المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هذا هو اللقاء الخامس والأربعون من هذه السلسلة التي نسأل الله أن ينفع بها: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، وما زلنا في الانفعالات، وهو اللقاء السابع من الانفعالات، وسيكون هذا اللقاء واللقاء القادم -بإذن الله - عن انفعال "الحزن والاكتئاب"، وبعد ذلك نأخذ "العجلة"، ثم "القلق والتوتر".
وهذه المواضيع تم اختيارها لكثرة انتشارها في مجتمعنا، فموضوع "الحزن والاكتئاب" كمثالٍ قضيةٌ كثيرًا ما ترد عند العديد من الذكور والإناث، وهي مربوطةٌ بالزمن الماضي، فحينما يُفكر الإنسان في شيءٍ حصل في الزمن السابق، وهذا الأمر لا يسره، يبدأ في مرحلة الحزن، ثم يصل البعض بعد ذلك إلى مرحلة الاكتئاب، وهي مرحلة المرض الواضح والظاهر.
ونبدأ اليوم بشيءٍ متعلقٍ بمعطيات حول قضية "الحزن والاكتئاب"، وبعض القضايا التي جاءت في الكتاب والسنة من الناحية النفسية والتربوية، ثم -إن شاء الله- ندخل في العلاج في جزءٍ من هذا اللقاء، ثم اللقاء القادم، بإذن الله .
الفرق بين الحزن والاكتئاب
"الحُزْن" أو "الحَزَن" كلاهما جاء في قضية الغم، فشخصٌ حزن أي: اغتمَّ، والاكتئاب هو شدةٌ في هذا الحزن.
لذلك الفرق بين الحزن والاكتئاب مرتبطٌ بالشدة والفترة الزمنية، يعني: كلما كان الحزن شديدًا سميناه: اكتئابًا.
والاكتئاب بلا شكٍّ مرضٌ، وكلما طالت فترة الحزن انتقلت إلى الاكتئاب؛ لذلك الاكتئاب والكآبة عبارةٌ عن الحزن الشديد.
ومن هذا يظهر لنا أن انفعال "الحزن والاكتئاب" يمكن أن يكون حزنًا طبيعيًّا، وقد يكون حزنًا محمودًا، كما قلنا في موضوع "الغضب"، فإنه يمكن أن يكون غضبًا طبيعيًّا، ويمكن أن يكون غضبًا محمودًا، وهناك انفعال الغضب المذموم.
ونفس الكلام نقوله هنا، وإن كان مصطلح "الاكتئاب" الذي هو الجانب المذموم أو السلبي فيما يتعلق بالحزن، وهو شدة جانب الحزن؛ لما تزداد فترته تجد بعض هؤلاء حين تجلس معهم يتذكر قضيةً حدثت قبل سنتين أو ثلاثٍ ويبكي بكاءً مُرًّا وكأن الحدث حصل الآن، وتستمر معه هذه القضية، وتأخذ من الزمن فترةً، وهذا لا شكَّ أنه حزنٌ شديدٌ.
والحزن لا شك أنه فطريٌّ، مثل: قضية الفرح، والحزن يُقابله الفرح، وهما صورتان انفعاليتان فطريتان كما سبقت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك في "مقدمات في الانفعال".
الحزن الإيجابي أمرٌ طبيعيٌّ وكذا الخوف
البعض يُدخل قضية المشاعر والوجدان على أنه المستوى الأدنى من الانفعال، والانفعال على أنه المستوى الأعلى الشديد، وبغض النظر فإننا أخذنا اصطلاح "الانفعال" لكل القضايا الوجدانية، فكانت إيجابيةً، أو كانت سلبيةً، مثل: الحزن، فالحزن انفعالٌ، لكنه قد يكون إيجابيًّا، وكذلك بالنسبة للاكتئاب فهو سلبيٌّ؛ لأنه مرضٌ.
فالحزن وضده الفرح شيءٌ فطريٌّ، يعني: انظر إلى قول الله : وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43]، فالله أضحك هذا الإنسان وأبكاه، وهذا فيه دلالةٌ واضحةٌ جدًّا على فطرية الحزن والفرح، وأن الحزن والفرح شيءٌ طبيعيٌّ.
ولا نتصور أن الإنسان لا يغضب؛ لأنه شيءٌ طبيعيٌّ، فلا بد أن يكون عنده غضبٌ، لكن كيف يغضب؟ ولماذا يغضب؟
ونفس الكلام يقال في الحزن والفرح، فهما شيءٌ طبيعيٌّ، لكن لماذا يحزن؟ وعلى ماذا يحزن؟ وما مستوى الحزن؟ هذه القضية التي نناقشها، بإذن الله .
واللفتة القرآنية العظيمة في قول الله : قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، فهذه الآية فيها دلالةٌ واضحةٌ جدًّا على أثر ونتيجة اتباع الهدي؛ هدي الله ، بأنه سيكون مضمونًا له أمران:
الأمر الأول: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني: لا قلق، ولا توتر، وربما -إن شاء الله- يأتي معنا إذا كانت هناك فرصةٌ لنطرح موضوع القلق الذي يُسمونه: مرض العصر النفسي اليوم، وهو قرينٌ للحزن والاكتئاب، ولكن القلق يكون للشيء المستقبل؛ فيقلق لأن عنده مقابلةً، أو شيءٌ في باله يُقلقه، أو يقلق لأنه سيموت: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا خوفٌ عليهم مما سيُقدمون عليه، وفيما سيُقبلون عليه: وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: لا يحزنون على ما مضى.
وهذا هو الفرق بين الحزن والخوف، والاكتئاب والقلق؛ ولذلك أعطى الله الأمان المستقبلي، والنظر للمستقبل والماضي، فلا يكون الإنسان في حزنٍ سلبيٍّ، ولا يكون كذلك في خوفٍ سلبيٍّ حينما يكون ممن اتَّبع هدى الله ، وهذا وعدٌ من الله.
ولو فتشنا في النظريات الغربية وأطروحات غير المسلمين لا نجد هذا الكلام البتة، فهذا كلامٌ من رب العالمين سبحانه الذي ضمن هذا الأمر، لكن مَن الذي يسلك مسلك الهداية؛ فيتحصل على هاتين النتيجتين: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؟ ليس عندهم قلقٌ مرضيٌّ، وليس عندهم اكتئابٌ أو حزنٌ مرضيٌّ.
النبي يحزن
الله بيَّن أن النبي عليه الصلاة والسلام يحزن في هذه الحياة، كما في قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43]، فهذا دليل فطرية الإنسان: أنه من الطبيعي أن يضحك، ومن الطبيعي أن يبكي، وتجد هذا في الطفل واضحًا وجليًّا، بل إن الطفل يبكي عند ولادته، وبعد ذلك يبدأ في الضحك، وقال سبحانه: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وقول الله : وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الخاتم، الرحيم بأمته: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، هذا النبي عليه الصلاة والسلام يتألم أن الكافر يبقى على كفره، وكذا الذين يُسارعون في الكفر، لكن الله يُسليه ويقول له: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، لا يحزنك هذا الأمر، وقال في الآية الأخرى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].
فوجود الحزن الطبيعي دلالةٌ إيجابيةٌ، لكن وجود الحزن السلبي الذي يجعل الإنسان يتحسر ويتندم، بحيث يُعيقه عن العمل، ولا يقوم بما يلزم، يعني: شخصٌ آلمك أنه ليس على هدًى وصراطٍ مستقيمٍ، يا أخي، ادعُه، فإذا كتب الله له الهداية فالحمد لله، وإلا فأنت قمت بالواجب الذي عليك: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].
وهذا الحزن أيضًا شعر به أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه وهو في الغار: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فهناك مستوى طبيعيٌّ، وحصل عند كبار الناس؛ عند الأنبياء، وعند العظماء، وعند الكبار: أنهم كانوا من الذين يحزنون بلا شكٍّ، لكن جاء القرآن يُهذبهم؛ حتى لا يكون هذا الحزن مستمرًّا فيُقعدهم عن الواجب الذي عليهم.
من صور الحزن السلبي
بعض الناس يجعله الحزن لا يأتي إلى صلاة الجماعة، وتسوء أخلاقه مع زوجته، والحزن يجعله عصبيًّا وغضوبًا أمام أبنائه وطلابه، ويذهب ليبحث عن شيءٍ يُسليه، ولو كان حرامًا، فهذا الحزن بلا شكٍّ حزنٌ سلبيٌّ.
لذلك يقول عكرمة في نهاية هذا الكلام: "ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا"[1]أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 397) برقم (234)، و(12/ 225) برقم (9314)..
وهذا الذي وُفِّق، وهو الذي يجعله انفعال الفرح يشكر الله ، ولا يطغى ويُؤذي نفسه ويُؤذي الآخرين، ويتعالى على الله ، فهذا ليس فرحًا إيجابيًّا، هذا فرحٌ سلبيٌّ، انفعالٌ في تجاوز الحد المشروع شرعًا وعقلًا وعُرْفًا، فهو فرحانٌ لكنه يقوم بمعصيةٍ؛ لأنه فرحانٌ، ويخالف النظام؛ لأنه فرحانٌ، ويخالف عُرْف الناس؛ لأنه فرحانٌ، ويخالف العقل؛ لأنه فرحانٌ، هذا ليس فرحًا، هذا تجاوزٌ للحد.
وهكذا نجعل الحزن صبرًا، فحينما يحزن فهو يصبر.
طيب، النبي كان عمه أبو طالب أعز الناس بالنسبة له، فكان داعمًا لدعوة النبي ، لكنه ما زال على الكفر، وقد قربت منيته على فراش الموت، وما استطاع عليه الصلاة والسلام أن يُدخله في الإسلام، فحزن النبي عليه، لكنه عمل، وبعد ذلك أصبح الأمر بيد الله ، فجُعِل في ضَحْضَاحٍ من نارٍ[2]أخرجه البخاري (3883)، ومسلم (209).، فقبل الله شفاعة نبيه ، وهي شفاعةٌ خاصَّةٌ بالنبي لعمه أبي طالب.
هذا ما يتعلق بهذه القضية الفطرية، قضية الفرق بين الحزن والاكتئاب، وما يتعلق بأن الكل يتعرض لمثل هذا الانفعال.
أنواع الحزن
أشرنا من قبل إلى أن هناك حزنًا إيجابيًّا، وحزنًا سلبيًّا، وحزنًا طبيعيًّا، وحزنًا غير طبيعيٍّ، وما شابه ذلك.
وقد يقسمه البعض بحسب سبب هذا الحزن، فإن كان حزني وحزنك بسبب أمرٍ دنيويٍّ فهل هذا يستحق أن نستمر في الضيق والحزن؟
اسمع إلى قول الله : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ يعني: هذا شيءٌ مكتوبٌ قد قضاه الله : إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22، 23].
هذه آيةٌ واضحةٌ بينةٌ جدًّا: أن الدنيا لا تستحق أن الإنسان يحزن لها، ويتعمق في حزنه، ويستمر في حزنه، ويشتد حزنه من أجل الدنيا؛ لأن هذا الأمر الذي قدَّره الله عليك في الدنيا مكتوبٌ قبل أن يخلقنا الله ويخلقك: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، الموضوع انتهى، فلا ترجع إلى الماضي.
هل نحن قادرون على الرجوع إلى عام 1434ه؟ هل نحن قادرون على الرجوع إلى ما قبل هذا الوقت بدقيقةٍ أو ثانيةٍ أو ساعةٍ؟ لا نستطيع، انتهى الموضوع، يعني: حتى من الناحية المنطقية ما في شيء، ما في مجال أن يعود الواحد، ولو أُعطي الإنسان فرصةً في ذلك لأعدنا أشياء من حياتنا، وصححنا كثيرًا من أخطائنا، أسأل الله أن يعفو عنا وعنكم؛ لذلك نحتاج إلى أن نتنبه.
ثم لاحظوا اللفتة القرآنية اللطيفة: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا، هنا لاحظ الآن: الأسى هذا حزنٌ، وضد الحزن انفعال الفرح، فذكر الله الشيء ونقيضه، فما علاقة هذا الأمر: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ؟
طيب، أنا ما حزنت على ما سبق: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، وقد يُعطيني الله شيئًا الآن: أن يجعلني مبسوطًا، أفرح فرحًا طبيعيًّا، لكن لا يكون الفرح فرحًا مبالغًا فيه، فمن طبيعة الإنسان أنه إذا بالغ في هذا الأمر، فإنه لو سُلب منه سبَّب له الحزن، وكما جاء في الحديث: أحبب حبيبك هونًا ما، فربما يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، فربما يكون حبيبك يومًا ما[3]أخرجه الترمذي (1997)، وقال: "هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه"، وابن وهبٍ في "الجامع" (229)، … Continue reading.
فنأخذ القضية برفقٍ وتوسطٍ واعتدالٍ، وهكذا أيضًا في الحزن والفرح نأخذها كذلك: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]؛ لأنه في الغالب الذي يفرح فرحًا غير منضبطٍ سيكون شخصًا مُتعاليًا، مستكبرًا.
الحزن نوعان
النوع الأول: حزنٌ لأمر الدنيا: فهذا الحزن ليس محمودًا أن يستمر، ومن الطبيعي أن يحصل حزنٌ في البداية، لكن ليس محمودًا أن يستمر فيه؛ لأن غيره لا يستحق: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا.
لا تقف؛ لأن هذا الحزن المستمر هو الذي سيُعيقك أن تعيش هذه الحياة بصورةٍ طبيعيةٍ، وأن تُمارس حياتك بصورةٍ طبيعيةٍ، والأهم علاقتك بالله.
وبعضنا حين يكون في حالة الحزن لا يجد تلك اللذة في الخشوع وتدبر الآيات، ويمكن أن يسأل نفسه: ماذا قرأ الإمام؟ فلا يعرف ما قرأ؛ لأن ذهنه مشغولٌ بأمرٍ قد أحزنه، وفيه أسًى وحسرةٌ، إذن هذه عقباتٌ.
والرسول تعوَّذ فقال: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال[4]أخرجه البخاري (2823)، ومسلم (2706)..
هذه كلها من أنواع العقبات في طريق الإنسان كي لا يسلك مسلك العبادة، ولا يسلك مسلك الإنتاج في الحياة بطريقةٍ صحيحةٍ؛ ولذلك تعوَّذ النبي منها: أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل.
الشاهد عندنا في هذا الحديث انفعال الحزن والهم بالمستقبل، وهو الذي قلنا فيه: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، قلنا: لا خوفٌ عليهم في المستقبل، فهم في أمانٍ، ما يقلقون، ماذا سيحصل لهم في المستقبل؟ وهم كذلك لا يشغلون بالهم بما مضى، فشغلهم إذن مُنصبٌّ على الوقت الحاضر، ويبني لمستقبله، ويستفيد مما سبق، لكن يقف فيما سبق ويبدأ في العمل، كإعادة ذاكرة، هذه من القضايا الكبيرة.
وأحد الشباب عمره ستٌّ وعشرون سنةً اتصل بي في استشارةٍ هاتفيةٍ، كانت عنده بعض الانحرافات وهداه الله حسب كلامه، ولا أعرفه حقيقةً، هداه الله وأراد أن يتزوج، يقول: لا أقدر الآن أن أتزوج، مع أني حددت كل شيءٍ يتعلق بالزواج، لماذا؟
يقول: أتذكر أيامي السابقة، وأشعر أن الله لن يتقبل مني!
هذا الآن عنده حزنٌ شديدٌ، ويصل ربما إلى الاكتئاب، وفيه شيءٌ يُناقض أمر العقيدة، وهو: التائب من الذنب كمَن لا ذنبَ له[5]أخرجه ابن ماجه (4250)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10281)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3008).، فالتوبة تجُب ما قبلها من الذنوب، كما سيأتي في قضية العلاج.
فهذه قضيةٌ نحتاج أن نتنبه لها، وهذا الحزن غير محمودٍ، والحزن المحمود الذي يكون لأمرٍ دينيٍّ، ولأمرٍ يُحبه الله ويرضاه، ليس لأمور الدنيا.
واليوم سؤالٌ كبيرٌ لي ولك، ولأسرنا وأسركم، ولمَن يسمع: ما هو حزننا؟ لأي شيءٍ؟ هل لأمر الدنيا أكثر، أم لأمر الدين والآخرة؟
الثاني: الحزن المحمود: وهذا مطلوبٌ ومُمتدحٌ في الشريعة: في كتاب الله، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
خذ مثالًا: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92]، هؤلاء هم الفقراء الذين لم يتمكنوا من المشاركة في الجهاد في غزوة تبوك، ولأجل ذلك: تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، ودمع العين علامةٌ ومؤشرٌ من مؤشرات الحزن.
حَزَنًا قال ذلك تأكيدًا للقضية، أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، والرسول ما وجد لهم ما يحملهم عليه.
هذا الحزن حزن الرجال، هذا حزن الأبطال، هذا الحزن الإيجابي، هذا الانفعال الذي نتمنى أن نتربى عليه، ويتربى عليه الأبناء حين يكون المقصد فيه والهدف فيه شريفًا عند الله .
وحصل موقفٌ بين أبي بكرٍ وعمر بن الخطاب وأم أيمن رضي الله عنها، وذلك حينما توفي النبي ، فقد ذهب أبو بكرٍ وعمر لها فبكت، فقالا: ما يُبكيك؟ ما عند الله خيرٌ لرسوله. وهنا يظهر ثبات أبي بكر وعمر بعد وفاة أعظم رجلٍ، فكيف بهؤلاء الناس الذين تعلقت قلوبهم بالله وبالآخرة، وأدركوا ذلك مع شدة المصيبة؟!
قالا لها: ما عند الله خيرٌ لرسوله. قالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله ، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء. فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها[6]أخرجه مسلم (2454).، يعني: والله ما أبكي لأن ما عند الله خيرٌ لرسوله ، لا، ولا أبكي لأني أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله ، لكن أبكي لأن الوحي قد انقطع.
عاشوا فترة نزول الوحي على النبي ، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان رضي الله عنهما على هذا الأمر الذي فُقِد بعد وفاة النبي في هذا الموقف مع أم أيمن، ولم يبكيا في هذه اللحظة على وفاة النبي ، مع شدة هذا الأمر.
ولذلك يقول الرسول : أيما أحدٍ من الناس -أو من المؤمنين- أُصيب بمصيبةٍ فليتعزَّ بمصيبته بي[7]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1599)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9678) بلفظ: مَن أُصيب بمصيبةٍ فليذكر مصيبته بي، وصححه … Continue reading؛ لأن هذا سيُسلي الإنسان حين يُصاب بمصيبةٍ، فمصيبة الأمة بمحمدٍ أكبر، ومصيبة أم أيمن وتبعها أبو بكر وعمر في انقطاع الوحي كانت كبيرةً بعد وفاة النبي .
فهل هذا الحزن موجودٌ في أوساطنا؟ مثلًا: أحزن عندما ينهزم المسلمون، وعندما يضعف المسلمون، أو أحزن لأن ابني ليس حريصًا على الصلاة، هل حزني لهذا، أو لأي قضيةٍ لا يرضاها الله وليست مرتبطةً بالآخرة؟!
ومثل: حزني لأن ابني لم ينجح في الاختبار، أو لم يُحقق الوظيفة، أو لم يأتِ بمعدلٍ تراكميٍّ، أو بمعدلٍ مرتفعٍ، ... إلى آخره، هل لديه هذا الأمر؟ هل عندي هذا الفارق بين الحزن لأمر الدنيا في مقابل الحزن للأمر الأخروي؟ هل القضية هذه تمس مشاعرنا ووجداننا وانفعالنا؟ سؤالٌ كبيرٌ.
ديننا لا يمنع أن نحزن على أمور الدنيا، لكن يمنع أن نستغرق في الحزن على أمور الدنيا، وتكون هي الهم، وهي المستمرة، وتصبح هي اللازمة في وجداننا، لكن كل إناءٍ بالذي فيه ينضح، وإذا كان الإنسان هذا همّه: مَن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتب له[8]أخرجه الترمذي (2465)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6510)..
فرقٌ بين هذا وبين: مَن كانت الآخرة همَّه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمةٌ[9]أخرجه أحمد في "المسند" (21590)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (404).، فمَن كانت الآخرة همَّه كفاه الله سبحانه هموم الدنيا، وأتته الدنيا راغمةً.
اليوم همومٌ بأمر المستقبل، فكثيرٌ من الناس أذهانهم مشغولةٌ بـ: الوظيفة، والزواج، والمرض، وأشياء صحيحةٍ، وأشياء خاطئةٍ.
والرسول بيَّن أن هناك شيئًا يحل لك هذا الموضوع: اجعل همَّك للآخرة، هل هذه الوزنية -وزنية الآخرة- أرجح من وزنية أمر الدنيا الذي في الكفة الأخرى؟
هذا سؤالٌ لي ولك، ولهم ولهن، وللمسلمين جميعًا: أيهما أثقل في الكِفَّة؟ كفتي وكفتك، أيهما أثقل في كفة كل واحدٍ من حيث الواقع؟ كل واحدٍ منا أدرى بنفسه، وبسهولةٍ يمكن أن نُجامل ونقول: أمورنا طيبةٌ، والحمد لله، ... إلى آخره.
نحن لم نأتِ لنُحاسب، الحساب عند رب العالمين، لكن أتكلم عن الاستثارة في هذا الموضوع؛ لأن من الأمور المهمة جدًّا في النفس البشرية: أنها تُحاسب نفسها، وتُراجع نفسها، وتصدق.
إذا كان الصحابة يقول الله عنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، كانت عائشة رضي الله عنها تظن أنهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون، ويزنون، فقال لها النبي : لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا تُقبل منهم: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61][10]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162)..
هل هذا الحس موجودٌ عندنا، أم أننا بمجرد أن نصلي نقول: الحمد لله، قد غُفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر؟!
هذا حال بعض المسلمين للأسف، أرى هذا في المناقشات الطبيعية، يقول لك: الحمد لله، أموري طيبةٌ، ما عندي أي خطأ! معقولة! ما عندك أي خطأ! الصحابة عندهم أخطاء، أما هو فلا، أبدًا، لا يريد أن يوصف بأن عنده خطأ، وأنه لا يمس! وكأنه كيانٌ لا يقبل الخطأ بحالٍ من الأحوال، وهذا غرورٌ في التعامل مع الله ، ولا يجوز أبدًا أن نتعامل مع الله بهذه الطريقة.
لذلك الذي همه الدنيا قد يُصاب بمثل هذا الأمر، لكن الذي همه الآخرة يكون (الترمومتر) عنده حساسًا، يعرف أن كل ما قدَّمه قليلٌ في حقِّ الله ؛ فلذلك حزننا أيضًا وانفعال الحزن من أين جاء؟
فرقٌ بين أن يكون للدنيا، وبين أن يكون للآخرة، هذه من القضايا المهمة جدًّا في ترتيب أولوياتنا مع أبنائنا، ومع أنفسنا قبل أبنائنا، ومع مَن نختلط بهم من الناس؛ فنعلمهم ونربيهم ونكون لهم قدواتٍ، فنحزن وتدمع العين لأمرٍ يحبه الله ، لكننا مثلًا فقدناه؛ فتدمع العين حزنًا من هذا الأمر.
ولكن البعض قد لا يحصل منه هذا الأمر، بل يحصل منه في الجانب الدنيوي الذي قد يكون طبيعيًّا، مثل: أن يفقد عزيزًا عليه، أو يفقد مالًا، ويمكن أن يحزن، وتدمع عينه، وتكون فترة حزنه محدودةً، ووضعًا طبيعيًّا لا يستمر، ... إلى آخره.
وبعضهم لا، والناس في أزمة الأسهم -التي أسأل الله ألا يُعيدها علينا- تجد أن مجموعةً ممن خسروا، وربما هو ما خسر شيئًا، لكن فاتته زيادةٌ في الربح، وصارت الضربة التي وقعت، فاتصف معظمهم بقضية الحزن، وصار عندهم انفعال الحزن، لكن من الناس مَن حزنه طبيعيٌّ، ومنهم مَن حزنه ليس طبيعيًّا، وهناك مَن حزنه إيجابيٌّ، ومنهم مَن حزنه ليس إيجابيًّا، فمن الناس مَن يحزن ولكنه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما عند الله خيرٌ وأبقى، وهذا ابتلاءٌ لي. كما سيأتي معنا في بعض القضايا المتعلقة بالعلاجات.
فهذا حَزِنَ، ما نقول أبدًا: إنه مُتبلد الحس، فوجود الحزن طبيعيٌّ، لكن الكلام في استمراره وشدته، ثم أيضًا فرقٌ بين الحزن لأمر الدنيا، والحزن لأمر الآخرة، كما قلنا في الغضب: هناك فرقٌ بين الغضب من أمرٍ إيجابيٍّ، والغضب من أمرٍ سلبيٍّ، الغضب بسبب أمرٍ دنيويٍّ، أو الغضب بسبب أمرٍ أخرويٍّ.
فينبغي ألا تستمر هذه الأحزان عمومًا، حتى لو كانت أحزانًا إيجابيةً، ينبغي أن يُجاهد الإنسان نفسه.
ولذلك الحمد لله ما عندنا في ديننا وفي منهجنا يوم الحزن، ويوم وفاة فلان، ... إلى آخره، بل حتى يوم وفاة النبي ليس هناك شيءٌ محددٌ كطقوسٍ، ولا كيومٍ محددٍ، أو ما شابه ذلك.
وهذا من دلالة حماية الشريعة لهذا الإنسان؛ حتى لا يكون كما يحصل -للأسف الشديد- في البدع الموجودة في عاشوراء عند أهل البدع، هذه الصورة من النياحة، وتكاد تكون قاتلةً، وما يحصل من الخُزعبلات والتُّرهات تُعطي دلالةً كبيرةً على الحزن المتعاظم السلبي، بغض النظر عن أنه بدعةٌ أصلًا، فهو بدعةٌ ابتداءً، ليس مشروعًا ابتداءً، ومخالفٌ للشرع أيضًا في تعاطيه، يعني لو قلنا: العين تدمع، والقلب يحزن، يعني نقول: إنه اختلف معهم في مشروعية الأمر وعدم مشروعيته، صار حتى خارج العقل، ما يحدث صار خارج العقل من مستوى الحزن والانفعال الشديد الذي أدى إلى مستوى منهجية الحزن في الحياة، يعني: الشعور بأن الإنسان لا بد أن يُرقق قلبه بمثل هذه المآتم، وأصبحت هناك مآتم، ليس فقط عاشوراء، مآتم عاشوراء، وغير عاشوراء، ومآتم فلان، ومآتم عِلان، وفاة الإمام فلان، ووفاة الإمام فلان، ... إلى آخره.
هذه القضية مخالفةٌ بلا شكٍّ، وهذه من رحمة ديننا العظيم: أنه لم يجعلنا نقف عند هذه القضايا وتُصبح مُعيقةً لنا في حياتنا.
طيب، اتفقنا في نقاشنا الآن حول أنواع الحزن.
الاكتئاب
الاكتئاب مستوى أعلى، الاكتئاب حزنٌ شديدٌ، وعندئذٍ سيكون الاكتئاب مذمومًا، ليس مثل الحزن، الحزن فيه مستوى محمودٌ، بل فيه مستوى مطلوبٌ، أما الاكتئاب فهو وصفٌ لمرضٍ له أعراضٌ عديدةٌ تكلم عنها الأطباء النفسيون وأصحاب التخصصات في الصحة النفسية، وما شابه ذلك، يعني: كالشعور بالضيق، والحزن، والبكاء، وضعف شهية الطعام، وعدم الرغبة في فعل أي شيءٍ، وقلة التركيز والإنتاجية، والشعور بالنسيان، والشعور بأن هذه الحياة لا قيمةَ لها، ولا تُساوي شيئًا، ويحتقر نفسه، ويرى أنه لا يستحق أن يعيش في هذه الحياة؛ ولذلك بعضهم قد يقتل نفسه، أو يُفكر بالانتحار.
وهذه حالاتٌ تُفسر قضايا الرغبة في الانتحار، أو التفكير في الانتحار، أو حتى ممارسة الانتحار، والاضطراب في النوم، وانخفاض الوزن، والشعور بالأسى والحسرة والذنب الشديد على شيءٍ بسيطٍ تافهٍ، وتجده يحمل الدنيا فوق رأسه، ويُقيم الدنيا ولا يُقعدها من الحسرة.
هذا كله من أعراض الاكتئاب، ولا أريد أن أقف عند موضوع الاكتئاب وتصنيفاته، لكن هناك اكتئابٌ خفيفٌ، واكتئابٌ متوسطٌ، واكتئابٌ شديدٌ.
وأيضًا الشعور بالذنب -كمثالٍ- أمرٌ إيجابيٌّ إذا كان معتدلًا، ويكون معتدلًا إذا كان لا يُعيق عن العمل وإقامة الواجبات وما يلزم بعد ذلك من توبةٍ، وما شابه ذلك، لكن إذا كان الشعور بالذنب سيُقعدني، ولا أذهب للصلاة، وأستمر على معصيتي، ويجعل همَّتي ضعيفةً؛ فهل هذا شعورٌ إيجابيٌّ؟!
وأيضًا المُكتئب قد يقتل نفسه، كما ذكرنا في قتل نفسه، وقد يقتل غيره في بعض الأحيان، إلى أن يُوسع دائرة: أن هؤلاء لا يستحقون الحياة، وأن الدنيا غرارةٌ، والدنيا سيئةٌ، وينظر إلى الدنيا نظرةً سوداويةً؛ ولذلك يرى أنه من الخير ألا تبقى زوجته، ولا يبقى أبناؤه في هذه الحياة؛ فيقتلهم، وهذا يحدث من بعض الحالات التي نسمع عنها، وتُستبعد مثل هذه القضية، يعني: واحدٌ يقتل زوجته، ويقتل أولاده، إلى غير ذلك.
والمكتئب في بعض الأحيان يكون خارج التغطية (out of control)، حتى من الناحية الشرعية، وقد ذكر بعضهم أنه قد يكون معذورًا في نوعٍ من أنواع الاكتئاب كما سيأتي.
إذن هذا وصفٌ عامٌّ لهذا المكتئب الذي غالبًا على لفظه كآبةٌ وتعاسةٌ، ويشعر بضد السعادة والطمأنينة والارتياح الذي هو أصلًا مطلبٌ إنسانيٌّ في الحياة: أن يكون سعيدًا، مطمئنًّا، مرتاحًا.
أسباب الاكتئاب
للاكتئاب أسبابٌ متعددةٌ ذكرها البعض:
- أسبابٌ داخل الإنسان.
- وأسبابٌ خارج الإنسان.
من الأسباب التي تكون داخل الإنسان: الجانب الوراثي، فهذا عاملٌ مُؤثرٌ، لكن لا يلزم أن يكون أولاد كل مكتئبٍ مثله مكتئبين، يعني: هناك قابليةٌ، وهذه مهمةٌ جدًّا في قضايا الوراثة.
وقد يفهم البعض عندما يقال: وراثة؛ أن الأمر انتهى، فمثلًا: واحدٌ عنده فصامٌ في الشخصية، هذا المرض العقلي المزمن -نسأل الله أن يُعافينا وإياكم من كل الأمراض- إذن أبناؤه لا بد أن تكون فيهم نسبةٌ معينةٌ بهذه الصورة! لا، فقط القابلية، فإذا تمت رعايتهم بطريقةٍ إيجابيةٍ سيحفظهم الله ، لكن قد تأتي قضية الوراثة من عند رب العالمين، وتُصبح القضية تنطبق على هذا الإنسان، لكن ليس معنى أنه مريضٌ بالاكتئاب أنه سوف يُصاب أقاربه وأولاده بهذا المرض.
الجانب الآخر الذي يكون داخل الإنسان أيضًا: هو المتعلق بالأمراض العضوية، وخذوا مثالًا على ذلك: ما يتعلق بالغدة الدرقية، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ونسب المصابين بالغدة الدرقية في مجتمعنا تزداد، وموجودةٌ، وهي إما كسلٌ، وإما نشاطٌ، زيادة نشاطٍ، وهذه تؤثر في النفسية، ويكون لها دورٌ في الاكتئاب.
وأعرف أحد الأشخاص مُبتلًى بالغدة الدرقية، وما كنا نعرف أن عنده هذا المرض، فكنا إذا مررنا وسلمنا عليه لا يرد السلام، ويكون مُكفهر الوجه، فقال أحد الأشخاص: يا أخي، يُسلم علينا من أطراف يده!
وعندما بحثنا في القضية وجدنا أنه مصابٌ بالغدة الدرقية، ومن تحليلات هذا الموضوع: أنه إذا أخذ العلاج وأصبح وضعه مستقرًّا تعود نفسيته إلى الاستقرار؛ لذلك هذا الجانب الداخلي -الذي هو سببٌ عضويٌّ غير وراثيٍّ- من المحتمل أن يكون من أسباب الاكتئاب والحزن، ويراعى هذا الجانب أيضًا.
وليس معنى هذا الكلام أنه لا يُقبل، بل يُعالج، حتى هذا الجانب الوراثي سنُعالجه وما يتعلق بذلك.
أيضًا نقص بعض الفيتامينات، ومنها: فيتامين (ب12)، فهذا يؤثر في جانب الاكتئاب والنقص؛ ولذلك يُفضل عمل الفحوصات الطبية كي يعرف الإنسان ما يتعلق بغدده، والغدد التي عنده، وكذلك بالنسبة لأهله، والإشكاليات الموجودة في تلك الغدد منذ وقتٍ مبكرٍ فيكتشفها، كذلك بالنسبة للفيتامينات، وأمثال ذلك.
وهناك -كما يقول الأطباء- أسبابٌ داخل الإنسان لا تُعرف.
هذه هي الأسباب الداخلية كما ذكر بعض المختصين، أما الأسباب الخارجية فإنها لا تكون من داخل الإنسان وبنيته كإنسانٍ، وإنما هي أسبابٌ خارجيةٌ تؤثر فيه.
أولى هذه الأسباب: أسبابٌ بيئيةٌ متعلقةٌ بجانب المجتمع، مثل: أن يفقد شيئًا عزيزًا: كأن يفقد مالًا، أو يفقد مكانةً اجتماعيةً، وما شابه ذلك.
هذا الجانب المتعلق ببيئته الأسرية المجتمعية ... إلى آخره، أي شيءٍ فيه فقدٌ أيًّا كان: إنسانٌ، أو مالٌ، أو مكانةٌ اجتماعيةٌ، وما شابه ذلك.
بعض الأدوية قد تُسبب الاكتئاب والحزن
الأدوية شيءٌ خارجيٌّ يستخدمه الإنسان، وهناك حالةٌ كنت قد اطلعت عليها قريبًا، ولفت نظري في الحالة الاستغراق في وجود انتكاسةٍ في الجانب النفسي؛ فيما يرتبط بالضيق والاكتئاب والحزن والبكاء، وهذا لم يكن موجودًا عند هذه الحالة من قبل، فلما تتبعنا وجدنا أن أحد الأدوية التي أُعطيت من قبل الجهات المختصة بالطب النفسي له أثرٌ موجودٌ حتى في التعليمات، فهو يؤثر ويُحدث الاكتئاب والحزن، وحصلت هذه الحالة بعد أخذ هذا النوع من الدواء.
فتحدثت مع الطبيب الذي صرف هذا الدواء، وقلت: حالة فلان هذا حصل كذا وكذا، فاتفقنا على أنه يُوقف هذا الدواء وننظر: إن خفَّ الاكتئاب سيكون السبب هو تعاطي هذا الدواء، وإن لم يخفّ فإننا سنحتاج إلى النظر في شيءٍ آخر.
فحين أوقف هذا الشخص هذا الدواء انقطع عنه الحزن والاكتئاب تمامًا.
وقبل أسبوعين تقريبًا كانت هناك حالةٌ لديها شيءٌ من البكاء الشديد، والاكتئاب الشديد، والبكاء على شيءٍ بسيطٍ، وهو الآن يُحدث عن نفسه أنه كان في عالمٍ آخر، مثل: الشخص المهلوس، ويكاد في بعض الأحيان يستغرب: كيف يتصرف مثل هذا التصرف؟! وكان هذا بفعل الدواء، فالدواء سببٌ من الأسباب التي يُحتاج إلى التَّنبه لها.
المخدرات سببٌ للاكتئاب
المخدرات من الأسباب الخارجية، وهي مهمةٌ في هذا الموضوع، أيًّا كانت: حبوبٌ، أو خمرٌ، أو حتى الحبوب المُنبهة.
وبعضها يُسبب الاكتئاب بعد أن يتعاطاها الإنسان، وبعضها يُسبب الاكتئاب حين ينفكُّ عنها، مثل: الحبوب المُنبهة التي يأخذها الشباب الذين يقودون السيارات لمسافاتٍ طويلةٍ؛ لتُذهب النوم و(يصحصح) كما يقال، فعندما يأخذها الشاب لا يشعر بالاكتئاب والحزن، لكن عندما ينقطع عنها يشعر بالاكتئاب والحزن؛ فيرجع إليها ويأخذها مرةً ثانيةً، وهذا الذي يحصل في الإدمان على مثل هذه المُنبهات.
أما الخمور والمخدرات المعروفة فهذه يحصل معها اكتئابٌ مباشرٌ؛ لذلك نحتاج إلى أن ننتبه إلى مثل هذه القضايا.
المراحل التي يمر بها الإنسان عندما يفقد شيئًا
عندما يفقد الإنسان شيئًا يمر بأربعة مراحل -كما ذكر أهل الاختصاص- هي:
المرحلة الأولى: مرحلة الإنكار وعدم التصديق
ونحن الآن نتكلم عن الوضع، لكن لا شكَّ أن الجانب الإيماني مؤثرٌ، وسيأتي معنا في العلاج أنه مؤثرٌ في هذه القضية، ... إلى آخره.
والواحد منا في بعض الأحيان يأتيه خبرُ وفاة شيخ هذا الجامع، مثل: الشيخ سلطان -رحمة الله عليه- فحين سمع الواحد منا الخبر للوهلة الأولى قال: هل هذا الخبر صحيحٌ؟ فيمر بهذه المرحلة، وأتوقع أن بعضكم مرَّ بهذه المرحلة، ويتمنى ألا يكون صحيحًا، فيكون عنده عدم تصديقٍ، وقد يكون ذلك للحظاتٍ أو ثوانٍ.
المرحلة الثانية: تبلد الشعور: فيمكن ألا يبكي، ولا يحزن، ولا يدمع.
المرحلة الثالثة: يضيق صدره ويبدأ في البكاء.
المرحلة الرابعة: القبول والتسليم للأمر الواقع.
هذا التفسير الطبيعي لهذا الموضوع، بغض النظر عن الإيمان بالقضاء والقدر -كما سيأتي معنا- وشدته وخفَّته، وما شابه ذلك.
وقعت حادثةٌ أمس غريبةٌ جدًّا، فقد حدثني شخصٌ عن قريبةٍ له تفاجأت، وكان هو حاضرًا لهذا الحدث، يقول: إنها تفاجأت بأمرٍ معينٍ من أحد أقاربها، فانصدمت من الكلام، وهذه هي المرحلة الأولى؛ ما صدَّقت أن يقول ابنها هذا الكلام، فمرت ثوانٍ وهي في مرحلة عدم التصديق؛ لأنها تتمنى ألا يقول هذا.
ثم يقول: أمسكت نفسها، ولم تُظهر أي ضيقٍ أو حزنٍ، وهذه مرحلة تبلد الشعور، وأنا قرأتُ هذا بعدما سمعت هذه القصة، فجاءت موافقةً.
يقول: فركبنا السيارة نحن الثلاثة: أنا وهي وابنها، يقول: فانهدَّت بالبكاء والضيق، وهذه هي المرحلة الثالثة، وإن كان في بعض مظاهرها يوجد شيءٌ من الشدة والاكتئاب، وهذا غير مقبولٍ؛ ولذلك حاولوا أن يذهبوا بها إلى أطباء يمينًا ويسارًا، وخافوا عليها، ثم استسلمت للأمر الواقع، وهذه هي المرحلة الرابعة.
ففهم مثل هذه القضايا يُساعد الإنسان على تصور بعض هذه الأمور.
هذه بعض الأسباب التي ذكرناها، ولا يُفهم أنه إذا كان عنده ضعفٌ في الدين فقط يحصل الاكتئاب، فيمكن أن يكون الإنسان قويًّا في دينه ويحصل عنده شيءٌ من الاكتئاب، خاصةً في الظروف المتعلقة بالعوامل الداخلية، فهذا أيضًا كذلك.
الحزن المقبول
هناك أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا ومقبولٌ: وهو أن الإنسان عينه قد تدمع، وقلبه يحزن، ويحصل ضيقٌ عنده في الصدر، ويحصل عنده شيءٌ من الخواطر، وهذا مستوًى معينٌ مقبولٌ، وأمرٌ طبيعيٌّ، كما قال النبي : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم[11]أخرجه البخاري (5269).، هذه أشياء وخواطر، لكن الكلام في القول والعمل.
ولذلك عندما زار النبي سعد بن عبادة في مرضه، ومعه الصحابة، بكى عليه الصلاة والسلام، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال : ألا تسمعون، إن الله لا يُعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم[12]أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924)..
إذن القلب يحزن، والعين تدمع، وهذا مستوى طبيعيٌّ، وهذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، كما حصل له عليه الصلاة والسلام عندما كان حاضرًا عند ابنٍ لابنته، وكان يحتضر[13]أخرجه البخاري (5655)، و(6655)، ومسلم (923).، لكن إذا كانت القضية فيها إرادةٌ، مثل: لطم الخدود، وشق الجيوب، وتمني الموت؛ يدخل الحزن في هذا المجال؛ وهذا يُحاسب عليه.
فالأول ليس مُلامًا عليه، والناس يختلفون فيه، والثاني الناس يختلفون فيه أيضًا، ويُحاسبون عليه؛ لذلك جاءت الأدلة من الكتاب والسنة تعطي دلالةً على ذلك، يقول الله : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
البعض بمجرد أن يحصل عنده اكتئابٌ يفكر في الموت، والله قطع هذه القضية تمامًا، يقول النبي : ليس منا مَن لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية[14]أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103)..
ويقول عليه الصلاة والسلام: لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي[15]أخرجه مسلم (2680)..
ويقول عليه الصلاة والسلام: مَن قتل نفسه بحديدةٍ، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا، ومَن شرب سمًّا فقتل نفسه، فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا، ومَن تردَّى من جبلٍ فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا[16]أخرجه مسلم (109)..
إذن الإنسان لا يفكر أن يقتل نفسه حتى يتخلص من هذه الضائقة النفسية التي وصل فيها إلى حد الاكتئاب.
ولذلك نحتاج أن ننتبه للناس الذين يصلون إلى مستوى الاكتئاب، فنلحق بهم حتى لا نُدخلهم في هذه الدائرة، وإذا كان الاكتئاب خفيفًا لا ينتقل إلى الاكتئاب الأكبر والأشد منه، ثم الأشد والأشد؛ لأنه قد يصل بعد ذلك إلى مستوى شديدٍ في الاكتئاب، وهذا سبق ذكره قبل قليلٍ، وهو ما يتعلق بالاكتئاب الذهاني -هكذا يُسمونه-، وهو: أن يتصرف الإنسان ويقوم بأشياء دون أن يُدرك، وقد يقتل نفسه، فهذا اكتئابٌ شديدٌ، المصاب به لا يكون في وعيه، وهذا كلام الأطباء، ومنهم أطباء مسلمون، فهو لا يكون في وعيه، فالاكتئاب الذهاني يجعله خارج التكليف لمرضه، فقد يقتل نفسه.
ولذلك مثل هذه القضايا يحتاجها أهل العلم، يحتاجها المشايخ والقضاة، وما شابه ذلك؛ لأنها ترتبط بأحكامٍ، فكون الشخص عنده مثل هذه الحالة، ويكون مكتئبًا اكتئابًا شديدًا ذهانيًّا؛ يكاد أن يكون كالشخص المجنون.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
وأن يجعل حياتنا وحياة أهالينا والمسلمين حياة السعداء، ويُبعد عنا مواطن الحزن، وهذه الأمراض التي تُعيق عبادتنا لله وعمارة الأرض.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 397) برقم (234)، و(12/ 225) برقم (9314). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (3883)، ومسلم (209). |
↑3 | أخرجه الترمذي (1997)، وقال: "هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه"، وابن وهبٍ في "الجامع" (229)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1321)، والطبراني في "المعجم الكبير" (172)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (178). |
↑4 | أخرجه البخاري (2823)، ومسلم (2706). |
↑5 | أخرجه ابن ماجه (4250)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10281)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3008). |
↑6 | أخرجه مسلم (2454). |
↑7 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1599)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9678) بلفظ: مَن أُصيب بمصيبةٍ فليذكر مصيبته بي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7879). |
↑8 | أخرجه الترمذي (2465)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6510). |
↑9 | أخرجه أحمد في "المسند" (21590)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (404). |
↑10 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162). |
↑11 | أخرجه البخاري (5269). |
↑12 | أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924). |
↑13 | أخرجه البخاري (5655)، و(6655)، ومسلم (923). |
↑14 | أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103). |
↑15 | أخرجه مسلم (2680). |
↑16 | أخرجه مسلم (109). |