينا يا ليت تبين السبب.
أعجبني الحقيقة أن يقول هذا الكلام وهو طالب في مرحلة ثاني ثانوي؛ ولذلك لا بد أن نفهم ما في نفوس الشباب، فقد يكتبها، لكنه قد لا ينطقها لا بلسانه، لا لأبيه، ولا لمعلمه، وهذه قضية خطيرة جدًا لا بد أن نفتح باب الحوار، وأن نسمع منهم.
ما السبب يا ترى، أنا أشكر هذا الأخ الكريم بغض النظر عن نتيجته الأخيرة، كل ما ذكره يمكن أن يكون سببًا، وحقيقة أجاد في ذكر بعض الأسباب، الأمر الآخر البناء النفسي وطبيعة الشخصية لها دور في هذه القضية، فإذا ربي الإنسان على الدلال والدلع طيلة فترة من الزمن، أو ربي على القسوة كلا الأسلوبين في التعامل منتجهم واحد في قضية القلق، وفي قضية التوتر، وفي قضية التمرد؛ لذلك لا بد أن نحسن قضية التعامل، نحتاج إلى تظافر الجهود.
الحرص الزائد يولد هذا القلق، حرص الأم أو غيرها يحرصون بصورة هو متفوق، ومع ذلك أول ما يدخل من بعد الاختبار، يقولون له: أخطأت خطأ، أو ما أخطأت الله؟
طيب أخطأ خطأ، وخطأين، وثلاثة أين المشكلة؟ هذا يولد عند الولد الخوف، ويولد عنده القلق، وأيضًا القسوة في المعلمين.
وأيضا إيذاء الطلاب بعضهم لبعض، أنا جاءتني حالة قريبًا، والسبب أن الطالب ليس مرتاح وقلق، -وهو طالب جيد- أنه يؤذى في المدرسة من زملائه، يعني: مصدر قلق طبيعي جدًا يا أخي أنا على عمري لو كنت أذهب إلى مكان وأعرف أن أحدًا سيتعرض لي هل سأطمئن؟ فالمشكلة عدم وجود الأمن النفسي.
↑1 | أخرجه مسلم، رقم: (1469). |
---|---|
↑2 | الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص: 79). |
↑3 | الصداقة والصديق، لأبي حيان التوحيدي (ص: 127). |
↑4 | الوافي بالوفيات (16/380). |
↑5 | أخرجه البخاري، رقم: (1122)، ومسلم، رقم: (2479). |
↑6 | أخرجه البخاري، رقم: (6780). |
↑7 | أخرجه البخاري، رقم: (5010). |
↑8 | أخرجه البخاري، رقم: (3799). |
↑9 | أخرجه مسلم، رقم: (2699). |
↑10 | أخرجه مسلم، رقم: (2150). |
↑11 | تاريخ بغداد (16/31). |
↑12 | أخرجه الترمذي، رقم: (2015)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، رقم: (296). |
↑13 | أخرجه الترمذي، رقم: (2499)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم: (3139). |
↑14 | انظر: سير أعلام النبلاء (8/108). |
↑15 | اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 36). |
↑16 | عيون الأخبار، لابن قتيبة (2/ 284). |