المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يوفقنا وإياكم لكل خيرٍ.
نحن في الدرس الثاني من المجموعة الثالثة من سلسلة "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسُّنَّة"، وسنُكمل ما بدأناه في الأسبوع الماضي عن الشباب والغريزة، وهو أيضًا ضمن الدروس السابقة حول الشباب، وأظن أن هذا الدرس هو العاشر بالنسبة لسلسلة دروس الشباب.
وكنا قد تحدثنا في اللقاء الماضي عن مجموعةٍ من المقدمات المتعلقة بقضية الشباب والغريزة وموقف المنهج الإسلامي منها، وذكرنا أن قضية الغريزة مُعتبرةٌ بلا شكٍّ، وأن المشكلة في انحراف الناس عن الموقف الصحيح من هذه القضية، وكذلك ما يتعلق بالأعداء وتوجيههم الضربات الشديدة لهذا الجيل في شأن الغريزة.
ثم تحدثنا أيضًا عن أن هذه القضية ليست مُستقذرةً بذاتها، وإنما هي مُعتبرةٌ، بل إنها مطلوبةٌ ومحثوثٌ عليها، ولكن المُستقذر هو التصرفات المُنحرفة وغير الأخلاقية التي يفعلها الإنسان.
ثم ذكرنا مجموعةً من النقاط المتعلقة بالمنهجية العملية لضبط وتوجيه الغريزة عند الشباب: ذكورًا وإِناثًا، وكان الكلام حول: الحب، والتربية على حُبِّ الله وخشيته، والتربية على القدرة على الضبط، أي: أن يكون الشخص ضابطًا لنفسه، بحيث لا يُعطي لنفسه هواها، وإنما يُوقِف هذه النفس ويضبطها من خلال تحكمٍ ذاتيٍّ يتعود عليه، وربما نُشير إلى بعض الأساليب في ذلك اليوم -بإذن الله- إذا يسَّر الله وأعان.
ثم ذكرنا أن من الأساليب: تربية الشاب على الشعور بالرجولة، وتربية البنت على أنها امرأةٌ، وأن هذا الشعور النفسي له دورٌ كبيرٌ جدًّا على ضبط هذه القضية وتوجيهها.
وتكلمنا عن شغل أوقات الفراغ، وأن هذه القضية من الأمور التي تُساعد الشباب وتُبين موقفهم من الغريزة، فكلما كان الشاب -ذكرًا أو أُنثى- مشغولًا كان هناك ابتعادٌ عن مثل هذه القضايا التي قد تكون سببًا في انحرافه؛ ولذلك من الأشياء الجميلة في البيئات التربوية أنْ يُشْغَل الجيل؛ حتى لا يكون عنده فراغٌ، وعندئذٍ سيترتب على الفراغ -في الغالب- جوانب من التفكير والاستجابة لنوازع النفس قدر المُستطاع، وهذه من القضايا العملية أيضًا التي نحتاج أن نقف عندها.
ونُكمل الآن بقية النقاط الأخرى حول هذا الموضوع المُلِح والضاغط على أجيالنا وشبابنا: ذكورًا وإِناثًا.
منهجية الإسلام في الوقاية من انحراف الغريزة
النقطة الخامسة: منهجية الإسلام والتربية الإسلامية في قضية الوقاية من انحراف الغريزة، وهي أن الإسلام لما طلب من المُكلَّفين أن يضبطوا أنفسهم كان هناك قبل ذلك منهجٌ وقائيٌّ، فليس من الصواب أن أُعرِّض نفسي والآخرين للخطر، ثم أقول: اضبطوا أنفسكم، وإنما الأصل ألا أُعرِّض نفسي للخطر، فهذا هو المنهج الوقائي الذي أراده الله في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، فالوقاية خيرٌ من العلاج، وأيضًا قال الله : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] أي: دواعيه ووسائله، فالإسلام حريصٌ أشد الحرص على الوقاية.
والذي أراه -والله تعالى أعلم- أن تعاطي الشباب -ذكورًا وإِناثًا- مع هذا المنهج ضعيفٌ جدًّا، وكذلك تعاطي القائمين عليه في التربية الأُسرية، وكما يُقال: "الوقاية خيرٌ من العلاج"، ونحن لو أخذنا هذا المنهج فقط لعرفنا بالضبط ماذا نحتاج أنْ نُقدِّم لأبنائنا؟ وماذا نحتاج لنحذر من أنْ يقع أبناؤنا في الانحراف؟
كما أن بعض الأشياء التي تعلمها أبناؤنا لم يتعلموها من أنفسهم، بل تعلموها منا نحن، فنحن الذين علمناهم، وأتينا لهم بالقنوات الفضائية التي أجَّجت فيهم الجانب الغريزي، ونظن أنهم لن يتأثروا، هكذا يُغالط البعض، أو يقول: ما كنتُ أظن أن القضية ستصل إلى ما وقع ... إلى آخر تلك الأقوال التي يقولها البعض، ثم بعد ذلك نندم ولات حين مندم.
وقد سبق أن تكلمنا عن إحصاءاتٍ سابقةٍ في الدورات الأولى، وكما قال أحد الأطباء النفسيين: نحن اليوم في عصر تفجر الشهوة من خلال وسائلها، والذي يُغالِط في هذا الجانب هو شخصٌ لا يفقه الواقع، أو لا يريد أن يعترف بالواقع.
وأنا لا أتكلَّم عن صورة امرأةٍ يراها الشباب في قناةٍ إخباريةٍ من أجمل النساء، ويقولون: إنها أخبارٌ! مع أن هذه قضيةٌ تتطلب وقايةً؛ لأن الله أمرنا بقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، وإنما أتكلم عن جوانب -والعياذ بالله- إباحيةٍ واضحةٍ ومكشوفةٍ.
وما أردتُ حقيقةً أن أُزعجكم بالأرقام، وسبق أن تكلمتُ عنها في دورةٍ سابقةٍ، وأنها أرقامٌ مُخيفةٌ، وربما آتي بها في الأسبوع القادم إذا لاحظتُ في ذلك مصلحةً.
هناك كمٌّ هائلٌ مما تبثه القنوات والإنترنت فيما يتعلَّق بالقضايا الجنسية المكشوفة -والعياذ بالله- إلى مستوى أن أصبحت هذه القضايا في متناول الأطفال الذين لا يُعانون من هذه الغريزة، ومع هذا هم مُستهدفون، وهناك صفحاتٌ في الإنترنت تُنشأ يوميًّا، ووصلت لأرقامٍ قياسيةٍ بالتواريخ والعدد، وليست مخفيَّةً.
ووُجِدَ ما يُسمَّى بالمُراهقة المبكرة قبل المراهقة، والطفل يمكن أن ينضج في الجانب الغريزي بسبب أثر مثل هذه الأشياء التي يُفكر بها ويراها.
وأنتم تعرفون أن قضية الجانب الغريزي ليست قضيةً ماديةً بحتةً، بمعنى: أنَّه ربما يكون بلوغ إنسانٍ غير بلوغ إنسانٍ آخر، فهي قضيةٌ فسيولوجيةٌ، والجانب الفسيولوجي متأثرٌ بمُعطيات الحياة، وطبيعة بنية الإنسان، وأثر البيئة عليه؛ ولذلك قد يحصل جانبٌ من استباق هذه المراهقة قبل وقتها، وإيجاد هذه القضايا الغريزية ونضجها قبل وجودها في مكانها بسبب أنها استُثيرت بطريقةٍ منحرفةٍ -والعياذ بالله- مما يُسبب المشاكل الكبيرة جدًّا.
ولذلك ينبغي أن نسأل أنفسنا: أين المنهج الوقائي في ضبط الغريزة؟
وأنا والله أقول بكل وضوحٍ: إننا نُغالِط أنفسنا كثيرًا في هذه القضية، وأعرف أن هذه القضية مُرتبطةٌ بإيمان الإنسان بربه ودينه، وعلم الإنسان، لكنها أيضًا مُرتبطةٌ بإرادة الإنسان بعد توفيق الله ، فالإنسان يعرف أن هذا خطأٌ، وأن الأبناء مُعرَّضون له، ومع هذا تأتي استشاراتٌ يندى لها الجبين بفعل التربية غير المُنضبطة في هذه القضايا، والتي لم يكن لها منهجٌ وقائيٌّ في الأسرة؛ فأتينا بأجهزة التلقي بطريقةٍ غير مدروسةٍ، وبطريقة الهوى والحرية المُنفلتة التي أتت بها المدنية الحديثة من خلال الثورة الصناعية الفرنسية التي قَعَّدَت هذه القضية، وهذه الحرية أصبحت قضيةً واقعيةً عند الناس، فيقول أحدهم: أنا حرٌّ! طيب، أنت حرٌّ، لكن ضمن إطار أمر الله ، ولستَ حرًّا في هذا الجانب؛ فلستَ حرًّا في الصلاة: تصلي أو لا تصلي، نعم، أنت حرٌّ، لكن تحمل مسؤوليتك، والله يقول: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وهذه الحرية ليست مسلوبةً من الجزاء وتحمُّل الإنسان لمسؤوليته، وإنما وراءها جزاءٌ: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، ونفس الكلام في التربية على هذه القضايا داخل الأسرة فيما يتعلَّق بمُعطيات القنوات الفضائية والتعامل مع التقنية والتربية، ... إلى آخره.
وأرجو ألا يفهم الإخوة الذين ما حضروا معنا اللقاء الماضي أننا نكبت الغريزة، فقد ذكرنا هذه القضية تمامًا وبيَّنَّا منهجية الإسلام، وأشرتُ إلى شيءٍ من مراجعها في بداية اللقاء، وأن المنهج الإسلامي أقرَّها، وحثَّ عليها، وأثنى عليها، ووجَّه إليها، وأكَّد عليها كلها، فقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، فالله منعنا أن نُحرِّم هذه الطيبات، لكن استقذر وأنكر علينا قضية الجُرم، ومنه النظر الحرام، والفعل الحرام أيًّا كان، كما قال : العين تزني، والقلب يزني، فزنا العين النظر، وزنا القلب التمني، ثم قال: والفرج يُصدِّق ما هنالك أو يُكذِّبه[1]أخرجه أحمد برقم (8356)، وقال مُحققو "المسند": حديثٌ صحيحٌ.، فلا بد لنا من المنهج الوقائي.
ومهما عمل الإنسان، حتى لو كانت هناك رعايةٌ إيمانيةٌ للأبناء، أو تزوج الابن فلا بد من الوقاية، وأنا أعرف قصصًا كثيرةً في هذه القضية، ولو صام الشاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فعليه بالصوم فإنه له وِجاء[2]أخرجه البخاري برقم (5065)، ومسلم برقم (1400).، أو تزوج، ولكنه ما زال ينظر إلى ما حرَّم الله ، ويسمع ما حرَّم الله ، وتُستثار غرائزه بنيةٍ مُتأولةٍ، فالنية هنا لا تكفي: ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[3]أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).؛ ولذلك ينبغي أن نأخذ هذا المنهج الوقائي من الكتاب والسُّنَّة ونُطبقه في واقعنا.
ونذكر موقف النبي مع الفضل بن العباس، فقد وضع يده عليه الصلاة والسلام في وجه الفضل بن العباس يمنعه من النظر للنسوة، والنسوة في ذلك الوقت لم يكن كنساء اليوم اللاتي في الأسواق أو الإعلام أو الأفلام، فالنسوة اللاتي في الحج غير ذلك، ومع هذا الرسول وضع يده وغطَّى نظر الفضل، فهل منا مَن يحرص كهذا الحرص؟
ولذلك ينبغي أن نُدرك هذه القضية، ولو كانت ثقيلةً على أنفسنا.
أثر أعداء الإسلام في تربية شبابنا
قرأتُ في كتاب مروان كوجك عن أثر (الفيديو والتليفزيون) على الأسرة المسلمة، وهذا قبل (الستلايت)، وقبل هذه القضايا، وتكلم في آخر فصلٍ من هذا الكتاب عن الأُسَر الغربية المُطالبة بمنع البث (التليفزيوني)، وأنهم لا يرضون أن تكون الشاشات (التليفزيونية) المُلونة وغير المُلونة، وثُلاثية الأبعاد وغيرها وسيلةً لتربية الأبناء، وهم ليسوا مسلمين! فهناك قيمٌ عند بعض أفرادهم تحكمهم، فكيف بقيمنا الإسلامية التي يُخالفها بعضنا بكل وضوحٍ؟!
وكنتُ قد قرأتُ قريبًا -ولا أدري هل هذا الكلام ثابتٌ أم غير ثابتٍ؟- عن صاحب فكرة (ستار أكاديمي)، أنه سُئل: هل حققتم المطلوب؟ قال: نعم، نحن لم نكن نتصور أن نصل إلى ما وصلنا إليه من التأثير في الشباب المسلم. ويقول: لكنه جهد سنوات، أي: لنا سنوات نعمل ونُفكر في أفضل شيءٍ يمكن أن نُقدمه لنستحوذ على مشاعر الشباب المسلم، ونجعلهم ينحرفون؛ خوفًا من أن يعودوا إلى دينهم؛ لأن الشباب هم عِماد الأمة، وفي نفس الوقت عندهم قابليةٌ للاستهواء، فقيل له: هل نجحتم؟ قال: نعم نجحنا. فقيل: وما الدور الإضافي القادم؟ قال: الدور الإضافي القادم أننا نُخطط للفتاة المسلمة الآن.
لم يكفهم ما حقَّقوه، فهم يُخططون، وسيجدون مَن يكون وقودًا لهم من أهل الصلاة وأهل المسجد، وحين يأتي ذلك البرنامج الجديد الذي يُخططون له سيكون بعض المسلمين أول مَن يحرص على أن يعرف تردده في القنوات الفضائية، وربما يشتري (الدش) الخاص بهذا البرنامج إذا كان (الدش) العادي لا يأتي به؛ لكي يُشاهد هذا المنتج الجديد المتعلق بـ(الأكشن تي في) ... إلى آخر تلك الأشياء، للأسف الشديد.
ولذلك تجد بعض الناس يقولون: والله أبناؤنا لا يخشعون في الصلاة، ويُفكرون في قضايا وجوانب ليست مضبوطةً، ولا ندري شيئًا عما يُفكرون فيه، ولا ما يشغل بالهم، وهم عندهم عالم (التويتر) و(الفيس بوك) المفتوح، والشباب والبنات يتكلمون مع بعضٍ في قضايا سيئةٍ بلا حرجٍ، ونحن نعرف أن مَن ابتُلي فعليه أن يستتر، وهذا الشاب جالسٌ في غرفته، ولا يدري أحدٌ عنه شيئًا إلا رب العالمين!
وكان قديمًا مهما يكن عند الشاب من ضعفٍ في علاقته بالله ، ولا يُقدِّر الله حقَّ قدره، إلا أنه مع الناس على الأقل يستحيي، أما الآن فقد أصبح لا يستحيي أبدًا!
وقد ناقشتُ عددًا من هؤلاء -ذكورًا وإِناثًا- عبر وسائل التواصل الاجتماعي في (الفيسبوك) و(التويتر) وغيرهما، فوجدتُ شيئًا مهولًا يُشيب الرأس، وأنا أقول: إن هذا سببه ضعف إشباع الجانب الوجداني والغريزي، وإذا أُشبع هذا الجانب المتعلق بهذه القضية بشكلٍ صحيحٍ فإن الشاب يعيش في هذه الحياة بطريقةٍ سليمةٍ.
وإن قال: أنا ما أقصد! كما قال شخصٌ ناقشته فقلتُ له: إنْ كنتَ ترغب فأعطني رقم جوَّالك وأنا أتصل عليك. وعرفته باسمي وحسابي، فجزاه الله خيرًا أعطاني رقم الجوال، وكان من الأحساء، وتكلمتُ معه، فقلتُ له: كذا وكذا فيما يتعلَّق ببعض الأشياء الموجودة في حسابه، فقال: لِتعلَم أنَّ هناك مَن تطلب مني من الفتيات أن أدخل معها على الخاص وأمتنع. فقلتُ له: بارك الله فيك، هذا ممتازٌ، أنت على الخاص وامتنعت والحمد لله رب العالمين، وأسأل الله أن يُثبتك، طيب، وكلامك العلني الظاهر؟ وذكرتُ له كلامًا لم يستطع أن يُنكره؛ لأنَّه موجودٌ في حسابه، وجاءني في إحدى (الرتويت) وما شابه ذلك، فهي قضيةٌ واضحةٌ جدًّا، فاستحى، وقال: عسى الله أن يتوب علينا. نعم هذا الشاب لا يُريد أن يدخل في دهاليز الزنا، لكنَّه دخل في مُقدمات الزنا.
وأحد الشباب جاءني في الكلية وقال لي: أنا قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في الفاحشة. فقلتُ: كيف؟ قال: لي علاقاتٌ مُحرَّمةٌ -والعياذ بالله- مع بعض النساء، وبعضهن تطلب -والعياذ بالله- أن أُمارس معها الفاحشة، لكني أتأبى. فقلتُ: ما الذي يجعلك تأبى؟ فقال: أتذكر والله أختي، وأقول: أعوذ بالله. فقلتُ: ممتازٌ، رائعٌ جدًّا، أنت فعلت كما فعل النبي مع الشاب لما قال له: أتُحبه لأُمك؟ قال: لا، فداك أبي وأمي. قال: وهكذا الناس لا يُحبونه لأمهاتهم، ثم قال: أتُحبه لأختك؟ وهكذا، ثم قال: لعمتك؟ لخالتك؟[4]أخرجه أحمد، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال مُحققو "المسند": إسناده صحيحٌ.، فهذا شيءٌ ممتازٌ.
طيب، أنا أقول لك شيئًا: أختك الآن مع واحدٍ من الشباب جالسين في الكورنيش، أو يتكلم معها في الهاتف ... إلى آخره، أترضى ذلك؟ قال: لا، لا أرضى. فقلتُ له: لو رأيته ماذا ستفعل معه؟ قال: سأضربه. فقلتُ له: بنفس الكلام والمنطق، أنت قد عافاك الله من الوقوع في الفاحشة، وبنفس هذا المنطق قِ نفسك من الوقوع في مُقدمات هذه الفاحشة، ولا تقل: إن لي شهرًا أو شهرين أو سنةً أو سنتين ولم يحدث شيءٌ من الزنا. فالله يقول: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]؛ لأنه لو كان المقصود هو الزنا لقال: "ولا تزنوا"، بل قال: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى، والعلماء الذين فسَّروا هذه الآية تكلموا عن هذه القضية، وهي مُقدمات الزنا ودواعيه ووسائله؛ ولذلك لا بد أن نقي أنفسنا من الدواعي، فالصورة داعيةٌ، والعلاقة داعيةٌ، والتواصل داعيةٌ من الدواعي، ووسيلةٌ من الوسائل، وكذا الخلوة والاختلاط، فكل هذه من الدواعي.
أحد الناس يقول: بالنسبة لي -الحمد لله- ما حصل شيءٌ. كيف ما حصل شيءٌ؟! ألستَ تنظر إلى ما حرَّم الله، والله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]؟! أليست الآن نفسك تُحدثك بالفاحشة؟!
ولا أظن أن هناك رجلًا أو امرأةً في بيئة اختلاطٍ لا تُحدثه نفسه بذلك، فهو يُغالِط نفسه حينما يقول: لم يخطر في نفسي شيءٌ مما حرَّمه الله ! فقضية الخواطر حتى أتقى الناس وأعبدهم يتعرضون لها، فكيف إذا وُجدت الدواعي؟
لكن هذا القول شيءٌ من تبرير الموقف؛ فعنده وظيفةٌ مُختلطةٌ، ولا يريد أن يضغط على نفسه فيترك هذه الوظيفة! يا أخي، مَن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، وأولاده يحتاجون، فيقول: الشكوى إلى الله، لا أدري ماذا أفعل؟ وما لي إلا هذا العمل.
طيب، حتى لو ما صار شيءٌ سيئٌ فالخلوة في الأساس مُحرَّمةٌ؛ لأن الرسول يقول: لا يخلونَّ أحدكم بامرأةٍ؛ فإن الشيطان ثالثهما[5]أخرجه أحمد برقم (114)، وقال محققو "المسند": إسناده صحيحٌ..
طيب، بالله عليكم هل يمكن للإنسان أن يخلو بامرأةٍ ولا يحصل شيءٌ؟ وهل يمكن أن يصعد رجلٌ مع امرأةٍ في المصعد أو في خلوةٍ معينةٍ ولا يحصل شيءٌ بينهما؟ نعم قد يحصل، وقد لا يحصل، فهل يمكن أن نقول: الخلوة جائزةٌ؟!
فليست القضية مُترتبةً على أن يحصل هذا أو ما يحصل، الله جاء بالمنهج الوقائي حتى لا يحصل الأمر ولو من غيرك، وربما يحصل منك؛ ولذلك جاءت هذه الوقاية من منهجنا الإسلامي حتى تُنظفنا وتُهذبنا وتُزيننا وتضبط هذه الغريزة عند هذا الجيل.
العاطفة عند الشباب
النقطة السادسة: أن المنهج الإسلامي في نظرته إلى مرحلة الشباب من الناحية النفسية والتربوية يُدرك أن هذه المرحلة مرحلةٌ فيها شحنةٌ روحيةٌ عجيبةٌ، شفافةٌ، صافيةٌ، مُشرقةٌ، والدراسات دلَّت على ذلك حتى في قضايا التدين، كما أشرنا إليها سابقًا، بل حتى الدراسات الغربية دلَّت على أن هناك اتجاهًا روحيًّا قويًّا في هذه المرحلة، فتجد الشاب يتأثر بالخير، كما أنه يحصل العكس إذا وُجدت الدواعي السلبية.
فالمنهج الإسلامي يُؤكد على أنَّ تدفق هذه الشحنة الروحية إذا لم تُصرف في الجانب الإيجابي ستتجه إلى الجانب السلبي من خلال العواطف والعلاقات وتفريغ الشحنة العاطفية في أمورٍ غير مُنضبطةٍ.
طيب، ماذا نفعل؟
إذن نأتي هنا إلى قضية التكليف الرباني وربط الإنسان بربه وتقواه، وكذلك حثّ المُربين على رعاية هؤلاء الشباب -ذكورًا وإناثًا- وتفريغ هذه الشحنة الروحية من خلال شعائر العبادة، وأداء النوافل، وقراءة القرآن، والعيش في ظلال هذه المعاني العظيمة المتعلقة باليوم الآخر والوعد والوعيد، واستجاشة المعاني الروحية الإيمانية الدينية، مثل: قضايا الإحسان للفُقراء، ومُساعدة الضعفاء، وكفالة المحتاجين، والتزاور، والالتقاء على أشياء إيمانيةٍ طيبةٍ، فيقرأون في قضايا إيمانيةٍ، ويقرأون في كتاب "علامات الساعة الصغرى والكبرى" للشيخ الدكتور عمر الأشقر -رحمة الله عليه-، وما شابه ذلك.
ويُقدَّم لهم أيضًا نماذج من البطولات الجميلة الرائعة التي ارتفع منسوبها الإيماني، وكيف أصبح لها الأثر على حضارة العالم من خلال قيادتها للجيوش وقوة نُصرتها للدين، وهي في مرحلة الشباب؟
فهذه القضايا ربما لا نلمس أثرها لمسًا ماديًّا، ولكنها قضايا تُشحن في نفوس الشباب -ذكورًا وإناثًا-، ويستلهم الشباب معانيها، فإذا لم تُوجد هذه المعاني والتربية عليها ورعايتها ستتجه طاقة الشباب إلى الجانب الآخر؛ لأنها طاقةٌ روحيةٌ، معنويةٌ، داخليةٌ، تحتاج إلى مَن يُوجهها توجيهًا رائعًا وجميلًا.
المُثل العُليا عند الشباب
النقطة السابعة: أن الشباب -ذكورًا وإناثًا- عندهم نزعةٌ إلى المُثل العُليا، فهم دائمًا يُحبون الجانب المثالي، فتجد الشاب مثاليًّا دائمًا، وربما لا تتوازن الواقعية عنده مع المثالية، أو تتقارب معها؛ وهذا لأن هذه المرحلة مرحلة مُثُلٍ وطموحٍ كبيرٍ وطاقةٍ، وقد تكلَّمنا عن ذلك في الحديث عن حاجات الشباب وخصائص هذه المرحلة.
وهذه المُثُل إذا ما وُظِّفت توظيفًا واقعيًّا ستكون في الخيال، وسيسرح الشاب في أحلام اليقظة، ويسبح في هذا المجال، فأفضل شيءٍ نفعله أننا نجعله في بيئةٍ واقعيةٍ من العبادة والذكر، والرحلات واللقاءات -كما ذكرنا- والدراسات والبحوث، والأعمال الخيرية، والأعمال التطوعية، ... إلى آخره، فهذا يجعله يجد للروح المثالية جانبًا واقعيًّا يُلامسه، وعندئذٍ -كما قلنا سابقًا- يكون مشغولًا ويستغل أوقات فراغه.
فالمُثل العليا التي لدى الشاب في هذه المرحلة إذا لم تتحول إلى حقيقةٍ واقعيةٍ أصبحت مجرد أحلامٍ وخيالاتٍ، فيعيش خياليًّا، وهذا يُفسِّر دخول الشاب بأسماء وشخصياتٍ خياليةٍ، ويتقمص صورة بنتٍ وشخصيتها، والبنت تتقمص شخصية شابٍّ، حتى يدخل هذا عالم تلك، وهذه عالم ذاك، وهكذا، ويعيش عالم الخيال الواسع بسبب أن هذه القضية ضاربةٌ في شخصيته، وكلما شغلناه في الواقعية انخفض عنده منسوب المثالية، حتى يصل بعد ذلك إلى شيءٍ من الاتزان بين المثالية والواقعية.
الزواج المبكر
النقطة الثامنة: أن المنهج الإسلامي دعا إلى الزواج والتَّبكير به، وهذه القضية لا شك أنَّ لها صلةً بموضوع غريزة الشباب -ذكورًا وإِناثًا-؛ ولذلك ينبغي على المجتمعات والأُسر أن تُراعي هذه القضية، وألَّا تربطها بالقضايا المادية أو العُرفية التي ربما تتزاحم وتتعارض، خاصةً مع بعض العينات من الشباب، وتجعلهم يُصارعون مُصارعةً شديدةً جدًّا، والذي يُفكر في الزواج أكثر هم الذكور؛ لأن الإناث مطلوباتٌ، يعني: يُؤتى إليهن، لكن أيضًا بعض الآباء -للأسف- يُصبح حجر عثرةٍ في زواج بناته، فيُقال: ما زالت صغيرةً، وما شابه ذلك، وهي قد بلغت وأصبحت في سن الشباب، فيكون حجر عثرةٍ.
فالمقصود تهيئة الظروف فيما يتعلَّق بالزواج المُبكر قدر المُستطاع، ونحن لا نُنكر الواقعية في ذلك، لكن أيضًا نعترض على أي شيءٍ يُعيق ما يمكن أن يكون واقعيًّا بسبب هوًى فكريٍّ أو وجدانيٍّ عند الأب، أو ما شابه ذلك؛ ولذلك أقول: نعم، النضج مطلوبٌ بلا شكٍّ، وأنا أُوافق على أن يكون المعيار هو النضج التربوي، لكن لا يكون المعيار هو الوظيفة، ولا أن الناس ماذا سيقولون عنا؟ ولا الادعاء بأن الابن لا يريد الزواج، طيب، اسأله يا أخي، فأبناؤنا لا ينطقون.
ويُعجبني الآباء الذين يسألون: هل يُفكِّر الابن في الزواج أم لا؟ وأعرف آباءً يقومون بهذا الدور.
فعلى الكبار أن يضعوا أنفسهم في محل هؤلاء الشباب: كيف كانوا في هذا الوقت؟ فقد يكون ابنك أشد منك حاجةً إلى الزواج لما كنت مثله؛ لأن الجانب الفسيولوجي يختلف، والمُثيرات التي لم تكن موجودةً من قبل تختلف عما هي عليه اليوم، فقد يحصل تأخرٌ في الزواج حتى يُصبح متوسط عمر الزواج عندنا تقريبًا ثمانيةً وعشرين عامًا، أو شيء من هذا القبيل، فينبغي أن يكون قبل هذا، وكلما نزل سنُّ الزواج كان أفضل، خاصةً عند الذكور.
ثم إن الله سبحانه قد تكفل بالرزق: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].
وقد كنا في لقاءٍ مع طلاب الجامعة قبل أربعة أيامٍ، وسأل أحد الشباب عن الزواج، فقلتُ له: يُجيبك فلان، وهو طالبٌ من طلاب الجامعة تزوج منذ أربعة أشهر، وكنتُ قد سألتُه: ما تقول في الزواج وأنت طالبٌ جامعيٌّ؟ فقال: والله أنا أنصح به، وقد انفتحت لي أبوابٌ من رب العالمين. فقلتُ لهم: إجابة زميلكم هذه تُذكرني بإجابة طالبٍ في المرحلة الجامعية كان زميلًا لنا قبل خمسٍ وعشرين سنةً، وكانت نفس الإجابة، وهذا هو وعد الله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه، وهذا كما جاء في الحديث: ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم، وذكر منهم: والناكح الذي يريد العفاف[6]أخرجه الترمذي في "سننه" برقم (1655)، والنسائي في "السنن الكبرى" برقم (4995)، وحسنه الألباني.، فهذا حقٌّ على الله عونه.
فإذا وعدك شخصٌ صادقٌ تثق فيه فإنك تجزم بتحقق وعده، طيب، وإذا وعدك رب العالمين؟ فالوعد حقٌّ مُتحققٌ.
فهذه قضيةٌ لا بد أن نضعها في بالنا عند رعايتنا للشباب، وكذلك أيضًا الشباب أنفسهم لا بد أن يضعوا هذه القضية في بالهم؛ ولذلك أنا من الذين يدعون للزواج المبكر، لكن هذا ليس معناه أنَّ أي واحدٍ يُزوَّج، وإنما لا بد من النضج التربوي الذي نصل إليه مع شبابنا -ذكورًا وإِناثًا- من خلال تربيتنا لهم، فإذا تمَّت هذه القضايا ...، ونحن السبب وليس هم، وعندئذٍ نحن نتحمل هذه المسؤولية، فعندما يكون ناضجًا هو الذي يتحمل المسؤولية، والله قد حمَّله مسؤولية: الصلاة، والزكاة، والصيام، وحمَّله تكاليف الشرع، فإذا بلغ الولد ولو لأقل من 15 سنة، وبلغت البنت لأقل من ذلك، صار كل واحدٍ منهما ناضجًا.
طيب، لماذا لا نُحمله المسؤولية؟
وقد سبق أن تكلَّمنا عن هذه القضية، فتحميله المسؤولية وسيلةٌ من وسائل النضوج، فلا بد أن نضع هذا في بالنا في آليتنا في التعامل مع هذا الموضوع خاصةً، وهو ما يتعلَّق بالزواج، فإذا حصل الزواج فالحمد الله؛ لأنَّ الرسول يقول: يا معشر الشباب، مَن استطاع ...[7]أخرجه البخاري برقم (5066)، ومسلم برقم (1400).، فربَطها بالاستطاعة، وهناك أناسٌ يستطيعون لكن البيئة لا تُساعدهم، فهم يتمنون الزواج.
وقد حدثني أكثر من شابٍّ قائلًا: أنا أتمنى الزواج لكن الوالد لا يرضى، أنا أتمنى لكن فوقي اثنين أو ثلاثة من إخواني، وأنا أتمنى أن أتزوج الآن.
وأنا لا أُحب أن أتحدث عن نفسي، لكني تزوجتُ قبل إخوتي كلهم، وأنا أصغرهم، فكل إخواني الكبار تزوجوا بعدي.
لكن لا بد أن يكون هناك نُضجٌ أُسريٌّ وتربويٌّ حتى تكون القضية واضحةً، أما أخذها بالسنِّ وكأنها بطاقةٌ تُصرف، وآليةٌ معينةٌ!
فهذه يا جماعة قضايا نفسيةٌ وعضويةٌ وفسيولوجيةٌ، ولا بد أن نُدركها ونضعها في الحسبان، فقضايا الغريزة قضايا ضاغطةٌ، فينبغي أنْ نُدرك هذا التوجيه النبوي: يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنَّه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء.
فإذا لم يحصل الزواج لسببٍ أو لآخر مع هذه الاستطاعة فهو تقصيرٌ لا نُوافق عليه، فإذا كان لا يُناسب الآن الزواج فلا إشكالية في أن يتزوج بعد فترةٍ مثلًا، وفي كلا الأمرين إذا لم يحصل الزواج جاء المنهج القرآني الرباني: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، وليس معنى "يستعفف" أن يقول فقط: الله يرزقني. وإنما هناك منهجٌ في العِفَّة، وهو كل ما ذكرناه سابقًا: من غضِّ البصر، وعدم الاختلاط، وتجنب كل ما يُثير الغريزة سلبًا.
التخلية والتحلية
النقطة التاسعة: منهج التخلية والتحلية فيما يتعلَّق بقضية الغريزة عند الشباب، فكل واحدٍ منا يمكن أن يشرب شيئًا بالنسبة له من أمتع ما يكون مذاقًا، ولكنه قد يأبى أن يشربه ولا يُريده؛ لأنه قد صُبَّ في كأسٍ مُتَّسخٍ مثلًا، مع أنه من ألذِّ ما يكون، لكن لماذا لا نشربه؟ لأنه بعدما وُضِع في الكأس المُتَّسخ صار مُتلوثًا لا تقبله النفس.
هذا ما يتعلَّق بمنهج التخلية والتحلية، والله يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256]، فبدأ بالكفر بالطاغوت، وهذه التخلية، فأنت لا بد ابتداءً أن تكفر بالطاغوت، وتبتعد عن الشرك، فهذا الغسيل والشيء المذموم الذي ينبغي أن نُصفِّي أنفسنا منه هو التخلية، مثل: الكأس الوسخ، نظِّفه أولًا قبل أن تضع فيه الماء.
ثم قال: وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ؛ لأنك لو قرأتَ عن الإيمان بالله، وأحببتَ أن تُؤمن بالله، ولكن ما آمنتَ، لا ينفعك ذلك، ونفس الكلام لو وضعتَ الماء العذب الزُّلال في الكأس المُتَّسخ لن يشربه أحدٌ وهو مُتَّسخٌ، فنَظِّف الكأس والإناء أولًا ثم بعد ذلك اشرب.
فمنهج التخلية والتحلية في قضية الغريزة من أروع ما يكون، مثلما ذكرنا في الوقاية، وهناك قاعدةٌ تربويةٌ متعلقةٌ بالتخلية والتحلية ذكرها الفقهاء والمُربون وغيرهم، وهي من أجمل القواعد في هذا الموضوع وغيره من موضوعات التعامل، يعني: يأتيك واحدٌ مُتزوجٌ، ومع ذلك ما زالت له علاقاتٌ مُحرَّمةٌ، أو واحدةٌ مُتزوجةٌ وما زالت لها -والعياذ بالله- علاقاتٌ مُحرَّمةٌ، أو ما شابه ذلك، فما تفسير هذه القضية؟!
تفسيرها أن الزواج الشرعي الذي حصل هو من التحلية، لكن لم يكن في بيئةٍ نظيفةٍ؛ لأنه ما زالت هناك أمورٌ لم تُبعد وتُخلَّى؛ فلوَّثت هذا الشيء الجميل الذي هو عقدٌ شرعيٌّ مُحترمٌ ومُباركٌ، لكن لوَّثته لأنه ما زال ينظر للحرام، والوسائل التي حرَّمها الله موجودةٌ.
وهناك قصصٌ ما أريد أن أُزعجكم بها، لكن كثيرًا ما تأتيني في الاستشارات أشياء مُفزعة، مثل: رجل يُلزِم زوجته بالنظر للأشياء الإباحية، ثم يقول لزوجته: أنتِ لستِ مثل فلانة! أُريدك أن تكوني مثل فلانة.
طيب، هذا الذي أعطاها الله ! فلما نظر إلى الحرام ارتبطت هذه الصور والمشاهد بنفسه، وعندئذٍ بدأ يعقد مُقارناتٍ، فلو كان عندنا منهج الوقاية والتخلية ما صارت هذه القضية؛ ولذلك الله يُعوض الإنسان الذي يغُضّ بصره بنورٍ في القلب، فسبحان الله!
فلا بد من مُجاهدة النفس على غضِّ البصر كما أمرنا الله : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31]، حتى المرأة تنظر -والعياذ بالله- وتُطلق نظرها، حتى تتمنى زوجًا غير زوجها، سبحان الله!
يا جماعة، الله ما حرَّم شيئًا وما منعنا من شيءٍ إلا وفيه خيرٌ لنا؛ من الاستقرار النفسي والمجتمعي والأُسري، وحتى يكون المجتمع مُنتجًا، لكن المشكلة فينا نحن، وفي ضعفنا:
نعيب زماننا والعيبُ فينا | وما لزماننا عيبٌ سوانا[8]"ديوان الإمام الشافعي" (ص106). |
فالمشكلة فينا في ضعف الإرادة، والله ابتلانا وخلقنا من أجل هذه القضية، وهذه ليست قضيةً خاصةً بالمُطاوعة مثلًا، أو خاصةً بفئةٍ معينةٍ يُطلب منهم أن يغضوا بصرهم، والبقية ليسوا كذلك، فالله جعل هذا اختبارًا، مثل: هذا نجح في قيادة السيارة، وهذا ما نجح، وهي قضايا دنيوية، حتى الذي وفَّقه الله لغض البصر وفاز بهذا الاختبار عنده قضايا أخرى ربما لم يفز فيها، فهي ابتلاءاتٌ موجودةٌ في الحياة.
ومن أوجه التخلية: غض البصر، وترك سماع الأغاني، وكما قال العلماء السابقون من علماء السلف: "الغناء بريد الزنا"[9]"الجواب الكافي لمَن سأل عن الدواء الشافي"، ط. العلمية، (ص33).، لماذا قيل: بريد الزنا؟
سألتُ عددًا من الشباب الذين يسمعون الغناء، فقلتُ لأحدهم: لما تسمع هذه الأغاني ماذا يحصل؟ قال: تريد الصدق؟ قلتُ: أي نعم. قال: تحصل أشواقٌ وعلاقاتٌ وتأجيجٌ، ... إلى آخره، سبحان الله!
فالغناء بريد الزنا، وكذا النظر، فالعين تزني وزناها النظر، وضغطة الزر في موقعٍ معينٍ، أو الذهاب إلى حسابٍ معينٍ في (تويتر) و(فيس بوك) و(استجرام) ... إلى آخر ما حرَّمه الله.
فهذا كله من التخلية التي لو لم يفعلها الإنسان لوقع في الحرام، فلا بد من اجتناب أي شيءٍ يُؤثر في الغريزة ويُؤججها بما لا يرضاه الله، هذا هو مبدأ التخلية.
وأعجبني شابٌّ من الشباب، كنا في برنامجٍ معينٍ، فألقيتُ إلى مجموعةٍ من الشباب توجيهًا قبل هذا البرنامج، وقلتُ: أنتم تذهبون يا شباب إلى الأسواق، فمَن يرى أنه لا يملك نفسه عن النظر الحرام فليتَّقِ الله ولا يذهب، وفي الأساس يجب عليك أن تغضَّ البصر.
فجاءني أحد الشباب -ولا أنسى هذا الموقف- وقال لي: والله أنا لا أملك نفسي. فقلت: أنت بطلٌ؛ لأنك عرفتَ قدر نفسك.
فما بالك بشابٍّ يذهب به أهله إلى الأسواق في وقت الذّروة، والأسواق بعضها فاسدةٌ؟!
فلا بد أن تُراعى هذه القضايا، وكذا القنوات والتعامل مع التقنية، والوظائف المُختلطة، وما شابه ذلك.
أذكر دكتورًا معنا في الجامعة يقول: جاءني أحد الأشخاص -وأظنه قال: جارٌ أو كذا- فقال لي: ولده وقع في الزنا مع الشغالة، والعياذ بالله.
انظر الآن: هل التخلية موجودةٌ أو غير موجودةٍ؟
غير موجودةٍ، فما الذي حصل؟
الذي حصل أن الشغالة تدخل على الشاب، وتقف أمامه، والشاب ينظر إليها، هذه واحدةٌ، فهل هذا يجوز أو لا يجوز؟
شرعًا لا يجوز، فلما أطلق بصره ما صارت هناك تخليةٌ.
وأخبرني بعض الشباب أن الشغالة -والعياذ بالله- تدعوه إلى أن يزني بها، وهو وهي في البيت فقط، والأب والأم في العمل، أو مُسافران.
وأذكر أن أحد الشباب قال لي: أنا الآن في البيت وحدي، وأُسرتي في الأحساء، والآن الشغالة تُراودني عن نفسي، ماذا أفعل؟
فهذه القضايا إذا لم نُرشد الجيل والشباب إلى الحذر منها بطريقة التخلية ستُصبح مشكلةً كبيرةً جدًّا.
المقصود أن هذا الأب يقول: وقع ابنه -والعياذ بالله- في الحرام، ورأيته بعد ذلك ونصحته، وقلتُ له: ابحث لابنك عن عملٍ أو وظيفةٍ يا أخي.
المشكلة أنه أتاني بعد ذلك وقال لي: أُبشرك، الحمد لله حصلتُ على وظيفةٍ لابني. فقلتُ له: أين؟ قال: في المُستشفيات!
اتَّقِ الله ، شغالةٌ واحدةٌ في البيت ولم يقدر أن يُمسك نفسه، والآن أمامه من الأصناف والعروض الكثير!
فانظر إلى طريقة التفكير المُعْوَجَّة الموجودة في أُسرنا، ومثل هذه الأساليب في اختيار الوظيفة، ويرى أنه حلَّ مشكلةً! فهذه مشكلة الغفلة.
وما ذكرناه أيضًا في قضية التعامل بسطحيةٍ وسذاجةٍ وغفلةٍ مع القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية، وما شابه ذلك، فإذا لم نسلك مسلك التخلية، حتى لو أتينا بالتحلية وزوَّجناه، وحتى لو وُفِّق لبعض العبادات، ستظل المشكلة موجودةً.
ومن التحلية: الزواج، والعفة، والصوم، والعبادة، وإشغال وقت الفراغ، والرياضة، وقد ثبت أن الرياضة تحرق الطاقة داخل الإنسان، وهذه تُساعد في خفض منسوب الغريزة؛ ولذلك هذه من مصالح الرياضة الإيجابية.
على أية حالٍ الوقت انتهى الآن بالضبط، وقد نذكر في اللقاء القادم قصة يوسف، ونقف عندها، وقصة الشاب الذي استأذن النبي في الزنا، مع شيءٍ من الإحصاءات، وقد نبدأ في موضوعٍ آخر، بإذن الله .
أسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يحفظنا وإياكم بحفظه، ويرعانا برعايته.
والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | أخرجه أحمد برقم (8356)، وقال مُحققو "المسند": حديثٌ صحيحٌ. |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري برقم (5065)، ومسلم برقم (1400). |
↑3 | أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599). |
↑4 | أخرجه أحمد، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال مُحققو "المسند": إسناده صحيحٌ. |
↑5 | أخرجه أحمد برقم (114)، وقال محققو "المسند": إسناده صحيحٌ. |
↑6 | أخرجه الترمذي في "سننه" برقم (1655)، والنسائي في "السنن الكبرى" برقم (4995)، وحسنه الألباني. |
↑7 | أخرجه البخاري برقم (5066)، ومسلم برقم (1400). |
↑8 | "ديوان الإمام الشافعي" (ص106). |
↑9 | "الجواب الكافي لمَن سأل عن الدواء الشافي"، ط. العلمية، (ص33). |