المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا وتوفيقًا وسدادًا، وأصلح أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
هذا هو اللقاء الحادي عشر من المجموعة الثانية، ويكون اللقاء الثالث والعشرين من أصل بداية هذه الدروس من العام الماضي -بتوفيق الله- في التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسُّنَّة.
وهذا هو الجزء السابع من تربية الشباب وإرشادهم، وسيكون معنا -إن شاء الله- في الأسبوع القادم الجزء الثامن فيما يتعلق بتربية الشباب وإرشادهم، وسنتوقف لأجل الاختبارات، ثم بعد العودة -إن شاء الله- للدراسة نعود معكم على خيرٍ وبركةٍ إذا كتب الله لنا عمرًا.
وعدناكم بأنَّ الحديث الليلة سيكون فيما يتعلق بتربية الشباب وإرشادهم، مع تقديم منظومةٍ متعلقةٍ بحاجات الشباب، وكنا قد أشرنا إلى بعض هذه الحاجات، خاصةً فيما يتعلق بالمنهج الإسلامي، يعني: ما الأمور التي يحتاجها الذين يتعاملون مع الشباب -ذكورًا وإناثًا، شبابًا وفتياتٍ- في الأُسَر والمدارس وغيرها؟ وما الأمور التي ينبغي أن يضعوها في بالهم؟
سنتكلَّم اليوم عن هذه المنظومة المتعلقة بهذه الحاجات، ونعود ونُكرِّر: إذا تحققت هذه الحاجات حصل الاستقرار عند الشباب -ذكورًا وإناثًا-، وإذا ما تحققت هذه الحاجات حصل الاضطراب والمشكلات.
حاجة الشباب إلى العبادة والتدين
أولى الحاجات في هذه المنظومة المُتعلِّقة بحاجات الشباب، والتي ينبغي أنْ نُراعيها أثناء توجيهنا لهم وإرشادهم وتربيتهم: الحاجة إلى العبادة والتدين.
فهذه أولى الحاجات، وهذه القضية لا يذكرها إلَّا أصحابُ المنهج الإسلامي، وإنْ كان الغربيون الآن في الفترات الأخيرة بدأ بعضهم يطرق هذا الأمر، وهناك دراساتٌ موجودةٌ في الغرب أثبتت أنَّ هناك اتجاهًا قويًّا للتدين، خاصةً في مرحلة الشباب، فهناك بعض الدراسات الغربية تُؤكد هذه القضية.
ونحن في المنهج الإسلامي القضية لدينا واضحةٌ جدًّا، والسبب في ذلك أن الحكمة من أصل خلقنا كما قال الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فإذا انفكَّ الشباب من قضية العبادة، ولم نُراعها في أُسرنا وتعليمنا وأحيائنا؛ لا خيرَ فينا حقيقةً، ولا خيرَ في شبابنا، ذكورًا وإناثًا.
ولذلك ينبغي أن نكون صُرحاء مع أنفسنا: هل هذه الحاجة فعلًا تمَّت تلبيتها بطريقةٍ صحيحةٍ؟ وهل هي مُدْرَكةٌ أصلًا؟ وهل هذه القضية موضوعةٌ ضمن أولوياتنا في تربية الشباب وإرشادهم، أم أنَّ قضيتنا هي القضية المادية فقط؟ وكيف يحصل على مهنةٍ أو وظيفةٍ أو أموالٍ؟ وكيف يُرَفِّه عن نفسه، ويُحقق ما لديه، أو يستجيب لتوجيهاتي كأبٍ؟ لكن ماذا عمَّا يتعلق بعلاقته بالله؟ وهو المُرتبط بالجانب العبادي والتديني.
هناك دراسةٌ قمتُ بها -بحمد الله- في (الماجستير) عن هذه المرحلة وإشباع الحاجات النفسية بالتديُّن، والقضية واضحةٌ، ولا نحتاج أن نأتي بالدراسات لنُثبت هذه القضية، لكن من الناحية العلمية وبحكم التخصص قمنا بهذه الدراسة.
فنحن بأمس الحاجة إلى أنْ نُشبع هذا الجانب، وإيانا أنْ نكون عقبةً أمام الشباب -ذكورًا وإناثًا- في تحقيق هذه الحاجة، وهي الحاجة للتدين والعبادة.
وفهم العبادة مهمٌّ جدًّا على الصورة التي ذكرها العلماء، وهي أنها: "اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"[1]"العبودية" لابن تيمية (ص44).، وتشمل حتى شُرب الإنسان للماء، وأكله، وأنْ يأتي الرجلُ زوجَه حينما يتزوج فيكون هذا عبادةً، فكيف بصلاته وصيامه وصدقته؟
هذه المعاني أرجو -إن شاء الله- أن يكون هناك أُناسٌ ما أخرجهم الإعلام والواقع عن أنهم يُمارسون هذه القضية في بيوتهم، ونُدرك أنَّ هناك أناسًا كذلك، لكن هل هي سمةٌ في المجتمع؟ وهل هي قضيةٌ أساسيةٌ؟
هذه حاجةٌ من أهم الحاجات في منظومة حاجات الشباب، ولا بد أنْ نُدرك حاجتهم إلى الجانب الإيماني والعبادي والتديني، وأنْ نُعينهم على تلبية هذه الحاجة وإشباعها؛ حتى لا يحصل لديهم إشكالٌ كما سيرد في بعض الأسئلة.
وقد أثبتت دراساتٌ أنه كلما زاد مستوى الإيمان قلَّ مستوى القلق والاضطراب النفسي، وهذا الكلام أيضًا لا نحتاج فيه إلى دراساتٍ، فالله يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، هي السعادة والراحة والطمأنينة التي ينشدها كلُّ إنسانٍ بشريٍّ في هذه الحياة، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، ويقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126]؛ ولذلك أصبح اليوم مرضُ القلق هو رقم واحدٍ في الأمراض النفسية على مستوى العالم، والسبب في ذلك هو: عدم تلبيتنا لهذه الحاجة.
وليست قضية العبادة هي الصلاة فقط، فالصلاة مَعْلَمٌ رئيسٌ، لكن قضية العبادة بالمفهوم الشرعي، لا المفهوم الذوقي، المفهوم الشرعي الذي يُريده الذي خلقنا، لا المفهوم الذوقي الذي لي فيه رأيٌ، وغيري له فيه رأيٌ، وأنا أرى أنَّ هذه هي العبادة، وغيري يرى غير ذلك.
فهذه القضايا تدخلها لخبطةٌ وتوجهاتٌ وأفكارٌ مختلفةٌ، ويأتي واحدٌ فيقول: الحمد لله، أموري ممتازةٌ، والحمد لله، ما دمتُ أُصلي انتهى الأمر.
طيب، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلماذا صلاتك ما نَهَتْك عن الفحشاء والمنكر؟ سؤالٌ كبيرٌ، ولماذا لم نسأل أنفسنا هذا السؤال؟
نعم هو يُصلي، وأحسن ممن لا يُصلي، لكن لماذا لم تَنْهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! لماذا الفحشاء والمنكر موجودةٌ في البيوت، وقنوات الدعارة تُبث عبر شاشات بعض بيوتنا؟! وبعض هؤلاء يُصلون في المساجد.
حدثني أحد الأشخاص بعد درسٍ من الدروس في الأسابيع الماضية، يقول: بنتٌ صغيرةٌ في المرحلة الابتدائية، وقد رُبِّيت على الخير والحوار، فمن فوائد التربية على ذلك: أنَّها جاءت وتحدَّثت مع أُمِّها، وقالت: فلانة -وهي قريبتها وصغيرةٌ مثلها في المرحلة الابتدائية- تقول: سأفعل كذا وكذا لفلانٍ! فماذا تتوقعون أنها قالت؟
أنا أُنَزِّه هذا المكان وهذا المجلس وهذه الوجوه الطيبة من أنْ أقول هذه اللفظة والعبارة، يعني: أنها ستُزيل ملابسها الداخلية حتى تفتن فلانًا!
هذا وهي طفلةٌ في المرحلة الابتدائية، يعني: معذورةً عند رب العالمين، لكن من أين جاءت بهذا الكلام؟!
فهذه لقطةٌ واحدةٌ، واللقطات المُتكررة اليومية كثيرةٌ، وما خفي أعظم، فكيف سيكون الحال؟!
يعني: الطفلة تصل إلى هذا المستوى من الجراءة والدَّعارة! فما الذي طبَّعها بهذا؟!
ومع ذلك نقول: نحن في خيرٍ، وتجد الأب يُصلي في المسجد -جزاه الله خيرًا، وبيَّض الله وجهه-، لكن لماذا لم تنهه عن الفحشاء والمُنكر؟! ولماذا لم تكن الصلاة مُعينةً له على تربية أبنائه بالطريقة السليمة؟!
أحد الفضلاء رأى أيضًا طفلةً صغيرةً تقول لطفلٍ صغيرٍ: افعل لهذا الشخص هذه الحركة. يعني: حركة التقبيل من بعيدٍ بيده، مثل فلان، مع أنَّ هذه الطفلة وهذا الطفل من بيئةٍ مُحافظةٍ.
يقول: فلما بحثتُ وسألتُ وجدتُ أن (الدش) دخل عندهم منذ وقتٍ قصيرٍ في فترة أحداث سوريا -نسأل الله أن ينصر إخواننا- فأتى الأب بـ(الدش) من أجل أن يُتابع أخبار سوريا، فكان هذا جزءًا من ضريبة ذلك، وهو أنَّ الأبناء بدأوا يُشاهدون بعض الأفلام والمسلسلات، ومنها هذا المسلسل الذي فيه هذه اللَّقطة لاسم هذا الممثل الذي ركب في عقل هذه البنت الصغيرة، وتقول لأخيها الأصغر منها: افعل هذه الحركة التي يفعلها فلان، قَبِّله بهذه الطريقة من بعيدٍ كما يفعل فلان.
يقول: فلما سألتُ وجدتُ أنَّه ممثل أحد المسلسلات التركية سيئة الذكر، وهذا عند الأطفال، فكيف بالذين هم في مرحلة الشباب؟!
مفهوم العبادة في الإسلام
ربطتُ القضية بالعبادة؛ لأنَّ العبادة مفهومٌ واسعٌ، ومهمٌّ جدًّا أن نُدركه ونُربي الأجيال عليه، وإذا ما أدركناه صارت عندنا إشكاليةٌ، يعني: مَن قرأ يوم الجمعة، أو من فترةٍ لفترةٍ خلاص، انتهت العبادة! العبادة ليست كذلك، الله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فمفهوم العبادة مفهومٌ يستوعب المكان والزمان والحال.
أمَّا العبادة عند النصارى فهي في يوم الأحد، وعند اليهود يوم السبت فقط، وليس كذلك عند المسلمين، فالعلاقة بالله حاجةٌ ماسَّةٌ ومُستمرةٌ للشباب، ذكورًا وإناثًا.
حاجة الشباب إلى الزواج والعِفَّة
القضية الثانية: هي حاجة الشباب للزواج والعفة، وهي مُرتبطةٌ بقضية الغريزة الجنسية، فلا بد أنْ يعرفوا حقائق عن هذه القضية، ويُدركوها، ولا بد أن يعلموا هذه القضايا بطريقةٍ مُنضبطةٍ وصحيحةٍ، وليست مثل الثقافة التي يُسمّونها: الثقافة الجنسية الإعلامية المفتوحة اليوم، حتى أصبح البعض يقول: "دعه يرى حتى يتعلم"! يرى الحرام حتى يتعلم، والعياذ بالله!
هنا يأتي الدور من خلال التربية المُنضبطة على الغريزة الجنسية من خلال الزواج إنْ تيسر، وإلا فمنهج العِفة والاستعفاف كما قال الله : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]؛ ولذلك فإن التعود على الصوم يضبط القضية الجنسية، كما قال النبي : فمَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجَاء[2]أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).، فأين هذا المنهج اليوم في بيوتنا وأُسرنا؟
أعرف أسرةً من الأُسَر اطلعتُ على وضعها قريبًا لحالةٍ معينةٍ: الفتيات في سنِّ الشباب بَدَأْنَ يتعوَّدْنَ على الصيام؛ لأنَّ الأب والأم يصومان كل اثنين وخميس، فتعوَّدوا على ذلك تأثرًا بصيام الوالدين.
فبعد فترةٍ لما رأوا هذه القدوة أمامهم تصوم بشكلٍ مُستمرٍّ؛ تربوا على الصيام من خلال القدوة، وضُبطت عندهم قضية الحاجة إلى إشباع الغريزة الجنسية والزواج والعِفَّة؛ فتُصبح القضية نموذجًا رائعًا جدًّا، فالأب يُعلِّم الابن، والأم تُعلِّم البنت قبل أنْ يحصل البلوغ.
فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ولا بد من التهيئة لها بطريقةٍ حكيمةٍ من خلال العلاقة السليمة، وإلا ستحصل إشكاليةٌ من الناحية الشرعية؛ فتبلغ البنتُ وكذا الولد ولا يعرفان ماذا يفعلان؟ ويقعان في الإشكالات المُتعلقة بالجوانب الشرعية، فيستحي أن يسأل أباه، أو أن تسأل أمها، ويبدآن في البحث عن طريق (الإنترنت)!
وقد اطلعتُ على بعض القضايا السيئة المتعلقة بمثل هذه الأسئلة، واليوم أصبح عالَم الفضاء وعالَم (الإنترنت) مفتوحًا لكل شيءٍ، وأصبح أي واحدٍ تأتي في ذهنه قضيةٌ ما يقول: ما أحد يعرفني، أنا سأدخل باسمٍ مُستعارٍ، وأسأل في هذا الفضاء. ثم خذ الإجابات، فكلٌّ يُفتي له في هذه القضية.
إذن نحن إذا لم نُربهم تربيةً مُنضبطةً فيما يتعلق بإشباع هذا الجانب من خلال إِعطاء حقائق مُنضبطةٍ ستكون هناك إشكاليةٌ، والشاب -ذكرًا أو أنثى- إنْ وصل لمرحلة البلوغ يبدأ مزاجه يتغير، ولا بد أن يُعلَّم أنَّ هذا أمرٌ طبيعيٌّ، بالعكس؛ أنتِ ستكونين أُمًّا، وأنتَ ستكون رجلًا، والله قد كلَّفك بتكاليف ما كلَّف بها أحدًا، وهذا يدل على قوة المرحلة التي أنت فيها.
الحاجة إلى المعرفة
الحاجة الثالثة -والتي إذا لم تتوفر ستُصبح مشكلةٌ- هي المُتعلقة بالجانب المعرفي والثقافي والفكري، فالشباب يحتاجون -ذكورًا وإناثًا- إلى إشباع هذا الجانب، خاصةً ما يتعلَّق بقضية الصراعات المفتوحة التي أصبحت جزءًا من عالم التقنية والإعلام الجديد اليوم، فلا بد أنْ تكون هناك ركيزةٌ ثقافيةٌ ومعرفيةٌ وفكريةٌ، ولا نكتفي فقط بالمدارس وما يتعلمون فيها، مناهجنا ممتازةٌ ورائعةٌ، لكن المُخرجات فيها مشكلةٌ، وهناك أسبابٌ لذلك.
ومن أكبر الأسباب في هذه القضية: أنَّ الطلاب يدرسون من أجل النجاح، والمعلمين لا يقومون بالدور التأثيري الإرشادي الحقيقي لمثل هذه المراحل؛ وعندئذٍ هذه المناهج الجميلة التي فيها شيءٌ سهلٌ مخزونٌ لا يُقْتصَر عليها، فلا بد من برنامجٍ أسريٍّ، وبرامج في الأحياء؛ لجعل وعيٍ ثقافيٍّ وفكريٍّ ومعرفيٍّ عند الشباب -ذكورًا وإناثًا- يحميهم من الشبهات: فمَن اتَّقى الشُّبهات ...[3]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، فكيف يتَّقي الشبهات وهو غير عارفٍ للصواب؟! وكيف يعرف الطالبُ الصواب إذا ما عُلِّم هذه القضية؟!
فلا بد أن يُعلَّموا الصواب من خلال مسابقاتٍ وقراءاتٍ، ولماذا أصبحت القراءة عند شبابنا مثل النِّد؟!
عندنا في الجامعة أنشأ شبابٌ ناديًا اسمه: "نادي القُراء" (Readers Club)، واستقطبوا طاقاتٍ، فالشباب عندهم طاقاتٌ، يريدون فقط بيئةً مُشجِّعةً، فأنت حين تُعطيه بيئةً مُنافسةً تتحرك لديه الطاقات.
يقول أحد الآباء: ما كنتُ أتوقع أنَّ أحد أبنائي -لما سوَّى اختبارًا فيما يتعلق بأنماط الشخصية- عنده قُدرةٌ بحثيةٌ جيدةٌ. يقول: وأنا أراه لا يقرأ! هو لا يقرأ لأنه ليس عنده مُثيرٌ، ويجب على الأب أن يُوجد هذا المُثير، فلم يجد الطفلُ أباه يقرأ، ولم يعمل له مُسابقاتٍ أو برامج؛ هذه هي المشكلة؛ ولذلك يحتاج الأطفال إلى بيئةٍ تُشجعهم على تلبية هذه الحاجات، وحينما يأخذ الطفل الفكر النَّيِّر والصائب والثقافة المُنضبطة تطمئن نفوسهم.
وهناك دراسةٌ قامت بها مجلة الأسرة عن طلاب المرحلة الجامعية -ذكورًا وإناثًا- في السعودية: من الدمام والرياض وجدة، وطبَّقتها على ألف عينةٍ عشوائيةٍ في الدراسات المسحية، وعنونوا النتيجة بعنوانٍ مُثيرٍ: "شبابنا جماجم فارغة"، فهم الآن في المرحلة الجامعية، واختبروهم في الجانب المعرفي والثقافي، ووجدوا أنَّ نتيجتها هَشَّةٌ؛ فقد احتلَّ الفن المركز الأول بـ88%، واحتلت الرياضة المركز الثاني بـ87%، واحتلت البنود الأخرى المُتعلقة بالثقافة الإسلامية والتاريخ آخر القوائم -للأسف الشديد-، وهم في المرحلة الجامعية!
طيب، أين 17 سنة من البناء المعرفي والفكري والثقافي؟!
فهناك أسبابٌ جعلت هذه الدراسة لا أثرَ لها، فنحتاج أن نُعاود النظر فيها مع الشباب إذا لم تكن لديهم الركيزة الثقافية والفكرية، خاصةً في هذا الزمن الذي انتقلنا فيه من الشهوات إلى الشبهات، فالقضية تحتاج إلى زراعةٍ، ولا يوجد أفضل من القراءة، وأن يشعر الإنسان أنه جاهلٌ ويحتاج إلى المزيد، ولا أفضلَ من القدوة والتشجيع والتَّحفيز.
والبرامج أغلبها ترفيهيةٌ، وفنٌّ، ورياضةٌ، لكن اليوم هناك برامج موجودةٌ -حتى عبر الإعلام الجديد- تُغذِّي الجانب المعرفي والثقافي والفكري النَّير الناضج: كقناة المجد العلمية مثلًا، ففيها تُدرس كتبٌ في العقيدة، والفقه، وغيرها.
وهذه القناة لا يكاد بعض الناس في أُسرنا يعرفها، بينما يعرف القنوات الأخرى التي فيها أشياء سيئةٌ، وهناك برنامج للزميل الدكتور: عبدالعزيز الأحمد، صاحب مركز "حلول" للاستشارات النفسية، والقارئ والحافظ لكتاب الله، وله أشرطةٌ في قراءات القرآن، وله برنامج اسمه "رمضان غيَّرني"، وهو قديمٌ، له فترةٌ، وبرنامج "أُسرتي"، وبرنامج "إيجابيون".
وفي أحد البرامج -وأظنه برنامج "أُسرتي"- بلغ عدد الأُسَر التي سجَّلت معه من خلال البرنامج التفاعلي عبر البثِّ الفضائي، ومن خلال (الإنترنت) 12 ألفًا، يدخلون في قياسٍ قبليٍّ، ثم يُتابعون البرنامج، ثم قياسٌ بعديٌّ، وحين تضربها في معدل الأُسَر السعودية -الذي هو أربعةٌ لكل أسرةٍ- تكون النتيجة كم؟ تقريبًا ثمانيةٌ وأربعون ألفًا، أو خمسون ألفًا، فهذا رائعٌ.
وعندنا مجال تدريبٍ عبر التقنية والإعلام الجديد، وهناك جرعاتٌ، وقياسٌ قبليٌّ وبعديٌّ؛ حتى أن الإنسان الذي عنده ضعفٌ في الإيجابية تُصبح عنده قوةٌ في الإيجابية، والذي عنده ضعفٌ في تأثير رمضان عليه تُصبح عنده قوةٌ في تأثير رمضان عليه.
ومن الطبيعي أنَّ الإنسان يتأثر عقلًا وفكرًا ووجدانًا وسلوكًا، والشباب -ذكورًا وإناثًا- عندما يتعرضون لمثل هذه البرامج لا شك أنها تنفعهم وتُفيدهم.
هذا ما يتعلق بتلبية الجانب المعرفي والفكري في زمن المُتغيرات.
الحاجة لتلبية الجانب التربوي والمهني
أيضًا من حاجات الشباب -وهي حاجةٌ مهمةٌ جدًّا- الحاجة إلى تلبية الجانب التربوي والمهني، والمشكلات التي تَرِد عند ضعف تلبية هذه الحاجة تتعلق بالقلق حول مستقبله التخصصي والتربوي، ومستقبله المهني والوظيفي.
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، لا بد أن نُساعدهم ونُوفِّر لهم معلوماتٍ ومجالاتٍ وتخصُّصاتٍ، ولا بد أنْ يُدْرِكوا أنفسهم وميولهم وقُدراتهم من خلال بعض الاختبارات؛ كي يختاروا التخصصات المُناسبة لهم، ويكون الشابُّ في الوظيفة المُناسبة له، خاصةً أن العديد من الناس الآن يشتكون من ضغط أبنائهم -حتى الإناث- في موضوع الابتعاث الخارجي.
وأنا أقول: إن هذه القضية تتطلب وقفةً أُسريةً قويةً، وقد سبق أن تكلَّمتُ عن هذا الموضوع من قبل، وليس الهدف الآن أنْ أتكلَّم عنه، وإنَّما توفير المعلومات، ومُساعدة الشباب، والإرشاد إلى أن يكون هناك دورٌ أُسريٌّ، وكذا في الأحياء؛ كي يخفَّ الضغط عن الآباء والأمهات، فبعد أن يتخرج الشابُّ أو الشابَّة من ثالث ثانوي يُطالبان بالذهاب إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم في ريعان شبابهم، وقد يكون بعضهم ليس جادًّا، وهو ضعيفٌ دراسيًّا؛ ولذلك لا بد من الاهتمام بهذه القضية، فهي مسؤولية المجتمع كله: رؤساء ومرؤوسين، وجهات حكومية، وغيرها، وأفراد، وجماعات، فنحن نحتاج إلى تلبية الحاجات التربوية والتخصصات وتعدادها.
وفي المنطقة الشرقية نُعاني من التخصصات، فتخصصاتنا التربوية والنفسية قليلةٌ، ونُحدِّث بعض المسؤولين عندنا أنه لا بد من فتح هذه المجالات أكثر، وتخصص الهندسة موجودٌ في عددٍ من الجامعات بكثرةٍ، صحيحٌ أنه منطقةٌ صناعيةٌ، لكن أصبح الذي يتعامل مع الآلات يجد له مجالًا، والذي يتعامل مع البشر لا يجد له فرصًا، فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا، فالمهندس لا دخلَ له بالتعليم، وكذا الطبيب، والمُعلِّم لا بد أن يكون شخصًا مُرَبِّيًا، فإذا لم يتخرج من كلية التربية وما شابه ذلك ماذا سيكون الحال؟
فهذه قضيةٌ مهمةٌ؛ ولذلك نحن عندنا أعدادٌ ضخمةٌ في الشرقية يذهبون إلى الأحساء، وإلى الرياض، وإلى مناطق بعيدةٍ من أجل قضية التخصصات وما يتعلَّق بهذا الجانب.
ولا شك أن هذه مسؤولية المجتمع ككلٍّ، وأيضًا مسؤولية المُربي: الأب وأمثاله، وقد يكون فاقدًا للمعلومة.
وأنا أسأل بعض طلابنا الذين نُدرس لهم في الجامعة وأقول لهم: أنت ما الذي جاء بك إلى هذا التخصص؟ فيقول: والله لا أدري!
ومن خلال برامج التخصص التي تكشف الميول والتخصصات أسأل البعض: ما الذي في بالك؟ يقول: والله هندسة ميكانيكية. فقلتُ: طيب، ماذا تعرف عن الهندسة الميكانيكية؟ يقول: لا أدري. فقلت: طيب، على أي أساسٍ نويتَ أن تدخل الهندسة الميكانيكية أو الكهربائية؟ بالتأكيد والدك أو أحد أقاربك درس الهندسة الميكانيكية؟ قال: صحيحٌ. فهل هذا يكفي؟ هذا سيُسبِّب له مشكلةً في المستقبل، وسيتصادم مع ميوله وقُدراته، وتحصل عنده تجربةٌ فاشلةٌ، وليست إيجابيةً.
إذن نحتاج أن نعتني بمستقبل الشاب التربوي -ذكرًا أو أنثى- من أجل أن يشعر بالطمأنينة والراحة؛ من حيث توفر التخصصات والمعلومات، وكذلك نُدْرِك التخصص المُناسب له، وما هي قُدراته؟
حاجات تدعيم الذات
أيضًا من الحاجات النفسية: الحاجات المتعلِّقة بتدعيم الذات، فالشاب -ذكرٌ وأُنثى- يحتاج إلى الثقة بنفسه.
وابن القيم له كلامٌ عظيمٌ جدًّا عن الطفل في "تُحفة المودود بأحكام المولود"، وأنه إذا كانت قابليته للحفظ والذكاء فالأصل أن يُوجَّه ويُمَكَّن من العلم، وإنْ لم تكن عنده القدرة في هذا الباب وكانت عنده الفروسية يُمَكَّن من الفروسية والقوة، وإذا لم يكن عنده هذا الجانب فإنه يُمَكَّن من الصنعة التي هو فيها، فيقول: "ومما ينبغي أن يُعتمد حال الصبي، وما هو مُستعدٌّ له من الأعمال، ومُهيأٌ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره ما كان مأذونًا فيه شرعًا، فإنه إن حمله على غير ما هو مُستعدٌّ له لم يُفلح فيه، وفاته ما هو مُهيَّأٌ له.
فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ، واعيًا؛ فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم؛ لينقشه في لوح قلبه ما دام خاليًا، فإنه يتمكَّن فيه، ويستقر، ويزكو معه.
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجهٍ، وهو مُستعدٌّ للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذَ له في العلم، ولم يُخلق له؛ مكَّنه من أسباب الفروسية والتَّمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين.
وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يُخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحةً إلى صنعةٍ من الصنائع، مُستعدًّا لها، قابلًا لها، وهي صناعةٌ مُباحةٌ، نافعةٌ للناس؛ فليُمكِّنه منها.
هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك مُيَسَّرٌ على كل أحدٍ؛ لتقوم حُجَّة الله على العبد، فإن له على العباد الحُجَّة البالغة، كما له عليهم النعمة السَّابغة"[4]"تحفة المودود بأحكام المولود" (ص244)..
وأشار إشاراتٍ رائعةً جدًّا إلى أهمية أن يكون الجانب التخصُّصي يتناسب مع ميوله الشخصية وقُدراته، ومن أفضل مَن تكلَّم عنها ابنُ القيم -رحمه الله- في كتابه سالف الذكر.
وقد جهَّز النبي جيشًا يقوده أسامة بن زيد ، وعمره سبعة عشر عامًا تقريبًا، ولما تُوفي النبي وما زال الجيش لم يَسِر بعد، جاء أبو بكرٍ إلى أسامة يستأذنه أن يأخذ عمر؛ لأنه عضوٌ في الجيش الذي يرأسه أسامة، وعمره 17 سنة!
فلا بد أن يشعر الشابُّ بدوره في تحمل المسؤولية، ويُسمونه: الدور الوظيفي؛ بأن تكون له وظيفةٌ مُجتمعيةٌ، ويُسمونها: المسؤولية الاجتماعية؛ أن يكون شخصًا مسؤولًا في بيته، وله مهمةٌ، لا أن ينام ويأكل فقط، وإنما عنده وظيفةٌ وعلاقةٌ حميميةٌ، فهو عندئذٍ يدعم ذاته، ويثق بنفسه.
هوية الشاب الشخصية
من القضايا المهمة أيضًا في الجانب النفسي: البحث عن هُويته الشخصية: مَن أنا؟
هناك برنامجٌ أُقيم عندنا في الجامعة قبل سنتين تقريبًا، وهو برنامجٌ رائعٌ جدًّا، واسمه: أنتِ فتاةٌ، وكان برنامجًا مُوجَّهًا للطالبات.
وهناك مظاهر تسمعون بها: كالبويات، والإيمو، وهذه -للأسف- خلاف قِيَمنا ومنهجنا، حيث ترى الطالبة فتظن أنها ولدٌ بسبب بوياتٍ من (boys)، وأشكال غير طبيعيةٍ، وحركاتها تُشابه حركات الذكر.
فبعض الطالبات والمسؤولات أقمن هذا البرنامج، وهو مهمٌّ؛ لأن هؤلاء عندهن مشكلةٌ نفسيةٌ، وعدم تلبية الجانب النفسي أو الحاجة النفسية وَلَّد عندهن مشكلةً، وهذه المشكلة مُرتبطةٌ بجانب الهوية، فلا بد من تعزيز الهوية والثقة بالنفس: مَن أنتِ؟ أنتِ فتاةٌ مسلمةٌ، ولكِ كيانٌ، ولستِ رجلًا، أنتِ امرأةٌ، والله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، ونأتي فنقول: الذكر مثل الأنثى -والعياذ بالله-! الرجل يُشابِه المرأة! والمرأة تُشابِه الرجل! وقد لعن النبي هؤلاء القوم.
لذلك نحتاج إلى الإجابة عن الهوية، ولو قلتُ لكل واحدٍ منكم: ما هُويتك؟ سيُخرج البطاقة (ID)، وهُويته فيها: فلان الفلاني، وعمره كذا، هذه هُويته: ثلاث معلوماتٍ أو أربعٌ.
أما هنا فإننا نقصد الهوية الحياتية التي يُعرف من خلالها مستقبل حياتك في الدنيا والآخرة، ولا يُصبح الشخص مثل إيليا أبو ماضي الذي يقول:
جِئتُ لا أعلمُ مِن أين؟ ولكنِّي أتيتُ
ولقد أَبْصَرتُ قُدَّامي طريقًا فَمَشَيتُ
وسأبقى ماشيًا إن شِئتُ هذا أم أَبَيتُ
كيف جِئتُ؟ كيف أَبْصَرتُ طريقي؟ لستُ أدري[5]"ديوان إيليا أبو ماضي" (ص199).
فهذا نصرانيٌّ وأديبٌ وشاعرٌ، لكنَّه لم يعرف هُويته في الحياة فتخبط.
ودخلتُ على أحد الأشخاص من أصحاب الفكر الليبرالي قبل أمس في (تويتر)، وقرأتُ بعض (تغريداته)، وهو من المشاهير، وله كلمةٌ -والعياذ بالله- يستخفُّ فيها بالموت والحياة، وقرأتُ مجموعةً من (التغريدات) التي كتبها، فلا تستطيع أن تقول إلَّا أن عنده قلقًا واضطرابًا، وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
ولعلكم سمعتم الكلام الذي قاله بعض الناس المتقدمين حضاريًّا: إن يوم الجمعة الماضية هو آخر يومٍ في العالم! وبدأوا يُرتبون ويُخزِّنون أشياء! طيب، ما دام آخر يومٍ في العالم لماذا تُخزِّن؟!
انظر حين تضطرب عند الناس الهُوية، فهذا كتب (تغريدةً) وقال: "جاءتني من مصادر خاصةٍ"، وهو يسخر من المصدر، طيب، ما الحل يا سعادة الليبرالي المُتفتح؟ قال: "فأكملوا مشواركم في الاستمتاع في الحياة والعمل"، ليس عنده إلا اللذة!
فمنهج الغربيين هو التَّلذذ، وليته قال: الاستمتاع السليم، والعمل الإيجابي، لكن هذا الشخص معروفٌ بفكره المارق عن الدين -والعياذ بالله-، ومُصادمته لكتاب الله وسُنَّة النبي .
فالهوية مطلوبةٌ وإلَّا سيُصبح الشاب لا يدري مَن هو؟
وقد اتصل بي أحد الإخوة وحدثني عن قريبه في المنطقة هنا في الدمام، وقال: منذ سبعة أشهر وقريبٌ لي يدخل على (الإنترنت)، حتى أصبح مُلحِدًا، لا يؤمن بالله . قلتُ: طيب، وقبل سبعة أشهر كيف كان وضعه؟ قال: عاديًّا، أموره طيبةٌ والحمد لله. فقلت: كانت عنده هشاشةٌ واضطرابٌ نفسيٌّ، وعدم إدراك الهوية، فالأسرة قصَّرت، والجانب الفكري والإيماني الذي ذكرناه قبل قليلٍ ضعيفٌ؛ ولذلك أي شيءٍ يأخذ به يمنةً ويسرةً.
يقول: الآن والله ما ندري ماذا نفعل؟ وأُمه تبكي ... إلى آخره، ولم تعد القضية قضية شرب سيجارةٍ، أو الخروج في الشارع بالشورت، أو سماع الأغاني، الآن القضية: كيف نُعيده للإسلام قبل أن يذهب؟!
فقضية الهوية مهمةٌ جدًّا؛ ولذلك ينبغي العناية بالجانب النفسي، ولن يُعزِّز هذه القضية إلا الإيمان والعبادة والجوانب الأخرى التي ذكرناها، فهي منظومةٌ متكاملةٌ.
نعم، يمكن أن تجد واحدًا ليس مسلمًا، ويعمل بشكلٍ إيجابيٍّ، والاضطراب عنده أقلّ، لكنَّ الأمن الحقيقي في الإيمان بالله، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، هذا هو الأمن المُطلق.
و(ألكسيس كاريل Alexis Carrel) صاحب كتاب "الإنسان ذلك المجهول" هو طبيبٌ فسيولوجي، وفي هذا الكتاب عَدَّدَ مجموعةً من الأسئلة التي أشكلت عليه كطبيبٍ، وقال: "نحن لم نستطع كأطباء أن نجد لها إجاباتٍ".
وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على أنَّ جَهْلَنَا بالإنسان مُطْبَقٌ، وهذا يُفسر لك: لماذا بعض العظماء مع اعتقاده أنَّ هناك خالقًا لهذا الإنسان، إلا أنه مات كافرًا؟! أدرك الحقيقة، ولكنه لم يُكمل المشوار.
كاد أن يُسلم لولا المحيطين به
كاد هرقل أن يُؤمِن، وجمع الناس كما جاء في الحديث: "فأذن هرقلُ لعُظماء الروم في دَسْكَرَةٍ له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغُلِّقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرُّشد، وأن يثبت ملككم، فتُبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حَيْصَةَ حُمُر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غُلِّقت، فلما رأى هرقلُ نفرَتهم، وأَيِسَ من الإيمان، قال: ردُّوهم عليَّ. وقال: إني قلتُ مقالتي آنفًا أختبر بها شدَّتكم على دينكم، فقد رأيتُ. فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل"[6]أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).، مع أنَّ بعض العلماء قال: أنَّه ربما أسلم. لكن الصحيح أنَّه لم يُسلم.
وهرقل في نقاشه مع أبي سفيان في حديث البخاري دلَّ دلالةً كبيرةً جدًّا على معرفته للحق، وكاد أن يُسلِم، لولا أنَّ الدنيا لعبت به، وكذا الذين بجواره وحوله؛ ولذلك من المهم جدًّا إدراك الهوية، حتى لو جاء واحدٌ يصرفه يمنةً أو يسرةً؛ ما يستطيع أن يصرفه.
فمَن يعتزُّ ويقول: أنا مؤمنٌ، أنا مؤمنةٌ، أنا مسلمٌ، أنا مسلمةٌ، أنا شابٌّ، رجلٌ، وأنا فتاةٌ، امرأةٌ، لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن أقبل أن أعمل مع رجلٍ بجواري في الوظيفة، ولا يُمكن أن تكون المرأة مثل الرجل؛ عندئذٍ تكون القضية طبيعيةً وعاديةً جدًّا، وظيفةٌ، وليست إشكاليةً.
والله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، وقد فُطِرَ كل طرفٍ على أن يميل إلى الآخر، فكيف ستكون الجوانب المُتعلِّقة بالقضايا الأخلاقية والقِيَمية؟
صورٌ كثيرةٌ ستُجيب عنها الهوية، ونحن هُويتنا الإسلام، شئنا أم أبينا؛ ولذلك لا بد أن نُحرر هذه القضية ابتداءً، وننطلق من خلالها.
حل مشكلات الشباب
في الحاجة النفسية نحتاج أن نبحث عن مشكلات الشباب -ذكورًا وإناثًا-، ونُعطي فرصًا لحلِّها من خلال الاستشارات الهاتفية، والجلسات الإرشادية، والذهاب إلى المُختصين، والأخذ والعطاء معهم، ولا بد أن يفتح الآباء صدورهم لهذه القضية، فإن استطاع الأب أن يُمارس حلَّ المشكلة فالحمد لله، أو يبحث عن الثقة، أو تبحث الأم عن الثقة؛ حتى تُعالَج المشكلة لدى هذا الشاب، أو هذه الشابة، وهذه القضية مهمةٌ جدًّا، وهي تُقلِق الشباب.
وبقية الحاجات المُتعلِّقة بالتعليم والأسرة، والحاجات الاجتماعية، والصحية، والأخلاقية، والحاجات المتعلقة بالجانب التقني في زمن الإعلام الجديد؛ لعلنا نُشير إليها في الدرس الأخير قبل الاختبارات -إن شاء الله تعالى-، فنأتي بهذه كاملةً، ونكون عندئذٍ قد انتهينا من المنظومة المُتعلِّقة بالحاجات، ثم لنا عودةٌ -إن شاء الله تعالى- إلى موضوع الشباب.
الإجابة عن الأسئلة
في الدقائق المُتبقية لعلي أُجيب عن بعض الأسئلة:
يلعب كثيرًا ولا يُحافظ على الصلاة
يقول السائل: لدي ولدٌ عمره 14 سنة ونصف، يجلس كثيرًا على (البلاي ستيشن) منذ حضوره من المدرسة حتى وقت النوم أحيانًا، حتى الصلاة تفوته، وأُحاول معه كثيرًا في التقليل من ذلك، ولكن دون جدوى، وعدم المُحافظة على الصلاة في كثيرٍ من الأوقات؟
الجواب: ذكَّرني هذا السائل بأحد الطلاب عندنا في الكلية؛ قبل سنواتٍ تمَّ فصله من الكلية بسبب أنَّه أخذ ثلاثة إنذاراتٍ، والنظام ينصُّ على أن ثلاثة إنذاراتٍ يتم بعدها الفصل، وأجريتُ له دراسة حالة، وكان ذلك قبل أن تأتي وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة والتقنية، وكان الموجود والمنتشر في ذلك الوقت: مقاهي (الإنترنت)، فدخل إحدى مقاهي (الإنترنت) في أحد أحياء الخُبَر، وجلس ثلاثة أيام بلياليها، مدة المسح على الخُفَّين للمُسافر، من أول دخوله إلى أن خرج، كله في (الإنترنت)، لا دراسةَ، ولا أُسرة، ولا صلاة!
ثم حدِّث ولا حرج في المضامين التي كان يُتابعها ... إلى آخره، وهذا شابٌّ في ريعان شبابه، وعنفوان غريزته، ويكون في مثل هذا الحال! فماذا تتوقع منه؟!
مشكلةٌ كبيرةٌ، فحين يأتي مثل هذا 14 عامًا ونصف، ومن وقت دراسته إلى أن ينام في (البلاي ستيشن)! طيب، مَن الذي جعله على مثل هذا الحال؟!
وأنا أقصد بهذا الكلام أننا لا بد أن نكون أيها الإخوة -آباء وأُمهات وأُسَر- صُرَحاء مع أنفسنا، وأنا رأيي أن السبب الأول في المشكلة هو المُعلِّم والأُسرة والآباء، هذا رأيي، فحين نعتني بالتربية وقت الطفولة -منذ وقتٍ مُبكرٍ- نستطيع أن نبتعد عن مثل هذه الأشياء.
وأيضًا على أي أساسٍ تدخل التقنية والألعاب دون ضبطٍ ورعايةٍ وتوجيهٍ؟! يعني: القضية فقط هاتِ الجديد! ويدخل من غير فلترةٍ، وإذا حصلت المشكلة قلنا: ماذا نفعل؟ فهل هذا منهجٌ تربويٌّ؟!
يعني: نحن نجلس ونُدقق في (الديكورات)، ونأخذ وقتًا وجهدًا، ونبحث عن أحسن شيءٍ، بينما في الجانب التربوي نَسُدُّ آذاننا، ونُغمض عيوننا! فهل أتعبنا أنفسنا في النقاش والحوار بين الأب والأم حتى نعرف الدور المطلوب في الجانب التربوي؟! ألَّا ترون أن هذا خللٌ تربويٌّ؟ أنا أرى أن هذا هو الخلل، وهذه هي المشكلة.
وبعد ذلك تأتي مرحلة الشباب، وخاصةً المُراهقة المُبكرة والمتوسطة وأمثالهما، ثم نعض أصابعنا من الندم، مثل: أحد الإخوة قال لي: ماذا يا أبا عبدالرحمن؟ قلتُ: خيرًا، إنْ شاء الله؟ قال: بناتي في ريعان الشباب يُردن مُتابعة برنامج (ستار أكاديمي). قلتُ له: طيب، وماذا سوَّيتَ؟ فقال: والله أنا أقعد عند (التليفزيون) من أجل ألا يروا هذا البرنامج. فقلت: طيب، لو متَّ بعد عمرٍ طويلٍ ماذا ستفعل؟! ومَن سيُراقبهن؟!
يعني: هو يشعر أنه مسؤولٌ عما ستراه البنات؛ لأنَّه هو الذي جلب هذه الأجهزة!
وتجدنا نُفلتر قضايا ماديةً، وقضايا مُتعلِّقةً بالبناء، ولا نُفلتر قضايا مُتعلِّقةً بالقنوات وتشفيرها ... إلى آخره، بسبب أننا لا نُريد أن نمنعها!
فهذه قضيةٌ خطيرةٌ؛ ولذلك نقول لمثل هذا السائل: يحتاج هذا الشابُّ المُراهق الذي يتعلَّق بألعاب (البلاي ستيشن) إلى قُربكم عمومًا، وتعزيز ما يُضاد هذا السلوك.
بمعنًى آخر: لو وقَّت لنفسه وقتًا للعبة، وقيل له: إذا لعبتَ في هذا الوقت فقط، بعدما تُنهي المُذاكرة، ثم قمتَ في نهاية الوقت إلى الصلاة سنُعطيك مكافأةً. ويُعزز بشيءٍ إيجابيٍّ، بالمضاد لهذا السلوك السلبي.
فلا بد من وضع نظامٍ في البيت، ولا تبقى الأمور بغير نظامٍ، فالنظام يُوجِّه هويتنا.
وأنا والله أستغرب من الحملات الموجودة في بعض القنوات سيئة الذكر، وما زال بعض الناس مع إيمانه بأنها سيئة الذكر إلا أنه ليس عنده استعدادٌ لتشفيرها! ويقول: أخاف أن يغضب أولادي! إذن ما برنامجك؟! لا بد من وضع نظامٍ وحوافز، بل إن بعض الناجحين يرى أن نضع اتفاقيةً ونُوقِّع عليها، وهذا يُسمونه عندنا في تخصص علم النفس في المدرسة السلوكية: عقدٌ تبادليٌّ سلوكيٌّ، فيقول الأب لولده: يا ولدي، أنا سأتفق معك على شيءٍ معينٍ: كيت، وكيت، وأُوقع أنا وأنت، وإذا التزمتَ بهذا الاتفاق لك الجائزة. ويكتب الجائزة، وتكون جائزةً يُحبها.
هذا نظامٌ مُحترمٌ مُقدَّرٌ، إذا كان في بيئةٍ تربويةٍ ناضجةٍ؛ ولذلك لا بد من تقوى الله في هذا الموضوع، ولا بد من النظر، ومما ذكرنا لكم قصة الطفلتين الصغيرتين.
فلا بد من البحث عن أصدقاء إيجابيين لهذا الشاب الذي هو في عمر الزهور، ولا بد أن نبحث له عن المدرسة الناجحة، والمعلم الناجح؛ فهذا هو ما يمكن أن يشغل وقت فراغه.
وهناك دراسةٌ كويتيةٌ أثبتت خطورة بعض هذه الألعاب، مع أنها ترفيهيةٌ، وفي الأمور المُتعلِّقة بالجانب الاجتماعي، والعصبي ... إلى آخره.
وهناك دراساتٌ عديدةٌ، وليست الكويتية فقط، وفي رسالة (الدكتوراه) -بتوفيق الله - وصلت إلى مجموعة دراساتٍ، ومنها هذه الدراسة المُتعلِّقة بهذه الألعاب، فما بالك حين يلعب ألعاب (البلاي ستيشن) وفيها (البونس)؟! فهو يتعرف على فتاةٍ، وفي (البونس) الثاني تكون علاقته بهذه الفتاة، ثم في (البونس) الثالث يقوم بتقبيل هذه الفتاة، وفي (البونس) الرابع كذا، وبعد ذلك -والعياذ بالله- يُمارس الفاحشة في السيارة!
هذه الأمور موجودةٌ في بعض الألعاب، وقد قرأتُ تقارير عن هذا، وتُباع هذه الألعاب -للأسف الشديد- عند بعض الناس بالخفاء!
إذن، ما العمل إذا لم يكن هناك نظامٌ ولا فلترةٌ؟ ستكون القضية صعبةً جدًّا؛ ولذلك ينبغي للأسرة أن تبحث عمَّن يُساعدها في ذلك إذا لم تكن تعرف كيفية التعامل مع هذه القضية، فالوضع الأُسري مهمٌّ جدًّا.
أثر غياب الرقابة الأُسرية على الشباب
يقول السائل: عندما تكون الرقابة الأُسرية معدومةً، أين الهداية للشباب؟
الجواب: على أية حالٍ أرجو ألا يكون هذا الوصف وصفًا حقيقيًّا، يعني: أن تكون الهداية معدومةً، فلا أظن ذلك، لكنَّ حقيقة الأمر أن الهداية بيد الله ، هذا أولًا.
ثانيًا: أُوافقك أن الأُسرة لها دورٌ مُؤثرٌ جدًّا؛ لذلك يا ليت مراكز الأحياء وغيرها تنتبه لهذه القضية، فلا بد من تفعيل دور الأُسرة؛ بأن تعرف رسالتها، وتتعلم الكلام الذي قلناه.
وأنا غدًا -بتوفيقٍ من الله- عندي لقاءٌ حواريٌّ مع الآباء والمُربين في مركز حي المزروعية، وعنوان هذا اللقاء كما اختاره الإخوة: "التربية في عصر الإعلام الجديد"، وهو لقاءٌ حواريٌّ، وليس محاضرةً، وهو مهمٌّ جدًّا.
وقد لاحظتُ من عدة لقاءاتٍ مع الآباء أنهم بحاجةٍ إلى مَن يُوجِّههم ويضبطهم، ولا بد من محادثة العقول والمشاعر، واتِّخاذ قراراتٍ حاسمةٍ في الأشياء التي تُولِّد لدى الأُسرة اضطرابًا، ولا بد أن يعرفوا حاجات أبنائهم، وأسلوب النُّضج التربوي الحقيقي، ويستعينوا بالله .
ولا بد من قراراتٍ قويةٍ، وبعضنا يتخذ قراراتٍ تغضب منها أمُّ العيال وكذا الأبناء في قضايا مُتعلِّقةٍ بالسيارة، أو مُتعلِّقةٍ بقضايا ماديةٍ، بينما حين نأتي إلى قضايا وإشكالاتٍ قِيَميَّةٍ تتعلق بالهوية نتردد ونقول: ماذا نفعل؟!
فهذه القضية لا بد أن نُراعيها؛ ولذلك فإن إحياء دور الأُسرة مهمٌّ جدًّا.
أثر المُخدرات على الشباب
يقول السائل: المُخدرات تعصف بعقول الشباب، فكيف تكون الهداية؟ خاصةً ونحن نعلم أن تعاطي المُخدرات يُدَمِّر كل ما هو جميلٌ مما خلقه الله في مخ الإنسان.
الجواب: نعم، هذا صحيحٌ بلا شكٍّ، فالعقل نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا من الله، وقد جاء الدينُ بحفظ العقل، ونحن ذكرنا الجانب الفكري والثقافي والمعرفي، وهذا له رعايةٌ في الجانب العقلي، والمُخدرات لا شكَّ أنها بلاءٌ؛ ولذلك لا بد أن ننتبه لما يكون عليه الأبناء، فلا بد من احتضانهم، ومن وجود علاقةٍ حميميةٍ معهم، وزرع الجوانب الإيجابية، وإشغال أوقات فراغهم، والبحث عن أصدقاء ناضجين لهم، وأن يشغلوا أوقاتهم بالمفيد، وإلا فوالله إن لعبةً بسيطةً قد تفعل أفاعيلها، خاصةً إذا حُرِمَ من الإشباع العاطفي في الأسرة، فهذا من أشد الأشياء على الشباب.
كيف يكون الحوار الأسري؟
يقول السائل: الحوار الأسري كيف يكون؟
الجواب: أنصح بقراءة كتاب "التواصل الأسري" للدكتور عبدالكريم بكار، فقد أجاب إجابةً وافيةً جدًّا حول الحوار الأسري، وهو من أروع ما كُتِبَ في موضوع الحوار الأسري.
وهناك كتبٌ أخرى، مثل: "أصول الحوار"، وكتبٌ عديدةٌ في مركز الحوار الوطني في قضايا الحوار، لكن الدكتور عبدالكريم بكار أجاد إجادةً مهمةً في كتابه "التواصل الأسري"، وهناك أدبياتٌ جميلةٌ.
ولا بد أن نُعطي لأنفسنا وقتًا نلتقي فيه مع الأسرة؛ حتى نتحاور معها.
وأنا أرى أن على الأب والشخص المُربي أن يجعل وقتًا للأسرة، يجلس فيه مع أم العيال، ومع الأبناء، يتحاورون في قضايا البيت، وفي قضايا معينةٍ إيجابيةٍ، وفي القيم، من خلال قراءة كتابٍ، وإلزام النفس بذلك كالوظيفة.
ونحن لا نقول: يكون لقاءً يوميًّا، وإنما على الأقل يكون لقاءً أسبوعيًّا يُلتزَم به، ويُحترم داخل الأسرة، فهذا سيُعطي مجالًا لقضية الحوار الإيجابي.
كيف تلتذُّ بالصلاة؟
يقول السائل: نحن نُصلي، ولكن لم نشعر بالتَّلذذ والراحة في الصلاة، فما الطريق لذلك؟
الجواب: سبق أن تكلَّمنا عن حديث: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[7]أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني.، ولعل الأخ يرجع إليها بالأرشيف في موقع "البث الإسلامي"، لكن نُؤكد على ما ذكرناه بالتربية الذاتية والجماعية، والمُجاهدة في الخشوع، وقضية الاقتداء، فالذي يريد أن يكون ناجحًا لا بد أن يكون له نصيبٌ في البيت، لا أحد يراه: كقيام ليلٍ -وتكلَّمنا عن التربية الذاتية في قيام الليل-، ولا بد أن يحرص على الجماعة، فكل هذا يُساعده على التَّلذذ بالصلاة، فهذه من الأشياء المُفيدة النافعة جدًّا، كما قال : سبعةٌ يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، وقال: وشابٌّ نشأ في عبادة الله تعالى، ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ في المساجد[8]أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).، فلا بد من التربية الذاتية والجماعية.
علاج القلق والاكتئاب
يقول السائل: ما النصيحة لمَن يُعاني القلق والاكتئاب، وهو على شيءٍ من الاستقامة؟
الجواب: دلَّت الدراسات على أنه كلما زادت الاستقامة قلَّ القلق والاضطراب، والأدلة الشرعية في ذلك كثيرةٌ، منها قول الله تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وليس معنى هذا الكلام أن الشخص المُتدين لا يُصاب بذلك، فمن الابتلاء أنه قد يُصاب بالقلق والاكتئاب، وهناك ما يُسمَّى بـ: القلق الخفيف، والوسط، والشديد، فقد يُصاب حتى بالشديد.
وهناك بعض الإجراءات المهمة لمثل هذه القضية: كدعاء الكرب: "لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنتُ من الظالمين"[9]أخرجه الترمذي (3505).، واللجوء إلى الله، والإكثار من هذا الدعاء، وقراءة الآيات المُتعلِّقة بمثل هذه القضية، كقوله: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وإلزام النفس بوِردٍ مُستمرٍّ قبل النوم، وبعد الصلوات، وفي الصباح والمساء، ... إلى آخره، وكلما أخذ هذه الجرعة الإيمانية كانت هناك فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا للتعافي.
وكما قال : اللهم إني أعوذ بك من الهَمِّ والحَزَن[10]أخرجه البخاري (2893).، والهَمُّ: هو الشيء المُستقبلي، والحَزَن: هو القلق والاكتئاب على الشيء السابق؛ ولذلك يستعيذ الإنسانُ من ذلك؛ فيركن إلى ركنٍ شديدٍ وهو الله ، فهو المُعين.
ثم لا بد من التفكير بالعواقب، فلو استمرَّ الإنسان على القلق والاكتئاب لا بد أن يُدرِك أن هذه لها آثارها، فقد ينتقل القلقُ البسيط إلى مُتوسطٍ، ثم ينتقل إلى شديدٍ؛ ولذلك كلما قطعت القضية من دابرها وأولها استطعت أن تتغلب عليها بقوة الإرادة بعد توفيق الله ، فالتفكير بالعواقب مهمٌّ جدًّا.
وقد صلَّى بجواري شخصٌ -نسأل الله أن يُعافي كل مُبتلًى- كان في حالةٍ من الوسوسة، وقد شغلني في الصلاة، والله كسر خاطري وقلبي مما هو عليه، وقد صلَّى معنا وهو ليس من أهل المسجد، لكن جاء زائرًا، يعني: حالته طبيعية، يزور، ... إلى آخره، لكن إذا دخل الصلاة دخل معه الوسواس، فقلتُ له: كم لك على هذا الحال؟ قال: أكثر من ستة أشهر. قلت: أنا أسألك يا أخي الكريم، مِن أول ما بدأ معك هل فعلتَ شيئًا؟ قال: لا. فقلت: لماذا الاستسلام؟! ولماذا لم تذهب وتتداوى وتتخذ الأسباب، وتذهب إلى الأطباء والمُرشدين ليُساعدوك؛ حتى لا تصل القضية إلى ما وصلت إليه؟! يعني: هو مسكينٌ يُعاني أشد المُعاناة.
ومرةً دخلت مكان الوضوء وإذا بشخصٍ يكاد أن يقتل نفسه وهو يتوضأ من الوسواس، بينما يذهب للوظيفة بصورةٍ طبيعيةٍ، ويتكلَّم مع الناس بصورةٍ طبيعيةٍ، لكنْ إذا جاءت العبادة جاء الوسواس، وكلٌّ له طريقٌ حسب مدخل الشيطان إليه، فإذا كان من أهل العبادة دخل الشيطان عليه من العبادة.
فالشاهد أنه لا بد من التفكير بالعواقب، وأيضًا عدم الاسترسال، فالخاطرة التي تمرُّ وفيها جانبٌ اكتئابيٌّ وهَمٌّ وقلقٌ أقطعها يا أخي الكريم، ولو كان ذلك بأن أقوم من محلي، وأنتقل إلى مكانٍ آخر، فبهذه الطريقة أقطعها، ولو أن أذهب وأستمتع بشيءٍ أباحه الله ، فأقطعها بهذه الطريقة، أو آخذ قلمًا، وأُمسك ورقةً، وأبدأ في كتابة شيءٍ، كما قال النبي للرجل الذي جاء يستشيره: فليستعذ بالله وليَنْتَهِ[11]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، فيقول: "أعوذ بالله" وينتهي، ويقطع، ولا يسترسل.
وكذلك العمل وإِشغال النفس؛ حتى لا تكون عنده فرصةٌ للتفكير في المستقبل، أو في الماضي، إذا كان قلقًا، أو كان اكتئابًا، فإشغال الوقت ما يُعطي الإنسان فُرصةً؛ ولذلك تجد البعض إذا رجع للبيت وجلس على السرير بدأ التفكير عنده، وفي أثناء العمل لا تجد عنده اكتئابًا وقلقًا، هذا جانبٌ آخر كما سيأتي معنا بعد قليلٍ.
وكذلك اللجوء إلى العبادة؛ حتى تخفَّ الوتيرة: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، والجلسات الإرشادية عند المُختصِّين، ثم إذا احتاج إلى الدواء العلاجي الطبي من خلال الأطباء النفسيين؛ فإنَّه ثبت علميًّا نفع هذه الأدوية في تخفيف مستوى القلق، خاصةً إذا وصل إلى مستوى القلق الشديد والاكتئاب الشديد؛ حتى يخفَّ لديه، ويبدأ يستقر شيئًا فشيئًا في حياته.
أظننا قد تجاوزنا الوقت المحدد.
أسأل الله أنْ يُوفِّقنا وإياكم لكل خيرٍ.
وبقي سؤالان نُجيب عنهما -إنْ شاء الله تعالى- مع الأسئلة الجديدة في الدرس الأخير قبل نهاية هذا الفصل في الأسبوع القادم، بإذن الله.
وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | "العبودية" لابن تيمية (ص44). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400). |
↑3 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑4 | "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص244). |
↑5 | "ديوان إيليا أبو ماضي" (ص199). |
↑6 | أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773). |
↑7 | أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني. |
↑8 | أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031). |
↑9 | أخرجه الترمذي (3505). |
↑10 | أخرجه البخاري (2893). |
↑11 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |