المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: نستكمل الحلقات الخاصة بتربية القيم والأخلاق، وهذه هي السابعة ضمن المجموعة الثالثة، وهو الدرس الثالث عشر ضمن هذه المجموعة الثالثة، ويُمثل اللقاء الثالث أو السابع والثلاثين من سلسلة "تطبيقاتٍ تربويةٍ ونفسيةٍ من الكتاب والسُّنَّة".
التطبيع الاجتماعي
من المعاني المهمة فيما يتعلق بموضوع التربية على القيم والأخلاق: قضية التطبيع الاجتماعي، هذا مفهومٌ نسمعه كثيرًا في ظل العولمة اليوم: ما يتعلق بقضية التطبيع، مثل ما يُسمَّى بـ"التطبيع مع إسرائيل" كمثالٍ، أو مع الكيان الصهيوني.
وهذا المصطلح له مغزًى مُرتبطٌ بالقضية التي نتحدث عنها فيما يتعلق بتربية القيم والأخلاق...
فالتطبيع والتنشئة الاجتماعية قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، عندما يتطبع الطفل أو الشاب بما طبعه عليه والداه، أو يتطبع الطالب بما عليه المدرسة والمعلم، فهذا هو التطبيع الاجتماعي.
والتطبيع قضيةٌ تُفسِّر ما يتعلق بالتربية على القيم والأخلاق، فإذا كان التطبيع والتنشئة الاجتماعية سليمتين؛ كانت التربية على القيم والأخلاق سليمةً، وإذا كان العكس فسيكون العكس أيضًا.
لذا نحن نحتاج إلى هذا المصطلح بالطريقة الإيجابية: كيف نُطبِّع الأبناء والأجيال على القيم والأخلاق الفاضلة والإيجابية؟ هذا لا يمكن أن يتأتى إلَّا من خلال ما ذكرناه سابقًا، وما سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باقي هذه الدروس.
فقضية التطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية هما مُصطلحان مُهمان جدًّا؛ لأنها عمليةٌ تربويةٌ، ومن خلالها يُصقل سلوك الفرد، والطفل، والشاب -ذكرًا أو أنثى- في هذا المحك، وفي هذا المحضن، ويكتسب هذه القيم وتلك الأخلاق، ويسير عليها في معظم حاله وواقعه الذي ذكرناه، ويكتسب الديمومة في القيم والأخلاق.
وهذا التطبيع يحصُل في الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والتنشئة، ويحصل التطبيع في جماعة الرِّفاق والأصدقاء، ويحصل في الإعلام، وغيرها من الوسائل التربوية، فكلما استطعنا أن نجعل لأبنائنا وأجيالنا ومجتمعنا فرصًا في التطبيع الاجتماعي الإيجابي، والتنشئة الاجتماعية الإيجابية؛ استطعنا أن نُكسبهم قِيَمًا وأخلاقًا يُصقلون عليها من خلال هذا التطبيع؛ فيكتسبون القيم والأخلاق، ويكونون على بصيرةٍ، ويسلكون هذا المسلك كقواعد وأنظمةٍ عامَّةٍ في الحياة، وتُصبح القضية صورةً مُستمرةً وثابتةً، وسِمةً موجودةً عند هذا الجيل: أنه صادقٌ وأمينٌ في كل حالٍ، ورجلٌ يحترم الجميع: صغيرًا وكبيرًا، فقيرًا أو غنيًّا، والاحترام صفةٌ لديه، وقيمةٌ مستمرةٌ، ليست للمصالح المادية؛ فيُحترم لأنه مسؤولٌ، لكن لا يحترم غيره مثلًا.
فالتطبيع قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فأين أُسرنا اليوم مما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية الإيجابية من خلال فعل الوالدين في تربية أبنائهم، وعلاقة الأبناء بعضهم مع بعضٍ، ومن خلال الاحتكاك المُجتمعي، وعلاقتهم بالمدرسة، ودور المدرسة وأثرها عليهم، ومن خلال دور المسجد وعلاقتهم بالمسجد، ومن خلال أصدقائهم؟ ومَن هم أصدقاؤهم؟ هل هم ممن يُساعدونهم على قضية القيم والأخلاق الإيجابية أم السلبية؟
عندما أسأل شخصًا عن قضية التدخين كمثالٍ -وممن سألتهم الشباب- أقول: ما أول موقفٍ حملتَ فيه السيجارة؟ فكانت غالبية المواقف أن السيجارة الأولى كانت من صديقٍ، والصاحب ساحِبٌ، وخذ العكس أيضًا: عندما يأخذ الإنسان سلوكًا إيجابيًّا من خلال حرصه على الصلاة، وما شابه ذلك، وحرصه على الجدية في الحياة؛ يكون للصديق دورٌ في هذا أيضًا، وكذلك وسائل الإعلام.
فنحن -في الحقيقة- ينبغي أن نُدرك هذه القضية، وأن موضوع التطبيع شيءٌ يتطبَّع، ودائمًا يقول الناس عبارة: الطبعُ يغلبُ التَّطبُّع؛ لأنه بالنسبة لنا طبعٌ، مفهوم؟
وهناك تطبُّعٌ من خلال ما يأخذه من التنشئة الأسرية والتنشئة الاجتماعية، فجانب الطبع هذا شيءٌ الله ربما فطر الإنسان عليه، وهو قابلٌ للتعديل والتغيير، لكن عندما يأتي التطبع تأتي التنشئة الاجتماعية، ويأتي التطبيع الاجتماعي من خلال المُؤثرات التي تكون إيجابيةً، والطبع تكون ماذا؟ سلبيةً، يقول النبي : إنَّما العلم بالتعلُّمِ، وإنَّما الحلم بالتَّحلُّم[1]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663) من حديث أبي الدرداء ، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2328).، فيُمكن أن يغلب التطبعُ الطبعَ، وإذا كان التَّطبع والتطبيع سلبيًّا -حتى لو كان الطبع إيجابيًّا- فيمكن أن ينحرف: فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه[2]«كل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كمثل البهيمة تُنْتَجُ … Continue reading، وكذلك إذا كان سلبي الطبع -كان طبعه سلبيًّا- فربما أيضًا يستمر إذا كان موضوع التطبع سلبيًّا.
خطورة التطبيع على القيم والأخلاق (بروتوكولات حُكماء صهيون)
أقصد بهذا كله أننا بأمس الحاجة لأن نشعر بأهمية التطبيع، وليست القضية درسًا في القيم والأخلاق، أو هي عبارةٌ عن توجيهٍ في القيم والأخلاق، إنما عملية التطبيع الاجتماعي هي أكبر عاملٍ مُؤثرٍ في اكتساب الأبناء للقيم والأخلاق: إما إيجابيًّا، أو سلبيًّا.
هذه هي قضية التطبيع الاجتماعي، عرفتم لماذا الكيان الصهيوني وأذنابهم يحرصون على ما يُسمَّى بالتطبيع؟
هذه العبارة تجعل الإنسان يذوب في بوتقة قيم وأخلاق ومبادئ الطرف الذي يُمارس قضية التطبيع، فعندما يأتي مثلًا الكيان الصهيوني في كتابه المشهور الذي كان عبارةً عن مُذكراتٍ سريةٍ ثم انتشر، وطُبع تحت اسم: "بروتوكولات حُكماء صهيون"، وعندما تأتي إلى بعض مواد هذه البروتوكولات حتى نفهم قضية التطبيع، وأيضًا حتى نربطها اليوم بما يتعلَّق بالتقنية وما يتعلق بالإعلام، وأثر هذه القضية على تطبيع الأجيال عندما قالوا: "سنُلهي الجماهير بأنواعٍ شتى من الملاهي والألعاب لملء الفراغ، وسندعو الناس للدخول في مبارياتٍ شتى في كل أنواع المشروعات: كالفن، والرياضة، وما إليها".
إذن لديهم أذرعٌ تعمل الآن على إشغال أوقات الفراغ بالفن، والرياضة، والإعلام العالمي اليوم في الغالب هو إعلامٌ يُدار عن طريق الصهاينة، هذا بالنسبة للإعلام المُؤثر وأذنابه؛ لذا تجد عند هؤلاء أن هذه القضايا من الملاهي، والألعاب، والفن، والرياضة؛ هي القضية الأساسية الموجودة.
في البروتوكول الرابع يقولون: "لهذا يجب علينا زعزعةُ العقائد الدينية في قلوب غير اليهود، ونزع فكرة الإيمان بالله، وبوجود الروح في أذهانهم، وإحلال العقلية الرياضية"، ولا يقصدون بالرياضية: الرياضيات، فالكراهية ليست للرياضيات، "والرغبات المادية عِوَضًا عنها"؛ لتطغى قضية المادة والترفيه وقضية الفن والرياضة على قضية العقيدة، ويُنتمى إليها أكثر من العقيدة، هذا تطبيعٌ على القيم الصهيونية واليهودية، والقيم غير الإسلامية.
وفي البروتوكول الثالث عشر يقولون: "ولكي لا ندع لغير اليهود فرصةً للتأمل"، هم قالوا: مشكلتنا في الأوقات؛ إذن نريد أن نشغلهم في أوقاتهم.
قالوا: أيضًا مشكلتنا في العقيدة، إذن سنُزعزع العقيدة، وخاصةً قضايا الروح، ولن نجعل لهم فرصةً يعودون فيها إلى المساجد، أو فرصةً يتأثرون فيرجعون إلى كتاب الله؛ فينشؤون على ذلك؛ إذن لا بد من إشغالهم.
أيضًا لديهم قضية: أننا لا نريد منهم أن يُفكِّروا؛ حتى التفكير لا نُريده، نُريدهم إمعاتٍ ومُقلدين فقط، يقولون: "ولكي لا ندع لغير اليهود فرصةً للتأمل والاستقلال الفكري" أي: يكون لهم رأيٌ، "سوف نُوجه انتباههم إلى ألوان الترفيه والألعاب الرياضية، ووسائل التسلية، وما إليها مما يُثير اهتمامهم، وبهذا نُبعد أذهانهم عن التفكير في أمورٍ إن أُثيرت فلا بد من مُكافحتهم بشأنها"، فإذا ما أشغلناهم سيبدأون بالتفكير في الأشياء الجادة.
ولذلك يقولون: "تضعف فيهم نزعة الاستقلال الفكري" إذا أشغلناهم، "وما يلبثون أن يُفكروا بما يتفق وتفكيرنا" أي: يُصبحون إمعاتٍ لنا، كما قال النبي : لتتَّبعنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتُموه، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟، أو كما قال عليه الصلاة والسلام[3]لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم، شِبْرًا شِبْرًا، وذِراعًا بذِراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ … Continue reading.
"وما يلبثون أن يُفكِّروا بما يتفق وتفكيرنا"، ويتماشى مع روحنا؛ لأننا المصدر الوحيد الذي يمده بكل لونٍ جديدٍ من التفكير.
ماذا يتولَّد من هذا التطبيع؟
تتولد منه مبادئ، وأفكارٌ، وعقائد، وأخلاقياتٌ، وقيمٌ في هذا الاتجاه؛ فعندما تأتينا دراساتٌ مثلًا، ويحتل المركز الأول فيها: قضايا الفن والرياضة، في مقابل القيم المهمة في كثيرٍ من دراسات المجتمع السعودي وغير المجتمع السعودي -للأسف الشديد- أتت في هذا الاتجاه.
وسبق أن ذكرنا هذه القضايا بأرقامٍ سابقةٍ مُتعلقةٍ بمجموعةٍ من الدراسات، مثل: دراسة الشباب "الأولويات والاهتمامات" التي درست ثقافة الطلاب للمرحلة الجامعية في المملكة، وغيرها من الدراسات التي عملت على شريحةٍ مجتمعيةٍ من المجتمع السعودي.
تُعطي هذه الدراسات دلائل على أن التطبيع الحاصل مثلًا في أجهزة الإعلام -والتي تأثر بها الأب والأم، وتأثرت بها الأسرة- أثَّر في ماذا؟ في قضية القيم والأخلاق لدى الأجيال، وقد تأثر الكبار، فتأثر كذلك الصِّغار، وتلقَّى الصغار والأجيال -ذكورًا وإناثًا- والمُراهقون والمُراهقات منهم ما تأثرت به الأفكار والسلوكيات؛ وأصبح هناك تطبيعٌ اجتماعيٌّ وتنشئةٌ اجتماعيةٌ سالبةٌ من خلال التطبيع العالمي.
وقد قلتُ لكم من قبل: إن بعض الدول الأوروبية -تستغرب منها والله- لا ترضى بالتطبيع الأمريكي، خاصةً في حيز إعلامها، فترفضه عن طريق نظام (الكيبل)، وترفض أن تستقبل (الدشوش) والقنوات الأمريكية، مع أنهم جميعًا نصارى كافرون، لكن لهم اعتزازٌ بهويتهم، فلا يقبلون أن تأتي الثقافة الأمريكية مثلًا وتُؤثر فيهم، لماذا هذا؟
لأن من طبيعة النفس البشرية أنها تتأثر بالتطبيع، فإذا كان تطبيعنا الاجتماعي مِن: قال الله، وقال رسوله، ومِن مبادئنا وقيمنا الإسلامية؛ فهذا هو التطبيع الإيجابي الخيِّر، وهذا هو الذي نُريده، وهذا ما نقصده في التربية على القيم والأخلاق.
أما إذا كان التطبيع شيئًا آخر، ويأتيك الإنسان بطريقة كلامٍ ليست من كلامه حقيقةً، فـ90% أو 88% -كما قلنا لكم في دراسةٍ على الشباب السعودي- يأخذونها من كلمات (التليفزيون)، فتجد الواحد يتكلم بكلماتٍ دارجةٍ في السوق، أو عاميةٍ، أو لهجاتٍ من هنا وهناك، أو كلماتٍ أجنبيةٍ، حتى إنه قد لا يعرف معناها! ناهيك عن أنه يلبس أو يحمل شعاراتٍ! ناهيك عن أنه يقوم ببعض التَّصرفات والسلوكيات، وربما يحمل بعض الأفكار أو العقائد!
المشكلة أن هذا كله بسبب التطبيع؛ لذلك نحتاج في هذا الموقف إلى قضيتين:
أولًا: التخلية
بأن نحمي أجيالنا وأُسرنا من مصادر التطبيع الاجتماعي السلبي، تقول لي: لا أستطيع! هذه مسؤوليتك ومسؤوليتي، وهذا شيءٌ من معاني التطبيع الاجتماعي، فبعض الناس يقول لك: أنا لا أستطيع أمام هذا السيل الجارف من القنوات الفضائية، فماذا أفعل؟
تستطيع، فالله لم يُكلفنا بأمرٍ إلَّا ونحن نستطيع أن نفعله، لكن الاستسلام يكون عندما تأتون يا جماعة بهذه المُؤثرات السلبية –وربما قلتُ هذا الكلام من قبل، لكن لا إشكالَ عندي في أن أُكرر هذا الموضوع خاصةً- وهذا شيءٌ لا زلتُ أعجب منه: أن هناك أُناسًا أخيارًا طيبين من أهل المساجد والصلاة يُريدون أن يُؤثروا في أبنائهم، وهم مؤمنون بأهمية القيم والأخلاق الإسلامية، لكنهم يُعرِّضون أبناءهم وأنفسهم للتطبيع السلبي من خلال القنوات المُؤثرة، ومصادر المعلومات المُؤثرة، ويقولون: نحن نُريد أجيالًا على ما يُريده الله ! وإذا سألتهم قالوا: أمورنا في تدهورٍ. وإذا قلتَ لهم: كيف الأجيال؟ قالوا: ضاعوا. فمَن ضيَّعهم؟! مَن ضيَّع ابني وابنك، وابنتي وابنتك؟! هل يُعقل أن تكون المدرسة فقط هي التي ضيَّعتهم؟! أو الشارع فقط؟!
لماذا لا نقول: نحن الذين ضيَّعناهم بسبب أننا عرَّضناهم لتطبيعٍ اجتماعيٍّ وتنشئةٍ اجتماعيةٍ سالبةٍ من خلال أجهزة الإعلام، وخاصةً الإعلام الجديد اليوم الذي أوجد عالـمًا من جماعة الرِّفاق والأصدقاء ما كانوا موجودين من قبل؟! كانت قضيتنا من قبل هي الشاشة فقط، ثم دخلت القنوات الفضائية، ثم جاءتنا التطورات في الأجهزة الذكية والإعلام الجديد.
كان الواحد منا من قبل يقول: أنه يتلقَّى، ولم تكن هناك برامج مباشرةٌ، فأتتنا القنوات الفضائية والبرامج المباشرة.
إحدى الأُسَر هنا في الدمام جاءت الفاتورة لولده، لا أدري كم بالضبط؟ تقريبًا أربعة عشر ألف ريالٍ، أو ستة عشر ألف ريالٍ، لماذا؟! لأنه يُكلِّم المُومسات، ويُراسلهنَّ، ... إلى آخره من القنوات الإباحية.
وأنا أعرف هذه القصة، وأعرف هذه العائلة.
ثم أتى الآن الإعلام الجديد، والذي أصبح موجودًا، نقول: إنه موجودٌ، فما الذي يتربى عليه أبناؤنا؟
لو وجدت أناسًا مُحافظين، وإيجابيين، وعلى قيمٍ وأخلاقٍ إيجابيةٍ، وهم يمتلكون أيضًا أجهزةً ذكيةً في جيوبهم، لكن فيما يستخدمونها؟ في الشيء السليم، فلماذا نشعر بالمُفاجأة في لحظةٍ من اللَّحظات عندما نجد شيئًا ما عند الابن أو البنت؟
كما قال الشاعر:
وما عجبٌ هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ |
إذا كانت المُدخلات (in put) والمُؤثرات ومصادر التطبيع الاجتماعي مُشوشةً؛ فثِقْ تمامًا أن المُخرجات ستكون مُشوشةً، وإذا كانت مصادر التطبيع الاجتماعي سلبيةً؛ فثق تمامًا أن نتيجة المصدر ستكون سلبيةً، هذه سُنَّة الله في الحياة.
لا تتصور أنك عندما تُعطيه شيئًا سلبيًّا، وتقول: أنا أنتظر منه أن يكون مُحافظًا على الصلاة. وهو -سواءٌ كنت تدري أم لا- يتعلم بطريقةٍ سلبيةٍ، وتريد منه أن يكون رجلًا يُحافظ على الغيرة، ويكفّ بصره عن أعراض الناس، ثم هو يرى النساء عبر الشاشة! وأبوه مثله يرى النساء عبر الشاشة! وخذ على ذلك أمثلةً كثيرةً.
إذن لا بد من التخلية بإبعاد مصادر التطبيع الاجتماعي السَّلبي، وليتنا نتعامل كما نتخيل الآن: هل نقبل أن نرى يهوديًّا في الشارع، أو نلتقي به؟ هل تقبلون هذا الكلام؟
ما زال بداخلنا نفورٌ من قضية اليهود، صحيحٌ؟
نريد هذا النفور أيضًا من أي شيءٍ فيه تطبيعٌ مُخالِفٌ للشرع، أو للقيم والأخلاق الإسلامية، لماذا؟
هناك قنواتٌ هي في الحقيقة على طريقة اليهود، فأين موقفنا منها؟
عندما أجد قناةً من هذه القنوات يُنفق عليها -للأسف الشديد- من أموالٍ محليةٍ، وهي الأولى في المُتابعة على مستوى المملكة مثلًا.
وسنذكر هذا مرةً أخرى ومرتين؛ حتى نُؤكد على هذا الموضوع، وأنهم عملوا دراسةً تحليليةً على ثماني ساعاتٍ، ذهبوا ليروا برامج ولقطاتٍ سريعةً في ثماني ساعاتٍ فقط، وليس سنةً كاملةً، أو خلال أربعٍ وعشرين ساعةً، أو خلال أسبوعٍ، أو شهرٍ، أُخِذَتْ ثماني ساعاتٍ من هذه القناة فقط، فخرجوا بهذه الأرقام: اثنين وثمانين لقطةً عاريةً، وست لقطاتٍ جنسيةٍ، وست عشرة لقطةَ خمرٍ، وستًّا وعشرين لقطةَ قبلاتٍ وأحضانٍ، وأربع عشرة لقطةَ عنفٍ وقتلٍ، وسبع عشرة لقطة صليبٍ! وهذه قناةٌ بلسانٍ عربيٍّ، وأموالٍ عربيةٍ، وهي التي تتصدر المركز الأول في عدد المُتابعين في الجزيرة العربية.
الذين في البيوت من الأطفال -ذكورًا وإناثًا-، ومن الشباب الـمُراهقين -ذكورًا وإناثًا-، ومن الكبار -ذكورًا وإناثًا- إذا كانوا يرون هذا الشيء في ثماني ساعاتٍ فقط، ونحن نقول: دون أن يقصدوا رؤية اللقطة العارية، أو اللقطات الجنسية، أو الخمر، أو القُبلات، أو الأحضان، أو العنف، أو القتل، أو الصليب، وإنما يقصدون الترفيه، لكن أتى هذا أمامهم، بالله عليك أَمَا يُؤثر هذا على أطفالنا وشبابنا ومُراهقينا؟ بل أَمَا يُؤثر هذا على كبار السن، أم أنهم مرفوعٌ عنهم القلم فلا يتأثرون؟ أم هل يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم؟
هناك قصةٌ تُذكر من أحدهم، وكان يقول: مرَّ أحد الأبناء على جَدٍّ له، أو قال: جاء يزوره، فما فتح له الباب! قالوا: لقد قال له: أنا مشغولٌ الآن. فهو يُتابع الحلقة المئة والأربعين من المسلسل التركي، أو المكسيكي، وينتظر بقية الأحداث ماذا حصل فيها؟ هل التقوا وتصالحوا وحلوا مشكلة الخيانة الزوجية أم لا؟ فهو حريصٌ -جزاه الله خيرًا- وينتظر أن يرى ماذا حصل؟! وما نهاية هذه الخيانة الزوجية التي حصلت سابقًا؟! وهو الآن في الحلقة مئة وواحدٌ وأربعون!
إذن نحن نحتاج أن ننتبه لمثل هذه القضايا في أُسرنا، وأنا أُركز كثيرًا على هذا الموضوع، وأُقسم بالله -ولا أريد أن أجعل الله عُرْضَةً لأيماني- أن هذا الموضوع من أَلَحِّ الموضوعات، وما زلتُ أعجب منه أشد العجب: أن في أُسرنا أناسًا عُقلاء ومُصلين ما زالوا مُترددين إلى الآن في مثل هذه القضايا المُتعلقة بمصادر التأثير السلبي؛ لأنهم تعوَّدوا، والعادة مُحَكَّمَةٌ، فهو يقول: معقولٌ أن نمنع هذا؟! ومَن قال لك أنك لا يُمكنك أن تمنعه؟! أنت تستطيع أن تمنع ما يستحق المنع، والشيء الذي ينفع تُبقيه.
هذا لا يحتاج إلى أيِّ منطقٍ عقليٍّ، فنحن نمنع الأبناء من أن يأكلوا أكلاتٍ ضارةً بهم وبصحتهم، فلو أتاك ابنُك وقال لك: لن أذهب إلى المدرسة. ويريد أن يُعاند، فنحن نمنعه من تحقيق أمنيته، صحَّ أم لا؟ ماذا نفعل به؟ نذهب به إلى المدرسة، وبعضنا يحمله حملًا ويرميه في السيارة ويذهب به، وهو يُهدده، بغض النظر عن الأسلوب.
حسنًا، نحن إذن خالفنا رغبته، خالفنا هذه القضية؛ لأن المنهج الوقائي شيءٌ طبيعيٌّ، بل هو منهجٌ شرعيٌّ، وتربويٌّ، وإنسانيٌّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
إذن هذا المبدأ الأول: التَّخلية.
ثانيًا: التحلية
المبدأ الثاني: طبِّعهم من خلال القدوة، ومن خلال قراءة السيرة، ومن خلال القنوات المُحافظة، والتقنية النَّظيفة، والأصدقاء الشُّرفاء، وحلقات التحفيظ، أو مراكز الأحياء، والمدرسة النافعة من خلال المعلمين الناجحين، كل هؤلاء هم مصادر لقضية التطبيع الإيجابي والاجتماعي والتنشئة الاجتماعية.
رأيتُ صورةً انتشرت في الأيام الأخيرة، والله تألمتُ منها جدًّا: صورة بعض الشباب المُبتعثين بالعلم، هل رآها أحدٌ منكم؟ هل رأيتها يا أخي؟ وهم بعلم المملكة المكتوب عليه: "لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله"، وبجوارهم يهودٌ بعلم إسرائيل، ويجلسون مع بعضهم في صورةٍ جماعيةٍ! هل هذه قِيَمنا؟! هل مُشكلتنا الآن أننا أخذنا الصورة مع اليهودي فقط؟! هل هي مجرد صورةٍ، أم خلفها أمورٌ أخرى؟! أين: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]؟! أين هذه القضايا؟! وأين قِيَم الولاء والبراء؟! أين ذهبت هذه القضية؟!
إذن نحن نحتاج إلى أن ننتبه لهذا التطبيع أيًّا كان: سواء كان تطبيعًا صهيونيًّا من خلال الإعلام، أو أمريكيًّا، أو تطبيعًا مشرقيًّا، أو مغربيًّا، فأنا أمنع أيَّ تطبيعٍ سلبيٍّ، حتى لو كان التطبيع من قريبي، أو جاري، أو المعلم، لا أُريده أن يُطبِّع أبنائي على هذا الشيء، فعليَّ أن أذهب وأُحاول أن أُصحح الموقف؛ حتى لا تتطبع الأجيال بأشياء سالبةٍ ومُؤثرةٍ عليهم سلبيًّا، ثم يكتسبون القيم والأخلاق السَّالبة.
هذا كله من الدور المطلوب مني ومنك، فكما نبني أجسادهم، ونُهَيِّئهم للوظائف المادية الدنيوية، ويتعلمون حتى يحصلوا على الشهادة ويتوظَّفوا، أيضًا قضايا القيم والأخلاق -كما اتفقنا- هي من أعظم القضايا التي ينبغي أن نعتني بها، وأنْ ننتبه لها.
لقد أتت لي قضيةٌ ربما في 2010م عن (النايل سات): عدد قنوات الأغاني ثمانيةٌ وثمانون قناةً، وقنوات الأفلام والمسلسلات ستون قناةً، والقنوات الرياضية خمسون قناةً، وقنوات الشعر والإنشاد عشرون قناةً، وقنوات الإعلانات ثماني قنواتٍ، وقنوات المطبخ والنساء ست قنواتٍ، فأنت تتكلَّم عن أرقامٍ أكثرها فيه تطبيعٌ على القيم والأخلاق السالبة، وإذا تعرض الجيلُ لذلك فماذا تتوقع منه؟!
كنتُ اليوم في الطائرة عائدًا إلى الدمام، فقد كنتُ مسافرًا في الصباح، وقبل أن نهبط ونحن في الجو كان هناك طفلٌ صغيرٌ يلعب بألعابٍ فيها موسيقى، واستمر مدةً حتى أصبح مُزعجًا، وبحثتُ عن رجلٍ معه فلم أجد سوى امرأةٍ، وكانت بالجوار، فنبَّهتُها تنبيهًا فقط، وقلت: يا أختي، لو سمحتِ الصوت. لا أدري: أسمعتني أم لا؟ ثم اضطررتُ أن أُنادي المضيف، وعندما جاء قلتُ له: نحن مُنزعجون من هذا الصوت.
وكان جاري رجلًا لطيفًا، وكنت أتناقش معه في أشياء كثيرةٍ خلال فترة الرحلة، فقال لي: هذا طفلٌ يا أخي. قلت له: حتى لو كان طفلًا -وأُريدكم أن تقفوا معي هذا الموقف- أنا الآن لا أُناقش هل هذا الطفل مُذنبٌ؟ هل يتحمل الوزر؟ هو غير مُكلَّفٍ، إنما أُناقش قضيتين: قضية تربية الطفل على هذا، وقضية أننا مُنزعجون من هذا الصوت، وهذا حقٌّ لنا، أو ستكون الدنيا مجرد فوضى، هذا من القيم والأخلاق.
قلتُ له: يا أخي الكريم، أولًا هذا مُضرٌّ له، ومسؤوليته على أبيه وأمه، ثم هذا مُضرٌّ لنا. فاقتنع الرجل -جزاه الله خيرًا-، وقلت: نعم، هو طفلٌ، لكن لو وجَّهناه، أو طبَّعناه بشكلٍ سليمٍ. وقلت له: بالله عليك، عندما ينشأ الطفل على مثل هذه الألعاب، دون أن يشعر بقضية الموسيقى المُصاحبة للعب، وأنَّ فيها مشكلةً، ويعيش وقد تعلم هذه القضية، على ماذا سينشأ؟ سينشأ على أنه لا إشكاليةَ في الموسيقى، لن تكون مشكلةً.
صحيحٌ أن هناك أناسًا يسمعون الموسيقى استمتاعًا وتلذُّذًا، هذا مستوًى عالٍ، لكن هناك مَن يقول لك: أنا فقط أُشاهد الأخبار، ولم أقصد الموسيقى. الله والرسول ما قالا لك: قصدك أم ليس بقصدك؟ القضية هي حُرمة الموسيقى، فلننتهِ، بقصدٍ أو بغير قصدٍ.
أيضًا: ما خَلَا رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشَّيطانُ ثالثَهما[4]جاء بلفظ: «لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا وكان الشيطانُ ثالثَهما»، وإسناده صحيحٌ.، حتى لو قال: أنا أستطيع أن أختلي بامرأةٍ ولا يحدث شيءٌ. حتى لو ما حصل شيءٌ لا يجوز لك أن تختلي بامرأةٍ بحالٍ من الأحوال، هذا حكمٌ شرعيٌّ، وانتهى الموضوع.
فعندما يُربى الأبناء على مثل هذه القضايا: كأن يتركه يلعب هذه الألعاب من غير أصواتٍ، ويكتم أصوات الموسيقى، انظر كيف تأتيك قضيةٌ تراها سهلةً؟ فالواحد منا يقول: سهلةٌ. لكن هذا مثالٌ فقط على ما هو أكبر منه مما يتلقونه عبر أجهزة الإعلام، والتي -للأسف الشديد- أعود وأقول: أُقسم بالله أن هذا الذي يحصل في الأُسَر شيءٌ مُخيفٌ ومهولٌ ونتحمل مسؤوليته أمام الله ، والله علينا مسؤوليةٌ كبيرةٌ جدًّا.
وأنا أرى أن أكبر قرارٍ، وأكبر اجتماعٍ، وأكبر مؤتمرٍ يُعقد في الأسرة: أن يجتمع الأب والأم لمُراجعة مثل هذه القضايا في الأسرة فيما يتعلق بالتطبيع الاجتماعي، والتنشئة الاجتماعية السالبة، وعلى رأسها: الإعلام، وأصدقاء الأولاد، ومُعلمو الأبناء، ولكن الإعلام في المقدمة بالنسبة لي؛ لأنَّ هذا الذي ضرب مُجتمعنا اليوم.
في برنامج (ستار أكاديمي) سيئ الذكر، وفي موسمٍ واحدٍ وصل إلى سبعين مليون اتصالٍ، وأذكر أن نسبةً كبيرةً كانت من أهل الجزيرة -للأسف الشديد-، إن لم تَخُنِّي الذاكرة كانت 10% تقريبًا، لا أستطيع أن أجزم لكم، ولكن أظنها هكذا، من أين أتى هذا؟ وهل يُعقل أن أجيالنا تتصل لتقول: هذا أجمل من هذا، وهو أحلى من هذا، وهذا صوته جميلٌ، وهذا قبل هذا؟! هذا كلامٌ -أعوذ بالله- يُقال على الهواء مُباشرةً، وتُنفق عليه أموالٌ ... إلى آخره! فمن أين أتى هذا؟
هذا من التطبيع الذي لم يكن موجودًا من قبل، والرسول حذَّر ونبَّه ووجَّه، والدين عندما جاء لم تكن هذه الوسائل موجودةً.
فنحن بأمس الحاجة لهذا التوجيه المتعلق بالتحلية والتخلية، والمتعلق بالوقاية في البناء الإيجابي، والوقاية من الشيء السلبي، وأن نكون حازمين، ولدينا قراراتٌ نتخذها كما نتخذ قراراتنا المادية بقوةٍ، وللأسف أكثرنا يتردد في القرارات المتعلقة بالقيم والأخلاق!
خطورة التَّبلد واللامُبالاة عند المربِّي
كنتُ مرةً في الحي، ورأيتُ حركةً خبيثةً وسيئةً جدًّا من أحد الشباب لشابٍّ آخر، وأنا أعرف والد هذا الشاب، فأتيتُ إلى والد هذا الشاب، وطرقتُ عليه الباب -وهو يُصلي معنا في المسجد- فقلتُ له: ابنك حصل معه هذا الأمر. أي: أن ابنه هو الذي مُورِست ضده هذه الحركة، فقد كان الطرف الثاني، فقال لي بكل برودٍ: ماذا أفعل معه؟ قلت: الآن أنا أتيتُ لأُحدثك عن ولدك، وأن أحد الشباب في الطريق وأمام عيني -وأنت تعرفني- فعل الحركة الفلانية له، وأنت تقول: ماذا أفعل؟! قال: ولدي لديه وقت فراغٍ. وكان وقت إجازةٍ صيفيةٍ، قلت: ولماذا لا يذهب مثلًا إلى الأندية الصيفية؟ قال: أعوذ بالله. قلت: نعم؟ قال: أعوذ بالله أن أذهب به إلى الأندية الصيفية! قلت: لماذا؟! قال: فيها مشاكل وقضايا لا أخلاقية، وفيها ... قلت: نعم! رُويدك، أنا منذ خمس عشرة سنة مُشْرِفٌ على المراكز الصيفية، أو مُشارِكٌ، أو عضوٌ، اتَّقِ الله، فعندما أتيتُ الآن وتكلمتُ عن الواجب الذي عليك طعنتَ فيَّ! وعندما قلتُ لك عن شيءٍ رأيتُه بأُمِّ عيني كنت جمادًا لا يتحرك!
بالله عليكم، أي قيمٍ وأي أخلاقٍ يتربى عليها مثل هذا الشيء؟!
وتراه يُصلي معك، لكنه مُتب+لد الإحساس في هذه الجوانب بسبب هذه الأطباق الطاغية، والأصدقاء المتروك لهم العنان في اختيارهم كما يشاؤون -للأسف الشديد-، والأب مُتَمَلِّصٌ من المسؤولية!
فهذه القضية -حقيقةً- نحن في أمس الحاجة إلى أن نقف عندها مع الإخوة.
لدينا قضيتان أُخريان، وقد تكلمنا قبل قليلٍ، وكان كلامنا عن أننا لا بد أن يكون الأسبوع القادم آخر لقاءٍ -بإذن الله -، فنحن لا بد أن نختم، فإن ظللنا في نفس الموضوع لن نختم بحالٍ من الأحوال، وسنختار أهم الأشياء، فدعونا في الدقائق المُتبقية نأخذ موضوعًا غير التطبيع الاجتماعي، وقد ذكرنا التطبيع الاجتماعي كجانبٍ مهمٍّ فيما يتعلَّق بالتربية على القيم والأخلاق.
ترسيخ القيم والأخلاق في الصِّغَر
أبرز نقطةٍ مهمةٍ في موضوع التربية على القيم والأخلاق: أنه كلما كان الطفل صغيرًا وورث التأثير الإيجابي، والتطبيع الإيجابي، والتنشئة الاجتماعية الإيجابية، والتربية على القيم والأخلاق مُبكرًا؛ كلما كانت عنده القابلية والأثر والطواعية في المستقبل لأن يتقبل الشيء الإيجابي وينمو ويتربى عليه.
ماذا نقصد بهذه النقطة؟
لا نُضيع تربيتنا للمراحل الأولى المُبكرة من عمر الطفل، ونقول: إن هذه مراحل يتلقى فيها اللعب. ونتركه يُرفِّه عن نفسه فقط.
وهذه المرحلة سبق أن تكلمنا عنها: مرحلة ما قبل المدرسة، وسنتكلم عن مرحلة ما بعد المدرسة، وهي: التمييز، أما ما قبل المدرسة بفترةٍ فهي ما قبل التمييز، وهذه النقطة هنا تُؤكد على ضرورة الاهتمام بالتربية على القيم والأخلاق منذ نعومة أظفار الطفل: لسانه يتكلَّم جيدًا، وسلوكياته وتعامله مع الآخرين نشعر فيها أن لديه شيئًا أو نُضْجًا أفضل من غيره، وكلما رُبِّيَ على هذا من وقتٍ مبكرٍ سيكون أثر التربية في المستقبل ماذا؟ أقوى أم أقلّ؟ أقوى.
لماذا يتعب عددٌ منا عندما يُوجِّه المُراهقين إلى قضية التربية على القيم والأخلاق؟ ويقول لك: يعصيني، أو ابني لا يستجيب لي، أو ابنتي لا تستجيب لي؛ لأننا يا حبيبي ضيَّعنا مرحلة الطفولة ونعومة الأظفار، هذه المرحلة التي ذكرنا فيها قوة القابلية وسرعتها، وقوة التقليد والمُحاكاة، وهي التي تجعل الإنسان في مُستقبل حياته أكثر تطبيعًا اجتماعيًّا للجوانب الإيجابية والقيم والأخلاق، فتحصل الطواعية عنده -سبحان الله!- إذا سمع آيةً؛ فيستجيب لها بسرعةٍ، وإذا سمع الخطيب، وكان هناك شيءٌ مُتعلِّقٌ بالتوجيه والقيم والأخلاق تجده يُنفذه، ويجده مُعلمه بلا عقباتٍ؛ لأنه تربى عليها من وقتٍ مُبكرٍ، فالنفس مُتهيئةٌ إلى أن تنشأ أكثر على القيم والأخلاق، ولكن إذا لم يكن قد نشأ! ناهيك عن أنه سُلِّم لأفلام الكرتون والقنوات الفضائية؛ حتى لا نسمع بكاءه وصياحه وإزعاجه، ثم يأتي بعد ذلك ولات حين مندم.
الإجابة عن الأسئلة
الأسئلة كثيرةٌ والله يا جماعة، وأنا اليوم أقسمتُ كثيرًا، وليس من عادتي أن أُقسم، لكن تأتيني أسئلةٌ كثيرةٌ: تقول الأم: أنصح ابنتي، ولا تستجيب، في أي عمرٍ؟ متوسط، ثانوي، ... إلى آخره. أنصح ولدي ولا يستجيب. وتأتي أمامك أحداثٌ معينةٌ، فيقول أو تقول: معقولٌ أن ابنتي وولدي الآن لا يستجيبان لتوجيهاتنا؟! معقولٌ أنهم لا يُصلون؟! تفاجأتُ أن عنده كذا وكذا ... إلى آخره؟! فنقصد بهذه الصورة أن كل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ:
وما عجبٌ هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ |
نحن نحتاج أن نستثمر فرصة مرحلة الطفولة، هذه نقطةٌ أساسيةٌ ومهمةٌ، ونحن تكلمنا عن مُعطياتها وخصائصها، لكن نتكلَّم هنا عن التأكيد على أن موضوع التطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية يكون أسهل عندما ينشأ الطفل من الصِّغر على قيم الأخلاق الإيجابية.
كذلك يكون أسهل عندما ينشأ منذ نعومة الأظفار على القيم والأخلاق السلبية: ينشأ على الكذب، وعلى العنف، وعلى الاعتداء على الأعراض، سيخرج لك مُراهقٌ بهذه الصورة؛ لأنَّه نشأ عليها من خلال أجهزة الإعلام، دون أن يقول أحدٌ له شيئًا، كأن يبتعد عن هذه القضية مثلًا، فالقضية هنا تحتاج إلى انتباهٍ.
النقطة الثانية: أول اتصالٍ للطفل بمَن؟ بأيِّ بيئةٍ؟ البيت، فإذا حققت الأسرةُ والبيت الحاجات النفسية والعضوية البيولوجية؛ كان أكثر تطبعًا اجتماعيًّا في مستقبل أمره.
إذن نحن لدينا قضيتان:
قضية العناية به منذ نعومة الأظفار؛ حتى يكون أقوى في تقبل التَّطبع الاجتماعي، والتتبع للقيم والأخلاق عندما يكبر، وما سنُقصِّر فيه في البداية سيصعب عليه في المستقبل.
النقطة الثانية: أنه إذا نجحت معه البيئة الأولى -والتي هي البيت-، وحققت أمنه النفسي، وحاجاته النفسية والعضوية؛ سيُصبح حاله في المستقبل سويًّا، مقبولًا، مُتعاطفًا مع المجتمع، وليس مُنحرفًا، ولا مُتمرِّدًا، ولا شاذًّا، ولا عدوانيًّا، وهذا له علاقة بالقيم والأخلاق.
ما الذي يجعل البعض مُتمردًا، أو مُنعزلًا، أو عدوانيًّا، أو لديه انحرافاتٌ شاذَّةٌ، أو لديه مُخالفةٌ للمجتمع؟ من أين أتى بها؟
في مقابل شخصٍ آخر مُنضبط، وسَوِيّ، ويتعاطف مع الآخرين، ويُحب خدمة الآخرين، ويحمل همَّهم، ويُساعدهم، ويعطف عليهم، من أين جاءت هذه الصورة؟ وأنه يتنازل عن حقِّه من أجل صاحبه، والله، تجد عناصر من مراحل الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، تجده ماذا؟ يتنازل عن حقِّه من أجل زميله.
وقد أعجبتني صورة شابٍّ عند إشارة المرور قريبًا، بغض النظر عن موضوع التَّسول عند إشارة المرور، لن أتكلَّم عن هذه النقطة، وعن تحفظ البعض وما يتعلَّق به، لكن سأتكلَّم عن هذا الشاب الذي تشعر من هيئته أنك ستقول: هو أبعد من أن يُخرج مالًا ويُعطيه إياه، ومع ذلك كان هو الوحيد تقريبًا من أصحاب السيارات الذي أخرج المال وأعطاه.
هذا مثالٌ على القيمة، هذا الحس إيجابيٌّ أم غير إيجابيٍّ؟ إيجابيٌّ؛ لأنَّه إنسانٌ يُحاول أن يعطف على الآخرين، ويُحاول أن يُساعدهم.
إذن من هاتين النقطتين سنصل إلى قضيةٍ أساسيةٍ: أن أصل التربية على القيم والأخلاق هي قضية الأسرة في العناية بمرحلة الطفولة ابتداءً، وزرع القيم والأخلاق من خلال الألعاب النظيفة، لا المُشوشة أخلاقيًّا وعدوانيًّا وعنفًا، ومن خلال مصادر التلقي السليمة أيضًا: كإعلامٍ نظيفٍ، والحمد لله أنه أصبح موجودًا اليوم، والقنوات النظيفة موجودة، أي: أنه أصبح يرى الشيء النظيف، وليس الشيء الذي لا يرضاه الله ، يرى التربية على الأخلاق والقيم النَّافعة، ويُشاهد أفلامًا كرتونيةً، أو مواقف مُعينةً يستفيد منها في حياته، وفي علاقته بالله، وفي تنمية علاقته مع الآخرين.
إذن هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية: إذا اعتنينا بالطفل نفسيًّا وعضويًّا سنُساعده على أن يُنفذ ويُطبق القيم والأخلاق بشكلٍ سَوِيٍّ، وسيُصبح شخصًا فاعلًا في المجتمع بأخلاقه وآدابه وقِيَمه المُتعلقة بالتعاون مع الآخرين، والتي ستكون من أروع ما يكون؛ لأنه شخصٌ سَوِيٌّ، تلقَّى في المحضن الأول العناية بهذه الحاجات.
الإشكالية عندنا في أُسرنا: أن العناية تكون بالحاجات البيولوجية العضوية، والاهتمام بالحاجات النفسية ضعيفٌ، هذه القضية هي سبب خلخلة الموضوع، ومن خلال بعض دراسات الحالة، انظر إلى شخصٍ بعينه: لماذا حصل عنده التَّمرد؟ أو لماذا حصل عنده انكفاءٌ؟ بمعنى: انكفافٌ وانعزالٌ عن الناس.
إذا بحثتَ في دراسة الحالة تجد أنه تعرض لماذا؟ لضعفِ التواصل الاجتماعي، وإشباع الحاجات النفسية في أُسرته، لماذا؟ إمَّا بالدلال الزائد، أو بقضية ماذا؟ القسوة.
شروط التربية على القيم والأخلاق
هنا تأتي النقطة التي بعدها، وهي التي نختم بها الكلام، هناك شروطٌ ثلاثةٌ لا بد منها حتى يتربى الجيل على القيم والأخلاق، ونُربيهم تربيةً اجتماعيةً سليمةً، ويتطبَّعون تطبيعًا اجتماعيًّا سليمًا.
الشرط الأول: الشعور بالأمن والاستقرار
أولى هذه القضايا: أن يشعر الابن أو الفرد في الأسرة بالأمن والطُّمأنينة والاستقرار، فإذا شعر أن البيت ليس مصدر أمنٍ وطُمأنينةٍ؛ بالعكس: الخروج من البيت هو مصدر الأمن والطُّمأنينة؛ سيبدأ في الهرب، وليس شرطًا أن يكون هروبًا بلا عودةٍ، إنما قد يغيب إلى آخر الليل، أو يغيب بعض الأيام، أو جزءًا من اليوم.
وأحد طلابي لديه أخٌ في الابتدائية يخرج من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء، فأنا -حقيقةً- استغربتُ، فقلتُ له: هل طريقة تعاملكم فيها قسوةٌ؟ فتبيَّن أن هناك قسوةً فعلًا.
فالفرد في الأسرة -طفلًا كان أو مُراهقًا- إذا لم يشعر بالاستقرار النفسي في الأسرة لن يستطيع أن ينمو نموًّا سليمًا في القيم والأخلاق، أو نموًّا اجتماعيًّا، وأن يتطبع تطبُّعًا اجتماعيًّا سليمًا؛ لذلك لا بد أن يكون البيت مصدرًا ومأوًى للجانب النفسي، وجانب الاستقرار والطمأنينة النفسية والارتياح، فإذا وجد هذا الأمن النفسي والطمأنينة سيأتي الابن ليتكلم معك، وسيشعر أنه يُريد أن يخدم البيت والأسرة بحبٍّ، ولن يتمنى اللحظة التي يذهب فيها ويترك البيت.
لماذا يشتكي بعض الآباء والأمهات؟
يا أخي، يتكلَّم مع أصدقائه، وتجده يتكلَّم بكل أريحيةٍ، ويتواعد معهم، ويقول لهم: ماذا تُريدون؟
أما إذا طلبنا منه طلبًا فإنه يتشنَّج، ويثور، ويتضايق، لماذا؟
جزءٌ من القضية بلا شكٍّ: أن الابن عليه أن يتحمل المسؤولية -إذا كان بالغًا- في برِّ الوالدين وما يتعلَّق بذلك، لكن أيضًا القضية لها ارتباطٌ بما يتعلَّق بتحقيق الأمن النفسي داخل الأسرة، واضحٌ؟
فقضية ألا تُصبح بيوتنا فنادق مهمةٌ جدًّا: عاد ليأكل، أو ينام، أو حتى يأخذ المصروف، أتى وجلس في الغرفة يُشاهد القنوات الفضائية فقط ... إلى آخره، أصبح فندقًا، لكنَّ الترابط والتماسك وتلبية الحاجات وما يتعلَّق بها لم يحصل له.
هذه النقطة رقم واحدٍ.
الشرط الثاني: تجنُّب القسوة في المعاملة (حتى لا يُصبح عدوانيًّا)
هذه مهمةٌ جدًّا، ولن نستطيع أن نُربيه تربيةً سليمةً على القيم والأخلاق والآداب وتكون التربية الاجتماعية له ضعيفةً؛ ويُصبح عنصرًا سلبيًّا في المجتمع وعدوانيًّا، ما السبب؟
أنا وأنت أيها الأب، وأيتها الأم؛ بسبب قسوتنا في التعامل.
والله لا أنسى بعض المواقف، ومنها موقفٌ إلى الآن في خلدي، وقد رأيتُه من سنواتٍ في شارع الخزان، وأنا داخلٌ إلى أسواق النجوم إذا بشخصٍ مع ابنه الصغير، وكان الأب هو السائق، ويذهب إلى ولده ويُنزله، ويركله ويضربه في الشارع، والابن الصغير يصرخ ويصيح، فما الجريمة التي تستدعي كل هذه العقوبة؟! ومهما فعل الابن فإن هذه العقوبة من الضرب والإيذاء لا تجوز شرعًا.
الشرط الثالث: تجنُّب التدليل والحماية الزائدة والإفراط في الرعاية
وعكس هذه قضية القسوة، لا يُريدونهم أن يحزنوا، فكل شيءٍ على حسب ما يُريدون، وعنايةٌ واهتمامٌ، وماذا تُحبون؟ سنُنفذ لكم أيَّ شيءٍ تطلبونه؛ ولذلك بعض الأبناء إذا أرادوا من آبائهم وأمهاتهم شيئًا يُخصص هذا النوع خاصةً، فالنوع الأول: مَن يتعامل معه بالقسوة، فإنه يخاف أن يتكلم، ويتَّجه إلى العدوانية.
أما في قضية التدليل: ماذا يحدث إن لم يُنفذ طلبه؟
يبدأ بالغضب، والتَّنطيط، وافتعال بعض المواقف، فيشعر الأب مباشرةً بالتعاطف معه، والأم تتعاطف معه، ويُنفذ له الشيء أو الطلب الذي يُريده.
هذا الذي يتربى على الحماية الزائدة، والإفراط في العناية والرعاية، والتدليل؛ في الغالب يتعرض للفشل في حياته الاجتماعية؛ لأنه لم يتربَّ على قدرٍ من تحمُّل المسؤولية، وتحمُّل الصِّعاب والـمُشكلات.
هذا سيكون مسكينًا في مُواجهة الحياة، فيبدأ مسكينًا في المدارس، ولا يعرف كيف يتصرف؟ وفي المستقبل إذا أصبح مُوظفًا تجد أنه لا يتحمل النَّقد، ولا يتحمل أن يقول أحدٌ أيَّ شيءٍ له، ولا يتحمل مشكلةً، ولا يستطيع حلها، لماذا؟ لأنه لم يتربَّ على هذه القضايا.
نأخذ الجانب الإيجابي من النقطة الثانية: وهو قضية الحزم، والجانب الإيجابي من النقطة الثالثة: وهو الود، ونجمع بينهما، ونُربي الجيل عليهما، وبهذه الصورة يكون الجيل سويًّا، وينشأ تنشئةً اجتماعيةً جميلةً، ويتربى على القيم والأخلاق والآداب بطريقةٍ سليمةٍ جدًّا، وإلا لن تكون عنده تلك القيم والأخلاق، حتى لو حاولنا، فهو مُدللٌ، أو يُتعامل معه بعنفٍ وقسوةٍ، فماذا تتوقع منه؟! تتوقع منه أن يسبق؟ لا، سيكذب يا أخي، ويُعطي كلامًا لوالده عن شيءٍ ويفعل شيئًا آخر؛ لأنَّه يخاف من قسوته، أو يكذب عليه حتى يُحقق الشيء المراد منه؛ لأن والده (يُدَلِّعه) ويُدَلِّله.
فالكذب موجودٌ في الطرفين، وذلك لأن قضايا القيم السالبة تنشأ من خلال القسوة، وتنشأ من خلال التدليل والدَّلع والإفراط والحماية الزائدة.
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن ينفعنا وإياكم، وأن ينفع بنا وبكم، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
واجب مُشرفي الطلاب نحو طلابهم
سؤالٌ: يقول هنا: ما واجبنا نحو الطلاب كمُشرفي حلقات تحفيظٍ في الحِلَق للحفاظ عليهم من التأثيرات الخارجية، وبناء جيلٍ قِيَميٍّ؟
الجواب: أقول: مهمٌّ جدًّا أن يكون لدى الإخوة القائمين على حلقات التحفيظ في المقام الأول هدفٌ شريفٌ ورائعٌ ومهمٌّ جدًّا، وهو ما يتعلَّق بكتاب الله ، لكنَّني أقول أيضًا: لا بد أن يكون الشقُّ التربوي موجودًا ضمن قضية التحفيظ.
أبو عبدالرحمن السُّلمي -وهو من كبار الأُمَّة من التابعين- قال: "كان يُحدِّثنا الذين يستقرئون القرآن من رسول الله : أنهم كانوا لا يتجاوزون العشر آياتٍ حتى يتعلموا ما فيها من علمٍ وعملٍ"[5]عن أبي عبدالرحمن قال: حدَّثنا مَن كان يُقْرِئُنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يَقْتَرِئونَ … Continue reading.
وابن عمر رضي الله عنهما ظلَّ في سورة البقرة ثماني سنواتٍ، أو عائشة رضي الله عنها ظلَّت ثماني سنواتٍ، ليس من ضعفٍ في الحفظ، وإنَّما هي منهجيةٌ.
ولذلك إذا استطعنا أنْ نُوجِد ما يُسمَّى بـ"التطابق التربوي" بحيث نُربي الطفل على أنه إذا قرأ آياتٍ فيها قِيَمٌ وأخلاقٌ طبَّقها.
أعطوني أيَّ آياتٍ فيها قيمٌ وأخلاقٌ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، برّ الوالدين، وهو يحفظها، وسُمِّعت له مرةً وأخطأ، وفي الثانية كُتب له في الكشف: ممتازٌ، وأخذ الدرجة الكاملة، أو أقلَّ منها.
المقصود أننا انتهينا من الهدف الأول، فاجعله يُمارس الهدف الثاني -وهو موضوع القيم- على أرض الواقع، قل له: أُريدك بعد أن حفظنا آية: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أن تفعل أيَّ شيءٍ جميلٍ لوالديك، ومن الغد تأتيني بورقةٍ من والدك أنه كتب لك شيئًا معينًا، وجعلك تُمارسه، مثلًا: قبّل رأسهم، قبّل يدهم، قدِّم لهم هديةً، دلِّك قدمهم، أحضر لهم الماء، دعه يُمارس أي نشاطٍ.
بالله عليك، ألا يُعوَّل على هذا الشيء البسيط في تنمية جانب القيم والتربية عليها؟ لكنْ عندما يحفظ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، صحيحٌ أنه مأجورٌ، لكنه لا يقوم ببرِّ والديه، هل ينفعنا هذا الكلام يا جماعة؟ لا ينفعنا.
إذن نحتاج إلى هذا المنهج، والذي أرى أنه مهمٌّ جدًّا مع كتاب الله، ومع غير كتاب الله، لكن أتمنى أن أرى الناس يهتمون بتحفيظ القرآن، وبتدريسه للأبناء والأجيال، وهم على خيرٍ عظيمٍ جدًّا، كما قال النبي : خَيرُكم مَن تَعَلَّمَ القرآنَ وَعَلَّمَهُ[6]رواه البخاري (5027).، هذا أفضل الناس، فهنيئًا لهم تلك المسارات التي وضعوها.
وقد كنتُ في إحدى الجهات في إحدى مناطق المملكة، وزرتُهم حقيقةً، وأعجبني في حلقات تحفيظ القرآن عندهم قضيتان: أنَّ لديهم -غير الـمُحَفِّظ وغير قراءة القرآن- إرشادًا، أو مُرشدين للطلاب يقومون بحلِّ مشاكلهم، وعندهم لجنةٌ أُخرى يُسمونها: اللجنة التربوية، تُساند اللجنة التعليمية الـمُتعلِّقة بالتحفيظ؛ فيأخذون الطلاب ويُقيمون لهم برامج في القيم والأخلاق والسلوك، وقد أعجبني -حقيقةً- هذا البرنامج.
صُحبة السوء
سؤالٌ أخيرٌ يقول: شابٌّ في الصف الثاني الثانوي، في بيتٍ مُحافظٍ جدًّا، لكنَّه يسهر مع صُحبةٍ له في سهراتٍ تصل إلى الساعة الواحدة ليلًا، ويُلاحَظ عليهم بعض الـمُخالفات الشرعية من ناحية حلق اللحية، والإسبال، وكان من قبل مُشاركًا في إحدى المكتبات، والعجيب أن لديه حتى الآن صُحبةً مُلتزمةً، ويَعُدُّ نفسه مُستقيمًا، ما رأيك في التعامل معه؟ وهل يُمْنَع من الخروج مع أصحابه؟
الجواب: نعود لنقول: الصاحب ساحِبٌ، والمرء كما قال النبي : على دِين خَليله، فَلْيَنْظُر أحدكم مَن يُخالِل[7]الرجل على دِين خليله، فلينظُر أحدُكم مَن يُخالِل رواه الترمذي (2378)، وهو حديثٌ حسنٌ.، إذا استطعتم أنْ تُنْجزوا هذه المهمة بإبعاده ...
↑1 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663) من حديث أبي الدرداء ، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2328). |
---|---|
↑2 | «كل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كمثل البهيمة تُنْتَجُ البهيمة، هل ترى فيها جَدْعَاءَ؟»، "صحيح البخاري" (1385). |
↑3 | لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم، شِبْرًا شِبْرًا، وذِراعًا بذِراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟ رواه البخاري (7320). |
↑4 | جاء بلفظ: «لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا وكان الشيطانُ ثالثَهما»، وإسناده صحيحٌ. |
↑5 | عن أبي عبدالرحمن قال: حدَّثنا مَن كان يُقْرِئُنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يَقْتَرِئونَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آياتٍ، فلا يأخذون في العَشْرِ الأُخرى حتى يَعْلَموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعَلِمْنا العلم والعمل. تخريج "المسند" شعيب الأرناؤوط (23482). |
↑6 | رواه البخاري (5027). |
↑7 | الرجل على دِين خليله، فلينظُر أحدُكم مَن يُخالِل رواه الترمذي (2378)، وهو حديثٌ حسنٌ. |