المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الخامس من المجموعة الثالثة من "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسُّنة"، وهو لقاءٌ بديلٌ عن لقاء يوم السبت الماضي، وسنعود -بإذن الله - في الأسبوع القادم إلى موعدنا بعد صلاة العشاء -بإذن الواحد الأحد-، فهذا اليوم هو لقاءٌ استثنائيٌّ بدلًا من يوم السبت الماضي.
وكنا قد ذكرنا في اللقاء الأخير ما يتعلق بموضوع الاستقرار النفسي من خلال علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالآخرين، وقد وقفنا عند سؤالٍ كبيرٍ ومهمٍّ، وهو: كيف نستطيع أن نُحقق هذا الاستقرار النفسي؟
وسنذكر -إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء وسائل عمليةً متعددةً فيما يتعلق بتحقيق الاستقرار النفسي الذي هو مطلبٌ لكل واحدٍ منا.
وهو كما ذكرنا مُبتغى ومطلبٌ بشريٌّ، فكلٌّ ينشد أن يكون سعيدًا ومُطمئنًّا، ولكن كما قال الشاعر:
وحسبكمو هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ[1]البيت لحيص بيص كما في "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 127). |
وضوح الهدف والغاية
أولى هذه القضايا التي ينبغي أن نُدركها فيما يتعلق بالسعادة والاستقرار النفسي والطمأنينة ما يرتبط بأهمية تربية النفس والآخرين والأجيال على وضوح الهدف والغاية، والتعلق بهذا الهدف والغاية.
ففرقٌ أيها الإخوة بين مَن كانت غايته وهدفه أمرًا سامِيًا وعاليًا، وله صفة الديمومة والاستمرارية، ويكون تعلُّقه بالآخرة وبالله ، وغايته أسمى من قضايا الدنيا، وهي قضية العبادة وتحقيق العبودية لله ، فالله أراد من هذه الأنفس أن تكون عابدةً له ، ويجب علينا نحن في التربية أن نُعَبِّد الناس لله ؛ ولذلك إذا كان الهدف واضحًا عند المُربي لنفسه وغيره، وهذه الغاية مُستقرةً؛ حصل الاستقرار والطمأنينة النفسية.
والله ربط غاية هذا الإنسان بالعبادة، كما في الآية المشهورة، وهي قوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ووضوح هذا الهدف وتلك الغاية العُظمى في إطار تربية الإنسان لنفسه وأسرته وأبنائه والمجتمع، لا شك أن هذا هو أكبر ما يُحقق موضوع الاستقرار.
وأحد الإخوة سأل في الأسبوع الماضي سؤالًا، وسؤاله بين يدي، وهو: هل هذا الاستقرار يُؤثر في الاستقرار النفسي والأسري والوظيفي؟
وقد أشرنا إلى جزءٍ من ذلك في الأسبوع الماضي، وهو لا شك أنه يُؤثر في هذا كله.
ثم قال: ما وصيتكم للحصول على الاستقرار الدائم، وليس المُؤقت والمحدود؟
وما سنذكره في هذه القضية الأولى هو الذي يجعل القضية مُرتبطةً بالاستقرار الدائم، نعم، يمكن أن يحصل عند الإنسان في بعض الأوقات ضيقٌ، والله قال في حقِّ نبيه : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6] وهو محمدٌ ، فلا شك أن هذا يأتي من الضيق، ولكن هذا الضيق ليس ضيقًا مُرتبطًا بالدنيا، وإنما هو مُرتبطٌ بأسى وحسرةٍ على الذين يُدعون إلى الله ولا يُؤمنون، ففرقٌ بين هذا وذاك.
وأيضًا الإنسان بشرٌ، وعنده من الضعف ما عنده؛ ولذلك لا يمكن أن يتأتى الاستقرار النفسي المستمر إلا من خلال وضوح الغاية والهدف والتربية على ذلك، ألا وهي قضية العبودية لله ، وذكره: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
والله بيَّن أن الذين يؤمنون بالله ولا يُشركون به شيئًا لهم الأمن، وهو الأمن المُطلق، وهم مُهتدون، وهو تعبيرٌ عن السعادة المُستمرة والاستقرار الذي ينشده كل واحدٍ منا، فقال : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ولاحظ: الَّذِينَ آمَنُوا هو تحقيق العبودية لله ، وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وجاء في الحديث تفسير الظلم بالشرك؛ ولذلك فإن قضية التوحيد والعبودية لله من أهم النقاط العملية في التربية من أجل تحقيق الاستقرار النفسي لكل فردٍ منا، فينبغي العناية بهذا الموضوع.
مُطابقة الفكر للقيم
النقطة الثانية: لا بد لتحقيق هذا الاستقرار من مُطابقة الفكر للقيم، ومُطابقة الاعتقاد للسلوك، ومُطابقة النظر للتطبيق، وإلا فما الفائدة من أن نستمع إلى الآيات، ونحضر خطبًا، ولكن في الواقع لا نُطبق الأمر الذي يُريده الله منا؟!
والله يقول: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، والمقت: هو أشد البُغض، فلا شك أن هذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا؛ ولذلك من أعجب ما ترى مثلًا من العلماء السابقين الذين آتاهم الله مُنتهى الذكاء أن بعض هؤلاء شطَّ وانحرف في فكره، ولم يكن على التوحيد والعبودية، وعلى المنهج الصحيح الذي يرتضيه الله ، ومن هؤلاء الإمام الشهرستاني مثلًا في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام"، وذكر قوله:
لعمري لقد طفتُ المعاهد كلها | وسيرتُ طرفي بين تلك المعالم |
فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حـــائرٍ | على ذقنٍ أو قارعًا سِـــــنَّ نادمِ[2]"الملل والنحل" (1/ 173). |
وأذكر أحد الأساتذة الفضلاء -(بروفيسور) عندنا في الجامعة- كان يقول: نحن بلغنا منتهى العلوم ودقتها في تخصصاتنا. وكان طبيبًا، لكن يقول: لما نقرأ كتاب الله على كِبَرنا لا نستطيع أن نقرأه بطريقةٍ صحيحةٍ. هو يتكلم عن نفسه، فكيف بمَن انحرف؟!
فهذا رجلٌ على أقل تقديرٍ أدرك الحقَّ، وهذا أيضًا الشهرستاني آبَ إلى الله، وأناب، وترك قضايا المنطق والفلسفة، وعاد إلى الحقِّ.
ومن ذلك أيضًا ما ذكره الفخر الرازي، حيث يقول:
نهاية إقدام العقول عِقال | وأكثر سعي العالمين ضـــلالُ |
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا | وحاصل دنيانــــــا أذًى ووبالُ |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا | سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا[3]"شرح الطحاوية" ط. الأوقاف السعودية (ص177). |
فانظر كيف يصف الضيق الذي هو فيه؟! مع أنه عالِمٌ ذكيٌّ، ودرس الفلسفة والمنطق حتى أصبح علمًا يُشار إليه، لكن يقول: لم نستفد شيئًا.
ثم يقول: "لقد تأملتُ في الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيتُ أقرب الطرق وأسهلها طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات -يقصد: إثبات الأسماء والصفات-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ومَن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"[4]"شرح الطحاوية" ط. الأوقاف السعودية (ص178)..
إذن قضية مُطابقة الفكر للقيم قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فأنت مسلمٌ، فلا بد أن يكون فكرك فكرًا يرضاه الله تبارك وتعالى، وقيمك وتطبيقاتك وسلوكياتك كذلك، وعندئذٍ يحصل استقرارٌ لهذا الشخص الذي هو أنا وأنت، ويحصل استقرارٌ لمَن نُربيهم من الأبناء والأجيال.
وهذا آخر، وهو الإمام أبو المعالي الجويني، يقول: "لقد خضتُ البحر الخِضَمَّ، وتركتُ أهل الإسلام وعلومهم"، يعني: دخل في الفلسفة والمنطق، وهو من الذين أُوتوا ذكاءً، لكن لم ينفعهم هذا الذكاء، "وخضتُ في الذي نهوني عنه"، أرشدوه ونصحوه، والآن يقول: "وإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي"[5]"لوامع الأنوار البهية" (1/ 110).، يتكلم عن الفطرة.
فهذه هي العقيدة حين تُوافق السلوك والقيم، وما ذكرناه قبل قليلٍ في قضية التوحيد والعبودية لله .
ويقول آخر: "أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام"[6]"لوامع الأنوار البهية" (1/ 110).، فما الفائدة حينما أجمع من المعلومات الكم الكبير، لكن واقعي لا يتوافق مع هذه المعلومات؟! ناهيك عن كون هذه المعلومات على غير ما يُرضي الله .
ونأخذ مثالًا آخر، وإن لم يكن مسلمًا، لكنه نصرانيٌّ، لكن هذا الشخص عُرِفَ بأدبه وقمة كتاباته، وهو إيليا أبو ماضي، وشتان بين ما يكون عليه الإنسان في هذه الحياة حتى يكون مُستقرًّا، وبين الواقع الذي هو فيه؛ ولذلك حصل عنده اضطرابٌ، وهذا الاضطراب عبَّر عنه في قصيدته "الطلاسم" المشهورة، حيث يقول:
جئتُ لا أدري من أين؟ ولكني أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيتُ
وسأبقى سائرًا إن شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟ لستُ أدري
ألهذا اللغز حلٌّ، أم سيبقى أبديًّا؟
لستُ أدري، ولماذا لستُ أدري؟ لستُ أدري[7]من قصيدةٍ له بعنوان "الطلاسم" منشورةٍ على الشبكة العنكبوتية.
إلى آخر قصيدته، وهو رجلٌ أُوتي ذكاءً وعقلًا، ولكنه لم يكن مُوفَّقًا إلى الفكر الصحيح والعقيدة الصحيحة، وأن تكون مُتطابقةً أيضًا مع السلوك والقيم؛ ولذلك إذا أردنا الاستقرار النفسي كما قلنا في النقطة الأولى، وهي: وضوح الهدف والغاية، والتعلق بها، والتربية عليها؛ فلا بد من مطابقة الفكر والعقيدة للقيم والسلوك.
انتظام وتوازن الاهتمامات
النقطة الثالثة: لا بد من انتظام وتوازن الاهتمامات، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فالنبي يقول: تَعِسَ عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يرضَ[8]أخرجه البخاري برقم (6435)..
فهذه صورةٌ من صور التعلق بالدنيا: أن يصل الشخص إلى مستوى أن يكون عبدًا للدنيا، فأينما يكون الدينار والدرهم والخميصة والقطيفة من الألبسة تكون وجهته في هذه الحياة، فهو عبدٌ لها: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] يعني: هواه ودُنياه هي التي تُوجهه، وفي المقابل مَن تكون اهتماماته هي إرضاء الله ، فهناك فرقٌ بينهما.
ولا يمكن أن تتحقق السعادة والاستقرار النفسي إذا كانت الاهتمامات مُوجَّهةً لشيءٍ زائلٍ، وهو الدنيا، أو جزء من أجزائها.
ولا يمكن أن تتحقق السعادة والاستقرار إلا حينما يكون الأمر ثابتًا سرمديًّا مُستمرًّا تُنال فيه السعادة، ألا وهو التعلق بالآخرة.
يقول النبي في الحديث المشهور، وسبق أن ذكرناه أكثر من مرةٍ، ولكن لا مانع من تكرار هذه المعاني، فنحن بأمس الحاجة إليها، وخاصةً أن هذه اللقاءات مُرتبطةٌ بتطبيقاتٍ تربويةٍ ونفسيةٍ، فنحتاج إلى مثل هذه الأدلة قدر المُستطاع: مَن كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شَمْلَه، وأتته الدنيا وهي راغمةٌ، ومَن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقرَه بين عينيه، وفرَّق عليه شَمْلَه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له[9]أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2465)، وابن ماجه برقم (4105)، وصححه الألباني..
هذا إذن جزاءٌ بسبب انتظام الاهتمامات الإيجابية لديه، فرقم واحدٍ عنده الآخرة، فيتحقق له معنى الغنى الحقيقي، وهو غنى النفس والقلب، حتى ولو كان فقيرًا، ويتحقق عنده معنى الوحدة النفسية والتكامُلية والاتحاد في هذه الذات، وهذا من قوله: وجمع له شمله، وكذلك تأتيه الدنيا وهي راغمةٌ، وتنفتح له أبوابها، وكأنها مكسورةٌ أنفها، فتجري إليه، وهو لم يحسب لها حسابًا.
ومَن كانت انظر الاهتمام الآخر الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، جعل فقره بين عينيه حتى ولو كان غنيًّا، وفرَّق عليه شَمْلَه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له، فهو في شتاتٍ وتذبذبٍ، لا استقرار نفسي، ولا ذاتي، ولا مجتمعي، ولا تماسُك مع الأسرة والأبناء، فهو مُفرَّقٌ شمله، ثم في الأخير لا يأتيه من الدنيا إلا الذي قدَّره الله له فقط، بينما انظر إلى الوصف الذي قبله، ماذا قال النبي فيه؟
ولذلك يقول النبي : أحب الأسماء إلى الله: عبدالله وعبدالرحمن، وأصدقها حارث وهمام[10]أخرجه أبو داود برقم (4950)، وصححه الألباني.، فالحارث: هو الشخص الذي يعمل، والهمام: الذي عنده همٌّ ودافعٌ، فهذا همّته لله ، هذا همام، وحارث يعني: ليس واقفًا يتمنى الجنة ولا يعمل، والنبي يقول: ما رأيتُ مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها[11]أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2601)، وحسَّنه الألباني..
فيستنكر -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- ويقول: لم أرَ مثل حال الرجل الذي يدَّعي الهروب من النار، ولكنه نائمٌ لا يعمل، يعني: ليس حارثًا، ولا عنده همٌّ، حتى لو قال بلسانه: أنا لا أريد النار، ولا مثل الجنة نام طالبها، يريد الجنة، ويريد أن يدخل الجنة، ولكنه كسلانٌ، لا يقوم بما يجب عليه، فأصدق الأسماء: الحارث وهمام.
وهذه الصفات التي ذكرها النبي نحن بأمس الحاجة إليها للأجيال ولأنفسنا، فحين يكون الشاب ما عنده همَّة، أو همَّته ضعيفةٌ، أو همَّته في الكرة والترفيه، فهذا لا يكون حارثًا ولا همَّامًا.
وهناك دراسةٌ عُملت على الشباب وأولوياتهم واهتماماتهم، فاحتلت الأفلام والأغاني والمسلسلات والرياضة المركز الأول عندنا، للأسف الشديد.
وفي مقابل ذلك أن تكون همَّة الإنسان إرضاء الله ، واكتساب القيم الفاضلة، والعمل للدنيا والآخرة؛ ولذلك هذان الاسمان كانا أحبَّ الأسماء إلى الله تعالى -كما قال النبي - لهذين المعنيين العظيمين فيما يهتم به وما يتعلق به، وكذلك فيما يسلك ويعمل في هذه الحياة.
وهذا الحديث تنتظم فيه كل النقاط التي ذكرناها قبل قليلٍ، وهي: انتظام الاهتمامات، ووضع الأولويات، وبماذا نهتم بالضبط؟ وقضية مُطابقة الفكر والقيم للتطبيق، ومُطابقة العقيدة للسلوك، ووضوح الهدف والغاية الكبرى التي من أجلها خُلقنا، ألا وهي العبادة.
تلبية الحاجات
النقطة الرابعة: تلبية حاجات الأبناء والطلاب والنفس أيضًا مما يُحقق السعادة والاستقرار النفسي بلا شكٍّ، ولكن هنا ثلاثة شروطٍ:
الأول: أن تكون بحلالٍ.
الثاني: أن تكون بانضباطٍ.
الثالث: أن تكون بنيةٍ طيبةٍ.
فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهي مشكلة المشكلات، وسبق أن تكلمنا عن حاجات الشباب، وربما أشرنا إشاراتٍ خفيفةً جدًّا في هذا الموضوع، وهذه لها أصولٌ في الشريعة، يقول النبي : إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا[12]أخرجه مسلم برقم (1015).، فالله طيبٌ لا يقبل من أحدٍ إلا الطيب؛ ولذلك الإثم ما حاك في صدرك، وكرهتَ أن يطلع عليه الناس[13]أخرجه مسلم برقم (2553).، أي شيءٍ فيه أمرٌ غير طيبٍ، يعني: الواحد هل يُعقل أن يقول: السيجارة طيبةٌ؟! بل (الباكت) موجودٌ عليه تحذيرٌ من هذا الداء العُضال، وما شابه ذلك، إذن هذا خبيثٌ، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا.
وبعضهم يقول: أنا أريد أن أُوسع صدري، فهل السيجارة تُوسع الصدر؟ وهل هي وسيلةٌ للاستقرار النفسي؟
وللأسف تتلاعب فيها الأهواء من أجل تحقيق قضية الاستقرار والضغوط النفسية، فيقول: أنا عندي ضغوطٌ نفسيةٌ. ويذهب يُشاهد الأفلام الإباحية والمسلسلات والأشياء السيئة، أو يذهب (يفحط)، أو يفعل أشياء مُحرَّمةً، أو لا يستجيب لتوجيهات الوالدين، وقبل ذلك الله ، بسبب أنه يعيش في ضائقةٍ كما يزعم، والله يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، ويقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
إذن لا بد أن يكون هذا الإشباع بحلالٍ، ولا يكون بحرامٍ؛ لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، بهذه الضوابط، وليس بضوابط (جون ديوي)، أو (بافلوف)، أو (ماسلو)، أو (سكنر)، أو غير هؤلاء الذين أعطوا للإنسان صورةً بأنه مجرد متعةٍ ولذةٍ يُحققها في هذه الحياة فقط، وبنوا نظرياتهم ودراساتهم على هذه القضية، حتى أصبح الواحد هناك تُحقق له حاجاته التي يُريدها، حتى بلغوا مبلغًا في الحضارة من ناحية المدنية، وبلغوا مبلغًا في تلبية الحاجات المحضة الفردية، ولكن مع ذلك زادت عندهم نسبة القلق، حتى أصبح القلق والتوتر أكبر مرضٍ عصريٍّ نفسيٍّ اليوم، وأصبحت العيادات النفسية من أكثر العيادات التي تكون مُربحةً للناس.
وأرجو أن تطلعوا على كتاب (باترسون) وصاحبه، ترجمه الأستاذ الدكتور محمد سعود البشر، وهو موجودٌ في المكتبات بعنوان: "يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة "when America told the truth، وهو كتابٌ مُترجمٌ ورائعٌ جدًّا، وطبَّقوه على ألفين من الشعب الأمريكي، ووصلوا إلى نتيجةٍ مهمةٍ جدًّا في ظل هذه الحضارة المادية التي أخذت بلُبِّ بعض أبنائنا وأجيالنا وكبارنا، فخرجوا بنتيجة: أن هذا المجتمع آيلٌ للسقوط قِيَميًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا بمفهوم الحضارة الحقيقي من خلال دراسةٍ ميدانيةٍ طُبِّقت على ألفين من المجتمع الأمريكي.
إذن نحن نُلبي الحاجات نعم، ولكن في الحلال، وليس في الحرام، وأيضًا بانضباطٍ، حتى الحلال لا بد أن يكون بانضباطٍ، وليس في كل وقتٍ، فلدينا واجباتٌ أخرى، فالمطلوب التوسط، فالتوسط منهجٌ إسلاميٌّ عظيمٌ جدًّا في التعامل مع النفس والآخرين، يقول الله : وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، فمن بين صفات عباد الرحمن أنهم إذا أنفقوا لم يُسرفوا، ولم يقتروا، فالإسراف مشكلةٌ، والإقتار والمنع وعدم التَّصدق مشكلةٌ: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، فهم أصحاب توسطٍ، وهذا الانضباط.
والشرط الثالث: أن تكون بنيةٍ طيبةٍ، والنبي يقول في الحديث: إنما الأعمال بالنيات[14]أخرجه البخاري برقم (1)، ومسلم برقم (1907).؛ ولذلك ربما يكسب الإنسان حتى في تلبية رغباته بالمباح الدنيوي أجرًا، حتى اللقمة يضعها في فيِّ زوجته يكون له بذلك أجرًا، بل حينما يأتي الرجل زوجته يكون له أجرٌ، كما قال النبي : وفي بُضْع أحدكم صدقةٌ، ثم بيَّن فقال: أرأيتَ إن وضعها في حرامٍ أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك لو وضعها في حلالٍ كان له أجرٌ[15]أخرجه مسلم برقم (1006)..
فالنية الطيبة، والانضباط، والتوسط، وأن يكون حلالًا، هذه ضوابط تلبية الحاجات، وهذا الفارق بيننا وبين المنهج الغربي في تلبية الحاجات؛ ولذلك ذكر الله عن البعض أنهم: كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، وذلك عندما يُلبي الإنسان حاجاته لكن مثل بعض الحيوانات -أكرمكم الله-، ولا فرقَ بينهم، بالعكس؛ الفرق أنه صاحب عقلٍ ولم يُسَخِّر العقل، والحيوان معلومٌ أنه يفعل أفعالًا لا تليق لأنه لا عقلَ له، لكن الإنسان له عقلٌ؛ لذلك إذا نزل صاحب العقل إلى مستوى الحيوانية في تلبية حاجاته فإن الله شبَّهه بالحيوان، بل قال: إنهم أضلُّ، والفارق واضحٌ؛ لوجود العقل الذي ميَّز الله به هذا الإنسان.
وإذا لبَّينا الحاجات بالحرام جاء الضيق، والله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124]، فهذه هي النتيجة: المعيشة الضَّنك.
وأنا سألتُ كثيرًا من الشباب، وكلهم بالاتفاق يقولون: نستمتع لحظتها، ثم بعد ذلك يأتي الضيق، كما قال الله : فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وأشدها حينما يكون الضنك يوم القيامة، نسأل الله العفو والسلامة.
وأيضًا نحتاج إلى الانتباه للتوسط في مثل هذه القضايا، فقد يحصل إسرافٌ، حتى لو كان في الحلال، فيحصل ضررٌ على النفس والصحة، والأوقات، والأولويات، والاهتمامات، كذلك حينما لا تكون النية لله وتكون لشيءٍ آخر أيضًا ينقلب الأمر إلى ما لا يُحْمَد.
البيئة والصداقة
النقطة الخامسة: ألا وهي البيئة والصداقة والزمالة للذكور والإناث، فمن الحاجات أن يكون للأبناء والبنات أصدقاء، فالانتماء لهذه البيئة جزءٌ من الحاجات المهمة فيما يتعلق بتحقيق الاستقرار النفسي، أو عدم تحقيق الاستقرار النفسي، وكما قال الشاعر:
عن المرء لا تسألْ وسَلْ عن قرينه | فإن القرين بالمُقارنِ يقتدي [16]البيت لطرفة بن العبد كما في "شرح المعلقات التسع" (ص82). |
والرسول قبل ذلك يقول: الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل[17]أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2378)، وأبو داود برقم (4833)، وحسنه الألباني.، وكما قيل: "قل لي مَن تُصادق أقل لك مَن أنت".
ولذلك أنا أرى أن أفضل المُربين والمُربيات أولئك الذين يستطيعون أن يُوجدوا بيئة أصدقاء لأبنائهم ولطلابهم ولمَن تحتهم من الأجيال، فإن هذا يختصر خمسين بالمئة من الطريق التربوي وبناء الشخصية وتحقيق السعادة النفسية.
وقد سألتُ أكثر من واحدٍ مثلًا عن التدخين، فقلتُ له: متى أول سيجارةٍ تعاطيتها؟ فغالب إجاباتهم كانت: عن طريق أحد الأصدقاء، أو صديق أعطاني إياها. كما قال النبي : مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكِير[18]أخرجه البخاري برقم (5534)، ومسلم برقم (2628).، فهي صورٌ تنطبق في الواقع والميدان قديمًا وحديثًا، والمشكلة تكمن في مُخالطة أصدقاء سيئين، حتى الكبار بعضهم يُخالط أناسًا سيئين.
وأنا أذكر موقفًا لأحد الأشخاص، وهو الآن تقاعد، وكان لواءً في إحدى الجهات الأمنية، وهو رجلٌ فاضلٌ، مُصلٍّ، مُحافظٌ، والله إني أذكره في مسجد حيِّنا القديم بجوار مسكني، وكنتُ أرى عينه تدمع في بعض الصلوات، يقول: والله كنا في استراحةٍ مع بعض الزملاء، وإذا بشخصٍ يقوم بفتح الشاشة على شيءٍ قذرٍ. ووصف لي هذا الشيء، وهي امرأةٌ تعرض نفسها -والعياذ بالله- أمام العالم في الشاشة، وتبدأ في إزالة ملابسها قطعةً قطعةً، والعياذ بالله.
يقول: وكنتُ أريد أن أتحرك وأفعل شيئًا، وذاك جالسٌ بصورةٍ عاديةٍ جدًّا، كأنه يقول: كدتُ أشعر أن الأرض ستنشق تحت هؤلاء الأصدقاء. فكيف يريد هؤلاء الزملاء أن يُحترموا ويُقدَّروا وهم لم يُقدِّروا حقَّ الله ، ولم يُقدِّروا البشر؟! فكيف يُقدَّرون؟
فلذلك لا بد أن نعرف مَن نُصادق، ولا بد أن نُساعد الأجيال في البحث عن الصديق الصالح.
وبعض الآباء والأمهات لا يدرون شيئًا عن أصدقاء أبنائهم وبناتهم، وخاصةً في ظل الإعلام الجديد اليوم الذي يُسميهم: الأصدقاء الخياليين عبر الأثير، وهذه مشكلةٌ، فإذا كان الأب أو الأم لم يستطع كل واحدٍ منهما أن يُعطي أبناءه أسس اختيار الصديق، وتعاون معه في اختياره، واستشعر هذه القضية، فكيف به حين يدخل على (التويتر) و(الفيس بوك) و(الإنستجرام) ... إلى آخره؟! وكم تأتينا استشاراتٌ من آباء وأمهات يعضون أصابع النَّدم!
يقول أحدهم: والله تفاجأنا بأن أبناءنا وبناتنا عندهم علاقاتٌ وأصدقاء ما كنا نتصور أن يكونوا بهذه الصورة.
طيب، أين الأرضية التربوية السابقة، والتربية الإيمانية، والتربية على قضية اختيار الأصدقاء الصالحين؟
لا بد أن يشعر الابن أنه في منظومةٍ حياتيةٍ يحتاج فيها إلى أصدقاء، ويعرف أن هناك جليسًا صالحًا وجليسَ سوءٍ، وليس المراد أن يعرف فقط، وإنما يُؤمن بذلك، ويشعر بخطورة جليس السوء، ويعرف أهمية الجليس الصالح، وتتكون عنده تراكُمية معرفية ومشاعر وجدانية إيجابية.
فنحن بأمس الحاجة إلى هذه القضية، وهي من الأمور التي تحتاجها الأجيال، وهي من أقوى مصادر السعادة النفسية.
فهذه قضيةٌ مهمةٌ، فحين يكون الجليس شخصًا عاقلًا، رَزِينًا، يخاف الله ، ويعرف حقَّ الله، وحقَّ الناس، وله قيمٌ، فالحمد لله رب العالمين، هذا لا يأتي منه إلا الخير، بإذن الواحد الأحد.
والبعض يقول: أنا لا أقدر أن أترك الصديق السيئ!
طيب، ماذا ستفعل إذا لم تترك الصديق السيئ، ولا توجد عندك إرادةٌ لتركه؟!
وبعضهم يُغالط نفسه ويقول: نحن نقدر أن نحتكَّ بأصدقاء مثل هؤلاء ولا نتأثر! مَن قال هذا؟! الحجر لو وُضعت عليه نقطةٌ من الماء ألا يمكن أن يكون لها أثرٌ بعد حينٍ؟ وهو جمادٌ، فكيف بالنفس البشرية؟!
فهؤلاء يُغالطون، ولا يعرفون النفس البشرية، ولا يُدركون حقيقة أنفسهم، وكما قال النبي : الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل[19]أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2378)، وأبو داود برقم (4833)، وحسنه الألباني..
وفي المصطلح الغربي صاحب نظرية "التعلم الاجتماعي "social learning تكلم عن قضية الاقتداء بكل وضوحٍ.
فالمنهج الإسلامي قال ذلك، والغربيون العُقلاء قالوا هذا الكلام، ونحن لم نقتنع، أو نتجاهل الواقع!
فهذه قضيةٌ ينبغي أن نُدركها؛ لأنها مصدرٌ من مصادر السعادة، وذلك حينما يكون الأصدقاء وبيئتهم بيئةً ناضجةً إيجابيةً تساعد على البرِّ والتقوى، ولا تُعين على الإثم والعدوان.
ملء أوقات الفراغ
النقطة السادسة هي: ملء أوقات الفراغ: وأنا أُعيد بعض النقاط في مناسباتٍ عديدةٍ؛ لأن هذه القضايا مهمةٌ، خاصةً أن القضايا قد يسمعها أناسٌ جددٌ، وأيضًا ستخرج بعدئذٍ -إن شاء الله- في أشرطةٍ في سلسلةٍ مناسبةٍ، وليعذرنا بعض الإخوة في تكرار بعض الأمور بين الفينة والأخرى، وذلك لأهميتها.
فملء وقت الفراغ قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، والسعادة والاستقرار النفسي أيضًا مربوطٌ بملء أوقات الفراغ، والقُدرة على ذلك.
وهي أيضًا من الوسائل الرائعة في التربية، فاملأ وقت فراغ المُتربي أيها المُربي، لكن إذا كان المُربي -للأسف الشديد- مُضيِّعًا لوقته، وليس قُدوةً حسنةً في ذلك أصبحت مشكلةً.
فالابن الذي يرى الأب مُضيِّعًا لوقته، ولا يكاد الابن يرى أباه يقرأ كتابًا؛ هذه مشكلةٌ، بخلاف الابن الذي يرى أباه -ما شاء الله! تبارك الله- يقرأ كثيرًا، وينتهي من كتابٍ ويبدأ في آخر، ويقوم بأعمالٍ تطوعيةٍ خيريةٍ، ويُصلي في المسجد، ويُحافظ على الصلاة، ويُصلي في البيت، ويقوم بصلة الرحم، ويحرص على برِّ والديه؛ لا شك أن هذه ستُعطي صورةً عظيمةً جدًّا بالنسبة للأبناء.
فقضية إشغال أوقات الفراغ ولو بالأمور الدنيوية رائعةٌ جدًّا، يُحقق الإنسان بذلك الدافع الذي ذكرناه سابقًا، وهو دافع الإنجاز، فيشعر الإنسان أنه فعل شيئًا والحمد لله.
ولعل كل واحدٍ منا يُلاحظ هذا حين يذهب إلى وظيفته ويُنجز شيئًا، فإنه يشعر بلحظةٍ من النَّشْوَى، حتى من الناحية الفسيولوجية هناك (هرمون) لهذه القضية، سبحان الله! يُنتج هذه البهجة وذلك السرور، ويذكرون أن المشي والرياضة والحركة عمومًا تُنتج هذا (الهرمون) بعد توفيق الله ، لكن الذي لا يعمل ويجلس بلا عملٍ ... إلى آخره يُضَيِّع هذا الأمر، وكما يقال: البطالة والبطَّالون والبطَّالات مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا عندنا؛ ولذلك فإن إملاء وقت الفراغ مهمٌّ جدًّا، وكما جاء في الأثر: قال عبدالله بن مسعودٍ : "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا، ليس في شيءٍ من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"[20]"مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 108).، ويُروى عن عمر ، يعني: لا قيمةَ له، ولا اهتماماتٍ، ولا عمل، سَبَهْلَلًا.
فيُصبح الشاب ويُمسي وهو لا يدري ما عنده، فلا شك أن هذه البطالة سيئةٌ، وقد تكون سببًا في الوقوع في المُخدرات أو شيءٍ من هذا القبيل، فالمشكلة كبيرةٌ جدًّا.
وقد جاءني أحد الطلاب قريبًا وقال لي: ما رأيك يا أستاذ، أنا عندي دراسةٌ صباحيةٌ في الكلية، وحصلت على فرصة عملٍ وظيفيٍّ في المساء في إحدى الجهات الخيرية، وتُعطي مقابلًا طيبًا. فقلتُ له: توكل على الله.
وهناك عددٌ من طلابنا بدأوا يهتمون بهذه القضايا، وبدأنا نسعى لهم من خلال بعض الجهات عندنا داخل الجامعة من أجل إشغال وقت فراغهم.
فما أجمل أن يقول الشاب: أنا ما عندي وقتٌ، أنا مشغولٌ. فوقته أصبح مليئًا، فهو ليس فارغًا، فهذا يُشعر بالراحة والسعادة، إذن هو أتى بالتوازن في حقِّ الله، وحقِّ الوالدين، وحقِّ الأسرة، ... إلى آخره، وأدرك القضية هذه تمامًا، ولا يعيش للدنيا فقط، وعندنا قضايا ذكرناها قبل ذلك، وهي: وضوح الهدف والغاية، والعبادة، ... إلى آخر تلك الأمور؛ ولذلك يقول النبي : إن قامت على أحدكم القيامةُ، وفي يده فَسِيلةٌ فليغرسها[21]أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (12902)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط مسلم".، فهذا دليلٌ على إشغال الوقت، فلو ما بقي على قيام الساعة إلا وقتٌ قصيرٌ، وبإمكانك أن تغرس شجرةً فاغرسها، فهذا عمل خيرٍ لا تُفوِّته.
فكم من أوقاتٍ تمضي على الأجيال اليوم في أمورٍ لا طائلَ من ورائها، ناهيك عن أن تكون في أمورٍ مُدمرةٍ!
فقضية الطاقات مشكلةٌ؛ ولذلك حين يملأ الشباب وقت فراغهم يشعرون بالسعادة، وقارنوا بين شخصٍ مشغولٍ تعرفونه، عنده وظيفةٌ، وشخصٍ ليست عنده وظيفةٌ ... إلى آخره، ستجدون الفرق كبيرًا، فهذا مُستقرٌّ في الجانب النفسي، والشخص الثاني مُضطربٌ، وهذا في الغالب، فوجود الوظيفة من عدمها له أثرٌ.
وقد تكون للشخص أشياء أخرى مُؤثرةٌ في نفسيته، وهذه قضيةٌ ثانيةٌ؛ لذلك فإن إشغال أوقات الفراغ من أجمل ما يمكن أن نقوم به في سبيل تحقيق الاستقرار النفسي للفرد.
الإيجابية
النقطة السابعة هي: الإيجابية: أن يكون الشخص إيجابيًّا، وليس سلبيًّا، ومُبادِرًا، وليس شخصًا ينتظر من غيره أن يخدمه.
والإيجابية في منهج الإسلام أنواعٌ: إيجابيةٌ مع الله ، وإيجابيةٌ مع النفس، وإيجابيةٌ مع الناس.
وقد أشرنا إلى هذا التقسيم في الأسبوع الماضي عمومًا.
فحينما يكون الإنسان إيجابيًّا يضع في باله أيَّ فرصةٍ مُواتيةٍ يُبادر إليها، فتتحقق له السعادة والاستقرار النفسي، وهذا أيضًا من الإنجاز والمُشاركة في البرِّ والتقوى؛ ولذلك من صفات الشخصية غير الناجحة: السلبية، وتجده مثلًا قد يكون إيجابيًّا في جوانب، لكن تجده سلبيًّا مع الآخرين، فليس عنده رغبةٌ في أن يحتكَّ بالمجتمع ويخدمه.
فنقول: اقتحم على قدر وقتك، ولا نقول لك: انسَ نفسك، وارمِ اهتماماتك عرض الحائط حتى تكون إيجابيًّا، فإذا وجدتَ شيئًا في مركز الحي يحتاج إلى تعاونٍ بادر إليه، أو شيئًا في الجيران بادر؛ حتى يشعروا أنه مُهتمٌّ بهم، وحريصٌ عليهم، وليس شخصًا سلبيًّا.
أما الذين لا يُصلون في المساجد فإن سلبيتهم تكون أكثر؛ لأنهم لا يحتكون بالناس، فتجد أن الناس لا يعرفونهم أصلًا.
وبعض الناس يُصلي، ولكنه يحرص على ألا يحتكَّ بأهل المسجد، فبمجرد أن ينتهي من الصلاة يذهب مباشرةً، ولا يريد أن يحتكَّ بالآخرين.
وقبل ذلك الإيجابية مع الله ؛ بأن يكون الإنسان في إطار العبودية لله ، حتى يكون مُبادرًا في عمل الخيرات والطاعات.
وبعض الذين وفَّقهم الله للقيام بالدعوة إلى الله والعمل الخيري والعلم الشرعي، أحدهم كان ينقل عن آخر فيقول: كنا نرى بركة العلم وحفظ الله للعلم من خلال عملنا الدعوي والخيري، وكلما زدنا في العمل الدعوي بارك الله فيما أعطاه من علمٍ. وهذا معنى الإيجابية والمُبادرة؛ ليشعر الإنسان فعلًا بأنه يُزَكِّي، ويحتكُّ بالآخرين، وعندئذٍ تجد أنه يمكن أن ينقل العلم الذي تعلَّمه: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122]، فهؤلاء يأتون ويُفَقِّهون الناس في الدين، حتى قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن هؤلاء الذين ذهبوا للجهاد يكون عندهم هذا الشعور، وهذا تصويرٌ رائعٌ.
ولذلك لا بد من الشاب الإيجابي الذي إذا وجد فرصةً أزعج المُدرس والأب لأنه يريد أن يُشارك ويخدم، والبنت تريد أن تُشارك في حلقات تحفيظ القرآن، أو في سوقٍ خيريٍّ، ولا بد ألا نكون حجر عثرةٍ أمام هؤلاء، فقد نأتي بالقنوات الفضائية بدون تحفُّظٍ، وفي قضايا مُتعلقةٍ بالإيجابية، والقضايا التي تُقرب إلى الله ، وتُقرب إلى الآخرين، وتُوجد التَّماسك المجتمعي والأسري، وصلة الرحم، والنفع والفائدة للنفس؛ بعضنا يتحفَّظ عليها، ويُقدِّم رجلًا، ويُؤخِّر أخرى.
فنحن بأمس الحاجة إلى الإيجابية والتربية عليها، وإتاحة الفرص لهذه الإيجابية، وفتح مجالاتٍ شبابيةٍ، ومجالاتٍ للنساء.
وهنا في المنطقة الشرقية أعجبني معهدٌ؛ اتَّصلوا وطلبوا درسًا خلال فصلٍ كاملٍ، وهو معهدٌ ثانويٌّ، يعني: سنتين كاملتين في علم النفس، وما يتعلق بهذا التخصص، وبدأتُ معهم عن طريق الهاتف، وهو معهد نساءٍ، يُخرِّج مُعلماتٍ لتعليم القرآن، اسمه: معهد ابن كثير، ويُشرف عليه الشيخ الدكتور: خالد السبت، حفظه الله.
وكنتُ أتوقع أن تكون الأعداد بسيطةً، فإذا بالأعداد ضخمةٌ، وهناك أناسٌ ردُّوهم، ومجموعةٌ تلو الأخرى، وهؤلاء خريجات ثالث ثانوي، وإلى عمر خمسين عامًا موجودات في هذا المعهد، وعندهم رغبةٌ في أن يتعلموا سنتين كاملتين، أربعة فصولٍ، وكل فصلٍ من السبت إلى الأربعاء، من الساعة السابعة إلى الظهر.
وهذا رائعٌ جدًّا في شغل الفراغ من جهةٍ، وهذا الذي ذكرناه قبل قليلٍ، وأيضًا الإيجابية، وأنها تُعلم نفسها، وكذلك تكون مُعلمة قرآنٍ تُفيد الآخرين بعد ذلك، وفي هذا إيجابيةٌ مع الله، كما أنها تختم كتاب الله ، وتتعلق به.
وقد اطلعتُ على المناهج فوجدتُها رائعةً جدًّا، ما شاء الله! تبارك الله، وتُقرب إلى الله ، ويكفي أن فيها الشيخ السبت وغيره من المشايخ الذين قاموا بوضع هذه المناهج.
ولهذا تتخرج المرأة مُعلمةً تُعلم الأجيال كتاب الله ، وتكون مُربيةً؛ ولذلك أدخلوا -جزاهم الله خيرًا- مُقرر علم النفس ومراحل النمو، ومقرر التربية الأسرية، ومقرر أصول التربية الإسلامية من أجل الإعداد التربوي والنفسي في هذه القضية كمثالٍ.
وأيضًا في ذلك إيجابيةٌ مع النفس، فالمرأة يمكن أن تقول: دعني في بيتي أنام أحسن لي. لكن هذه تقوم وتذهب بإرادتها، ولا توجد مُحفِّزاتٌ ماديةٌ، وإنما هناك تعلمٌ وتأهيلٌ كي تُصبح مُعلمةً لكتاب الله .
لعل في هذا القدر كفايةً، والوقت الآن تقريبًا انتهى، وسيبقى معنا عددٌ من النقاط نُكملها -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم يوم السبت بعد صلاة العشاء، وبها نُكمل موضوع الاستقرار النفسي، ثم في الأسابيع التي بعد ذلك ندخل -إن شاء الله- في موضوعاتٍ أخرى.
وإذا كانت هناك أسئلةٌ مكتوبةٌ نستطيع أن نُجيب عنها في الأسبوع القادم، بإذن الله تعالى.
أسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يرزقنا وإياكم السعادة في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا وإياكم حُسن العلاقة بالله ، وحُسن العلاقة بالآخرين، وأن نكون سُعداء، وأن يغفر لنا، ويتوب علينا.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | البيت لحيص بيص كما في "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 127). |
---|---|
↑2 | "الملل والنحل" (1/ 173). |
↑3 | "شرح الطحاوية" ط. الأوقاف السعودية (ص177). |
↑4 | "شرح الطحاوية" ط. الأوقاف السعودية (ص178). |
↑5 | "لوامع الأنوار البهية" (1/ 110). |
↑6 | "لوامع الأنوار البهية" (1/ 110). |
↑7 | من قصيدةٍ له بعنوان "الطلاسم" منشورةٍ على الشبكة العنكبوتية. |
↑8 | أخرجه البخاري برقم (6435). |
↑9 | أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2465)، وابن ماجه برقم (4105)، وصححه الألباني. |
↑10 | أخرجه أبو داود برقم (4950)، وصححه الألباني. |
↑11 | أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2601)، وحسَّنه الألباني. |
↑12 | أخرجه مسلم برقم (1015). |
↑13 | أخرجه مسلم برقم (2553). |
↑14 | أخرجه البخاري برقم (1)، ومسلم برقم (1907). |
↑15 | أخرجه مسلم برقم (1006). |
↑16 | البيت لطرفة بن العبد كما في "شرح المعلقات التسع" (ص82). |
↑17 | أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2378)، وأبو داود برقم (4833)، وحسنه الألباني. |
↑18 | أخرجه البخاري برقم (5534)، ومسلم برقم (2628). |
↑19 | أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2378)، وأبو داود برقم (4833)، وحسنه الألباني. |
↑20 | "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 108). |
↑21 | أخرجه أحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (12902)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط مسلم". |