المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بعون الله- هو اللقاء الرابع من المجموعة الثالثة من سلسلة "تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسُّنة"، وعنوان اللقاء هو: "الاستقرار النفسي"، وهذا مطلب الحضور، ومطلب كل إنسانٍ: أن يشعر بالراحة والطمأنينة النفسية، وهو كذلك مطلبٌ شرعيٌّ بأن يسلك الإنسان مسلك السعادة، وأن تُصبح نفسه مُستقرَّةً ومُطمئنةً ومُرتاحةً.
وهو أيضًا مطلبٌ عقليٌّ وعُرفيٌّ، فأي عاقلٍ ينشُد أن يكون سعيدًا في هذه الحياة، وكذلك أي عُرْفٍ قائمٌ على أن يُحقق السعادة والاستقرار النفسي، فهو مطلبٌ بشريٌّ وإنسانيٌّ، لكن تختلف هذه القضية باختلاف القوالب، واختلاف التوجهات والمُنطلقات.
النفس السَّوية يتطابق قولها مع عملها
يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فهذه حال مَن وُفِّقَ إلى الإيمان والعمل الصالح: قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ، ثم ماذا؟ ثُمَّ اسْتَقَامُوا.
وهذا يُعطي دلالةً على قضية التَّطابق التربوي التي أشرنا إليها سابقًا، وهي: أن النفس السَّوية المُستقرة هي التي يتطابق قولها مع عملها، وتتطابق قِيَمها ومبادئها مع سلوكياتها: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا.
فقضية الإيمان بالله ليست مجرد أفكارٍ ومبادئٍ وعقيدةٍ فحسب، نعم، هذه أعمال قلوبٍ، ولكن أيضًا لها ارتباطٌ بالسلوك والاستقامة الظاهرية والباطنية.
فهؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، ونجَّاهم الله من القلق والتوتر النفسي المُستقبلي الذي هو مرض العصر، ونجَّاهم أيضًا من الاكتئاب والحزن السابق الذي يستحضره الإنسان بسبب عملٍ فعله في فترةٍ سابقةٍ، فيحزن أو يكتئب، أو يقلق ويتوتر لأمر المستقبل، فيحفظ الله هذا الإنسان ويُعطيه هذا الاستقرار النفسي جزاء ما قام به من إيمانٍ واستقامةٍ وعملٍ صالحٍ.
فهذا الاستقرار النفسي أيها الإخوة علامةٌ كبيرةٌ جدًّا على الفلاح في الدنيا والآخرة، والسعادة والراحة النفسية -كما قلنا- مطلبٌ بشريٌّ ينشده الكل، فتجد أُناسًا يأتون إلى الصلاة يُريدون الاستقرار النفسي والراحة، والصلاة هي كذلك، كما في قوله : يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[1]أخرجه أبو داود برقم (4985)، وصححه الألباني.، فكانت راحته وطُمأنينته في الصلاة، وهذا الذي يذهب في مقابل ذلك إلى المعصية ينشد السعادة أيضًا.
فالأول يريد الاستقرار والراحة والسعادة، والثاني كذلك يريد الاستقرار والسعادة، ولكن كما قال الشاعر:
وحسبكمو هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ[2]البيت لحيص بيص كما في "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 127). |
فالاستقرار النفسي لا يتأتى إلا بعلاقةٍ عظيمةٍ جدًّا مع الله أولًا وآخرًا، يعني: الآن -ولله المثل الأعلى- أي مُنتجٍ تقنيٍّ ماديٍّ لا يمكن للإنسان أن يتعامل معه بطريقةٍ صحيحةٍ إلا إذا فهم وأدرك وعلم مراد الصانع الذي صنع هذا المنتج، سواء كان ساعةً، أو جوَّالًا، ... إلى آخره، فإذا لم يستطع التعامل معه لا يشعر براحةٍ واستقرارٍ، وإنما يشعر بقلقٍ وتوترٍ، وربما يحزن، يعني: يجمع بين أمرين: يقلق لكونه لم يستطع فعلًا أن يُمسك بهذا الجوال ويستعمله بطريقةٍ صحيحةٍ، وإذا ما اشتغل به وصار مثل فلانٍ ربما يشعر بالحزن، وشيء من هذا القبيل.
ولله المثل الأعلى؛ فالله هو الذي خلقنا، وهو أعلم بنا نحن البشر، وعندئذٍ فنحن بأمس الحاجة إلى أن نُدرك علاقتنا بالله ؛ حتى نشعر بالاستقرار والطمأنينة والراحة النفسية.
سِرُّ الاستقرار النفسي في القرآن
يقول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وقد كررنا هذه الآية مرارًا، ولا نملّ من تكرارها.
ويروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عن النبي وصفه لكتاب الله بقوله: هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه[3]أخرجه الترمذي برقم (2906)، وضعفه الألباني..
وهذه الآية السابقة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هي عنوانٌ للاستقرار النفسي، تصلح أن تكون الميثاق الأخلاقي والإرشادي النفسي في العيادات النفسية، لكن مَن الذي يُمارسها حقيقةً؟
وعددٌ من الأطباء والأخصائيين النفسيين الإكلينيكيين العياديين -كالأستاذ الدكتور مالك بدري وغيره من الجهابذة- أثبتوا في دراساتٍ أنَّ الذين يتعرضون للإيمان والعمل الصالح هم أقلّ الناس إصابةً بالأمراض النفسية والاضطراب النفسي، وقد مارسوا العلاج لمَن يتردد على عياداتهم من خلال كتاب الله .
وكلامنا هذا ليس معناه: أن الذي وفَّقه الله للاستقامة لا يمكن أن يُصاب بمرضٍ نفسيٍّ كما يُصاب بالمرض العضوي، بل قد يُصاب بالمرض النفسي كذلك، وقد يُصاب بالمرض المتعلق بالعين والسحر، فهذا واردٌ، وهذا من ابتلاءات الله ، لكن الأمر نسبةٌ وتناسُبٌ، وهو مصداق قول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، فهذه هي الحياة الطيبة السعيدة الهنيئة في الدنيا، ثم قال: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وهذا في الحياة الآخرة.
ويقول الله في مقابل ذلك: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124- 126]، وهذه أيضًا دلالةٌ قويةٌ جدًّا على أن الذي لا يُربي نفسه وغيره على المنهج الإسلامي، ولا يهتم بالإيمان بالله والعمل الصالح فإنه سيُجازى بهذا الأمر النفسي: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وكلٌّ منا يُدرك هذه القضية؛ لأنه جزمًا مرَّ بها في حياته: صغُرت أو كبُرت؛ نظرًا لتقصيره في حقِّ الله ، وفي المقابل حينما يُقْبِلُ على الله يشعر باللَّذة والارتياح والاستقرار النفسي.
ويقول الله : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، هذا وعدٌ من الله ، وهو كالآية التي ذكرناها سابقًا، فالمسلم ينبغي أن يحرص على ذكر الله.
وقد كان السلف الصالح تلهج ألسنتهم بذكر الله حتى يُقال عن أحدهم: إنه مجنونٌ.
وتجد كثيرًا من عباد الله الصالحين والعلماء والأتقياء مَن وُفِّق إلى كثرة ذكر الله تعالى: كالإمام العلم الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه-، فقد كان يذكر الله وهو قائمٌ وجالسٌ، ويأكل الأكلة ويحمد الله، ويشرب الشربة ويحمد الله، رحمه الله رحمةً واسعةً.
فهذا لا شكَّ أنه مصدرٌ للاطمئنان، وفيه أجرٌ عظيمٌ وأُنْسٌ بالله؛ ولذلك انظروا ماذا يحصل للذين يبتعدون عن ذكر الله ؟ وما يترتب على هذا البُعد من ضعف الاستقرار النفسي والراحة النفسية.
نفع الناس وعلاقته بالاستقرار النفسي
هذا الاستقرار النفسي كما أنه مع الله يكون مع الآخرين أيضًا، وحين نأتي إلى قول النبي : أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلمٍ، أو تكشف عنه كُربةً، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا؛ ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا يعني: مسجد المدينة[4]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" برقم (6026)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير وزيادته" برقم (176)..
فهذه الصورة الإيجابية بين الإنسان والآخرين لا شك أنها تمنح الاستقرار والراحة النفسية؛ لأنه يشعر أنه إيجابيٌّ، فيكون الإنسان إيجابيًّا مع الله في تعامله، بعيدًا عن الإعراض عن ذكره، قريبًا من الإيمان والعمل الصالح، وكذلك هو إيجابيٌّ مع الآخرين، ونافعٌ لهم، فيتحصل على الاستقرار والسعادة.
والنبي يقول: وخير الناس أنفعهم للناس[5]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" برقم (5787)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" مُختصرةً (1/ 787).، ويقول: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلمٍ، أو تكشف عنه كُربةً، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا في مسجد المدينة، ومَن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومَن كظم غيظَه ولو شاء أن يُمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبَه رجاءً يوم القيامة، ومَن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يُثبتها له ثبَّت الله قدمَه يوم تزول الأقدام[6]أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" برقم (861)، وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 359): "حسنٌ لغيره".، فذكر مجموعةً من الأعمال، ولا شك أن هذا من الأشياء التي تُساعد على استقرار النفس وراحتها.
ويقول النبي : المسلم إذا كان يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المسلم الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[7]أخرجه ابن ماجه برقم (4032)، والترمذي برقم (2507)، وصححه الألباني.، فالخيرية هنا للذي يُخالط، ولا شك أن المُخالطة لها ضريبةٌ، يعني: صلاة الجماعة الآن مع أفضليتها ووجوبها لها ضريبةٌ، وأنا أعرف أناسًا يقول أحدهم: أنا أُصلي بمُفردي؛ لأني لا أريد أن أحتكَّ بالآخرين! فهذا ليس استقرارًا نفسيًّا، وليس شخصًا سويًّا؛ لأنه تجده يذهب إلى العمل مثلًا، وإن كان يميل إلى الانعزال وعدم الخُلطة الجماعية، لكنه يُلزم نفسه بمُخالطة الناس بسبب أنها وظيفةٌ وراءها مالٌ، لكن تجده ربما لا يُلزم نفسه الذهاب إلى أداء الصلاة جماعةً.
أقصد بهذا الكلام كله: أن الطبيعي أن يكون الإنسان اجتماعيًّا، هذا الأصل، كما قال ابن خلدون: "ويُعبِّر الحُكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدنيٌّ بالطبع، أي: لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم"[8]"تاريخ ابن خلدون" (1/ 54)..
وليس معنى "مدني" أنه ينقل لهم الذي لا يرضاه الله ، أو يأخذ منهم السوء، فهذا ليس اجتماعيًّا إيجابيًّا، نحن نتكلم عن الاجتماعي الإيجابي الذي ذكره الله ، وذكره النبي .
فهذه مُواصفات هؤلاء الذين يشعرون بالاستقرار من خلال علاقتهم بالآخرين، فهم يخدمونهم فيما يُحبه الله ويرضاه، ونيتهم الطيبة -ولو صَغُرَ العمل- تجعل أجره عند الله عظيمًا، فيشعرون بسعادةٍ وراحةٍ، يعني: ما الفرق بين الشخص الذي يقوم على الفقير ويذهب إلى بيته، والذي لا يفعل هذا الفعل؟ وما الفرق بين مَن يتصدق، ومَن لا يتصدق؟
الأول يشعر بمتعةٍ ولذَّةٍ وراحةٍ، والثاني لا يشعر بذلك، وقد يقول: أنا لو قمتُ بهذه الأعمال قد لا أشعر بذلك. وهذه مُغالطةٌ للنفس، صحيحٌ أن هذه الأمور مُستحبَّاتٌ، وليست واجبةً، لكنها علامةٌ على خير الناس الذي يشعر بالراحة والاستقرار النفسي، كما قال النبي : وخير الناس أنفعهم للناس[9]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" برقم (5787)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" مُختصرةً (1/ 787).، فهذا حين يُخالط الناس ويخدمهم يشعر بالسعادة.
وهذه قضايا ليست مُرتبطةً بمُعادلةٍ كيميائيةٍ: 1 + 1 = 2، بل هي قضايا نفسيةٌ تأتي من خلال المُعايشة، ومن خلال التراكُمية والاستمرار فيها؛ ولذلك يقول النبي : أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ[10]أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818).، فمَن يعمل هذه الأعمال لا بد أن يستمر، فقد لا يجد خشوعًا في صلاته، فيستمر ويُجاهد نفسه حتى يخشع، وكما قال ثابت البُناني رحمه الله: "كابدتُ الصلاة عشرين سنةً، وتنعَّمتُ بها عشرين سنةً"[11]"حلية الأولياء" (2/ 321).، فجاهد نفسه عشرين سنةً حتى وجد لذَّة الطاعة والعبادة والصلاة؛ لأن القضية هنا لها ضريبةٌ، وهي جزءٌ من ابتلاء الله ، كما قال الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
الاستقرار النفسي شعورٌ داخليٌّ
ثم أيضًا الرجل الإيجابي عنده استقرارٌ نفسيٌّ مع نفسه، فهو يشعر بعلاقةٍ واضحةٍ، ويُدرك حقيقة ما يعيشه، ولا يُخادع نفسه، وإنما يشعر حقيقةً بهذا الاستقرار وهذه المتعة والراحة، فحين نرى حال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يُؤْذَى ويُسْجَن ظلمًا، ويُحْرَم من حقِّه في أن يكون مع أهله ومجتمعه، ثم يقول كلمته المشهورة: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبُستاني في صدري، أنَّى رُحْتُ فهي معي لا تُفارقني، إن حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ"[12]"المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/ 153)..
يقول أحد الكُتَّاب عن مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية: فما ترك شيخ الإسلام لأعدائه أيَّ منفذٍ. أي: سَكَّر عليهم الباب كما يقولون، يعني: كل شيءٍ تُفكر فيه فإن الله قد جعله خيرًا لي؛ ولذلك فإن الاستقرار النفسي والراحة النفسية مطلبٌ، لكن لا يمكن أن تُنال بالمال، يقول الشاعر:
ولستُ أرى السَّعادةَ جمعَ مالٍ | ولكنَّ التَّقِيَّ هو السعيدُ[13]البيت للحُطيئة العبسي، كما في "الحماسة البصرية" (ص137). |
فليست السعادة بجمع المال أبدًا، وقد تحدثتُ مرةً مع أحد كبار التجار عن الاستقرار النفسي والسعادة، فقال: المال الذي جمعناه هو من الناس المُقصرين في حقِّ الله -هداه الله وغفر له-، يقول هذا الكلام وينطبق عليه؛ لأن في الحديث الآخر: نِعم المال الصالح للمرء الصالح[14]أخرجه أحمد برقم (17763)، وصححه الألباني..
فيقول: نحن في قلقٍ وتوترٍ وخوفٍ من ذهاب هذا المال. ويقول أيضًا: مُتعتنا مع أُسرنا وأهلينا غير مستقرةٍ، لا ننظر إليهم، ولا نُخاطبهم!
فهذه الراحة نحن بأمس الحاجة إليها، وهي أمرٌ يجعله الله في نفس العبد إذا وصل إلى الاستقرار النفسي، وبعض الناس يكون قد حُمِّل من الضيق شيئًا كبيرًا، ثم في لحظةٍ يقف بين يدي الله فيجد الراحة، فيقول: يا ليتني أكون على هذا في كل حياتي.
وكان أحد السلف يقول: "إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ"[15]"إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، ط. المعرفة، (2/ 197).، يعني: هو يعيش في لحظة مقولته الصفاء والراحة مما جعله يقول: لو كان أهل الجنة يعيشونها لقلتُ أنهم في خيرٍ عظيمٍ، وهذا في الدنيا.
وأما سعادة الآخرة فأكبر وأعظم، لكنه يُعطيك تصورًا حول هذه الراحة والسعادة التي يشعر بها في هذه الدنيا بسبب الأنس بالله؛ ولذلك قيل لبعض العُبَّاد: إلى كم تُتعب نفسك؟ فقال: راحتها أُريد[16]"الفوائد" لابن القيم (ص42).، يعني: يقول: أنا أُتعب نفسي لأنني أريد أن ترتاح هذه النفس فعلًا؛ لأنه ينشد استقرارًا وسعادةً في الآخرة؛ لأنها أبديةٌ، حتى لو كانت على حساب التعب.
وأيضًا يرزق الله مَن يشاء المتعة والراحة حتى في الدنيا؛ ولذلك يقول النبي في الحديث فيما يتعلق بالنفس: مَن أصبح منكم آمنًا في سِرْبِه أي: في مكانه، آمنٌ لا يتعرض إلى المخاوف.
وانظروا إلى إخواننا اليوم في الشام وفي غيرها كيف يعيشون؟ فحين تأخذها من المقياس الدنيوي يكفيك هذا الحديث، وأما المقاييس الأخروية فقد ذكرنا قبل قليلٍ ما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه، وما شابه ذلك.
ومُعافى في جسده يعني: الحمد لله، الله أعطاه صحةً وعافيةً، وعنده قوت يومه يعني: عنده ما يقتات عليه كل يومٍ، فكأنما حِيزت له الدنيا[17]أخرجه الترمذي برقم (2346)، وابن ماجه برقم (4141)، وحسنه الألباني..
عدم القناعة من أسباب غياب الاستقرار النفسي
طيب، ما تفسير الذي جاءه القلق والاضطراب والضيق وليس هناك شيءٌ يُؤثر عليه؟ يعني: ليس في حروبٍ، وما شابه ذلك، وكذلك أعطاه الله صحةً في البدن، ورزقًا، وخيرًا كبيرًا، ومع ذلك يشعر بالقلق!
هذا الحديث معناه: إن مَن كان بهذه الصورة عليه أن يحمد الله ويكون قانعًا؛ لأن من أسباب عدم الاستقرار النفسي: عدم القناعة في هذه الحياة أصلًا؛ لأن ميزاننا في التعامل مع الذات والنفس عكس الميزان النبوي تمامًا، يعني: نلهث وراء الدنيا، فننظر إلى مَن هو خيرٌ منا في أمور الدنيا في المال والصحة والزوجة، وهذا خيرٌ مني في كذا، ولا ينتهي الأمر، فيتعب الإنسان، فلا يُحصِّل ما عند فلان وفلان، فهذا يُسبب القلق والضيق والحزن والاكتئاب ... إلى آخره، ولو أنه عمل بهذا الحديث لقنع.
فالنبي يقول: لا تجعل ميزانك التربوي والنفسي بهذه الصورة، وإنما انظر لمَن دونك، وهو مَن كان أقلَّ منك صحةً ومالًا ومعيشةً، واحمد الله ؛ حتى لا تزدري نعمة الله عليك، فهنا تجد السعادة، والقناعة تاجٌ على رؤوس العُقلاء، فحين يكون الإنسان قنوعًا بما أعطاه الله : فكأنما حِيزت له الدنيا يعني: أن الدنيا جاءته من كل مكانٍ، مع أن هناك أناسًا ما يشبعون من هذه الحياة أبدًا.
بينما الجانب الأخروي الذي هو أصل المشكلة في عدم الاستقرار أو الاضطراب النفسي مهملٌ، فتجد الإنسان مُصلٍّ ومُتدينًا، ولكن عنده ذنوبٌ في الخلوات، وعنده تقصيرٌ في الإخلاص والمُستحبات، والأصل أن الإنسان إذا قصَّر في الواجبات تأتي المُستحبات فتُتمم النقص الذي حصل في الفرائض، كما جاء في حديث الصلاة: إن أول ما يُحاسَب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمَّها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوعٍ؟ فإن كان له تطوعٌ أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك[18]أخرجه ابن ماجه برقم (1425)، وأبو داود برقم (864)، والترمذي برقم (413)، وصححه الألباني.، فهذا طبيعيٌّ جدًّا: أن الميزان عنده مُعوجٌّ، وعندئذٍ يحصل عكس ما بيَّنه النبي ، وهو أنه لن ينظر إلى مَن هو أعلى منه في أمور الدين حتى يكون مثله وينشط للعبادة، وإنما يقول: أنا أحسن من غيري. وما قال ذلك في أمور الدنيا، وإنما قالها في أمور الدين.
فإذا قلت لأحدهم: يا أخي الكريم، ما أراك تُصلي معنا في الفجر! يقول: أنا أحسن من غيري، غيري ما يُصلي أبدًا أيَّ صلاةٍ في المسجد. تقول: يا أخي الكريم، ما نراك في المسجد إلا قليلًا! قال: أنا أحسن من غيري، هناك أناسٌ أعرفهم ما يُصلون. تقول: يا أخي، لماذا تشرب الدخان؟ يقول: غيري يشرب المخدرات. وإذا قلت شيئًا نظر إلى مَن هو أعلى منه، فهذا لا يوجد عنده الاستقرار.
سورة العصر حُجَّة الله على خلقه
يقول الله : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، وهذه السورة سبق أن تكلمنا عنها، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله حُجَّةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"[19]"تفسير الإمام الشافعي" (3/ 1461).، فهذه كما قال العلماء: فيها تكميلٌ للنفس، وتكميلٌ للآخرين. يعني: علاقة الإنسان بربه وبخلقه.
فقوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هذه علاقة الإنسان بربه، ثم أيضًا فيها علاقة الإنسان بالآخرين: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ الذي هو الخير الذي يُقرب إلى الآخرة، ما تواصوا من أجل الدنيا فقط، بينما نحن كل تواصينا اليوم لأجل الدنيا، حتى لو كان مُباحًا، يعني: هناك أناسٌ ينصحون على الدنيا، لكن لا ينصحون على الآخرة، والله يقول: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، فيصبرون على ما سبق ذكره من إيمانٍ وعملٍ صالحٍ وتواصٍ بالخير، فهذه هي السعادة، وكما قال الشاعر:
ولستُ أرى السعادة جمع مالٍ | ولكن التَّقي هو السعيد[20]"ديوان الحطيئة" (ص6). |
وهذه فطن إليها بعض العقلاء الأوروبيين، وإن كانوا مُضطربين، فكم من أناسٍ وصلوا لمستوى الإيمان، لكن بعضهم دخل في الإيمان وأعلنه -والحمد لله-، وذلك حينما يُخالط الإيمان بشاشة قلبه، والبعض أدرك ذلك من الناحية المعرفية فقط، كما أدرك أبو طالب صدق النبي ، ومع ذلك مات كافرًا، وشفع له النبي شفاعةً خاصةً حتى أصبح في ضَحْضَاحٍ من النار، ولكنه في نار جهنم خالدًا مُخلدًا.
يقول أحد الأوروبيين: إن أوروبا لما تركت إلهها القديم -وهو الله على العقيدة النصرانية المُنحرفة- واتَّجهت إلى إلهها الجديد -وهو العلمانية والمادية- بدأ الأوروبيون يعيشون في قلقٍ دائمٍ.
فنحن نحتاج أن ننتبه إلى هذه القضية وإلا سنُشابه الغربيين، يعني: (ألكسيس كاريل) صاحب كتاب "الإنسان ذلك المجهول"، وهو طبيبٌ فسيولوجيٌّ، واستطاع أن يصل في الطب إلى درجة الدقة الكبيرة في القضايا الطبية، ومع ذلك يقول: "ما استطعنا أن نُجيب على مجموعةٍ من الأسئلة"، وسرد مجموعةً من الأسئلة في كتابه الجميل "الإنسان ذلك المجهول"، فقال: كل هذا دلَّ على أن جهلنا بالإنسان مُطبقٌ، وأن وراء هذا الإنسان خالقًا، فالإنسان يعيش الاضطراب إذا ما أدرك حقيقة الأمر.
وهرقل كاد أن يُسلم في قصته مع أبي سفيان المشهورة في "صحيح البخاري"، وحصل حوارٌ بينه وبين أبي سفيان قبل أن يُسلم أبو سفيان، وكانت دلائل تأثر هرقل واضحةً جدًّا من خلال الأسئلة التي سألها لأبي سفيان، وكذلك تأكيد هرقل على إجابات أبي سفيان، فجمع القوم ووضعهم في ساحةٍ، وأغلق عليهم الأبواب، وأبلغهم أنه يُفكر في الإيمان بمحمدٍ ، وتقول الرواية: "فحاصوا حيصة حُمُرِ الوحش إلى الأبواب"، يعني: سمع جلبةً، وغضبوا جدًّا، وهذا الذي جعله يُغلق الأبواب؛ لأنها لو كانت مفتوحةً ربما خرجوا وفعلوا به ما فعلوا، فقد كان عنده خوفٌ منهم، فقال: "إني إنما اختبرتُ شدَّتكم على دينكم، فقد رأيتُ منكم الذي أحببتُ"[21]أخرجه البخاري برقم (4553).، وبقي على كفره، ومات كافرًا.
فالإنسان يحتاج أن يُدرك مثل هذه المعالم، وواقع الدراسات والإحصاءات قديمًا وحديثًا -وخاصةً حديثًا- يدل على هذه الدلائل المتعلقة بزيادة نسبة القلق والتوتر والاكتئاب والحزن، واسألوا العيادات النفسية والناس المتعلقين بهذا الجانب، فكم من الناس مَن يُعاني من مثل هذه القضايا؟ وكيف كانت قبل سنةٍ وعشر سنواتٍ وخمس عشرة سنة؟ وكيف أصبحت اليوم؟ وكيف ستُصبح في السنوات القادمة إذا لم يلطف الله بنا ونتخذ الطريق السليم الذي يُؤدي إلى الاستقرار والراحة النفسية والطمأنينة والسعادة؟
خارطة طريقٍ لتحقيق الاستقرار النفسي
سأبدأ بخارطة الطريق في الوقت المتبقي، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في الأسبوع القادم إذا لم توجد أسئلةٌ تحتاج إلى إجابةٍ.
فنؤكد على موضوع الاستقرار النفسي الذي تذكره كل التخصصات والنظريات النفسية؛ كونه معلمًا نفسيًّا في نجاح العملية النفسية والتربوية والاجتماعية والأسرية والإرشادية ... إلى آخره، وضرورة أن يشعر الإنسان بالاستقرار، لكن هل يستقر، أو لا يستقر؟
فهذه قضيةٌ كبيرةٌ جدًّا.
نظرة الإسلام للإنسان والكون
نظرتنا الإسلامية تختلف عن نظرات هؤلاء القوم؛ لأنهم يفقدون شيئًا عظيمًا في نظرتهم إلى الحياة والإنسان والكون، وما شابه ذلك، فنظرتنا نحن للإنسان غير نظرتهم؛ فنحن ننظر للإنسان على أنه كيانٌ مُتكونٌ من عقلٍ وروحٍ وجسدٍ، وهم ينظرون للإنسان بعيدًا عن قضية الروح، ويُركزون على المتعة الجسدية فقط؛ ولذلك تجد أهم ما لدى الإنسان عندهم أن يُشبع غريزته ونهمته وحاجته.
وتختلف القضية من محورٍ عضويٍّ إلى محورٍ دنيويٍّ، يعني: محور طعامٍ وشرابٍ وجنسٍ مثلًا، إلى محور نومٍ أو غيره، فمثلًا اليابان من أكثر الدول انتحارًا، مع أنها أكثر الدول إنتاجًا؛ لأن هناك قيمةً كبيرةً جدًّا مفقودةٌ عندهم، مع قوة تقديرهم لقيمة العمل، حتى حلَّ العمل محل العبودية، وأصبح أحدهم إذا حُرِمَ من العمل يشعر أنه أصبح فاشلًا في هذه الحياة، وصار المصدر الأساسي للسعادة هو العمل، وقد حُرم من العمل، فالحل المُناسب ارمِ نفسك وانتحر، أو اقتل نفسك، وما شابه ذلك؛ ولذلك تزداد نسبة الانتحار عندهم بصورةٍ كبيرةٍ.
وهناك إحصائيةٌ قريبةٌ تقول أن هناك قُرابة الثلاثة آلاف ينتحرون في الشهر، ولا أذكر الرقم الآن بدقةٍ، لكنها من الإحصاءات الكبيرة التي تُذكر في هذا الأمر.
وعمومًا المجتمعات البعيدة عن العبودية لله هي أقرب المُجتمعات التي تعيش التيه والضياع، ولو كانوا أذكياء، وهذا إيليا أبو ماضي، وهو شخصٌ نصرانيٌّ، شاعرٌ، مُلهمٌ من حيث الفصاحة الشعرية، وهو من مذهب اللاأدري، ومن قصائده الشهيرة:
جئتُ لا أدري من أين؟ ولكني أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيتُ
وسأبقى سائرًا إن شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟ لستُ أدري
ألهذا اللغز حلٌّ، أم سيبقى أبديًّا؟
لستُ أدري، ولماذا لستُ أدري؟ لستُ أدري[22]من قصيدةٍ له بعنوان "الطلاسم" منشورةٍ على الشبكة العنكبوتية.
لأنه لا يعرف لماذا خُلِقَ في هذه الحياة؟ ولماذا يقوم بهذا الدور؟
ففرقٌ بين هذا الرجل الجهبذ في لغته، والذي ينتمي إلى مدرسةٍ لغويةٍ، ولكنه لا يعلم هدفه في الحياة، وبين الأعرابي الذي علَّق لما سمع الله يقول: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] بقوله: "يا سبحان الله! مَن الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! ألم يُصدِّقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟! فقالها ثلاثًا وخرجت بها نفسه"[23]"الجامع لأحكام القرآن" (17/ 42)..
وقد سُئل آخر: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله! إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذات فجاجٍ، وبحارٌ ذات أمواجٍ، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟![24]"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/ 197).، هذا بفطرته، فهو أحسن من بعض الدكاترة والعلماء اليوم.
ولعله لم يتبق معنا تقريبًا إلا خمس دقائق، وسنُجيب على ما تيسر من الأسئلة.
العلاقة بين الآباء والأبناء
هنا أسئلةٌ كثيرةٌ تتعلق بالعلاقة بين الآباء والأبناء، وأُؤكد على هذا الكلام، وذكرتُه أكثر من مرةٍ، فهناك حقوقٌ لكلا الطرفين، وتوجد واجباتٌ على كلا الطرفين، فقد تكون المشكلة في الأب نفسه، فلا بد ألا ينسى الواجب الذي عليه، ولا بد أن يسأل نفسه بادئ ذي بدءٍ: ما الواجب الذي عليَّ؟
ولذلك يتم سؤال مثل هؤلاء الآباء والأمهات: كيف تعاملكم مع أبنائكم؟
فتجد إما الدلال والدلع، وإما القسوة والشدة، والمطلوب من الإنسان التوسط في هذين الخطين في علاقته بمَن يُربيه، والجمع بين الودِّ والحزم.
ونأتي إلى الطرف الآخر ونقول نفس الكلام، فالابن قد يُحَمِّل والديه مسؤولية ما هو عليه، بسبب القسوة أو الدلال مثلًا، لكن أيضًا ينبغي على الابن أن يفهم أن عليه طاعة الوالدين، والله يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فقضية الطاعة مهمةٌ جدًّا، ولا يمكن أن يقول: أنا لا أفعل إلا إذا اقتنعتُ!
فهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا، وبعض الدورات التدريبية تجعل هذا هو الطريق النهائي، وهذا غير صحيحٍ، فقد يكون الأب والأم قائمين بالدور المطلوب منهما، وما اقتنع الابن، وهناك احتمالٌ أن يكون الحق مع الابن، أو الحق مع الوالدين، وفي الأخير لا بد أن يكون هناك حلٌّ نهائيٌّ، وهو أن ينسجم الابن مع أبيه ما لم يكن في معصيةٍ؛ فإنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق.
فالأمر لا يتطلب القناعة، فقد لا تكون هناك قناعةٌ، وقد لا يمكن أن يُقنع المعلمُ الطالبَ، ولا الأب الابن في كل شيءٍ؛ ولذلك لا بد من حلٍّ في النهاية باتخاذ قرارٍ نهائيٍّ، فالأبوة لها قيمتها الشرعية، ولا بد من اعتبارها.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا وإياكم ممن استعملهم في طاعته، وأن يُوفقنا وإياكم إلى الخيرات.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه أبو داود برقم (4985)، وصححه الألباني. |
---|---|
↑2 | البيت لحيص بيص كما في "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 127). |
↑3 | أخرجه الترمذي برقم (2906)، وضعفه الألباني. |
↑4 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" برقم (6026)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير وزيادته" برقم (176). |
↑5 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" برقم (5787)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" مُختصرةً (1/ 787). |
↑6 | أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" برقم (861)، وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 359): "حسنٌ لغيره". |
↑7 | أخرجه ابن ماجه برقم (4032)، والترمذي برقم (2507)، وصححه الألباني. |
↑8 | "تاريخ ابن خلدون" (1/ 54). |
↑9 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" برقم (5787)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" مُختصرةً (1/ 787). |
↑10 | أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818). |
↑11 | "حلية الأولياء" (2/ 321). |
↑12 | "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/ 153). |
↑13 | البيت للحُطيئة العبسي، كما في "الحماسة البصرية" (ص137). |
↑14 | أخرجه أحمد برقم (17763)، وصححه الألباني. |
↑15 | "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، ط. المعرفة، (2/ 197). |
↑16 | "الفوائد" لابن القيم (ص42). |
↑17 | أخرجه الترمذي برقم (2346)، وابن ماجه برقم (4141)، وحسنه الألباني. |
↑18 | أخرجه ابن ماجه برقم (1425)، وأبو داود برقم (864)، والترمذي برقم (413)، وصححه الألباني. |
↑19 | "تفسير الإمام الشافعي" (3/ 1461). |
↑20 | "ديوان الحطيئة" (ص6). |
↑21 | أخرجه البخاري برقم (4553). |
↑22 | من قصيدةٍ له بعنوان "الطلاسم" منشورةٍ على الشبكة العنكبوتية. |
↑23 | "الجامع لأحكام القرآن" (17/ 42). |
↑24 | "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/ 197). |