المحتوى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا وفقهًا في الدين، اللهم آمين.
هذا هو اللقاء الخامس والثلاثون بفضلٍ من الله ، وهذه هي الحلقة الحادية عشرة من المجموعة الثالثة، وفي الجزء الخامس سنستمر في الكلام حول ما يتعلَّق بتربية القيم والأخلاق، أي: تربية الأجيال على القيم والأخلاق -بإذن الله - ضمن سلسلة "تطبيقاتٍ تربويةٍ ونفسيةٍ من الكتاب والسنة".
وكنت قد ذكرتُ في اللقاء الماضي إحصائيةً، وقلت: سأتأكد منها فيما يتعلَّق بقضية نسبة الشباب الذين يتلقون مُفرداتهم من (التليفزيون) في تلك الدراسة، وذكرتُ نسبةً تقريبيةً 90% من العينة، فرجعتُ إليها فإذا هي 88% من العينة يتلقفون هذه المفردات من (التليفزيون)، وهذا أمرٌ مهمٌّ، ونحتاج أن ننتبه له؛ لأنَّه جزءٌ مما يتعلَّق بالموضوع الذي نتناوله فيما يُؤثر على القيم.
فالألفاظ مما يُؤثر على القيم، وقد تجد استخدام الألفاظ الأجنبية، أو استخدام بعض العبارات السوقية ... إلى آخره، وأيضًا يستخدم الجيلُ ألفاظًا لا يعرف حتى معناها، وهذا كله له ارتباطٌ بقضية القيم والأخلاق.
والدراسة دلَّت على أن 88% لديهم هذه القضية، وعندئذٍ لا شك أن هذا من المُؤثرات الكبيرة على ما يتعلَّق باكتساب الجيل للقيم والأخلاق والآداب.
ونحن ما زلنا نُؤكد على أن طرح مثل هذه اللقاءات ما هي إلا محاولةٌ -قدر ما نستطيع- لنعي أشياء كثيرةً تحتاج -حقيقةً- إلى تصحيحٍ في مجتمعاتنا، وفي أُسرنا خاصةً، ومن ذلك ما يتعلَّق بقضية القيم.
وكنا في اللقاء الماضي تحدثنا عن بعض العوامل المُؤثرة في بناء هذه القيم والأخلاق، وتحدثنا عن قضية الوالدين والعلاقة بينهما، حينما تكون العلاقةُ إيجابيةً، وما الفرق بينها وبين العلاقة السلبية؟ فالأبناء -أطفالًا أو مُراهقين- يتأثرون بهم في اكتسابهم لقضية القيم والأخلاق والآداب بلا شكٍّ؛ لأنَّ البيئة الصحية المُتزنة في الأُسَر تُساعد الأبناء على أن يتلقوا القيم بطريقةٍ سليمةٍ، ومن العوامل المُؤثرة: تلك العلاقة بين الوالدين.
دور المدرسة في التنشئة على القيم والأخلاق
ذكرنا مجموعةً من الأمور المتعلِّقة بمداخل الأسرة وأثرها، ثم وقفنا عند البناء الاجتماعي المتعلِّق بالمدرسة، فهي مُكونةٌ من ماذا؟ إدارةٍ جيدةٍ، ومُعلمين جيدين، وبها أنشطةٌ مُباركةٌ طيبةٌ، وبها أبناء تربوا تربيةً إيجابيةً ... إلى آخره، فلا شك أن هذه المدرسة ستُساعد على قضية اكتساب القيم والأخلاق والآداب الصحيحة.
لذا أنا أرى أنه من المهم جدًّا -حقيقةً- أن يكون الدور المطلوب من المجتمع أن يُنشئ مدارس وبيئاتٍ تعليميةً جيدةً، وأن يكون هناك حرصٌ على استقطاب المديرين الجيدين الذين يجمعون بين الودِّ والحزم، ويكون هناك حرصٌ على استقطاب المعلمين الجيدين، وأيضًا انتقاء الطلاب الجيدين، وما شابه ذلك.
وكذلك بالنسبة للأُسر عليها أن تنتقي المدارس لأبنائها، ولا يُلحقونهم بأي مدرسةٍ، بل يتعب كما يتعب من أجل صحة ابنه ويذهب به إلى أكثر من مستشفى ويسأل، وربما يُسافر في مشارق الأرض ومغاربها من أجل صحة هذا الابن، كذلك القضية هنا من باب أولى: أن يتعب لأجل أن يختار لابنه –شابًّا أو طفلًا- المدرسة التي تُساعده على اكتساب الخير والأخلاق الصحيحة.
فكم من أُسرٍ تُعاني وتقول: أنا سعيتُ في بناء الجيل وتربيتهم على الأشياء الطيبة، ثم جاءت المدرسة ودمَّرتهم!
ونسمع الآن مَن يقول: خلاص، لا نستطيع أن نفعل شيئًا.
وقضية أنه لا بد أن يخرج من المدرسة جيدًا نحن ما أنكرناها، لكن لا بد ألا نستسلم، ونسعى إلى إيجاد البيئة الأفضل، والتي هي حقٌّ للابن على الأب، وواجبٌ على الأب أن يعرف المدرسة المُناسبة، ويحاول البحث عن المعلمين الجيدين المُناسبين، وما شابه ذلك.
أبناؤنا أصحاب قيمٍ
من الأمور والعوامل المُؤثرة أيضًا فيما يتعلَّق بقضية اكتساب الأجيال للقيم والأخلاق والآداب: أن يكونوا هم أصحاب قيمٍ وأخلاقٍ وآدابٍ، فتُحفظ كرامتهم، وتُحفظ سيرهم في هذه الحياة، ويشعرون حقيقةً أنهم يعيشون بشيءٍ من الهوية، وأنهم ينتمون لأمةٍ، ويعتزون بقِيَمهم، وأنه مهما اختلفت الظروف فعنده الصدق في وقت الرخاء، وفي الشدة، والأمانة وحفظ حقوق الآخرين حين يكون فقيرًا، مثلما يفعل حين يكون غنيًّا، وما شابه ذلك؛ فتبقى القيم -كما قلنا- راسخةً وثابتةً ومُستمرةً.
هذه من العوامل المُؤثرة فيما يتعلَّق باكتساب القيم.
أثر وسائل الإعلام في تربية أبنائنا
أيضًا ذكروا مجموعةً من الأمور، منها ما يرتبط بقضية وسائل الإعلام، وهذه قضيةٌ ذكرناها قبل قليلٍ، وقلنا أن 88% من المُفردات التي يُرددها الشباب هي من (التليفزيون)، فأجهزة الإعلام مُؤثرةٌ.
ولو وسَّعنا القضية لتشمل أجهزة الاتصالات اليوم في ظل الإعلام الجديد فهي مُؤثرةٌ جدًّا، وقد تكون فرصةً ثمينةً لاكتشاف القيم، خاصةً لو كان مَن يُتابع تغريداتهم عبر (تويتر) هم أُناسٌ يُعلِّمونهم الآداب والقيم والأخلاق، ولا يُعلِّمونهم شيئًا آخر.
إذن لا بد من انتقاء مَن يُتابعهم الابن، أيًّا كانوا، وأن يعرف ثقافة مَن يُتابع، وليس لأن شخصًا حدَّثه عن فلانٍ فذهب ليُتابعه، أو أن فلانًا ظهر أمامه، فجاء في ذهنه أن يُتابع "سين" أو "صاد"، وربما كان هؤلاء كلهم مجاهيل.
لا بد أن يكون هناك إدراكٌ لمثل هذه القضايا، لا بد أن يكون هناك سياجٌ يمنع الاختراق الذي أصبح اليوم موجودًا في وسائل التواصل الاجتماعي؛ حتى نُحافظ على القيم والأخلاق والآداب السليمة، ونكتسب فرصةً أيضًا.
نحن لا نقول بالمنع كما يفهم بعضنا، نحن نقول: إن ما يجب أن يُمنع نمنعه منه، وما يجب أن يُحفظ منه الابن نحفظه منه، لكن كوسيلةٍ لا، نحن نحتاج أن نُعلمه كيف يستفيد منه، ونضع نظامًا حتى يستفيد منه.
هناك مَن دُمِّرت أخلاقه وقِيَمه وآدابه من خلال ضغطة زرٍّ، أو رسالةٍ، أو رابطٍ، ... إلى آخره، فهناك فرقٌ بين ولي الأمر الذي يعرف كيف يجعل رابط (اليوتيوب) بدون حزمة روابط مُصاحبةٍ له من (اليوتيوب) عن طريق بعض العمليات المعروفة في قضية التقنية، والتي تنقل (اليوتيوب) من غير مُلحقاتٍ، وهذه موجودةٌ، وولي الأمر الذي لا يعرف ذلك ولا يفعله.
وأيضًا هناك فرقٌ بين الأب الذي يجعل حمايةً من الدخول على (اليوتيوب) لطفله الذي يستخدم التقنية، والأب الذي لا يفعل ذلك.
ثم لماذا يدخل أطفالنا على (اليوتيوب)؟!
إذا كان يُريد الجوال لشيءٍ معينٍ طلبه منه المدرس، فليأتِ إلى (الآيباد)، أو إلى الهاتف الخاص بالأب، ... إلى آخره، لكن لا نجعل بين يديه كل شيءٍ يدخل إليه، وبمجرد أن يأتي أمامه رابطٌ (لليوتيوب) يدخله!
نحتاج أنْ نعي مثل هذه القضايا؛ لأنَّها إما أن تكون مُؤثرةً إيجابيًّا، وعندئذٍ سنفخر بهم، ويكون لها ترتيبٌ معينٌ، وتربيةٌ معينةٌ، وتوجيهٌ سليمٌ قائمٌ على حفظ القيم والآداب والأخلاق النابعة من ديننا حقيقةً، ومن اعتزازنا بهويتنا، أو تكون مُدمرةً، والشواهد على هذا موجودةٌ يا إخوان، فلننتبه إلى هذه القضايا.
فموضوع وسائل الإعلام من الأشياء المُؤثرة في قضية القيم والأخلاق والآداب، وهو من الموضوعات الخطيرة جدًّا، وأذكر دراسةً من الدراسات التي عُمِلت على ثقافة الشباب السعودي -ذكورًا وإناثًا-، وقد طُبِّقَت على طلاب المراحل الجامعية في الدمام والرياض وجدة، على ألف طالبٍ وطالبةٍ، احتلَّ الفن المركز الأول في الجانب الثقافي بنسبة 88%، والمقصود بالفن: الأغاني، والأفلام، والمسلسلات.
وهذه الدراسة كانت قبل الإعلام الجديد، فكيف الآن مع الإعلام الجديد الذي سهَّل الوصول لهذه القضايا؟!
هذا سؤالٌ كبيرٌ يحتاج أن نقف معه وقفةً كبيرةً.
وجاءت الرياضة في المركز الثاني بنسبة 87%.
وفي آخر عمودين بنسبة 57% و58% جاء التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية، ولاحظوا الفرق الكبير، فهم طلاب مرحلةٍ جامعيةٍ من الذكور والإناث، وسُئلوا أسئلةً في الثقافة الإسلامية والتاريخ ... إلى آخره، وهذا مما درسوه في التعليم، ومما هو معروفٌ في ثقافتنا -نحن المسلمين- والحمد لله رب العالمين، وفي بيئةٍ كهذه، والتي يُقال عنها أنها بيئةٌ محافظةٌ، ومع ذلك احتلَّ المركز الأول: الفن والرياضة، الفن بمفهومه غير الإسلامي، بل بمفهومه المُنحرف.
وعددٌ من الدراسات -بل كثيرٌ منها فيما أعرف- تتجه هذا الاتجاه!
فقضية وسائل الإعلام مُؤثرةٌ تأثيرًا كبيرًا جدًّا؛ لذا والله هناك أمانةٌ في رقابِ مَن أتاحوا لأجيالهم وسائل اتصالٍ وإعلامٍ تُدمر قِيَمهم وأخلاقهم وآدابهم، حتى لو أنهم ما كانوا يعلمون، فعليهم أن يضبطوا التعامل مع هذه القضايا بطريقةٍ سليمةٍ، ويستشيروا فيها، ويعرفوا الواجب الشرعي والتربوي عليهم.
أما فتح الباب على مصراعيه وترك القضية، ونقول: لقد أصبحنا في عصر الانفتاح، ولا نستطيع أن نمنع شيئًا! فلا يقول هذا إلا مُنهزمٌ، لم يقلها الألمان، ولا الفرنسيون، وكثيرٌ من الدول لديهم ما يُسمَّى بـ(الكيبل).
وقد ذكرت مجلةُ البيان عن أحد المسلمين في إحدى الدول الأوروبية -وأظنها ألمانيا- أنه أراد أن يُركِّب دشًّا مفتوحًا، كتلك الموجودة في كثيرٍ من بيوتنا اليوم، والنظام الموجود هناك ينص على أنه لا بد أن يُقدِّم خطابًا إلى البلدية، ويُناقش مجلس بلدية المدينة المُوافقة على ذلك من عدمها، فلم يُوافقوا له على أن يُركِّب، وهذا مسلمٌ، ومَن لم يُوافق كان نصرانيًّا كافرًا، وكانت حُجَّتهم: أننا لا نقبل بغزو الثقافة الأمريكية لمجتمعنا الألماني؛ ولذلك نظام (الكيبل) موجودٌ عندهم؛ حتى يكون هناك ضبطٌ لما يتعلَّق بالثقافة، وهم كفارٌ!
وبعض أُسرنا وأبناء أحبابنا ومَن في المساجد اليوم لا يضع أيَّ قيودٍ في قضية التعامل مع وسائل الإعلام ووسائل التقنية البتَّة، إنما هو استسلامٌ يبحثون بعده عن حلٍّ لمشاكل القيم والأخلاق والآداب، ويمكن أنه لو تُرِكَ له الخيار لوضع أصبعه في أذنه؛ حتى لا يسمع أشياء لا يُريد أن يسمعها، إلا إذا جاءت الصدمة، وقيل له: ولدك أُمْسِك -والعياذ بالله- في قضايا دعارةٍ!
وقد قرأتُ في أجهزة الإعلام الإلكترونية فجر يوم الجمعة الماضي: أن الأمن أمسك مجموعةً من الشباب السعوديين من الذكور والإناث في أحد أحياء الدمام بدعارةٍ وخمورٍ وفواحشَ -والعياذ بالله-، من أين جاءتهم هذه القضايا؟!
نعم، هذا الانحراف كان موجودًا حتى في عهد النبي ، لكن كميته ودواعيه! وهل أرضية الإمام موجودةٌ الآن؟! ولم يشعروا بعد ذلك -سبحان الله!- إلا وقد فُضِحُوا، كل المجموعة: ثلاثةٌ وعشرون شخصًا كانوا في بيتٍ واحدٍ يُمارسون هذه القضايا -والعياذ بالله-، من أين أتت هذه الصورة المُقززة؟!
لا شك أنها جاءت من أمورٍ عديدةٍ: فعندما يكون مع الابن الصغير -هذا الطفل ذو العشر سنوات- هاتف (بلاك بيري)، ويدخل ويُحمِّل أفلامًا جنسيةً، ماذا تتوقع منه إذا أصبح مُراهقًا؟! وماذا تتوقع من المُراهقة؟! ماذا سيحصل لهم؟! ما القيم والأخلاق والآداب التي سيكونون عليها؟!
فالقيم والأخلاق والآداب سياجٌ للأبناء، وللمجتمع، وللآباء، وللأمة، وهي التي يسير الإنسان فيها، ويُحصِّل من خلالها السعادة، أو يكون في تعاسةٍ وشقاءٍ، فقضية القيم حقيقةً هي عنوانٌ للمسلم.
الفصل بين الذكور والإناث في المدرسة
من الأشياء المُؤثرة أيضًا في هذا الموضوع: التكوين الجنسي للمدرسة، وجنس المُدرِّس، وقد أشرنا إلى هذه القضية، وهذا يُؤكد ما يتعلَّق بقضية الفصل بين الذكور والإناث، حتى من المراحل الدِّراسية الأولية "الابتدائية"، وهذه دلَّت عليها الدراسات النفسية، وأشار إليها بعض المُختصين بعلم نفس النمو، ويُمكنكم الرجوع إلى كتابات الأستاذ الدكتور: عمر المفدى، وهو (بروفيسور) في علم نفس النمو، وقد أشار إلى هذا الموضوع في كتابه الجميل "علم نفس المراحل العمرية".
نحن قلنا في الأسبوع الماضي والذي قبله: في مرحلة التمييز -مرحلة سن السابعة- يبدأ الذكر في الجنوح إلى جنسه، وكذلك البنت تبدأ في الجنوح إلى جنسها؛ لأنه من هنا سيبدأ البناء الحقيقي للرجولة والذكورية، أو بناء الأمومة والأُنوثة؛ ولذلك لا يصلح لتدريس الذكور إلا رجالٌ ذكورٌ، والإناث لا يصلح لهنَّ إلا إناثٌ، وهذا يتوافق مع خصائص المرحلة العمرية المتعلقة بمرحلة التمييز، والتي أكَّدتها الدراسات.
ونعلم أن هناك بعض الدراسات التي تأتي ببعض الجوانب الأخرى الإيجابية فيما يتعلَّق بهذا الجانب، ولماذا نُطيل عمر الطفل الصغير إلى سنِّ التاسعة، وأنه يظل مُحتاجًا إلى قضية الأمن النفسي، والمفروض أنه أخذ الأمن النفسي من أُسرته على مدار سبع سنواتٍ؟ صح أم لا؟ وإذا لم يأخذها في سبع سنواتٍ، فإنه قد أخذها من الرضاعة والحضانة، وما قبل المدرسة، متى سيأخذ القيم؟ هذا كله إطالةٌ لمرحلة الطفولة، وأيضًا تأخيرٌ للبناء الذكوري للذكور، والبناء الأُنثوي للإناث.
لكن مشكلتنا في القضية الأولى: وهي ما يتعلَّق بتدريس النساء للذكور، أو الذكور للنساء في هذه المراحل، فهذه من القضايا المهمة جدًّا؛ لأن القيم تنشأ في هذه المرحلة، فعندما تُدرِّس امرأةٌ إلى ذكرٍ فإنه سيأخذ بعض القيم المُرتبطة بالنساء، وهو الآن في هذه المرحلة يبني نفسه في الجانب الجنسي -أقصد نوعه: ذكرًا كان أو أُنثى-، فتجد أن لديه شيئًا من القضايا الأُنثوية، والتي كانت تُناسب مراحل سابقةً في فترة البيت، أو ما قبل المدرسة، لكنها الآن أصبحت شيئًا آخر مختلفًا.
أثر العلاقة بين المدرسة والأسرة في التربية
أيضًا من الأشياء المُؤثرة في موضوع القيم والآداب والأخلاق: ما يتعلَّق بالعلاقة بين المدرسة والأسرة، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وقد أشرنا إليها إشارةً، فلا بد من مدِّ الجسور بين الطرفين.
وأنا أتمنى -حقيقةً- من مراكز الأحياء والمجتمعات الناضجة أن تُوجِد لُحْمَةً؛ لأننا بأمس الحاجة إلى هذه اللُّحمة، فما أسهل أن يعضَّ الأب أو الأم أصابع الندم من المشاكل، والتَّذمر من المدارس! لكن لا الكلام يكفي، ولا التشخيص يكفي؛ لأن عندنا الطفل الذي لديه مشاكل، أو الشاب المُنحرف، وبداخلهم طاقاتٌ يحتاجون إلى مَن يُساعدهم بإبعادهم عن مصادر التأثير السلبي على القيم والآداب والأخلاق، وتقريبهم إلى المصادر الإيجابية.
وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال شراكةٍ بين المدرسة والأسرة، وهناك شراكاتٌ أخرى: كالإعلام الذي يُعدُّ أكبر شراكةٍ، ولكننا نتكلم عن أقرب شيءٍ لنا، وأيضًا هو سهل التناول: أن يُصبح هناك تواصلٌ بين الآباء والمعلمين، وبين المدرسة والبيت.
العلاقة بين المُربي والمُتربي
أيضًا مما يُؤثر على القيم والأخلاق: العلاقة بين المعلم والطالب، بين المعلمين والأجيال، وبين الأجيال والمعلمين، وهي علاقةٌ مهمةٌ جدًّا، فقد أثبتت الدراسات عن مرحلة الطفولة والمرحلة المتوسطة والثانوية والجامعية قديمًا وحديثًا، ونحن قد أجرينا جزءًا من هذه الدراسة عندنا في كلية التربية في جامعة الدمام، وهناك دراسةٌ مسحيةٌ حول الخصائص المُؤثرة للمعلمين، والتي تُؤثر في الطلاب: أن الطالب إذا وجد من الأستاذ التعاطف، والود، والاهتمام، والعناية بالقضايا النفسية، والعناية بالقضايا الأكاديمية، وكل ما يتعلَّق بمثل هذه المعاني المُؤثرة جدًّا في الجيل، وكان الأستاذ لديه الود والحزم في النظام، وهو قدوةٌ في هذا الجانب؛ فإن الطالب ينجذب إليه، وكلما كان الأستاذ قدوةً كلما أصبح مصدرًا ضخمًا جدًّا من مصادر التربية على القيم والآداب والأخلاق، والمعلم كالأب عندنا.
ونحن نقطتنا الآن هي الكلام عن المعلمين، والعلاقة بين المعلمين والطلاب.
وإذا لم يكن المعلم قدوةً، وكان غير مُنضبطٍ في الحضور للحصة، ماذا سيحدث؟ هل سيكتسب الطالبُ قيمة الانضباط؟ لن يكتسب الطالب قيمة الانضباط؛ لأن المعلم كان قدوةً سالبةً في هذا الجانب، وكذلك الاحترام، والعدل، والابتسامة، والاهتمام والرعاية: كيف حالك يا ولدي؟ ما أخبارك؟ لماذا لا نراك؟ هل بك بأسٌ؟ كيف مُعدلك؟ لعل أمورك بخيرٍ، عظَّم الله أجرك، ... إلى آخره.
كل هذه القضايا التواصلية والأسلوبية والوجدانية العاطفية، والجانب المعرفي العلمي، كل هذا مُؤثرٌ على الطلاب تجاه المعلمين؛ لذلك نحن نحتاج -حقيقةً- إلى أن نُؤكد أننا بأمس الحاجة من الناحية التربوية إلى أن نُوجد معلمين أكفاء.
وقد ذكر صاحب كتاب "التربية الحُرَّة" -وهو من شبه القارة الهندية، ويتكلم وقد درس من خلال مناهج علمانيةٍ -والحمد لله نحن مناهجنا طيبةٌ- أننا مهما قلنا عن مُشكلاتنا، وعن تراجع أحوال الطلاب، وانحرافهم في قضايا المناهج، وفي قضايا أخرى كثيرةٍ جدًّا، يقول: مهما قلنا كل هذه الأشياء سيبقى المُعَلِّم هو المُؤثر الأول؛ ولذا لا بد أن نُوجِد المعلم الكفء القُدوة الذي يستطيع أن يُؤثر في الطلاب؛ وعندئذٍ يكون مصدرًا لاكتساب القيم والأخلاق والآداب، ويختصر طريقًا كبيرًا، كما لو كان الأب والأم قدوةً، فإنهم يختصرون الطريق كثيرًا.
وأنا أقول لكم: إن جزءًا من إشكالية تذبذب القيم والآداب والأخلاق عند أبنائنا: من الفردية وعدم الجماعية، أو عدم الابتسامة، أو الأنانية في مقابل الجماعية -أي يُؤثر نفسه-، أو عدم الصدق، أو ضعف الأمانة، أو غير ذلك من قضايا القيم السالبة؛ تجدون أن القضية سببها قلَّة القُدوات للجيل.
لذا أصبح مطلوبًا منا -حقيقةً- أنْ نُضخم هذه القُدوات، أقصد: أن نزخَّ قدواتٍ من خلال البيوت.
فعودًا حميدًا يا أولياء الأمور -ذكورًا وإناثًا- إلى المسؤولية، وأن تكونوا قدواتٍ، وأعتبر الأشخاص العُقلاء هم الذين يُدْرِكون أن عليهم تحسين مسارهم القِيَمي والأخلاقي والآداب؛ لأنهم مسؤولون عن أبنائهم؛ ولأن الله سيُحاسبهم: كُلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[1]كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته، والأميرُ راعٍ، والرجلُ راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها … Continue reading.
فنقول: إذا كان هناك أبٌ لا يُصلي في المسجد، وأصبح يُصلي في المسجد، فهذا ممتازٌ، وجزاه الله خيرًا، فأنت مَن تُحرك هذه العلاقة بين الآباء والأبناء.
مثلًا: إذا كان هناك معلمٌ لا يُحْسِن التعامل، ثم أصبح يُحسن التعامل؛ لأنه جلس وفكر في أنه لو لم يُحسن التعامل فإن الأجيال من بعده ستكون مثله، ويجب عليهم أن يُحسنوا التعامل أيضًا، فلو كان يُدخن، وقد يشمون منه رائحة الدخان، فإنه يترك التدخين لأجلهم.
فتبنِّي القيم يكون من خلال الشعور بأهمية العلاقة بين المُربي والمُتربي، وهذا مهمٌّ جدًّا.
وأنا أدعوكم -حقيقةً- لبثِّ هذه القضية في مجالسنا وبقوةٍ؛ لأني أرى -والله تعالى أعلم- أن هذه أكبر مشكلاتنا، وهي ضعف القدوة لدى المُربين، أو الذين ينبغي أن يكونوا مُربين، والآباء -ذكورًا وإناثًا-، والمعلمين -ذكورًا وإناثًا- بالدرجة الأولى.
ونحن لا نُبرِّئ الإعلام، ولا المجتمع، ولا الشارع، لكننا نتكلم عن هذين العنصرين خاصةً: البيت والمدرسة؛ لأنهما أكبر مصدرٍ للعوامل التي يكون من خلالها بناء القيم والآداب والأخلاق، أو تكون هي سببًا في إضعاف القيم والآداب والأخلاق عند الأجيال، وهذا ما تُفسِّره الأمور، والله تعالى أعلم.
أثر الخبرات في بناء الأجيال
أيضًا من الوسائل: الخبرات، فهي مهمةٌ جدًّا، وقد رُوي أن النبي رأى غلامًا يسلخ شاةً، ماذا فعل؟ قال: تَنَحَّ[2]مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بغلامٍ وهو يسلخ شاةً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَنَحَّ حتى … Continue reading؛ لأنه كان يسلخ الشاة بطريقةٍ غير سليمةٍ، وهو غلامٌ صغيرٌ، فأخذ النبي يسلخ الشاة، ويُريَه، وهو يُعلِّمه.
فنحن نحتاج إلى أن نجعل المُتربي في بيئةٍ ميدانيةٍ ليكتسب خبراتٍ: من دوراتٍ، أو محكاتٍ كهذا الموقف، ... إلى آخره، المهم أن يكون عنده نموذجٌ يراه ويكتسب من خلاله قيمةً يمكن أن نُسميها: قيمة السَّلخة. ليس عندي مشكلةٌ.
خذوا قيمة الصدق، فالقيم -كما قلتُ لكم- بابٌ واسعٌ، وبحرٌ لا ساحلَ له، فأي شيءٍ إيجابيٍّ له أحقية الديمومة، أيًّا كان: مهاريًّا، أو وجدانيًّا، أو معرفيًّا، فهو يأخذ اتجاه القيم والأخلاق والآداب، وهذه قضيةٌ مهمةٌ.
موقفٌ لا يُنسى عن العلاقة بين المُربي والمُتربي
سأعود إلى موضوع العلاقة، وقد تذكرتُ الآن أني كنت -بحمدٍ من الله وتوفيقه- في مُلتقى الشِّبل المسلم، والذي يتبع مكتب الرَّاكة التعاوني، واستمر لمدة عشرة أيامٍ، وأنا أرى أن مَن لم يذهب -وخاصةً الأبناء والأطفال- حُرِمَ شيئًا كبيرًا، فما فعلوه -جزاهم الله خيرًا- أنه كانت هناك -بتوفيق الله- دورةٌ للآباء والمعلمين عن مهارات التعامل مع الأطفال، وقد يسَّر الله تقديمها، وبعد أن انتهيتُ من الدورة جاءني شابٌّ عشريني كان حاضرًا للدورة، وقد لفت نظري أنه حضر اللقاء كاملًا، ولفت نظري أكثر عندما وجدتُه قد حضر لقاءاتٍ في دوراتٍ أخرى للدكتور خالد الحليبي وعددٍ من الفُضلاء قبلي، فهو لم يكن مُعلمًا بعدُ، ولم يتزوج فيكون أبًا، لكن الموقف بالنسبة لي -حقيقةً- كان مُثيرًا؛ حتى أني اليوم في الكلية نقلتُ لطلابي هذا الموقف في أثناء شرح مُقررٍ عندنا اسمه: تعديل السلوك، وذكرتُ موقف هذا الشاب كمثالٍ لجانبٍ من جوانب تعديل السلوك، وأنا أذكره هنا كمثالٍ متعلقٍ بالمُؤثرات على القيم والأخلاق والآداب.
ماذا يقول هذا؟
سأخبركم باختصارٍ، فهذا أفضل من أن أُطيل عليكم: والده موجودٌ، ولكنه كان قاسيًا عليه جدًّا بصورةٍ أثَّرت في بناء شخصيته، وفي اجتماعيته وتفاعله مع الآخرين، وفي ثقته بنفسه، وأثَّر على عددٍ من القيم والأخلاق والآداب الاجتماعية التي ما استطاع أن يكتسبها.
والله يا جماعة، كان يُكلمني وعنده خللٌ واضطرابٌ بشكلٍ واضحٍ جدًّا، والخجل والتَّردد وعدم الثقة واضحٌ عليه، وهو عشريني، ولكن ليس هذا هو الغريب، الغريب شيءٌ آخر كبُر بسببه في عيني: أنه قال لي: أنه لم يأتِ ليُحدثني عن هذا الموضوع، إنما جاء ليُحدثني أنه أحضر أخاه الصغير إلى المُلتقى، وتركه في جنبات المُلتقى، وفي ركنٍ من أركانه، وأتى ليحضر هذه الدورة، ويقول: أُريد مَن يُساعدني من أجل تربية أخي. هو لم يقل: ابني؛ لأنه ليس ابنه، إنما هو أخوه الصغير، هل تدرون ماذا يُريد؟
يريد أن يُمارس دور الأب بدل أبيه، ويقول لي: أنا أخشى أن يقع لأخي ما وقع لي في حياتي، وقد دُمِّرت حياتي بسبب والدي. فيقول: أنا الآن مُحْتَضِنٌ لأخي الصغير في توجيهه وتربيته؛ حتى لا يقع. ومع ذلك يقول وهو مُتأثرٌ: عنده عدم ثقةٍ بنفسه، وخجلٌ، فماذا أفعل معه؟
فأعطيته بعض التوجيهات، وأيضًا ربطتُه بمركز الخدمات الإرشادية الطلابية في إدارة التعليم، وهذا دور المركز، ثم خرجتُ معه، وقلتُ له: أُريد أن أرى أخاك. فقال: هذا هو. فوجدتُه -ما شاء الله، تبارك الله- مُنطلقًا ويتكلم، فناديتُه وعزَّزتُه، يعني: من باب إعطائه -كما يُقال- دافعيةً أقوى، وكان الأخ الكبير سعيدًا، فهمستُ في أذن أحد المُشرفين في مُلتقى الشباب الـمُسلم، وقلتُ له: أريدك أن تُحضر لي جائزةً -الله يُعطيك العافية-، وأنا أطمع في كرمهم صراحةً، فجزاهم الله خيرًا، ذهبوا وبحثوا عن جائزةٍ.
المقصود: أني كدتُ أن أسأله عن أبيه، لكني أُحرجتُ، وخشيتُ أن أجرح مشاعره، أو أجرح مشاعر الأخ الكبير، فتركتُ هذا السؤال.
قلتُ لأخيه: اذهب. وقلت له: أجبني: ما رأيك بأخيك؟ لم ينطق بأيِّ كلمةٍ، وإنما بالحركة، ما الحركة التي تتوقعون أنه قام بها؟
قام بحركةٍ جيدةٍ، تعني: أنه يراه ممتازًا، فناديتُ الأخ الكبير، وقلتُ له: تعال يا أسعد؛ لأن أخاه لديه نفس المشكلة التي يُعاني هو منها، وهو عشريني، ويتكلم بصورةٍ مُضطربةٍ، فأردتُ أن أُعززه، كما أردتُ بالدرجة الأولى الصغير.
قلت له: هل تعلم ماذا قال أخوك؟ قال: ماذا قال؟ كان يريد أن يعلم ماذا قال؟ فقلت: لم يتكلم بكلمةٍ، لكن فعل حركةً، فعل كذا. ففرح وشعر بأنه أبٌ فعلًا.
وأحضر الإخوة لنا جائزةً، وحضر ثلاثةٌ من مُشرفي المُلتقى، وسلَّمنا على الطفل، وقمنا بتسليمه الجائزة ونحن واقفون في الخارج، وكتبنا للطفل إهداءً مجانيًّا، ثم ذهب، فقلت للأخ الأكبر: أنت تحضر لأول مرةٍ؟ قال: لا، أحضر كل يومٍ. قلت له: أخوك بخيرٍ، وهو يأتي عندي في الدورة، ويجلس في الأركان، فقضية الخجل الاجتماعي ليست موجودةً عند أخيك، وبدأ الخجل الذي بداخله يتكسر، بل بالعكس أنا رأيتُ منه ثقةً لا بأس بها، فعليك أن تستمر في علاقتك الأبوية معه.
هذا الجو هو الذي يُكسِب القيم والآداب والأخلاق، أما جو الشَّحناء والقسوة فسيأتيني بالتَّمرد والاضطرابات النفسية، ولن يكون هناك جوٌّ سليمٌ في قضية تلقي القيم والآداب والأخلاق.
واضحٌ يا إخوان؟
هذه قضيةٌ يجب أن ننتبه لها.
أثر الأصدقاء في التربية على القيم والأخلاق
الصُّحبة والأصدقاء أيضًا من المصادر فيما يتعلَّق بقضية القيم والأخلاق، والرسول قال: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالِل[3]"الإيمان" لابن تيمية (ص60)، وحسنه الألباني.، وفيه التعظيم، وأنَّ الإنسان يكتسب الدين: قوةً أو ضعفًا حسب الأصدقاء، وهذا دليلٌ على أن الأصدقاء من أقوى مصادر تكوين القيم والآداب والأخلاق.
هل نجحنا مع أبنائنا، ومع أجيالنا؟ هل نجحنا مع إخواننا مثل نجاح هذا الشاب الرائع؟ مع أن هيئته ليست بهيئة المُتدين، لكني والله أعتبره رجلًا عاقلًا، لقد أحضر أخاه إلى هذا المحضن الرائع النظيف الطيب، وقلت له: استمر في عنايتك، ودعه يُسجل في حلقة تحفيظ القرآن في المسجد، وليُشارك في الأندية الصيفية، وفي المحاضن التي للأطفال ... إلى آخره، وقد وعد بأنه سيُنفذ؛ لأنه لا خيارَ لديه، فلو لم يجد لأخيه بيئةً وصُحبةً وأصدقاء سيتعب، وهو لا يستطيع أن يظلَّ معه أربعًا وعشرين ساعةً، هذا مستحيلٌ، صح أم لا؟
إذن هؤلاء الأصدقاء سيُساعدون من باب أولى المُراهقين -ذكورًا وإناثًا-، فهل نجحنا مع أبنائنا، أو مع طلابنا، أو مع أجيالنا عمومًا في انتقاء البيئات التي تُوجِد محاضن؟
كنتُ قبل قليلٍ مع الشيخ -جزاه الله خيرًا- في مركز حيِّكم هنا -جزاهم الله خيرًا-، وسعدتُ -حقيقةً- عندما رأيتُ أناسًا يُمارسون الرياضة ويلعبون بالداخل، وهذا على الأقل في الوضع الذي حضرته وسمعته، ثم التقوا بعد صلاة المغرب، ثم خرجوا يُصلون العشاء في ظلِّ إشرافٍ من أساتذةٍ فُضلاء.
هذه صورةٌ من الصور التي نحتاجها في مراكز الأحياء، وفي غيرها؛ أن نُوجِد بيئاتٍ لأصدقاء ولِصُحبةٍ ستكون مُعينةً بلا شكٍّ، فالمُقصر في الصلاة يذهب ليُصلي مع زملائه، إذن اكتسب قيمةً، ومَن بدأ يسمع شيئًا مُعينًا سينمو الإيمان بداخله؛ فتنمو قيمة العِفَّة، ويخاف من الله، فإذا استعمل الجوال لا يضغط على زرٍّ ليرى شيئًا لا يرضاه الله ، من أين سيُحضرها؟ من أصحابه، وأصدقائه، والبيئة الطيبة، ... إلى آخره، فهذه من القضايا التي نحتاج أن نعتني بها.
استغلال القدرات الخاصة في تنمية الجانب القِيَمي
أيضًا من الأمور المُؤثرة على الأجيال فيما يتعلَّق بالمصدر: ما حبا الله سبحانه الإنسان من ذكاءٍ وعقلٍ وشخصيةٍ، فهذه من الأمور المهمة -حقيقةً- والتي نحتاج أن ننتبه لها.
فهناك أُناسٌ حباهم الله بقدراتٍ تُعتبر فرصةً ثمينةً لهم في أن يختصروا على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يتعلَّق بقضية تنمية الجانب القِيَمي والآداب والأخلاق، أي: لديه سرعةٌ في قضية التعلُّم، وسرعةٌ في قضية اكتساب المهارة، وسرعةٌ في قضية التطبيق، هذه من المصادر المهمة.
ومن الخلل الكبير: أن نُسلِّم الأطفال الصِّغار إلى أجهزة الإعلام فتُعطلهم، وقد يكونون من الأذكياء، فلو أُتِيَ لهم بشيءٍ نظيفٍ من حيث المضامين، ومن جانب الأساليب؛ ربما تجد الطفل يُحاور بشكلٍ جيدٍ، ويكتسب قضية أسلوب الحوار، وقيمة الحوار والأدب، ويرى شيئًا فيذهب ويُترجمه بعد قليلٍ: سأُريك يا ولدي الآن (فلاشًا) أو (فيديو كليب) مثلًا في موضوعٍ ما، أو قيمة من القيم: كاحترام الكبير. حتى ولو كان فقيرًا، فيرى أمامه شخصًا يُسلِّم على عامل النظافة؛ فيبدأ في تطبيق ما رآه، أو العطف على الآخرين، أو يأخذ ماءً ويُوزعه على الناس بعد أن رأى في (الفيديو) مجموعةً تأخذ ماءً وتنزل في فترة الشمس لتوزيعه، فيُطبق بنفسه.
هذه كلها من مصادر بناء القيم والآداب والأخلاق والدين.
ولا شك أن الدين هو أكبر مصدرٍ -حقيقةً- فيما يتعلَّق بقضية القيم والآداب والأخلاق، فإذا تعلَّم الإنسانُ الدينَ أصبح شابًّا نشأ في طاعة الله، وليس شابًّا نشأ في العربدة والنُّكوص والهُجران.
وأذكر أحد الشباب، وكنا في إحدى مناسبات المُخيمات التربوية في مشروع "قافلة الخير"، وكان لدي برنامجٌ استشاريٌّ في قضايا نفسيةٍ، ويُحوِّلون لي حالاتٍ فرديةً، فالتقيتُ بإحدى الحالات التي لا أنساها: شابٌّ أتاني في الجلسة الإرشادية، فسألتُه وقلتُ: كم مرة أتيتَ لهذا المُخيم ولهذا المُلتقى؟ قال: أول مرةٍ. قلت: عجيبٌ، أما كنت تسمع عنه؟ -وكان رقمه سبعةً أو ثمانيةً- قال: بلى، لي ثلاث سنواتٍ أو أربعٌ وأنا أُحاول أن آتي. حتى إنه وصل في بعض الأحيان ورجع! يقول: آتي عند المُخيم وأدور حوله ثم أرجع. قلت له: لماذا؟ قال: الصُّحبة. وهذا هو الكلام الذي ذكرتُه قبل قليلٍ في المصادر، يقول: والله كانوا يُلازمونني إلى أن أدخل حتى يُثنونني عن الدخول!
تأمل، الصُّحبة إذا كانت سيئةً أضاعت فرصًا ثمينةً لبناء القيم والآداب والأخلاق، ولكنْ عندما عزم وجاء فتح الله عليه بالخير، وبدأ يتَّجه ويذهب إلى برامج وأصدقاء نظيفين، وما شابه ذلك.
أيضًا كان يقول لي: فعلتُ كلَّ شيءٍ تتصوره من المُوبقات، ولا حاجةَ أن أقول لك ماذا فعلتُ؟ يقول: والله لا يوجد استثناءٌ! يقول: كل شيءٍ من مُخدراتٍ، وزنًا، ولواطٍ، وخمرٍ، كل شيءٍ فعلتُه.
فهذه البيئة النَّتنة بيئةٌ تُضْعِف الدين بلا شكٍّ، وقد تمسخ المُنغمس فيها.
إذن القضية تحتاج إلى تقوية الأجيال في جانب قُربهم من الله ، شابٌّ نشأ في طاعة الله: يا غلامُ، إنِّي أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ اللهَ يحفَظْكَ، احفظ الله تجده تُجاهَك[4]يا غُلام، إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعَنْتَ … Continue reading، فيُعلَّم منذ نعومة أظافره مُراقبة الله.
ونحن بأمس الحاجة لهذه المعاني، وللبناء التديني، وأن تجد من المُتربي حرصًا على الصلاة ... إلى آخره، وأي توجيهٍ تُخبره أنه من النبي يأخذ به بلا ترددٍ، فمن خلال هذه المعاني نستطيع أن نقول: هكذا وصل للتنسك والتدين بطريقةٍ صحيحةٍ.
هذا تقريبًا ما بين يدي، ولن أدخل في الموضوع الثاني المُكمِّل، ففيه ثلاث نقاطٍ لا يكفيها الوقتُ المُتبقي.
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يُعيننا وإياكم يا إخوتي على أنْ نلتزم بالقيم والآداب والأخلاق.
دعوةٌ للقراءة والاطلاع
أدعوكم للقراءة في قضية الأخلاق: كبارًا كنتم، أو أناسًا مُختلطين بالأجيال، أو مُعلمين، أو آباء، أو حتى إخوان، وكما قلتُ لكم: هناك موسوعةٌ رائعةٌ جدًّا اسمها: "نضرة النعيم" في مجلداتٍ حول القيم والصفات الحميدة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يُقابلها من الصفات الذَّميمة.
وهذه الموسوعة "نضرة النعيم من مكارم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام" أشرف عليها مجموعةٌ من الفُضلاء، على رأسهِم الشيخ: صالح بن حميد، إمام وخطيب الحرم -حفظه الله-، وهذا من أفضل ما يكون.
وأيضًا "الأخلاق الإسلامية" لحبنَّكة الميداني -رحمه الله- من الموسوعات الجيدة حقيقةً، فنقرأ ونُعلِّم أبناءنا قيم: الإيثار، والتضحية، والاحترام.
ولدينا في جامعتنا بالدمام مجموعةٌ من الطلاب أحسنوا لأنفسهم، وأحسنوا لأساتذتهم ولزملائهم الطلاب وللمجتمع، فنحن بعد غدٍ مدعوون لحضور النتائج القيمية الثالثة عندهم بإحدى الكليات الجامعية؛ لأنَّ عندهم برنامجًا قد أسموه: "على مستوى الزمن"، وهو برنامجٌ قَيِّمٌ، يأخذون فيه قيمةً واحدةً في كل فصلٍ، وقد كانت عندهم في هذا الفصل قيمة الاحترام، وهي جزءٌ من مُقررات الثقافة الإسلامية الإلزامية للطلاب الدارسين في المسار الصحي، وهم مُلزَمون بتقديم مشروعٍ تطوعيٍّ عن قضية الاحترام، فيوم الاثنين هو يوم الاحترام، وسيعرضون لنا ثمانيةً وثلاثين مشروعًا تطوعيًّا عن الاحترام، مَن قام به؟ طلاب الجامعات الذين سينزلون الميدان حتى يُعوِّدوا أنفسهم؛ لأن طلاب الجامعة -بل حتى نحن الكبار وأبناؤنا- لديهم نقصٌ في بعض القيم.
فمجتمعنا يُشار إليه بشيءٍ من الحاجة لتنمية القيم والآداب والأخلاق، أي: أننا نقول الـ"أنا" في مجتمعنا متضخمةً ومُنتفخةً قليلًا، فكل فردٍ يُحب نفسه، ومَن يُحب نفسه هل سيحترم الآخر؟ لا، بل يقول: مَن هم حتى احترمهم؟!
ولن أقول: إن هذا شيءٌ عامٌّ، لكن نستطيع أن نقول: هناك نسبةٌ، لكن لا شكَّ أننا نحتاج إلى القيم.
فأتمنى من الناس الذين هم من عدة مناطق في المملكة أن يروا القيم الإيجابية عند منطقة الجنوب مثلًا ويأخذونها، والقيم الإيجابية في المنطقة الوسطى ويأخذونها، والتي في الشرقية ويأخذونها، وهكذا، فيأخذون هذه القيم ويُكوِّنون شخصياتهم، وهذا أمرٌ مهمٌّ ومُؤثرٌ جدًّا، وهو أفضل من أن نقدح في الآخرين ... إلى آخره؛ لكنني أتكلم عن قضيةٍ نحتاج أن نُنميها بالفعل من خلال القراءة، وهذه المحكات، ومثل هذه البرامج، لماذا؟
لأن الإخوان قاموا في مركز الحي من قبل بإحياء قيمة الصلاة كمثالٍ في برنامجٍ أو حملةٍ عن الصلاة وغيرها.
فأنا أدعو للقيم، وإن كان هذا الأمر من القضايا التي يهتم بها الكفار أيضًا؛ فتجد عندهم برامج عن هذا الموضوع -موضوع القيم-، وهناك قيمٌ مُشتركةٌ يُسمونها: قِيَمًا إنسانيةً.
ومما يُؤسَف له أنك تجد بعض المسلمين مفتونين بمَن يُطبق القيم من الكفار، وأنهم أجود في التطبيق من بعض المسلمين، هل وضح مقصودي هنا؟
وهذا كله -حقيقةً- من الابتلاء، ولعله يدخل في قول الله على لسان إبراهيم : رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5]، فهذا من الفِتَن.
فلذلك لا بد أن نُقوي أنفسنا، وأن نكون قدواتٍ، ونُربي أجيالنا على أن يكونوا قدواتٍ، ما المشكلة أن يأخذوا في البيت في كل أسبوعٍ قيمةً ويعيشونها، أو قيمةً في الشهر؟ نجعلها كل شهرٍ حتى لا تكون كثيرةً، وخُذ المراجع: كموسوعة "نضرة النعيم"، أو "الأخلاق الإسلامية"، خذ قيمةً وضع عنوانًا لها، وتكلَّموا عنها: فلتُعبروا عن هذه القيمة يا ولدي، ويا ابنتي، ... إلى آخره، واجعلهم بقدر الاستطاعة يصنعون مُنتجًا لها، ويبتكرون أفكارًا، أو يُحضرون بعض الأشياء المُتعلقة بها؛ وستجد أن أبناءك يشتغلون أحسن مني ومنك؛ لأنهم طاقةٌ تحتاج إلى المدير المُربي الذي يُثيرهم حتى يستطيعوا.
ثم أنزلهم إلى الميدان، وقل لهم: أُريدكم -بإذن الله - أن تُطبقوا هذه القضية في الغد، فتحضرون إليَّ بما فعلتم في قيمة السلام. فيعود الولد ويحكي: أنا ذهبتُ، وفي أول دخولي المدرسة سلَّمتُ على مَن أمامي، وأنا لا أعرفه.
الآن أصبحت لديه قيمةٌ ما كان يفعلها من قبل، ألستم ترون أن قيمة السلام عندنا قليلةٌ، فنحن لا نُسلِّم، أو عددٌ منا لا يُسلِّم إلَّا على مَن يعرفه، صحيحٌ أم لا؟
هل تعلمون أن هذه من علامات الساعة؟
جاء في الأثر أنها من علامات الساعة، لكنه الآن اكتسب هذه القيمة بالمعلومة، أو بالإثارة، أو بالموقف، أو بالمُناقشة والحوار في الأسرة، ثم بالتطبيق تُصبح هذه القيمة عنده -بإذن الله - وتدخل حيز التنفيذ.
هذا، وأُصلِّي وأُسلِّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته، والأميرُ راعٍ، والرجلُ راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولدِه، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، أخرجه البخاري (5200). |
---|---|
↑2 | مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بغلامٍ وهو يسلخ شاةً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَنَحَّ حتى أُرِيَكَ، فأدخل يدَه بين الجلد واللَّحم، فدَحَسَ بها حتى تَوَارَتْ إلى الإبط، ثم مضى فصلَّى للنَّاس ولم يتوضأ. رواه أبو داود (185)، ولم يثبت. |
↑3 | "الإيمان" لابن تيمية (ص60)، وحسنه الألباني. |
↑4 | يا غُلام، إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعَنْتَ فاستَعِن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيءٍ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُّحفُ، رواه الترمذي (2516)، وهو حديثٌ صحيحٌ. |