المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل هذا الخير الذي عمَّ الأرض يعمّ القلوب بالإيمان، وأن ينصر إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ونحن في يوم عاشوراء نتذكر نُصرة الله لنبيه موسى ، وإذلال الله لفرعون.
ولعل بوادر الخير ما سمعناه وما فرحنا به في غزة، نسأل الله أن يستمرَّ هذا الأمر فيها وفي غيرها، وأن يُسمعنا خيرًا عن سوريا وغيرها، اللهم آمين.
وهذا هو الجزء الرابع من المجموعة المُتعلقة بتربية وإرشاد الشباب، وهو اللقاء السابع من سلسلة "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسُّنة".
وقد تكلمنا عن الأهداف وما يتعلق بمعرفة الشباب، وخصائصهم، والفروق الفردية بينهم.
مقدمات حول إرشاد الشباب
اليوم سنتحدث عن بعض الأمور التي تُساعدنا في إرشاد الشباب وتوجيههم وتربيتهم.
صفات المُوجِّه والمُرشد
من أولى هذه القضايا في هذه الليلة: صفات المُوجِّه والمُرشد والمُربي الذي يقوم بمحاولة التأثير على الشاب أو الشابة.
الصفة الأولى: الصدق والإخلاص
أولى هذه الصِّفات: الصدق والإخلاص، كما قال الله : فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فكلما كان الإنسان صادقًا مُخلصًا في توجيهه وإرشاده لهذه الفئة -وهي فئة الشباب- كلما كان تأثيره أكبر.
وقد سبقت الإشارة إلى موضوع النية والإخلاص، فنكتفي بما سبق، وهي صفةٌ من أهم الصِّفات لقبول الله العمل، فنحن بأمس الحاجة لمُراجعة قضية الصدق والإخلاص، فهذا هو الباعث القلبي للتأثير في الشباب، فقد تسعى شيئًا بسيطًا، لكن بنيةٍ صالحةٍ؛ فيُبارك الله في سعيك وينفع به.
الصفة الثانية: القدوة
وهي صفةٌ مهمةٌ، فمن أجل أن نُهيِّئ هذا الشاب لتقبل ما عندنا في الأسرة والمدرسة وغيرهما لا بد من وجود القدوة، فحينما يرى هذا الشاب مَن هو في موطن التوجيه -أبًا كان أو معلمًا- يُؤجل ويُهمل، كيف سيتعلم الجدية والنظام؟! لن يتعلم الجدية والنِّظام.
وحينما يراه يُدخن، ويكذب، ويسرق، ولا يُصلي، كيف سيكون شخصًا مُحافظًا على الصلاة، أو غير مُدخِّنٍ، أو ما شابه ذلك؟!
وترى البنتُ المُوجِّهةَ ليست مُهتمةً بالستر والعفاف والحجاب، فكيف تتوقع من الفتاة أن تحرص على الستر والعفاف إذا لم تكن أمها كذلك، أو مُعلمتها، أو المُؤثرة فيها؟!
وحينما يكون الذي في محل القدوة للشاب مُضطربًا في أخلاقه، فكيف نتوقع من الشاب أن يكون مُتَّزنًا في أخلاقه؟!
فالقدوة والإخلاص هاتان النقطتان هما اللتان تُفسران الضعف الموجود في توجيه وإرشاد وتربية الشباب؛ فالإخلاص صفةٌ قلبيةٌ، والقدوة صفةٌ ظاهريةٌ.
ونحن نشتكي كثيرًا من هذه الفئة -فئة الشباب-، فعلينا أن نُراجع أنفسنا ابتداءً في قضية العمل القلبي الذي هو الإخلاص، والقضية الثانية ما يتعلق بـ: هل نحن قُدواتٌ أم لا؟
فتفسيري للضعف الموجود أنه بسبب ضعف القُدوات مع ضعف النية؛ ولذلك نحتاج إلى مُراجعةٍ، والكثير يقول: نحن نُوجِّه ونتكلم ونُعطي توجيهاتٍ، ولكن ما نجد أثرًا!
فراجع قضية الإخلاص والجانب الظاهري المُرتبط بالقدوة؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]، ويقول الله : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جمع أهله ذات مرةٍ، وقال لهم: "إني قد نهيتُ الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم -لأنهم أهل الخليفة- كما ينظر الطيرُ إلى اللَّحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هِبتم هابوا، وإني والله لا أُوتى برجلٍ وقع فيما نهيتُ الناس عنه إلا أضعفتُ له العذاب؛ لمكانه مني، فمَن شاء منكم فليتقدم، ومَن شاء فليتأخر"[1]"جامع معمر بن راشد" (11/ 343)..
فكون الإنسان في محل القُدوة لا شكَّ أن لذلك ضريبةً، فالإنسان في موطن قدوةٍ لمَن هم أسفل منه، وهو المسؤول عنهم، فلا بد أن يُراعي هذه القضية بشكلٍ كبيرٍ جدًّا؛ ولذلك الناس مثلًا في عهد عمر يأمرهم فيستجيبون، ومن تفسير ذلك: تأثير الجانب الفعلي، ومحل الاقتداء موجودٌ في مقابل الجانب القولي، فكلما كان الإنسان في محل القدوة استجابت النفسُ لتوجيهات هذا الشخص، وإذا كان هناك انفصامٌ بين التوجيهات والتطبيقات حصل انفصامٌ في السمع والطاعة والاستجابة، وهذا لا بد أن نقف معه وقفةً كبيرةً جدًّا.
وفي الجانب النفسي يُسمون "الاقتداء" بـالتعلم بالمُلاحظة، فقد دلَّت الدراسات على أن التلاميذ يتأثرون بسلوك مُعلميهم وتصرفاتهم أكثر من تأثرهم بأقوالهم ونصائحهم وتوجيهاتهم المُباشرة، وأن المُعلم أو المُربي المُستجيب والمُتعاون والمُؤثر والودود يُعطي صورةً عمليةً ليست لفظيةً؛ لأنه يتصف بالود والرحمة والمُشاركة والإيثار، هذه القضايا عمليةٌ؛ ولذلك يتأثرون بهذه الصفات أكثر من تأثرهم بالصفات القولية، حتى لو كانت معرفيةً أو علميةً؛ لأن هناك تقديمًا لسلوكياتٍ عمليةٍ.
ولذلك هناك سؤالٌ كبيرٌ هو: ما السلوكيات العملية التي قُدِّمت بين أيدي الشباب: ذكورًا وإناثًا؟ داخل الأسرة وخارجها: في المدرسة، والمجتمع؟ وما السلوكيات اللافتة للنظر التي نُريد أن يكونوا عليها؟ ومَن هم القُدوات الذين يرونهم، وهذه القُدوات تُقدم ذات السلوكيات؟
وقد وصلنا -للأسف- إلى مستوى وكأننا مسلوبو الإرادة، وقدمتْ وسائل الإعلام للشباب -ذكورًا وإناثًا- قدواتٍ مُدمِّرةً.
والتربية بالقدوة أيها الإخوة سبق التفصيل فيها كثيرًا، فهي باختصارٍ من أنجع الأساليب وأقواها تأثيرًا، وأخصرها وقتًا؛ لأنها تقديم نموذجٍ، فاسأل نفسك: هل أنا نموذجٌ أم لا؟
وما أسهل أن يُقال ذلك باللسان، لكن التطبيق ليس ثقيلًا!
إذن هاتان صفتان: صفة الإخلاص، والقدوة.
الصفة الثالثة: العلم
فنحن نريد أن نُوجه ونُرشد ونُربي الشباب، ولا بد أن نُدرك الجوانب الشرعية المتعلقة بتوجيه الشباب، وكيف كان الرسول يتعامل مع هذه الفئة كما ذكرنا سابقًا؟ وكيف كان الصحابةُ يُربَّون تحت رعاية النبي ؟
فكلما كانت فيكَ أيها المُربي -أبًا، أو أمًّا، أو معلمًا، أو مُعلمةً ... إلى آخره- هذه الصفة هيَّأت الشابَّ والفتاة إلى القبول، وكذلك الاطلاع على القضايا التَّخصصية المتعلقة بأساليب ووسائل التربية والتأثير، وما يتعلق بهذا الجانب.
وكلما كان الإنسان أقلَّ معرفةً كان عنده ضعف المُتابعة، ولا ينجذب إليه الطرف الآخر في الغالب، كما يقول الشاعر:
أمَّا ذَوو الجهل فارغب عن مجالسهم | قد ضلَّ مَن كانت العُميانُ تهديه[2]"ديوان بشار بن برد" (ص1120). |
القدرات الشخصية
ومن صفات المُرشد الذي يُوجه الشباب أيضًا: أن تكون لديه قُدراتٌ شخصيةٌ ونفسيةٌ، ومُعطياتٌ ماديةٌ وإداريةٌ، فكلما قوي في هذا الجانب كان أكثر تأثيرًا؛ ولذلك تجدون المشكلة حين يكون الشاب والفتاة والزوجة أكثر تعلُّمًا، وكذلك ما يتعلق بقضية توفر القُدرات والوسائل، وتجد المُوجه والمُربي ليست عنده الآليات، كما أنه ليس مُتمكنًا في جانب التوجيه، وتجد أن فيه جهلًا وضعف قدرةٍ من جهة الإمكانات، وما يتعلق باستخدام هذه الوسائل.
فالحل أن نقرأ، ونحضر دورةً تدريبيةً ذات اختيارٍ وانتقاءٍ جيدٍ تُطورنا، ونحاول قدر ما نستطيع أن نفهم هذه القضايا، ونجعل الميدان مجالًا ومرتعًا لتطبيق مثل هذه القُدرات وتلك الوسائل.
والوسائل اليوم والجيل جيل التقنية، فكلما استطاع الإنسان أن يختار الوسائل الجاذبة كان أكثر تأثيرًا، والوسائل الجاذبة ليست عبارةً عن لونٍ أو ضوءٍ، وإنما هي الشيء الذي يشد الانتباه فعلًا.
والبعض أصبحت عنده قضية الوسائل تأخذ حكم الغايات من ناحية العناية والاهتمام، فهو يعتبر مثلًا وسيلة العرض (الباوربوينت) أساسيةً، وإذا لم تكن موجودةً تُعتبر التربية فاشلةً، وإذا كانت موجودةً تعتبر التربية ناجحةً، والتعليم ناجحًا، وليس هذا صحيحًا.
فهذه القضية تحتاج إلى إدراك أن هذه وسيلةٌ مثلها مثل أي وسيلةٍ أخرى من الوسائل التعليمية، ولها قيمتها، لكن أيضًا ماذا يُقدَّم فيها؟ فيُمكن أن يطبع الكتاب نفسه ويضعه أمامه! وما استفدنا شيئًا، فأيضًا هذه لها اعتباراتٌ مُعينةٌ عند أهل التخصص، يمكن أن تكون أكثر جاذبيةً، ويمكن أن تكون مُنَفِّرةً.
وقد سألتُ بعض الشباب في هذه المرحلة الجامعية، فوجدتُ عددًا منهم يملُّون من كثرة العروض، وكثرة هذه الأشياء؛ بسبب أنها مجرد كلامٍ كثيرٍ، فالشريحة الواحدة يكون فيها كلامٌ كثيرٌ وسطورٌ كثيرةٌ، بينما يمكن أن يضع الإنسان شيئًا بسيطًا جدًّا، ويأتي بلقطةٍ ذات أثرٍ كبيرٍ جدًّا، ولا يكون فيها كلامٌ كثيرٌ، وإنما شيءٌ بسيطٌ، وأشياء مثلما يُسمَّى (فلاشات)، وما شابه ذلك، فيكون لها أثرها الكبير.
فهذه بعض الصِّفات المُتعلقة بالمُربي والمُوجه للشباب.
مصادر التلقي لدى الشباب
نأتي إلى قضيةٍ من القضايا المُؤثرة في تقبُّل الشاب -ذكرًا أو أنثى- للتربية والتوجيه والإرشاد وتهيئته لذلك، والتي هي: مصادر التلقي اليوم.
فمصادر التلقي اليوم عند الشباب -ذكورًا وإناثًا- ومن أين يتلقون؟ هذا سؤالٌ كبيرٌ، فالأسرة والمدرسة والإعلام والأصدقاء أكبر مصادر التلقي لدى الشباب تقريبًا، فهذه القضايا الأربع التي تُذكر من عشرات السنين، وتُذكر اليوم، لكن في إطارٍ جديدٍ في ظل المُتغيرات المُعاصرة.
فهذه المصادر يمكن أن تكون معينًا لنا في تربية الشباب، ويمكن أن تكون مُعيقةً لنا، كما يقول الشاعر:
فحسبُكم هذا التَّفاوتُ بيننا | وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ[3]البيت للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في "الدر الفريد وبيت القصيد" (10/ 333). |
ولو أخذنا مثالًا: الأسرة، وهي المحضن التربوي الأول -شئنا أم أبينا-، وما عليه الشاب والفتاة يُعطي مُؤشرًا إلى ما عليه الأسرة؛ فاستقرار الشاب والفتاة -في الغالب- يأتي من استقرار الأسرة التي ينتمي إليها، أو التي تنتمي إليها، وعدم الاستقرار والاضطرابات قائمٌ كذلك من عدم الاستقرار والاضطراب الحاصل في الأسرة.
فهل الأسرة اليوم تُساعد على تلبية حاجات الشباب؟ وهل الأسرة اليوم تُساعد بتنوعها وشموليتها؟ وهل الأسرة اليوم تُحقق النمو فعلًا لهؤلاء، أم أنها مُعرقلةٌ لإشباع حاجات هؤلاء الشباب: ذكورًا وإناثًا؟ سؤالٌ كبيرٌ.
وما أسهل أن نقول: نعم! وما أسهل أن نقول: لا! لكن حين نأتي للتفصيل نجد المَحَكَّ الحقيقي.
نُعطيكم مثالًا: عندنا شيءٌ مُباشرٌ وغير مباشرٍ، فالأسرة التي يكون إرشاد وتوجيه الشباب فيها جزءًا من برامجها وأهدافها غير الأسرة الأخرى التي لا تُعنى بقضية تلبية حاجات الأبناء.
وسبق أن تكلمنا عن الحاجات، وسيأتينا أيضًا كلامٌ عن حاجاتٍ أخرى ضمن هذه السلسلة المُتعلقة بقضية تربية الشباب.
ففرقٌ بين الأسرة التي تُساعد أبناءها وشبابها وفتيانها وفتياتها وتُوجِّههم إلى مَن يتلقون منه بطريقةٍ سليمةٍ، ويحرصون على ذلك، حتى لو كانت الأسرة عندها ضعفٌ في هذا الجانب، وبين الأسرة التي تمنع أجيالها وشبابها من أن تتلقى من المصادر النَّظيفة التي تُوجِّه التوجيه السليم، أليس كذلك؟
فهذه الناحية المُباشرة؛ لأن هنا توجيهًا، إما أنكِ أنتِ أيتها الأسرة تُوجِّهين أو تُعيقين التوجيه، إما أنكِ تُرسلين وتفتحين المجال لمُوجِّهين آخرين يرتبطون بأبنائكِ: ذكورًا وإناثًا، أو أنكِ تُعيقين هذا التوجيه المباشر من الأسرة، أو التوجيه المباشر من الجهات ذات العناية بالتوجيه والإرشاد لهذه المرحلة الشبابية، ومن ذلك: دفعهم إلى حلقات تحفيظ القرآن، والمدارس النسائية لتحفيظ القرآن.
وأنا أسمع خيرًا من فضل الله عن ثمار هذه الحلقات، خاصةً في العنصر النسائي، فتجد فيها أعدادًا كبيرةً، لكن في مستوانا المحلي تجد أن أغلب الذين يرتادون مثل هذه المدارس القرآنية هم في مرحلة الطفولة، أو مرحلة الرشد، وكبيرات السن، بينما مرحلة المتوسط والثانوي والجامعة التي عليها الكلام تجد أن نسبةً قليلةً تحضر، فأين شبابنا؟!
وقد يقول قائلٌ: ما يلزم أن يكونوا في هذه المدارس؟
طيب، لكن أين هم؟
أنا أذكر أحد الفُضلاء من المُصلين والمُحافظين على الصلاة في المسجد، شكا لي مرةً من المرات فقال: ماذا أفعل يا أبا عبدالرحمن؟ عندي بناتٌ في سنِّ المُراهقة يُلحون عليَّ يُريدون الإذن بالمُوافقة على متابعة برنامج (ستار أكاديمي)! وكلٌّ منا يعرف هذا البرنامج، فكيف وصل إلى هؤلاء البنات؟
وهو أبٌ مُحافظٌ، إلا أنهن يطلُبن الإذن من الأب أن يسمح لهن أن يرين هذا البرنامج، وهن يعرفن ماذا في البرنامج؟ فهناك دافعٌ، لكن إشباع هذا الدافع وهذه الحاجة تكون بشيءٍ اسمه: الحلال، وهناك شيءٌ اسمه: الحرام، فيكون الإشباع بشيءٍ يُرضي الله، وهناك إشباعٌ يكون بما لا يُرضي الله ، هناك إشباعٌ صحيحٌ، وإشباعٌ غير صحيحٍ.
يقول: ماذا أفعل معهن؟ أجلس في وقت بثِّ هذا البرنامج عند الشاشة حتى لا يستمعن.
طيب، وماذا بعد أن تموت، أو تذهب يمنةً أو يسرةً؟!
فأصل القضية: ما المصدر الذي وفَّرتَه لبناتك وأبنائك؟ ثم أين أنت من المدارس والبرامج والأنشطة، ومنها مدارس تحفيظ القرآن؟! وقد أتيتَ بأجهزةٍ أتت لهن بالعالم كله، فلماذا لا تذهب بهن إلى ظلال كتاب الله ؟!
فالقضية تحتاج إلى تفكيرٍ واهتمامٍ وإرادةٍ، وأن نقف معها بصورةٍ كبيرةٍ جدًّا.
حُسن المعاملة وسُوء المعاملة
من الجانب غير المباشر والمُؤثر في توجيه الأسرة وأسلوب تربيتها: الرصيد التراكُمي المتعلق بحُسن المعاملة وسُوء المعاملة أثناء الطفولة إلى المُراهقة، وتقييد حرية الشباب، بحيث لا يُعطون هامشًا من الاجتهاد والحوار، ويُعامَلون كأنهم أطفالٌ، ويتم التَّسلط عليهم، وعدم إتاحة الفرصة للمُشاورة ومناقشة الآراء، فكل هذا يجعل الأسرة حجر عَثْرَةٍ بين الشاب وبين إشباع حاجاته.
حتى لو قال الأب والأم لأبنائهما كلامًا جميلًا، وحتى لو أتوا بأمر الله وأمر رسوله ، وهم يُنَفِّرونهم!
ولا أقول هذا الكلام تبريرًا للشباب -ذكورًا وإناثًا-، وإنما هذا تفسيرٌ وتشخيصٌ للوضع، وبذلك تكون الأسرة مصدرًا سليمًا لتهيئة الشباب -ذكورًا وإناثًا- لتلقي التربية حينما تكون حريصةً على إشباع حاجاتهم، وفتح مجالٍ للمُؤثرين لإشباع حاجاتهم، وربط العلاقة بهم، وأن تكون التربية عمومًا تربيةً ناجحةً، وليست قائمةً على قضية التربية المُعوجَّة: إما قسوةٌ، وإما دلالٌ، فعندئذٍ يتهيأ الشاب لذلك.
تأثير الإعلام على الأسرة المسلمة
نحن ذكرنا الآن مثالًا في الأسرة، والمثال الآخر نأخذه في الإعلام، والدراسات كثيرةٌ في موضوع الإعلام، حتى من الذين هم خارج نطاق الدين الإسلامي من الكفار، فالعقلاء منهم عندهم دراساتٌ تُثبت أن بعضهم يمتنع من إدخال الأجهزة في بيته، وقد ذكر لفيفًا من هذه المقولات "مروان كجك" في كتابه "أثر (التليفزيون والفيديو) على الأسرة المسلمة"، فذكر عن الأسرة الغربية وتعامُلها مع (الكيبلات) في مقابل (الستلايت) والبثِّ المُشَفَّر، في مقابل البثِّ المفتوح والقطع شيئًا عجيبًا.
وهناك دراسةٌ للدكتور عبدالرحمن العيسوي عن الآثار النفسية والاجتماعية (للتليفزيون)، وهذا كلامٌ قبل القنوات الفضائية ووسائل الاتصال الحديثة، فهناك (72) من العينة يقولون: إن (التليفزيون) ضرره أكثر من نفعه.
وقد يقول قائلٌ: الآن توجد قنواتٌ محافظةٌ وأشياء إيجابيةٌ زادت.
نقول: لكن الذين يرون أنها ضارةٌ أكثر، ويعرف أن مثل (ستار أكاديمي) ضارٌّ، طيب، فما الذي دفعك إلى أن تُحضر القناة التي تبث (ستار أكاديمي) وأنت عندك قُدرةٌ على أن تُشَفِّر الموضوع؟! وليس فقط أن تُغير الطبق!
وكما يقول الباحثون: من أشكل المشكلات أن معظم الناس يعلمون خطورة هذه الوسائل، ولكنهم رغم ذلك لا يهتمون بتصحيح أوضاعهم، وتحصين نفوسهم، فلا يعملون على الحجب، ولا على تخفيف هذه الآثار المُتراكمة، وهذه من القضايا الخطيرة جدًّا التي سيُسأل عنها الذين يقومون على هذه الأجيال.
فكيف يكون حال الإنسان اليوم في ظلِّ هذه القنوات والثقافات ومصادر التلقي الجماهيرية والمُؤثرة؟! حتى صار كل شيءٍ موجودًا في جيب هذا الإنسان عبر الجوَّال، وفي هذا الفضاء المفتوح وعبر (الأثير)، خاصةً إذا كانت هذه الأمور أكثر جاذبيةً، وأكثر تأثيرًا، وأكثر تراكُميةً، والجرعات فيها مُشوِّقةٌ وجذَّابةٌ، وتأتي بين الفينة والأخرى، والنفس البشرية كلما كُرِّرت عليها بعض المُعطيات تشبثت بالقضية، ناهيك عن كونها جاذبةً ومُشوِّقةً ومُؤثرةً وتُدغدغ المشاعر والعواطف، فكل هذه المُعطيات لها أثرٌ كبيرٌ جدًّا.
إذن لا بد أن نُدرك بُعد الإعلام التَّراكُمي على الشباب -ذكورًا وإناثًا-، ونقرأ في هذه القضية، ونُدرك الإحصاءات والدراسات، ونقرأ الواقع، ونعلم أن هذا المصدر سيكون وبالًا على هذه الأجيال، وحين يكون الإعلام نظيفًا، ونستثمره استثمارًا إيجابيًّا لا شكَّ أن الشرور ستخف كثيرًا، وتكثر الإيجابيات كثيرًا بإذن الله.
وقد وُجدت اليوم -ولله الحمد- مجالاتٌ كثيرةٌ وسبقٌ في الجانب الفضائي وجانب (الإنترنت)، وما شابه ذلك، فتبقى مُهمتنا الانتقاء والاختيار لكل خيرٍ، والحجب والمنع والتَّخفيف من كل شرٍّ.
والشريعة كما تعلمون أيها الإخوة جاءت بتحقيق المصالح أو تكثيرها، ودَرْء المفاسد أو تقليلها، فهذه أربع مقاصد لشرعنا، فالإنسان يسعى إلى تحقيق المصلحة تمامًا، أو على الأقل تكثيرها، ويدرأ المفسدة ويبتعد عنها، وهذه هي قضية المنع المُتعلق بالحجب الكامل للقنوات المُعينة، وما شابه ذلك، أو على الأقل التَّخفيف ولو على مراحل إلى أن يُصبح هناك مجالٌ للتأثير وللاستجابة بشكلٍ أقوى.
فرسالة الإعلام رسالةٌ مُؤثرةٌ جدًّا على الأجيال، يقول الدكتور عبدالقادر طاش رحمه الله: "إن رسالةً واحدةً تهدف إلى تغيير موقفٍ ما، أو تحويل سلوكٍ اجتماعيٍّ مُعينٍ قد لا يكون لها أثرٌ مباشرٌ وسريعٌ على نفسيات الشباب".
والبعض يقول: يا أخي، عندنا قنواتٌ فضائيةٌ، ونُشاهد مسلسلاتٍ، والحمد لله ما رأينا أثرًا سيئًا علينا، وليس هناك شيءٌ، وما تخافون منه أنتم لم يحصل!
فنقول: اصبر، ليس الآن، فالقضية تراكُمية كما يقول الدكتور عبدالقادر طاش: "ولكن تراكُم عددٍ كبيرٍ من الرسائل الإعلانية بطرقٍ مُشوِّقةٍ وجذَّابةٍ، وعبر مدًى زمنيٍّ ممتدٍّ، وهي تُركز على موقفٍ معينٍ، أو تُبَشِّر بسلوكٍ مُحددٍ قد يُكسِب ذلك الموقف والسلوك شرعيةً اجتماعيةً -يصير شيئًا مشروعًا- ويكسر الحواجز النفسية بين الجمهور وبين ذلك الموقف أو السلوك؛ فيعتاد عليه، ويتقبَّله واقعًا مُعترفًا به".
والإنسان الآن يرى عبر وسائل الإعلام الشيء الحرام، وهو بالنسبة له أمرٌ عاديٌّ جدًّا، وهو يعرف أنه حرامٌ، وينزل هذا الفعل على واقعه ويقول: أنا بخيرٍ، والله يتوب علينا؛ لأنه شرَّع القضية لنفسه، وجعلها مشروعةً، ولم يحسب حسابًا للبُعد التراكُمي للوسائل الإعلامية، وأن تكون له إرادةٌ قويةٌ فيأتي بالشيء الذي يرضاه الله، وينفع نفسه وأجياله، ويُبعد الشيء الذي لا يرضاه الله ؛ ولذلك يقول الله : إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:13، 14] أي: غطَّى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية، والقلب الذي يعتاد المعصية ينطمس ويُظلم ويُحْجَب عنه النور، ويفقد الحساسية شيئًا فشيئًا حتى يتبلَّد ويمت، ويُصبح الحرامُ أمرًا عاديًّا جدًّا، ثم الأجيال التي بعده، والشباب والفتيات يتزوجون وينقلون نفس التراث والمأساة الموجودة من تعامُل هذه الأسرة مع الإعلام إلى أسرهم الجديدة، ثم الأبناء هكذا، حتى تُصبح القضية عبارةً عن شرعيةٍ اجتماعيةٍ، وقضيةٍ طبيعيةٍ، وعادةٍ سلوكيةٍ، حتى لو كانت سيئةً وسلبيةً.
إذن القضية خطيرةٌ جدًّا.
فمن أين يتلقى الشباب والفتيات والمُراهقون والمُراهقات؟ هذا سؤالٌ كبيرٌ نحتاج أن نقف معه.
إذن عندنا الأسرة والإعلام والأصدقاء، ومَن هم الأصدقاء؟ وما دورنا في انتقاء الأصدقاء؟
أثر الأصدقاء على أبنائنا وبناتنا
عندنا اليوم أصدقاء أصبحوا أصدقاء عن بُعْدٍ عبر التقنية، والعلاقات أصبحت من خلال ضغطة زرٍّ، فأين الدور المطلوب؟ وهل تربَّت هذه الأجيال -ذكورًا وإناثًا- على حُسن تمييز الصديق الصالح وغير الصالح؟ والمُؤثر إيجابيًّا وغير المُؤثر إيجابيًّا؟ وهل نحن مكَّنَّا الشابَّ من التعرف على الأصدقاء، أم أننا حرمانه وخوَّفناه وحذَّرناه أن يكون مع أناسٍ أخيارٍ، بحجة أنه لا يدري ما وراءهم؟!
وقد ناقشتُ مرةً أحد الآباء عندنا في الحي، وهو حيٌّ سابقٌ كنتُ أسكنه، ورأيتُ ابنه –هداه الله- فيه حركاتٌ سيئةٌ لا أخلاقية في الشارع مع بعض الشباب، فأتيتُ إليه في البيت، وقلتُ له: يا أبا فلان، ابنك كذا وكذا. والحقيقة أن هذا ليس هو المشهد الوحيد في ابنه وابنه الآخر، وإنما مشاهد عديدةٌ، فقط أنا ركزتُ على المشهد الذي رأيتُه بعيني، وإلا فهناك أمورٌ كثيرةٌ للأسف الشديد، أسأل الله العافية والسلامة.
فقال لي: ماذا تريدني أن أفعل معهم؟ قلت: والله يا أخي الكريم الآن بداية الإجازة الصيفية، وهناك أنديةٌ صيفيةٌ. فهجم عليَّ بكلامٍ قاسٍ، وكنتُ أتمنى أن يهجم على الموقف الخبيث السيئ القذر الذي وصفتُه له، ويرقّ قلبه على ابنه على الأقل فيقوم بهذا الإجراء، ويُقَبِّح هذا الفعل، وهو رجلٌ مُصلٍّ معنا في المسجد!
فهجم على الأندية الصيفية قائلًا: ما هذه الأندية الصيفية؟ وماذا فيها؟ أنا سمعتُ كلامًا سيئًا عنها، وبعض القائمين عليها غير مضبوطين! فأحرجتُه وقلتُ له: مُحدِّثك من مُشرفي الأندية الصيفية. فضبط كلامه قليلًا، وقلتُ: يا أخي، ما هذا الكلام الذي تقوله؟! قال: سمعنا. قلت: ما شاء الله! تبارك الله! سمعتَ كلامًا وأخذتَه كما هو! وأبناؤك مع هؤلاء يُعربدون ويفعلون بأبنائك هذا الفعل ولا تقول شيئًا؟! أين أنت؟! غافلٌ! وأين تقف؟!
فالقضية خطيرةٌ وتحتاج أن ننتبه لها.
انتقاء المدرسة النافعة
وكذلك المدرسة؛ فهي مصدرٌ مهمٌّ جدًّا، وانتقاء المدرسة النافعة مهمٌّ، ويُعجبني الأستاذ والأب والأم والأخ الكبير وغيرهم من الذين يسألون، ويكون من ضمن استشاراتهم: ما المدرسة المُناسبة لابني؟ أو أنا أريد مدرسةً جيدةً يتربى فيها ابني تُعوِّض الأمور التي نقصت في أسرتي؟ وهل تنصحنا بمدرسة كذا: ابتدائية، أو متوسطة، أو ثانوية، أو جامعة؟ يعني: هو لا يبحث عن قضية التعليم، فالتعليم الآن عند بيته موجودٌ، لكنه يبحث عن قضية البيئة التعليمية، يريد معلمين ناجحين في التربية، يُوجِّهون هؤلاء الشباب؛ ولذلك ليست القضية: ما المدرسة الأقرب لبيتي والأسهل في المُواصلات؟ فليست العبرة بالمُعطيات المادية والدنيوية، مع أنها يمكن أن يكون لها أثرها، لكن العبرة بالنظر للمدرسة كمصدرٍ للتربية، ولن تكون مصدرًا للتربية إذا ما اختيرت بعنايةٍ، فالمدرسة التي إدارتها جيدةٌ، وبها معلمون جيدون، ونشاطها رائعٌ، وبها تميزٌ علميٌّ أكاديميٌّ، وفيها كذلك بيئةٌ مناسبةٌ؛ تكون فيها مشكلاتٌ أقلّ، لكن أيضًا فيها بناءٌ أفضل.
الإجابة عن الأسئلة
في الدقائق المُتبقية أُجيب عن هذه الأسئلة الثلاثة التي بين يديَّ:
كيف تكون العلاقة جيدةً بين المعلم وطلابه؟
يقول السائل: ما الوسائل والطرق لتحقيق الأُخوة وبناء علاقةٍ جيدةٍ بين المعلم وطلابه؟
الجواب: هذا سؤالٌ جميلٌ، وسيكون الكلام حول هذا الموضوع ضمن برنامجنا في هذه السلسلة -بإذن الله-، لكنني أقول لمَن سأل هذا السؤال ومُهتمٌّ به: عليك أن تعود إلى فصلٍ بعنوان: "التفاعل التربوي" في كتاب "علم النفس الدعوي" للأستاذ الدكتور عبدالعزيز النغيمشي، وسيُجيب عن هذا السؤال بدقةٍ بالوسائل والطرق.
فعلًا كيف يمكن أن يكون الأب مع ابنه كأخٍ وصديقٍ، وعلى علاقةٍ جيدةٍ؟ وكيف يكون المعلم مع الطلاب بهذه الصورة، مع المُحافظة على الأُبوَّة والأستاذية ومحل الاقتداء؟ فليس معنى أنك تُكوِّن علاقةً جيدةً أن تنزل في علاقتك وتكون بلا ضوابط، وإنما من المهم أن تبقى أنت أستاذٌ وأبٌ ومحل القدوة، فهذا مهمٌّ جدًّا، لكن البعض يفهم هذا الكلام بصورةٍ خاطئةٍ، فيقول: إذن لا يمكن أن أكون كذلك إلا إذا كنتُ شديدًا وقويًّا ... إلى آخره. وهذا ليس صحيحًا، يا أخي، كن أستاذًا قدوةً، ودودًا، رحيمًا، كما قال الله عن النبي : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159].
فلترجع إلى كتابٍ اسمه "علم النفس الدعوي" -وهو موجودٌ في دار الهجرة في الخُبَر- لأستاذنا الدكتور عبدالعزيز النغيمشي في فصل "التفاعل التربوي"، وفي كتبٍ أخرى، لكن هذا الكتاب مُتعلقٌ بالخصائص المعرفية والأسلوبية والمهارية والوجدانية، وقد أبدع فيه صاحبه أيّما إبداعٍ، جزاه الله خيرًا.
طلبات الأبناء بين الإجابة والمنع
يقول السائل: ولدي في المرحلة الابتدائية في السنة السادسة، ويطلب جوَّالًا (بلاك بيري)، يطلب ذلك كل يومٍ، وزملاؤه عندهم نفس الجوَّال؟
الجواب: أولًا: أشكر هذا الأب على الهَمِّ الذي لديه.
ثانيًا: ينبغي أن تكون عندنا قاعدةٌ نمشي عليها في حياتنا: فليس كلما جاء الابن وطلب طلبًا، وألحَّ عليه، خاصةً حين يقول: زملائي كلهم عندهم هذا؛ نُلَبِّي طلبه؛ لأننا بهذا نجعل زمام التربية في أيدي زملائه، فهم المُؤثرون، والاستجابة دومًا لإلحاح الابن تربيةٌ فاشلةٌ.
ولذلك لا بد أن نفهم أن المنظومة قائمةٌ على تربيةٍ ناضجةٍ، فإذا لم تكن هناك تربيةٌ ناضجةٌ فالله يُعين الأب والأم على هذه المُطالبات والإشكالات، فليست القضية فقط هي الجوَّال (بلاك بيري)، فهناك قنواتٌ فضائيةٌ و(شِلَلٌ) وصُحبةٌ ومشاكل لا تنتهي.
ولذلك لا بد أن نرجع إلى تربيتنا الناضجة التي تكلمنا عنها عبر سلاسل سابقةٍ، وسنستمر، بإذن الله .
الأمر الثاني: لا بد من المنهج الوقائي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، وقد تكلمنا عنه، وليس من المنهج الوقائي أن تُصبح شاكًّا، فالمنهج الوقائي معناه: أن تحميه من الأمر الذي ربما يقع فيه، وكل واحدٍ منَّا مُعرَّضٌ للوقوع في ذلك.
فهذا الابن الذي في الصفِّ السادس الابتدائي ماذا يريد من جوَّالٍ بأرقى المُواصفات؟!
وكنتُ أعرف قديمًا مُؤذنًا في مسجدٍ من المساجد أتى بـ(الدش- الستلايت) المفتوح إلى بيته، ووضعه في غرفةٍ بالخارج، بحجة أنه ما يريد أن يذهب ولده إلى زملائه السيئين ليرى القنوات الفضائية! انظر كيف تكون القضية تراكُميةً؟! وابنه في الأساس غير مضبوطٍ، ولا يُحافظ على الصلاة، وعنده أصدقاء سيِّئون، ويُشاهد القنوات، فماذا فعل الأب؟ أدخل ابنه في نفس المشروع، فجاء بـ(الستلايت) ووضعه في البيت، وقال: اجلس عندي حتى أراك!
فليس هذا أسلوبًا في التربية، هل هذا منهجٌ وقائيٌّ؟!
المنهج الوقائي يتجلَّى في منع النبي عمر بن الخطاب -وهو مَن هو- من المُطالعة والقراءة في التوراة، ومنع الفضل بن عباس رضي الله عنهما من النظر للنساء، فكيف لا نمنع نحن أبناءنا؟!
لكن ليس المقصود من المنع القسوة، فإذا كان أسلوبك القاسي هو المُشكلة فعَدِّل من أسلوبك، هذا المقصود بالتربية الناضجة، فإذا عدَّلنا أسلوبنا يمكن أن نمنع.
فأقول: يا ولدي، أنت على العين والرأس، وأنا أُحب لك الخير، لكن هذا الأمر أنت لا تحتاج إليه، وأنا لا أرضاه لأبنائي، وما شابه ذلك، ولا أقصد (البلاك بيري) أو غيره، وإنما أتكلم على وجه العموم.
النقطة الثالثة أيضًا: إضافةً للتربية الناضجة والجانب الوقائي، لا بد من النظام في البيت، فإذا لم يوجد نظامٌ ستكثر طلبات الأبناء، وسنتأثر بسبب ذلك، ألا نرى أنفسنا في بعض الأحيان نُرهَق بطلباتٍ ماديةٍ دنيويةٍ، ويقول الواحد منا لأولاده: يا أولادي، لا أقدر أن أُوفر لكم ذلك؟ فقل لهم نفس الكلام في القضايا القِيَمية والأخلاقية.
فأنا وجهة نظري لهذا الأب مع هذه المنظومة التي قلتُها، فالأصل ألا تُمكن ابنك في هذه المرحلة من (البلاك بيري).
وقد كنتُ في لقاءٍ مع مُحققٍ في منطقة الخفجي، وذكر لي أن أكثر وسيلةٍ في القضايا الأخلاقية كانت عن طريق (البلاك بيري)، فلماذا لا يُؤخَّر هذا الجانب؟
فلا بد أن يكون هناك نظامٌ في البيت، حتى ما تسير القضية بمجرد الرغبة فقط، ثم لا تنهزم عندك الرغبة أيها الأب وأيتها الأم، وتصير القضية أنني لا أُريد أن أكسر خاطره.
فأنا أقول: كن بهذه المنظومة وعندئذٍ تستطيع أن تتخذ قرارك، وسُؤالك جميلٌ.
أما في وجهة نظري، فأنا أقول: ليس الولد في هذه المرحلة بحاجةٍ (للبلاك بيري)، فهو يحتاج إلى اللعب بأشياء مناسبةٍ مأمونةٍ عبر جهاز (الآيباد) مثلًا وبإشرافٍ، ولا يكون جهازًا له هذه الوسائط المُتعددة، والبرامج المُنفتحة، وتكون بين يدي الأبناء، لا تستطيع أن تُتابعها، خاصةً فيما يتعلق بمرحلة الطفولة، وإذا نضج بعد ذلك وكانت التربية جميلةً، وكان عنده أصدقاء طيبون، وكان من أهل الصلاة والمسجد؛ تصير القضية أخفّ، وأكثر اتِّساعًا للتوجيه والاستفادة.
أما أن نُعطيه ونُضيعه، وتصير القضية مجرد أنه ولدي، ولا أريد أن أكسر خاطره، وأنا أرحمه!
يا أخي، ارحم قِيَمه وأخلاقه، كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ماذا؟ نَارًا[التحريم:6]، فارحمه من النار، والوقاية خيرٌ من العلاج.
المعلم قدوةٌ لطلابه
يقول: رسالة للمعلمين بأن يكونوا قدواتٍ؛ لأني وقفتُ على أكثر من مشكلةٍ كانت بسبب إهمال المدرس في واجبه.
الجواب: لا شك أن هذه من القضايا التي أراها، فلا بد من مشاريع لإصلاح المعلمين وتطويرهم بشكلٍ مدروسٍ؛ لأن أبناءنا يدرسون ثمانِ ساعاتٍ أو ستّ ساعاتٍ بين يدي المعلمين، وهناك تأفُّفٌ الآن عند طبقةٍ كبيرةٍ من المعلمين، وإحباطٌ وتضييعٌ عند بعضهم، فلا بد من الشعور بالمسؤولية كما قال الأخ الكريم فعلًا، وأُوافقك على ذلك، ودور الجهات التعليمية التربوية مهمٌّ.
ونحن عندنا في كلية التربية شيءٌ من المحاولات الآن، وسنطرح -إن شاء الله تعالى- في الكلية قريبًا دوراتٍ لمدة ثلاثين ساعة في السنة حول المعلم المُرشد، ولعلها تكون مجالًا من مجالات الارتقاء، وهناك بعض القضايا الأخرى حصلت وتحصل، إن شاء الله.
وعلى الإخوة الموجودين في ميدان المدارس أن يُغيروا هذه النفسيات والعقليات والتفكير، وهذا الإحباط، وكذلك مُراعاة المسؤولية التي كُلِّفوا بها قدر ما يستطيعون.
وهذه رسالةٌ للإعلام في القنوات المُنتشرة، وقد تكلمنا عن هذه القضية قبل قليلٍ، ولا ننتظر إصلاح الإعلام ككلٍّ، فهذا الآن شبه مُستحيلٍ في ظل القرية الواحدة، لكن الكلام عني وعنك: ما موقفنا من هذا الإعلام المفتوح؟
فهذه القضية التي ينبغي أن نقف عندها فيما يتعلق بالجانب البنائي والوقائي والعلاجي.
أظن أن الوقت انتهى، وزدنا قليلًا، ونُكمل في الأسبوع القادم، بإذن الله .
ونسأل الله أن يُوفقنا وإياكم، وأن يهدي شبابنا وفتياتنا، وأن يُعيننا وإياكم على هذه المسؤولية في تربيتهم وإرشادهم وتوجيههم.
والحمد لله ربِّ العالمين.