المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: نحن -بحمد الله - في الدرس الثالث والثلاثون من هذه السلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، وهو اللقاء التاسع من المجموعة الثالثة، والجزء الثالث حول التربية على القيم والأخلاق.
نماذج من التطبيقات العملية للقيم والأخلاق
لعلي في بداية هذا اللقاء أُعطيكم ثلاث لقطاتٍ، حيث كنتُ في أحد المُلتقيات الخيرية أمس الجمعة، فرأيتُ هذه اللقطات الثلاثة، فاستوقفتني، وأردتُ أن أربطها بموضوع القيم والأخلاق؛ لعلها تُفيدنا.
وقبل أيامٍ كنتُ في إحدى المناطق في الجنوب، وكانت هناك بعض اللقاءات والمحاضرات، وكانت هناك لقطتان أريد أن أقف معهما؛ لعل هذا يكون من التطبيقات العملية المُتعلقة بالقيم والأخلاق.
وفي لقاء الأمس وأنا في محاضرةٍ على هذا المُلتقى بعنوان "الأسرة والتقنية" كان على البوابة اثنان أعمارهما -في تصوري- في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، وهما في مقدمة البوابة جالسين على كراسٍ من الخارج، ويشربان السجائر، وكل مَن يدخل لهذا المُلتقى ينظر إلى مشهد هذين اللذين هما جزمًا متزوجان في ظني، والله أعلم، ويدخل الأطفال، حيث كان أغلب الموجودين من الأطفال والشباب.
وتصوروا الأطفال والشباب وهم داخلون لهذا المكان الخيِّر الطيِّب -وهو مكانٌ خَيِّرٌ وطَيِّبٌ فعلًا- يرون هذين اللذين ليس لهما علاقةٌ بهذا المكان -وجزاهما الله خيرًا- جالسين، وقد أذَّن المُؤذن لصلاة المغرب، وبين الأذان والإقامة وهما يشربان السجائر أمام المدخل، فأتيتُ إليهما، وسلَّمتُ عليهما، وعرَّفتُ بنفسي من باب الاستثارة، وذكرتُ مجال التخصص في الجانب النفسي من باب الاهتمام أكثر كاختصاصي نفسي، فقالا: حيَّاك الله. فقلتُ: والله يا إخوة أنا جلستُ أتأمل هؤلاء الذين يدخلون إلى هذا المُلتقى ويخرجون من أطفالٍ وشبابٍ، وينظرون إليكما، وهذا فيه تضاربٌ للقيم، فالقضية خطيرةٌ جدًّا. فاستحيا وقالا: جزاك الله خيرًا. وألقيا بالسجائر التي عندهما، فقلتُ: على الأقل مَن ابتُلي فليستتر، وهذه قيمةٌ. فجزاهما الله خيرًا، كان تجاوبهما إيجابيًّا، لكن تصورت فئات الناس الكثيرة التي ترى مثل هذه المشاهد والسلوكيات المُنحرفة، كيف يكون أثرها على هدم القيم والأخلاق؟!
وهذه المشاهد أكثر تأثيرًا حين تكون من خلال الصورة المُلونة وعبر الإثارة الإعلامية والشاشة التليفزيونية، فلا بد من قيمة السَّتر؛ ولكي يستر الله عليك استر على نفسك، وقيمة المُعافاة من الوقوع في مثل هذه الأشياء، وقيمة الاقتداء، فهذه قيمٌ عظيمةٌ جدًّا، فعلى المرء أن ينتبه كي لا يكون قدوةً سيئةً.
ثم ذهبتُ لصلاة المغرب، وأنا أُصلي شغلني اثنان من الأطفال: واحدٌ في الصف السادس الابتدائي، والآخر في الصف الرابع الابتدائي، فقد ظلَّا يتحدثان ويتحاوران، يقول الصغير: يا أخي، ما هذا المُخيم الكبير الذي أنفقوا عليه كثيرًا؟ فقال الثاني: حتى لو أنفقوا عليه أموالًا كثيرةً، لكنهم -جزاهم الله خيرًا- فعلوا شيئًا طيبًا لنا. فكبر في عيني هذا الكلام، وتمنيتُ لو أني سجلتُه وأضفتُه للإخوة العاملين في مثل هذا العمل التطوعي المبارك، فهذه قيمةٌ ليست من السهولة بمكانٍ، فمن الواضح أنه تربى عليها، وأيضًا واضحٌ أن الله قد أعطاه شيئًا من التوفيق، مع أنه في الصف السادس الابتدائي.
فانظروا إلى مثل هذه المعاني العظيمة في جانب الخلق.
وبعض الناس ربما يكون مُعوّقًا للعمل الخيري والتطوعي، ويبدأ في تضخيم الأشياء، ويجعل من (الحبَّة قُبَّة)، ويبدأ يتفلسف وهو جالسٌ في مكانه، وينتقد هذا وهذا، ... إلى آخره، وهو لا يتحرك، وهم قد عملوا وقاموا بهذه القيمة العظيمة، وهي قيمة العمل التطوعي، وهذه صورةٌ رائعةٌ.
وقد رأيتُ طلابًا لنا في الجامعة يشتغلون في هذا البرنامج، وبينهم التآلف، وهم في العشرين من عمرهم، ورئيسهم كذلك، وأعرفه، وهو الذي يقوم على هذا البرنامج، وزملاؤه يحترمونه، وهو يحترمهم ويُقدِّرهم.
فهذه صورةٌ من صور القيم في التطوع والاحترام وتبادل الخبرات؛ ولذلك نحن أكَّدنا سابقًا أن ميزة القيم أنها عمليةٌ وواقعيةٌ، وليست تنظيريةً.
ولذلك انظر للطالب الذي هو في الصف السادس الابتدائي، فقد أثَّرت فيه هذه المعاني حين جاء وجلس ورأى هذا الجهد، وتم التعامل معه بطريقةٍ إيجابيةٍ، فأثَّرت هذه القضية في تصوراته.
وكذلك لما كنا نُصلي المغرب كانت هناك مجموعةٌ من الشباب يلعبون كرة القدم قريبًا من المُلتقى، فتوقفوا عن اللعب، وأتوا وصلوا في هذا المُصلى الموجود في هذا الملتقى، وهذه قيمةٌ من أعظم القيم التي فيها تقديرٌ لأمر الله .
وفي المقابل كان هناك من الشباب مَن كان جالسًا عند البوابة لم يُصلِّ مع الناس، وذهبوا لمحلٍّ يأكلون منه، ... إلى آخره، وهذه صورةٌ أيضًا من صور تضييع هذه القيمة العظيمة، ولو كلَّمتَ بعضهم لقال لك: ثيابي أو ملابسي فيها عرقٌ، ... إلى آخره، وتعلل بعللٍ واهيةٍ، ولو كان الإنسان حريصًا لرتب أموره.
وأعرف بعض الرياضيين الذين يحملون معهم بدلةً إضافيةً، فيُغير أحدُهم ملابسه ويُدرك الصلاة في المسجد.
والإنسان يتألم حين يرى بعض الشباب لا يعرف المسجد ولا يدخله إلا من أجل دورة المياه -أكرمكم الله-، كما أن البعض لا يعرف الصلاة إلا عند صلاة الجنازة إذا مات له قريبٌ، أو شيءٌ من هذا القبيل، فيدخل الشاب دورة المياه -أكرمكم الله- ويقضي حاجته، ولا يغتسل، ولا يتوضأ، ويشرب الماء، ثم يخرج، ويجلس ويتكلم في بعض الأحيان! وهذا نراه عندنا في مسجدنا بصورةٍ كبيرةٍ.
إذن قضية القيم في التعامل مع الله والنفس والناس قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وفي المنطقة التي كنتُ فيها في الأسبوع الماضي -وهي منطقة تنومة في الجنوب- كان البرنامج عن القضايا المُتعلقة بالإعلام والتقنية، فحدثني أحدُ الإخوة الذين كانوا معنا في الطريق عن موقفٍ يعرفه لأحد الأشخاص: أن ابنته الصَّغيرة أتت إليه وقالت له: يا أبتِ، أنا ما أُحب الجوَّال الذي معك. لماذا؟ لأنه مشغولٌ عنها، وكان من قبل يلتفت إليها، فلما أتى الجوال بدأ الأب ينشغل عنها.
وهذا يدل على قيمة التربية والعناية بالأبناء وتوجيههم ورعايتهم، فكانت صدمةً للأب قويةً، والبنت كانت لا تتكلم؛ لأن مستوى الإدراك في مرحلة الطفولة مستوى ضعيفٌ، لكنها نطقت بما في نفسها، كما ينطق بعضُنا بما في نفسه في مثل هذه الأشياء وفي غيرها.
وبعد المحاضرة التي كانت بعنوان: "التربية في عصر التقنية" أحد الأساتذة أمسك بي -جزاه الله خيرًا-، وقال لي: ماذا نفعل مع تعلق الأبناء في مرحلة الثانوية بـ(البلاك بيري)؟ يقول: نجد في أجهزة بعض الشباب -والعياذ بالله- أشياء مُخزيةً وإباحيةً ومُخيفةً جدًّا، فماذا نفعل مع هؤلاء؟
وواحدٌ آخر في نفس المكان يسأل عن نفس هذا الموضوع، فقيمة العفَّة ومُراقبة الله قَلَّت في أجيالنا اليوم؛ وذلك نظرًا لقلة القدوات في بيوتنا، ولم يعد هناك ميزانٌ في رعاية حقِّ الله وتقديره حقَّ قدره، والأجيال تتساهل في مثل هذا الأمر.
مرحلة التمييز عند الأطفال
كنا قد تكلمنا في آخر اللقاء الماضي حول مرحلة الطفولة التي هي قبل مرحلة المدرسة، وتكلمنا عن هذه المرحلة وما يتعلق بالقيم فيها، ووقفنا عند مرحلة التمييز تقريبًا من سنِّ سبع سنوات إلى نهاية المرحلة الابتدائية، وبعضهم يجعلها إلى سنِّ أربعة عشر.
وعلى أيَّة حالٍ هذه المرحلة أيضًا لها خصائصها المُؤثرة في قضية القيم والأخلاق، فنحتاج أن ننتبه لمثل هذه القضية.
ومرحلة المدرسة هي من أول الابتدائي إلى السادسة ابتدائي، والطفل قبل أن يدخل المدرسة كان في محيط الأسرة التي هي مُؤثرةٌ جدًّا في بناء القيم والأخلاق، فالأسرة قبل السابعة تقريبًا هي المصدر الرئيس الأول في بناء القيم والأخلاق للأجيال، لكن لما بدأت المرحلة الابتدائية ودخل الطفل في سنِّ السبع سنوات صار هناك مُنافسٌ أو شيءٌ إضافيٌّ للأسرة وهي المدرسة، وأصبح هناك عناصر جديدةٌ تدخل في التأثير، منها: الطلاب، والأقران، والمعلمون، ولا شك أن هذه الفئات فئاتٌ جديدةٌ، فإن كانت مُستغلَّةً جيدًا، والأساتذة أكفاء وقُدواتٌ، فلا شكَّ أن بناء شخصية هذا الطفل على القيم والأخلاق يكون بناءً إيجابيًّا ومُستمرًّا.
العناية بالأصدقاء
في هذه المرحلة تبدأ العناية بالأصدقاء، وفي البداية يكون عند الطفل اهتمامٌ بنفسه، ثم يبدأ مع طفلٍ آخر مثله، ثم تُصبح عنده جماعة اللعب التي يلعب معها، وتمتد شيئًا فشيئًا؛ ولذلك هؤلاء مُؤثرون على الطفل، وهذا نفسه مُؤثرٌ في القيم والأخلاق، فالعبارة التي يسمعها منهم سينقلها؛ ولذلك بعض الآباء يقولون: نحن ما ربينا أبناءنا على هذه الألفاظ، وإنما يأتي بها الابنُ من المدرسة، أو الشارع، أو ما شابه ذلك.
ولذلك في مثل هذه المرحلة يكون اللعب من أقوى الأمور التي يمكن أن نستثمرها في بناء القيم والأخلاق؛ لأن مساحة اللعب عند الطفل كبيرةٌ؛ ولذلك ينبغي أن يُستثمر اللعب في بناء القيم والأخلاق، وليس مجرد أن يلعب من أجل أن يُرَفِّه عن نفسه فقط، بل يلعب حتى يكتسب قيمةً: كالتعاون، والإيثار، والاحترام، ويمكن أن يُوجَّه من خلال اللعب.
الاستقلال
مرحلة التمييز -وهي بين سن السابعة والرابعة عشر تقريبًا- فيها سماتٌ نحتاج أن ننتبه لها، ولها ارتباطٌ كبيرٌ جدًّا بالنمو الاجتماعي، وأولى هذه السمات في هذه المرحلة: السعي نحو الاستقلال، والطفل في المرحلة التي قبلها -وهي سن السابعة- شخصٌ تابعٌ لغيره، فهو نسخةٌ طبق الأصل من الأب مثلًا، ومع التمييز والنضج العقلي صار عنده سعيٌ إلى الاستقلال، وصار له رأيٌ، وبدأ يُعطي قرارًا ورأيًا، وصار يستطيع أن يُميز بين الخير والشر، وبين الحقِّ والباطل، ويعرف الفرق بين هذا وهذا، فمرحلة التمييز لها قيمةٌ.
ظهور معانٍ جديدةٍ للمواقف الاجتماعية
النقطة الثانية في السمات التي تُساعد على قضية القيم، ونحتاج أن ننتبه لها ونعتني بها في مرحلة التمييز هي: ظهور معانٍ جديدةٍ للمواقف الاجتماعية، ومن قبل كانت عنده تبعيةٌ وتقليدٌ، والآن المواقف الاجتماعية صارت تعني له شيئًا مهمًّا فعلًا، فإذا جاء ضيوفٌ أصبح الأطفال يُرحبون بهم، ويُقدرونهم، ويحترمونهم، ... إلى آخره، وقبل هذه المرحلة كانوا نسخةً (Copy) من الكبار، فكانوا يُقلدونهم تقليدًا شبه أعمى، ولكن الطفل لا شك أنه -كما قلنا- يتعوَّد على القيم والأخلاق، وهنا تبدأ عنده معانٍ لم تكن موجودةً من قبل، وهذا أيضًا لا شك أن له علاقةً بالنضج الذي يزداد عن المرحلة السابقة.
تعديل السلوك حسب المعايير
من السمات أيضًا: أنه يبدأ عنده تعديلٌ للسلوك حسب المعايير والاتجاهات الاجتماعية والقِيَمية للكبار، يعني: تكون عنده مقدرةٌ على أن يُعدل السلوك بنفسه حسب المعايير والنظام الموجود في الأسرة والمدرسة، وحسب قِيَم الكبار التي يُوجِّهونه إليها؛ ولهذا من الخطأ أن نقول: هو طفلٌ صغيرٌ لا يُدرك! بل هو يُدرك ما هو أعظم من هذه المعاني: كقضايا العقيدة؛ ولهذا قال النبي لابن عباسٍ رضي الله عنهما: يا غلام، إني أُعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصُّحف[1]أخرجه الترمذي، ت: شاكر، برقم (2516)، وصححه الألباني.، فهذه يقولها النبي لغلامٍ مُميزٍ وهو ابن عباسٍ رضي الله عنهما في مثل هذه المرحلة، وهذا يدل على أن هناك مجالًا لتعديل السلوك والانضباط حسب قيم الكبار والمعايير والاتجاهات الاجتماعية.
اتساع دائرة الميول والاهتمامات
من السمات أيضًا: في هذه المرحلة تبدأ دائرة الميول والاهتمامات تتسع، بحيث تصير عنده قابليةٌ للميول والاهتمامات، فهو يميل إلى التعامل مع الأجهزة والتقنيات، والقضايا الاجتماعية، والحفظ، وغير ذلك.
وهذه القضايا تظهر في مرحلة التمييز، وعندئذٍ يمكن أن يتم من خلالها إشباع القيم والأخلاق؛ لأنه أصبحت لديه ميولٌ واهتماماتٌ يمكن أن نستثمرها، فتكون هذه الميول والاهتمامات إيجابيةً، ويكتسب من خلالها القيم، فيصير عنده ميلٌ مثلًا للقراءة والاطلاع.
أحد الزملاء ابنته عمرها سبع سنوات، وقد قرأت كتاب "الرحيق المختوم" كاملًا -ما شاء الله! تبارك الله-؛ لأن الأب قارئٌ هُمامٌ، فتكوَّنت في هذه المرحلة سمة الاستعداد للميول والاهتمامات، ثم وجدت القدوة، فهي ترى الأب يقرأ بصورةٍ يوميةٍ، وهذا له أثرٌ كبيرٌ في استثارة الميول والاهتمامات لدى الأبناء.
التمييز
ومن سمات هذه المرحلة أيضًا: التمييز، فيبدأ ينمو عنده الضمير، ومفاهيم الصدق والأمانة، فيصير عنده ضميرٌ حيٌّ، فيحسب حسابًا لمثل هذه القيم، ويكون مُستعدًّا لهذه القيم الكبرى، مثل: الصدق، والأمانة لو رُبِّي عليها.
وفي مقابل ذلك قد تنمو عنده ميولٌ سلبيةٌ، والأب الذي يشتكي من ابنه أنه يكذب، أو غير آمينٍ، أو يسرق، هذه الأمور بسبب المُؤثرات والتقصير في التربية قبل هذه المرحلة، فهناك قدواتٌ سيئةٌ من خلال الشاشة التي يراها، والأصدقاء، وضعف التوجيه.
وأيضًا ينمو عنده الوعي والمهارات الاجتماعية، ويبدأ النمو عنده يزداد، يعني: الجوانب المُتعلقة بالمهارات الاجتماعية وعلاقته وتواصله مع الآخرين، والاحترام، والتقدير، والسلام، والابتسامة، ... إلى آخره، وتتكون عنده مجالاتٌ لاكتساب مثل هذه المهارات شيئًا فشيئًا.
ولا شك أن هذه كلها تُعطي في هذه المرحلة قابليةً لبناءٍ أقوى في القيم والأخلاق من المرحلة السابقة؛ ولذلك -للأسف الشديد- من أسباب ومُبررات التأخر في اكتساب القيم والأخلاق في الأجيال: عدم مُراعاة هذه المرحلة الخطيرة، وهي مرحلة التمييز؛ ولهذا ينبغي أن نستثمر التوجيه والتأثير المُباشر وغير المُباشر في مرحلة التمييز؛ لأن هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في اكتساب القيم والأخلاق، مثل: الصدق، والأمانة، والاحترام.
وكنتُ في إحدى المُناسبات عند إحدى العوائل التي أعرف عنها أن عندها قيمة الكرم والاحترام، فدُهشتُ جدًّا حين رأيتُ الصغار في مرحلة التمييز كأنهم كبارٌ في هذه القيمة، وسألتُ مَن بجواري من عائلتهم: كيف استطعتم أن تُربوا هؤلاء الصِّغار على هذه القيم الجميلة، والواحد منا قد يُعاني مع أبنائه؟! فقال: هذه قضيةٌ نحن منذ نُعومة أظفارنا ننشأ عليها، يعني: قضية الترحيب والاحترام والتقدير، وحتى أسلوب الترحيب والشجاعة الأدبية والجرأة، فتجد الطفل الصغير يُسلم على الكبير بكل احترامٍ وتقديرٍ، ويتكلم معه، وليس هو شخصًا مُنطويًا وخائفًا ومُنعزلًا.
فتجد هذه القيم تظهر بصورةٍ رائعةٍ جدًّا، ولا شك أن السر في ذلك وجود قُدواتٍ مُؤثرةٍ، وثقافةٍ مُنتشرةٍ في مثل هذه العائلة، يراها الطفل ويُوجَّه إليها منذ نُعومة أظفاره، ولا يُقال: اتركوه، ما زال صغيرًا! ثم بعد ذلك في سن المُراهقة أو شيءٍ من هذا القبيل لا يستطيع أن يُقدم (صينية) عصيرٍ، وتجده يرتعش، ولا يعرف كيف يُقدمها؟! ويمكن لأول مرةٍ يُمارس مثل هذا الدور الذي كان من الممكن أن يُمارسه من قبل، حتى ولو أخطأ.
كلام الدكتور النغيمشي عن مرحلة التمييز
يقول الدكتور عبدالعزيز النغيمشي -حفظه الله- في كلامٍ جميلٍ: "إن المُربي في أمس الحاجة لإكساب الطفل العديد من العادات والخصال، وتلك هي –يقصد: مرحلة التمييز- الفترة المُناسبة، والأكثر قابلية".
وهو أستاذٌ (بروفيسور) في علم النفس التربوي وعلم نفس النمو، فنحتاج أن نقف مع هذه العبارة.
يقول: "تلك هي الفترة المناسبة، والأكثر قابلية"، إذن عرفنا الفرص التي تضيع علينا بسبب عدم الاهتمام بهذه المرحلة في زرع القيم والأخلاق في النَّشء، فتلك هي الفترة المناسبة، والأكثر قابلية.
يقول: "فالعادات المُتعلقة بالعبادات" يعني: صلاته يوميًّا في المسجد خمسة فروضٍ، هذه عادةٌ مُتعلقةٌ بالعبادة، والمُعاملات، واحترام الضيوف وإكرامهم، وما شابه ذلك، هذه أمثلةٌ.
"فالعادات المتعلقة بالعبادات والمُعاملات والآداب مثل: الصدق والأمانة، وما شابه ذلك، والآداب مثل: الصلاة ومُتعلقاتها، وأدب الحديث، والسماع، والاستئذان، والتعامل، ونحوها، إنما تُزرع في هذه المرحلة".
تريده أن يستأذن قبل أن يدخل، عليك أن تُربي فيه هذه القيمة، أما أن يدخل بدون استئذانٍ فإنك ستجد نفسك في موقفٍ مُحرجٍ في مثل هذه القضايا؛ لأن الابن الآن في مرحلة المُراهقة، فيدخل عليك وربما تكون في وضعٍ غير مُناسبٍ، أو لا يستأذن في المجلس حينما يريد أن يتكلم، ... إلى آخره.
فأدب الاستماع وعدم المُقاطعة من تلك الآداب، يقول: "إنما تُزرع في هذه المرحلة، والمنهج الإسلامي لا يكتفي بمجرد اللعب والتنفيس"، لماذا أشار إلى هذه القضية؟
لأن اللعب في هذه المرحلة قضيةٌ بارزةٌ، فينهمك البعض في قضية اللعب، وينسى أشياء كثيرةً جدًّا، ويُصبح اللعب من أجل اللعب فقط، والتنفيس من أجل التنفيس فقط، وتذهب قضية القيم والأخلاق، وهو يريد أن يلفت النظر هنا للمعنى الذي ذكرناه قبل قليلٍ.
ويقول: "بل هو يُوظِّف اللعب والحركة لاكتساب المهارات وتقوية الجسم" هذه فوائد اللعب، يا ليتها تكون مُستحضرةً عندنا، "واستكمال النمو، والاستعداد للجهاد والمُجاهدة، وتحمل الأعباء الاجتماعية والدعوية"؛ لأنه إذا لم يُمارس هذه المعاني من خلال اللعب صار اللعبُ لأجل التنفيس فقط، وما استثمرنا مثل هذه القيم.
يقول: "وينظر بعض المُفكرين المسلمين: كالغزالي، وابن مسكويه، وغيرهم إلى أن ممارسة الطفل لألعابه المُحببة يبعث النشاط، ويُزكي النفس"، فليس اللعب من أجل اللعب فقط، فقد يُصبح اللعب نقمةً على الطفل بالانهماك في الألعاب حتى تضرَّه في أعصابه وصحته، وثبت أن مثل هذه الألعاب تُؤثر حتى على النظر، وأما الأعصاب فقد أكَّدت دراساتٌ عديدةٌ أن الألعاب تُؤثر في مستوى الأعصاب والذي يؤدي إلى القلق والتوتر، وما شابه ذلك.
ناهيك عن المشاكل المتعلقة بالقضايا الأخلاقية، أو المتعلقة بقضايا العنف والجريمة، فهو يلعب لكنه يُمارس جريمةً، يلعب (البونص) وهو عبارةٌ عن صليبٍ، وتظهر له بنتٌ، ويبدأ في التعرف عليها، ويُكَوِّن علاقةً، الآن هذه مجرد علاقةٍ أوليةٍ، ثم في (البونص) الثاني يزيد الأمر أكثر من ذلك، ثم تركب معه في السيارة، وقد اطلعتُ على هذه القضايا، حتى تصل إلى مستوى مُمارسة الفاحشة في السيارة -والعياذ بالله-، فهذه قضيةٌ شنيعةٌ وخطيرةٌ جدًّا.
يقول: "الألعاب المُحببة الإيجابية التربوية تبعث النشاط، وتُزكي النفس، وأن اللعب وسيلةٌ، وليس غايةً"، وقد صار اللعب الآن غايةً عند كثيرٍ من الأُسَر للأسف، ويأتون بقنواتٍ فضائيةٍ بحجة اللعب، دون تمحيصٍ للألعاب والأفلام الكرتونية والقنوات، وإنما من أجل أن يلعب ويسعد، ويُنَفِّس عن نفسه، فإذا كانت هذه الوسيلة تُخالف الفطرةَ وتحرفها فلا خيرَ في هذه الألعاب.
ثم يقول: "وصمام أمنٍ ينفذ منه ما يتراكم عليه من متاعب".
لا شك أن الألعاب فيها فوائد، والتربية باللعب، أو يُسمونه: التعليم باللعب، يعني: يلعب فيتعلم ويتربى؛ وهذا مما يجعلك أخي الكريم تُمَحِّص ما بين أيدي أطفالك من هذه الألعاب، وهذه وصيةٌ ونصيحةٌ.
وقد اطلعتُ على تقريرٍ لشخصٍ مُختصٍّ في الجانب الحاسوبي اطلع على مجموعةٍ من هذه الألعاب -للأسف الشديد- تُوزَّع بالخفاء دون نظرٍ ورقيبٍ، وهي صورةٌ مُفجعةٌ ومُخيفةٌ جدًّا، تُؤثر على الأجيال شئنا أم أبينا، إلا أن يلطف الله ، فينبغي أن يتنبه لها من أجل كفِّ شرِّها عن الأبناء والأجيال.
طيب، لعل في هذا القدر كفايةً فيما يتعلق بموضوع مرحلة التمييز، ونكون بهذه الصورة قد انتهينا من هذه المرحلة، وسندخل في قضايا أخرى مُتعلقةٍ بالقيم والأخلاق نُكملها -إن شاء الله تعالى- في اللقاءات القادمة.
أسأل الله تعالى أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ويُعيننا وإياكم على بناء أنفسنا وأجيالنا على القيم والأخلاق التي يرضاها الله ، وتكون نافعةً في المجتمع، وأن يُبعد عنا تلكم القيم والأخلاق السيئة.
القيم والأخلاق عنوان حضارة المجتمع
فكلما كانت شاملةً ومتكاملةً ومُتوازنةً في مجتمعاتنا كلما كانت هذه القضية رائعةً جدًّا؛ ولذلك المجتمع ينحطُّ من خلال قِيَمه، ويحفظه الله حين يُحافظ على هذه القيم، حتى لو كانت هذه المُجتمعات كافرةً، فانظروا إلى اليابانيين مثلًا كيف يُعَظِّمون قيمة العمل؟! وهي قيمةٌ استفادوها من خلال أخلاق (كونفوشيوس) الذي هو مرجعهم الأخلاقي والديني، مع أنهم لا دينَ لهم، لكن عندهم هذا الرجل الذي أعطاهم ميثاقًا أخلاقيًّا من خلال القضايا التي طرحها في هذه الجوانب، وهي جوانب إيجابيةٌ، ومن ذلك قيمة العمل كمثالٍ، فأخذوها ونجحوا؛ ولذلك نجاحهم ولَّد أشياء إيجابيةً عندهم، بغض النظر عن عقيدتهم ونظرتهم إلى الآخرة، نحن نتكلم عن الدنيا.
لكن حين نكون مسلمين ونتأخر، ويكون غيرنا خيرًا منا، ونُصبح نحن المسلمين -للأسف- نثق بعمالٍ ليسوا بمسلمين أكثر من ثقتنا بالمسلمين؛ نظرًا لأن عندهم قيمة العمل وحُب العمل، والمسلم ليس عنده ذلك، فهذه قضيةٌ خطيرةٌ، وتجده يقول: والله أنا أثق في هذا العامل، أو أثق في هؤلاء الناس، سبحان الله! مع دناءة أخلاقهم، ومن باب أولى دناءة عقيدتهم، إلا أنك تجدهم في بعض القضايا المتعلقة بحقوقٍ مُعينةٍ يحفظونها.
ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية له كلمةٌ عجيبةٌ جدًّا، حيث يقول: "إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمةً، ويُقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام"[2]"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية (ص29)..
فانظر إلى قيمة العدل، وقيمة الظلم، القيمة الإيجابية: العدل، والقيمة السلبية: الظلم، ويُولد من قيمة العدل حفظٌ لكيان هذا المجتمع والدولة -كما يقول ابن تيمية- حتى ولو كانت كافرةً.
وهذا يُجيب عن سؤال: لماذا بعض الدول التي ترعى حقوق شعوبها وترعى قضية العدل تتمتع باستقرار أمورها في الحياة الدنيوية؟ لأن هناك عدلًا موجودًا، بينما إذا وُجِدَ الظلمُ وُجِدَ الهلاكُ والضياع.
ولذلك قد يفوز غير المسلمين بسبب الالتزام بالقيم أكثر من المسلمين؛ لأنهم لم يلتزموا بالقيم، وهذا هو المحك التربوي الكبير الذي دعا فيه إبراهيم ربه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5] أي: لا تجعلنا سببًا في فتنة الكفار وعدم دخولهم الإسلام بسبب رداءة أخلاقنا، وعدم تطبيق الإسلام، أو لا يكون الكفار سببًا في فتنتنا نحن. فكلا الأمرين يمكن أن يُحمل على قضية القيم والأخلاق.
هذا والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.