المحتوى
مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فنسأل الله لنا ولكم القبول، وأن يجعل أيامنا وأيام المسلمين جميعًا أيام سعادةٍ وخيرٍ وبركةٍ، وأن يتقبل منا ومنكم، اللهم آمين.
هذا هو اللقاء الثالث والأربعون -بعون الله وتوفيقه- من هذه السلسلة: "الوقفات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، وهو اللقاء الخامس من المجموعة الرابعة التي بدأنا بها مع الانفعالات، وسيكون -بإذن الله- في هذا اللقاء وما يتلوه عرضٌ لبعض النماذج حول الانفعالات، وسنبدأ في هذا اللقاء بــ: "انفعال الغضب" بعد أن أخذنا مجموعةً من اللقاءات السابقة -أربعة لقاءات- في قضايا مُتعلقةٍ بمُقدمات، وصور، وتوظيف الانفعالات من خلال العبادات.
سنتكلم اليوم -بإذن الله - عن الغضب، ثم يتلوه -بإذن الله - الحديث عن الحزن والاكتئاب والعجلة، وربما القلق -إن شاء الله تعالى-، وننتقل بعد ذلك إلى موضوعاتٍ أخرى.
أهمية الحديث عن انفعال الغضب
يبقى موضوع الغضب بالغ الأهمية، والإسلام جعل بابًا مفتوحًا واسعًا فيما يتعلق بالأخلاق: إيجابًا أو سلبًا.
فعندما تقرأ في: "موسوعة روضة النعيم من أخلاق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام" تجد مجموعةً من الأخلاق والقيم الإيجابية، ومجموعةً من الأخلاق السلبية؛ ومنها الغضب، باستقراء النصوص من الكتاب والسنة، وكلام السلف، والأبيات الشعرية، وغير ذلك من الأمور.
وعندما تنظر أيضًا لموسوعة الأخلاق في "الدرر السَّنية" تجد كلامًا أو تفصيلًا رائعًا حول ما يتعلق بموضوع الأخلاق، ومنها الأخلاق السلبية، ومنها الغضب.
وقد تكلم علماؤنا كأبي حامد الغزالي -رحمه الله وعفا عنه- حول هذا الموضوع، وغيره من العلماء كابن القيم -رحمة الله عليه وعفا عن الجميع- وبعض المعاصرين من الذين اختصوا بالأمور التربوية والنفسية وتحدثوا عنها من المنظور الإسلامي، وسنكون عالةً عليهم فيما يتعلق بهذه الموضوعات، ومنها الغضب وما يتلوه، بإذن الله .
ومن أعمدة التَّخصص الذين ناقشوا هذا الموضوع "الغضب" الأستاذ الدكتور: عبدالعزيز النغيمشي في سلسلة "الانفعالات" -وفَّقه الله-، وكذلك الأستاذ الدكتور: محمد محروس الشناوي -رحمه الله- في بعض مواضعه حينما ناقش ما يرتبط بأُطروحات الغزالي -رحمه الله- من الناحية التربوية والنفسية، ومنها الغضب.
فنقول -وبالله التوفيق والإعانة-: الإسلام جاء ليدل الإنسان ويُعينه على أنفع الطرق وأنجحها؛ حتى يعرف نفسه، ويعرف كيف يتعامل مع العالم الخارجي؟
يعني: بعضنا يغضب، لكن لا يعلم أنه غَضُوبٌ، وهذه مشكلةٌ في فهم النفس، ويظن أنه ليس كذلك، والناس يتأففون ويتذمَّرون منه، وهذه إشكاليةٌ مثل انفعال الغضب؛ ولذلك فإن تعامل هذه الذات وهذه النفس مع العالم الخارجي قضيةٌ مهمةٌ جدًّا جاء الإسلام لبيان أهميتها؛ ولذلك حثَّ على الأخلاق والقيم الإيجابية، وحذَّر من الأخلاق والقيم السلبية، ومنها ما يتعلق بالغضب.
والغضب كانفعالٍ له وظيفةٌ مهمةٌ للإنسان؛ فمن خلاله يمكن أن يُحافظ الإنسان على القضايا لذاته، وقد ذكرنا سابقًا أن الإنسان الذي لا يغضب غير طبيعيٍّ، وليست مشكلتنا في وجود الغضب، وإنما مشكلتنا حينما يحصل الغضب لأسبابٍ تافهةٍ، أو يحصل الغضب ولا يضبط الإنسان انفعاله.
هذه القضية نُؤكد عليها من ناحية الإفادة، ففيها إفادة أن الإنسان قد يغضب، وإلا سيكون مثل الجماد لا حراكَ له؛ ولذلك عندما تتصور الآن بعض أوجه الغضب الإيجابية ترى أنه من رحمة الله عليَّ وعليك أننا نغضب، وإلا فقد لا نأخذ حقوقنا المشروعة، وقد لا نغضب لله حين تُنْتَهك أوامر الله تعالى ورسوله .
وفي الاشتقاق اللغوي: الغَضْب بالتسكين يُطلق على الأسد والثور.
وقيل: إن هذا الاشتقاق يُعطي دلالةً على ما يحصل للشخص الغَضُوب أو عند انفعال الغضب من التعبيرات الانفعالية التي تحصل وتُشابه حالة الأسد وحالة الثور.
وقد دلَّت الدراسات أن عدد مرات الغضب تقلُّ بتقدم العمر، يعني: أن الصغير يكون أكثر غضبًا؛ ولذلك عندما نروض الأطفال على ضبط الغضب ونُبعد عنهم ما يُثير الغضب نُعالج شيئًا كبيرًا جدًّا، وإن كانت النفس وشخصية الطفل طريةً في انفعال الغضب، وكلما زاد الإنسان في عمره كلما قلَّ غضبه، وقلَّت مرات الغضب، وذلك بسبب النُّضج والفهم الذي يحصل في المواقف الحياتية، وفي المواقف الاجتماعية، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا.
ولذلك ليس من الرزانة ولا من الشخصية السَّوية أن الشخص في مرحلة الرُّشد وما بعد الرُّشد، وفي مرحلة ما قبل الرُّشد -وهو أكبر من أن يكون طفلًا- لا يقدر أن يملك نفسه!
بعض الناس يقول: منذ زمنٍ وأنا غضبان، أنا عندي غضبٌ.
طيب، لماذا لا تملك نفسك، ولا تضبط نفسك؟
فالمُفترض أنه كلما امتدت أعمارنا كلما قلَّ عدد مرات الغضب، بمعنى آخر: تكون النفس أميل إلى تخفيف حِدة هذا الانفعال، أعني: الغضب.
طبيعة الغضب وأعراضه
المشكلة في الغضب أنه إذا اشتدَّ حصل هيجانٌ حادٌّ عند الإنسان، فينتج عنه احمرارٌ في الوجه، وخفقانٌ في القلب، وزيادةٌ في النَّبض، وتتابعٌ في التنفس، وتزداد طاقته للقيام بالمجهود العضلي الشديد؛ ولذلك فإنه قابلٌ لأن يُؤذي الآخرين جسديًّا، ويَضعف عنده التفكير والقُدرة على المحاكمة العقلية، ولا يكون عنده نظرٌ سليمٌ وعقلٌ سليمٌ وفكرٌ سليمٌ، فلا يستطيع أن يُحكم عقله في الأمور؛ لأنه غضبان؛ ولذلك تحدث مشكلةٌ عندما يحكم القاضي وهو غضبان.
وهذا الشخص الغَضُوب أو الذي يغضب حينما يشتدُّ عليه الغضب غالبًا يُقدم على التعبير المادي واللفظي بصورةٍ مباشرةٍ وسريعةٍ، يعني: أقرب شيءٍ عنده ألفاظه، وتجد الشخص الغَضُوب إذا ما ضبط نفسه فإن اللسان هو الذي يتولى أمره، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ.
فينبغي أن نفهم هذه التغيرات الفسيولوجية والعضوية في الإنسان؛ حتى نستطيع أن نعرف خطورة الغضب، وأننا بحاجةٍ لنتعامل بصورةٍ إيجابيةٍ مع الغضب.
والآيات التي جاءت في قصة موسى : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف:150] ... إلى آخره، ثم: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ [الأعراف:154]، يعني: موسى في هذه القصة مرَّ بحالتين: حالة الغضب، بل أشدّ الغضب، الأسف هنا: أشد الغضب، ومرَّ بعد ذلك بأن الغضب سكت وهدأ عنده، فحصل اختلافٌ بين حالتي موسى الأولى والثانية، وهو نبيٌّ بشرٌ لا شكَّ في ذلك، يعني: لما اشتدَّ الغضب عند موسى عليه الصلاة والسلام كان من ذلك أنه ذمَّ قومه وأنَّبهم، وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه ولحيته يجرُّه، كل هذا من آثار الغضب، وهو نبيٌّ عليه الصلاة والسلام، لكن حينما هدأ عنه الغضب اضمحلَّت مثل هذه الأمور وانتهت.
وهناك بعض الأحاديث التي جاءت عن النبي نذكرها لنفهم الغضب، وكيف ينشأ؟ وكيف نتعامل معه؟
عن أبي سعيدٍ الخدري في حديثٍ طويلٍ قال: قال رسول الله : ألا وإن الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حُمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمَن أحسَّ بشيءٍ فليلصق بالأرض، وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ[1]أخرجه الترمذي (2191) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ"، وأحمد في "المسند" (11587)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ؛ لضعف علي بن زيد بن … Continue reading.
وانظروا إلى هذا الوصف: ألا وإن الغضب جَمْرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حُمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمَن أحسَّ بشيءٍ فليلصق بالأرض.
وعن عطية السعدي قال: قال رسول الله : إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ، حديثٌ حسنٌ، رواه الإمام أحمد[2]أخرجه أبو داود (4784)، وأحمد في "المسند" (17985)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ"..
وحديثٌ آخر عند مسلمٍ: عن سليمان بن صُرَد قال: استَبَّ رجلان عند النبي ، فجعل أحدهما يغضب ويحمرّ وجهه، فنظر إليه النبي فقال: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقام إلى الرجل رجلٌ ممن سمع النبي فقال: أتدري ما قال رسول الله آنفًا؟ قال: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال له الرجل: أمجنونٌ تراني؟![3]أخرجه مسلم (2610)..
وفي حديثٍ آخر رواه أبو داود -وهو حسنٌ- عن معاذٍ : أن رسول الله قال: مَن كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَه يعني: الآن مُغتاظٌ وقادرٌ على أن يستمر غيظه ويُنفذه، لكن كظم غيظه، مَن كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيّره من الحور العين ما يشاء[4]أخرجه أبو داود (4777)، والترمذي (2493) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (6522).، يعني: لأنها تستحق، وفيها إنجازٌ، وفيها انتصارٌ للنفس، تستحق مثل هذا الجزاء.
فعندما نجمع هذه الأحاديث نستطيع أن نُفسر هذا الغضب، وطبيعة هذا الغضب ما مَنْشَأه؟
الغضب له طبيعةٌ ناريةٌ مُتوقدةٌ داخل النفس، ويُعبر عنها بمظاهر ظاهرةٍ وبتعبيراتٍ مثل: احمرار العينين، وانتفاخ الأوداج، وقد ذُكرت في حديث النبي ، وأنها من الشيطان، والشيطان قرين الإنسان ومُلتصقٌ به، بل يجري من بني آدم مجرى الدم[5]أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2174)..
والشيطان خُلق من نارٍ وطبيعةٍ ناريةٍ، فيأتي هذا الغضب الذي هو من نارٍ في نفس الإنسان ويُذكيه الشيطان: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15].
أيضًا هذا الغضب أمرٌ فطريٌّ غريزيٌّ، وتحصل فيه تغيراتٌ.
وعندما أقول: "فطريٌّ غريزيٌّ" لا نقول مثلما يقول (فرويد) وأمثاله بأن الغضب معناه: العدوان، فهناك فرقٌ بين هذا وهذا.
والإنسان بطبعه خَيِّرٌ، وليس عدوانيًّا، وكونه بطبعه خَيِّرًا لا يعني أنه لا يغضب، هذا المقصود بأن الغضب عنده جِبليٌّ فطريٌّ، وهذه استنبطها بعض أهل الاختصاص من المُهتمين بالجانب الشرعي والتربوي والنفسي من مثل هذه الأحاديث التي أشرنا إليها قبل قليلٍ.
وأيضًا نستدل بتلك الأحاديث على أن الإنسان عندما يُستثار يكون في حالةٍ تمتلئ فيها نفسه، ويستولي الغضب على الإنسان ويأخذ بلُبِّه لدرجة أن عقله يُغطَّى، ويُصبح عنده كما يُقال: عقله غُطِّي، ويُصبح عنده عمى بصيرةٍ، ويُصبح التفكير بالنسبة له مُضطربًا، فلا يستطيع أن يُفكر بطريقةٍ صحيحةٍ، مع أنه قد يكون من أذكياء الناس، وقد يكون من الذين عندهم عقلٌ ورجاحة عقلٍ، لكن عنده مثل هذه القضية حين يغضب: لا يستطيع أن يضبط نفسه، وتكون في أَوج شدّتها، ويتصرف هذا الإنسان وكأنه طفلٌ.
والوصف الذي جاء من النبي في حديث كظم الغيظ والجزاء العظيم الذي يترتب عليه دلَّ على أن النفس تكون في حالةٍ فوَّارةٍ مُستشاطةٍ، وتشعر بحرارةٍ شديدةٍ حينما تُصاب بانفعال الغضب.
العلاقة بين الغضب والكِبْر
مما نُفسر به الغضب كذلك: أن هذا الغضب فيه ربطٌ واشتراكٌ مع الكِبْر والاستعلاء، فغالبًا الشخص الذي عنده كِبْرٌ واستعلاء تجد أنه هو الذي لا يملك نفسه عند الغضب، أما الآخر الذي يشعر بحقيقة نفسه لا تكون عنده هذه القضية مثلما عند الآخر؛ ولذلك فإن أكبر معصيةٍ عصاها الشيطان كانت من خلال كبره واستعلائه على أمر الله ، والإنسان الغَضوب يُشابه الشيطان في مثل هذا الأمر.
لعل هذه الأوجه -كما ذكرها الأستاذ الدكتور عبدالعزيز النغيمشي- هي من بعض الاستنباطات التي تُستنبط من الأحاديث التي ذكرناها قبل قليلٍ عن النبي ، وهذا يُعطي دلالةً على أن هذا الانفعال جديرٌ بالعناية والاهتمام، ونحتاج أن نقف معه وقفاتٍ كبيرةً جدًّا.
فلا بد لنا أن نُراعي مثل هذه القضايا التفسيرية التي ذكرناها قبل قليلٍ حينما نريد أن نُعالج أو نقي إنسانًا من الغضب، لا بد أن نضع هذه القضايا في اعتبارنا، وعندئذٍ يستحيل أن نُطالب الشخص بألا يغضب، سيغضب، لكن الكلام كيف سيكون غضبه؟ وهل وُقِيَ من الغضب أم لم يُوقَ من الغضب؟ وما شابه ذلك مما ذكرناه ومما سنذكره كذلك بعد قليلٍ.
مستويات علاج الغضب
الأمر الثاني: أن هناك قواعد وضوابط تُساعد في ضبط الغضب وتوجيه الغضب بطريقةٍ سليمةٍ جدًّا، وهذه القضايا مهمةٌ جدًّا، وتُوسع مدارك الإنسان، وهي في صميم مجال التخصص، ويُستفاد من الجوانب التي جاءت في كتاب الله وسنة النبي ، وهذا الذي أبدع فيه بعض أهل الاختصاص من العلماء السابقين المسلمين، ومن العلماء المعاصرين.
وهناك مستوياتٌ عديدةٌ من خلالها يمكن أن نُعالج الغضب، ليس هناك مسارٌ واحدٌ نُجربه فإن لم ننجح نبقى أصحاب غضبٍ! لا، هناك قواعد وطرقٌ ومجالاتٌ مُتعددةٌ نحتاج من خلالها ضوابط، ونحتاج من خلالها أن نستفيد من ضبط التعامل مع الغضب بطريقةٍ سليمةٍ جدًّا.
المستوى الأول: المستوى الوقائي، مستوى الوقاية.
المستوى الثاني: العلاج بالكظم.
المستوى الثالث: العلاج المعنوي والمعرفي.
المستوى الرابع: العلاج السلوكي.
المستوى الخامس: العلاج اللفظي.
والآن سنتحدث عن شخصٍ في حالة غضبٍ، أو شخصٍ نخشى أن يكون في حالة غضبٍ، فما العمل معه؟
من خلال تلك المُقدمات التي أشرنا إليها -والتي أكَّدتها الشريعة- وتلك الأحاديث وما ذكرناه سابقًا كذلك؛ أن الإنسان يغضب ويمكن أن يغضب، وهذا الغضب له حالاته التي ذكرناها، ومن شدَّته أن فيه تشبيهًا بحال الشيطان الذي خُلق من نارٍ، ويستشاط هذا الإنسان كما يفعل الشيطان.
المستوى الأول: قضية الوقاية أو المنهج الوقائي
جاء في حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري": أن رجلًا قال له النبي : لا تغضب، فردد مرارًا قال: لا تغضب[6]أخرجه البخاري (6116)..
فهذه كانت وصية النبي ، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في منهج الوقاية.
الحديث الآخر من الأحاديث التي ثبتت عند الطبراني عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلتُ لنبي الله : يا نبي الله، قُلْ لي قولًا أنتفع به وأَقْلِل لعلي أعقله. فقال نبي الله : لا تغضب[7]أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (6399)..
فالحديثان اشتركا في لفظٍ واحدٍ هو: لا تغضب، فهل عندما يقول: لا تغضب يكون المطلوب من الإنسان ألا تمرَّ عليه حالة غضبٍ؟ هل هذا هو المقصود؟
اتَّفقنا بنصوص الشريعة على أن الإنسان يغضب، فليس المقصود هنا بقوله: لا تغضب أن الإنسان لا تمر به حالة غضبٍ، فكلنا سنمر بحالة غضبٍ، وهذا أمرٌ فطريٌّ وطبيعيٌّ وجبليٌّ في الإنسان.
فالمقصود هنا: قطع أسباب الغضب، والأمور التي تُمهد للغضب، وليس النهي عن الغضب مطلقًا، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وهذا هو الشخص الحكيم الذي يُربي تربيةً صحيحةً، حينما يعرف مجالات الغضب ومُؤثراته ومُثيراته وأسبابه وبواعثه ودوافعه فيبتعد عنها: لا تغضب أي: لا تقترب من مُؤثرات الغضب ومُثيراته، وابتعد عن أسبابه وطرقه.
فأي بيئةٍ مُثيرةٍ، وأي حالةٍ مُثيرةٍ، وأي مناسبةٍ تُسبب ذلك من الحكمة أن يبتعد عنها الإنسان إذا كان يغلب على ظنِّه أنها ستُسبب له الغضب، وهذا من قبيل قول النبي : لا تغضب.
والأمر الآخر كما قال بعض أهل الاختصاص عند هذين الحديثين: التَّدريب والتَّمرين والمُمارسة لطرق الابتعاد عن الغضب ومُسبباته.
يعني: لفت بعض أهل الاختصاص ... مثلًا: شراء الألعاب للأطفال، يقول: ينبغي إذا أردنا أن نشتري ألعابًا للأطفال أن ننتبه فلا نشتري لهم ألعابًا تُهيجهم على الغضب.
ومن ذلك أنها ربما تكون عُرضةً للعطل بسرعةٍ، فالآن اشترينا له لعبةً ليستأنس ويفرح، فإن كانت كما يُقال: "مَشِّ حالك"، اشترِ أي لعبةٍ! فهو سيُشغلها وبعد لحظاتٍ ستخرب؛ فيستشيط الطفل غضبًا، فهو يريد أن يفرح ويلعب.
فيقول: أحد أمرين: إما أن تشتري الشيء المُناسب، والأمر الآخر: أن تُعوّده على كيفية إصلاح العطل، هذا هو المقصود بالتمرين والممارسة.
والمشكلة إذا كانت تربيتنا تربية الدلع والدلال وكل شيءٍ جاهزٌ، فهذا سيجعله عُرضةً للغضب أكثر، حتى الكبار.
ولهذا فإن بعض أبنائنا وبناتنا إذا تأخر الغداء غضبوا؛ لأنهم مخدومون، مكفولون، جالسون، والشَّغالات يشتغلن، وربما الأم، وهم جالسون ينتظرون ساعة الصفر ليهجموا على الأكل، فإن تأخرت ساعة الصفر، أو لم يكن المذاق طيبًا ... إلى آخره غضبوا.
فصِرنا نغضب لتوافِهِ الأشياء، مع أنه لو وُطِّنت النفوس على أنه لا يُعاب الطعام، وأن الإنسان يقوم بالعمل والخدمة، ويقوم بالواجب الذي عليه، فلم نُعرضه لهذه المُثيرات بصورةٍ أو بأخرى.
هذا رقم واحدٍ، وهو المنهج الوقائي، أو الأسلوب الوقائي، أو المستوى الوقائي.
المستوى الثاني: العلاج بالكظم
وهذا معناه أن هناك مقاومةً ذاتيةً داخليةً للنفس.
ويرى بعض أهل الاختصاص أن هذا انتصارٌ للنفس، وغلبةٌ وتميزٌ للشخصية.
فالانفعال حاصلٌ، لكنه لا يُهدئه إلا ذاته بعد توفيق الله ، فهو الذي يكظم نفسه بنفسه، وبذلك يمنع الإنسان نفسه من التَّشفي وردّة الفعل، يقول الله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، فالله أثنى على هؤلاء الناس.
وفي حديث أبي هريرة : قال رسول الله : ليس الشديد بالصّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[8]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).، هذا هو الشديد، وهو القوي، وهؤلاء الذين حققوا الدرجات العليا، والجوائز، والحوافز من الله حينما كظموا غيظهم.
يُمسك الإنسان ما يشعر به عند الغضب، ويتجرع هذا الغضب، ويلفظه، ويُوقفه.
في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "صحيح سنن ابن ماجه": أن النبي يقول: ما تجرع عبدٌ جُرعةً أفضل عند الله من جرعة غيظٍ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى[9]أخرجه ابن ماجه (4189)، وأحمد في "المسند" ت: شاكر (6114)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيحٌ".، هذا انتصارٌ كبيرٌ.
يعني: ما يجعله يكظم هذا الغيظ إلا وجه الله؛ لأنه يمكن أن يكظم غيظه ليس لله، هذا واردٌ، فيمكن أن يكظم غيظه لأنه يعرف أنه لو لم يملك نفسه فمن الممكن أن يفقد شيئًا كبيرًا؛ مثلًا: المدير سيفصله، أو سيكتب تقريرًا سيئًا عنه ... إلى آخره.
فالقضية دنيويةٌ، لكن الذي كظم غيظه لوجه الله ، ليس له مصلحةٌ دنيويةٌ البتة، هي لله ، ليست لغيره، لا شكَّ.
والحديث الآخر رواه البزار -وهو حديثٌ حسنٌ- عن أنسٍ : أن النبي مرَّ بقومٍ يصطرعون، فقال: ما هذا؟ فقالوا: فلانٌ ما يُصارع أحدًا إلا صرعه. قال: أفلا أدلُّكم على مَن هو أشدُّ منه؟ رجلٌ كلَّمه رجلٌ فكظم غيظه، فغلبه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه[10]أخرجه البزار في "مسنده" (7272)، وحسَّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3295)..
وهو بمعنى حديث أبي هريرة الذي سبق: ليس الشديد بالصّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، لكنه بصورةٍ أكثر وضوحًا.
وفي "صحيح الجامع" أن رسول الله قال: الصّرعة كل الصّرعة، الصّرعة كل الصّرعة: الرجل يغضب فيشتدّ غضبه، ويحمرّ وجهه، ويقشعر شعره؛ فيصرع غضبه يكظم هذا الغضب[11]أخرجه أحمد في "المسند" (23115)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3859)..
وهذا كله بعد حدوث الانفعال، وجيشان النفس، فيأتي الكظم فيكون قد جاء في وقته المُناسب، ودلَّ على انتصار الإنسان.
والأمر ليس كبسولةً تُؤخذ من صيدليةٍ حين يشعر الإنسان بالغضب، ولو كانت هناك كبسولاتٌ لأكلنا من زمانٍ هذه الكبسولات ونرتاح، إنما هذا جزءٌ من ابتلاء الله للإنسان، وتفعيل الإرادة الذاتية، وهي من أقوى ما يمكن أن يُمارس الإنسان ويستطيع الإنسان، ويستحيل أن يكون مُستحيلًا، ليس بصحيحٍ أن يكون مُستحيلًا: تستطيع وأستطيع، لكن الكلام: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، يعني: هناك قُدرةٌ للإنسان، يستطيع أن يضبط نفسه.
نعم، قد لا يكون مثل فلان الذي عنده الحلم جبليٌّ فطريٌّ، تأتي وتصرخ عليه لتأخذ منه شيئًا ما، والرجل حليمٌ، فهناك أناسٌ كذلك سبحان الله!
وهناك واحدٌ مثل: عود الكبريت، أو قبل أن يُولع الكبريت! يُثار من أي شيءٍ، فالناس يختلفون، وبين هذا وذاك مفاوز ومسافات، فهذا العلاج بالكظم.
ثالثًا: العلاج المعرفي
وهذه لفتةٌ جيدةٌ في العلاج ذكرها بعض أهل الاختصاص استنباطًا من النصوص الشرعية: حديث أبي سعيدٍ الخدري الطويل، قال: قال رسول الله : ألا وإن الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حُمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمَن أحسَّ بشيءٍ فليلصق بالأرض.
جاء تفهيمٌ الآن: فليلصق بالأرض يعني: أنت أيها الإنسان من ترابٍ، وضعيفٌ، ولا حاجةَ إلى أن تتكبر على الآخرين، فاعرف قدرك.
هذه مُخاطبة العقل في الحقيقة: جعل الإنسان يعلم أن هناك شيئًا أكبر من حجمه، هناك خالقٌ، وهناك مَن هو خيرٌ منه وأفضل منه، فيُراجع نفسه، ويكبت هذا الغضب من خلال كسر الكِبْر والاستعلاء.
قلنا: هناك رابطٌ بين الغضب والكِبْر والاستعلاء يُستنبط من هذا الحديث: فليلصق بالأرض يعني: لا تتكبر، مكانك أنت من ترابٍ.
والموقف العجيب في حديثٍ أخرجه البخاري عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النَّفر الذين يُدنيهم عمر بن الخطاب ، وكان القُراء أصحاب مجلس عمر ومُشاورته"، يعني: هؤلاء الناس هم الذين كان يُقربهم عمر ، "كهولًا كانوا أو شبانًا".
فقال عيينة لابن أخيه: "يا ابن أخي، لك وجهٌ عند الأمير، فاستأذن لي. فأذن له عمر، فلما دخل قال: هِيه لك يا ابن الخطاب! فوالله ما تُعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقع به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها، كان وقَّافًا عند كتاب الله"[12]أخرجه البخاري (4642)..
هذا من العلاج المعرفي: أن الإنسان حين يستجيب لإثارة الغضب يتذكر كتاب الله ، وقد قال الله في حقِّ هؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
فلتُبْصر عقولنا حينما نتذكر توجيهات ربنا وكلام نبينا ، فهذا من الأشياء المهمة جدًّا في العلاج، يُسمونه: العلاج المعرفي.
وروى البخاري عن ابن مسعودٍ قال: "لما كان يوم حنين آثر رسول الله ناسًا في القسمة"، يعني: بعد المعركة أعطى أناسًا دون أناسٍ عليه الصلاة والسلام.
"فأعطى الأقرع بن حابس مئةً من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناسًا من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسم، فقال رجلٌ: والله إن هذه قسمةٌ ما عُدِل فيها، وما أُريد فيها وجه الله!"، كلمةٌ كبيرةٌ، كبُرتْ كلمةً.
فقال ابن مسعودٍ: "والله لأُخبرن رسول الله ، فأتيتُه، فأخبرتُه بما قال"، فالآن موقف الانفعال وموقف الغضب.
فتغير وجهه حتى كان كالصرف -وهو صبغٌ أحمر-، ثم قال الرسول : فمَن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! ثم قال -وهنا العلاج المعرفي والاستنباط-: يرحم الله موسى، قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر[13]أخرجه البخاري (3150)، ومسلم (1062).، فالرسول سلَّى نفسه، وتذكر موسى ، فموسى أُوذي أشدّ مني، إذن أنا أصبر.
فقلتُ -يقول ابن مسعودٍ-: "لا جرم! لا أرفع إليه بعد هذا حديثًا"؛ حينما رأى غضب النبي ، ومع ذلك الرسول ملك نفسه وصبر عليه الصلاة والسلام.
الرابع: العلاج السلوكي
العلاج السلوكي عبارةٌ عن أعمالٍ وسلوكياتٍ أفعلها فتكون نقيض الغضب، تكون مُقابل الغضب، تكون مُغايرةً للغضب، وتصرف فكري وتصرف مشاعري عن الغضب، ويحصل عند الإنسان هدوءٌ واسترخاء يُبعده عن هذه القضايا.
مثل: حديث أبي ذرٍّ الغفاري ، وقد ذكر قصةً لا أريد أن أذكرها لطولها، وفي هذا الحديث أن أبا ذرٍّ غضب في موقفٍ، وكان قائمًا فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر، لِمَ جلستَ ثم اضطجعتَ؟ فقال: إن رسول الله قال لنا -وهذا الجانب السلوكي الآن-: إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع. أخرجه أحمد، وإسناده صحيحٌ[14]أخرجه أبو داود (4782)، وأحمد في "المسند" (21348)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (694)..
فأبو ذرٍّ كان قائمًا وجلس، وما ذهب عنه الغضب، فاضطجع بعد ذلك.
مَن منا يفعل ذلك؟! ومَن منا يُدرب نفسه على هذا؟! فهذا جانبٌ سلوكيٌّ، مهاريٌّ، عمليٌّ.
حديثٌ آخر: إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِق من نارٍ، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ، فهذا من الإجراء السلوكي: قم وتوضأ، وأنت واقفٌ اجلس، جلستَ ولا تزال غضبان فاضطجع.
حديثٌ آخر أيضًا: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله أنه قال: علِّموا، وبشِّروا، ولا تُعسروا، وإذا غضبتَ فاسكتْ، وإذا غضبتَ فاسكتْ، وإذا غضبتَ فاسكتْ. أخرجه أحمد، وإسناده صحيحٌ[15]أخرجه أحمد في "المسند" (2556)، وقال مُحققوه: "حسنٌ لغيره".، قالها النبي ثلاث مراتٍ.
وسنعرف بعض اللطائف الجميلة في مثل هذا الحديث والذي قبله.
فمن الأشياء السلوكية في هذه الأحاديث:
الأول: غيِّر هيئتك: تغيير الهيئة، يُغير الإنسان هيئته، أخذناها من: فليجلس، وإلا فليضطجع؛ لأن الإنسان وهو غضبان يكون في حالةٍ من الجمرة والشدة التي يكون فيها أدعى إلى أن يُؤذي غيره، ويُؤذي نفسه، ويحصل ما لا تُحمد عُقباه، فحين يُغيّر الهيئة يخفّ هذا الموضوع؛ لأن وقفة الإنسان أو وضع الإنسان وهو واقفٌ يبعث على الانقضاض على المغضوب عليه، لكن عندما يجلس يقلُّ، وحين يضطجع يقلُّ.
طيب، هل القضية فقط في الجلوس: القائم يجلس، والجالس يضطجع فقط؟
هنا لفتاتٌ جميلةٌ: أنه يمكن أن تدخل فيها أمورٌ أخرى بأي صورةٍ من الصور.
أنا لا أتكلم عن التوجيه النبوي، لكن من باب الاستنباط، فهناك أيضًا ما يتغير بتغيير وضع الإنسان وهيئته: كيف يشغل الإنسان نفسه؟ يعني: جاءت لك لحظة غضبٍ، فلا تستمرئ التفكير في هذه اللحظة، قم وأشغل نفسك بمهنةٍ: قراءة، لعب، بأي اتِّجاهٍ فيه تغييرٌ للهيئة سيُساعد الإنسان في أن يبتعد عن موطن الإثارة؛ ولذلك كلما أجاد الإنسان في فترة الغضب وغيَّر وضعه وهيئته بأي أسلوبٍ حصل -ومنه ما ذكره النبي ، وهو الأولى- كلما كان هذا بلا شكٍّ أدعى لقضية ابتعاد الغضب.
ثانيًا: الإطفاء: الإطفاء بالماء، وأكثر ما يُطفأ به ماء الوضوء؛ لأنه كما قال البعض: إن هذا الأمر يُبرد ويُلامس جسم الإنسان الذي يشعر بالحرارة.
وفي العلاج النفسي يستخدمون ما يُسمى بالاستحمام، يعني: الإنسان يستحم حتى تبرد نفسه.
ولا شكَّ أن التوجيه النبوي أوضح وأظهر: أن الإنسان يقوم ويتوضأ، لا يذهب ليستحمَّ فقط ولا يتوضأ، ويُعوّد نفسه على الوضوء، فالوضوء أخفّ من الاستحمام، لكن أشار إليها الدكتور النغيمشي -حفظه الله- كجانبٍ مما ذكره بعض أهل العلاج النفسي.
ثالثًا: أسلوب السكوت والتسكت، وليس السكوت؛ التَّسكت، يعني: لفظ الحديث قبل قليلٍ: وإذا غضبتَ فاسكت، ثم كررها: وإذا غضبتَ فاسكت، وإذا غضبتَ فاسكت.
قلنا في تفسير الغضب: أدعى إلى استخدام الجانب اللفظي، فهو بسرعةٍ تجد أنه يقفز بألفاظه، فحاول أن تكون عندك قوةٌ بأنك تسكت؛ لأنك هنا ستنجي نفسك من تبعات الكلام الذي هو في الغالب سيُعبر عن انفعالك بالغضب، فيكون هذا من الانتصار الشديد على النفس، وإلا سيأتي السِّباب والشتائم والصراخ والجدال؛ فلذلك الإنسان يُعود نفسه على هذا الجانب.
رابعًا: العلاج اللفظي
وهذا واضحٌ في الحديث السابق: إني لأعرف كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يقولها الإنسان.
وأذكر موقفًا لأحد الفُضلاء، وكنا في لحظة نقاشٍ مُحتدمٍ، وحصل غضبٌ من بعض الأطراف، فهذا الرجل حين أتى دوره أول كلمةٍ قالها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان هو أبدع شخصٍ استطاع أن يصيغ الاجتماع صياغةً شرعيةً، وصياغةً تربويةً ونفسيةً رائعةً جدًّا، وكان مُؤدبًا لنا؛ لأنه هو الذي استطاع أن يلفظ بهذه العبارة التي تُسكن الغضب، وعلَّمت الآخرين وذكَّرتهم بقول الغضب: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" عند الغضب، يقول الله : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].
وجزم النبي حين قال: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، فالنبي يؤكد هذا الأمر، فقط قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ولذلك لا بد من التَّعود على هذه القضية وتعويد الأبناء والأجيال عليها، وهذا لا يحتاج لشيءٍ بالنسبة للفظ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، لا يحتاج لجهدٍ ووقتٍ أبدًا.
فهذه يقول عنها الرسول : لذهب عنه ما يجد، فإذا أردنا أن يذهب الغيظ والغضب الذي أتعب بعضنا مما أدَّى إلى أنه يُرهق نفسه ويُرهق الآخرين، وتحصل خصوماتٌ، وتحصل حالات طلاقٍ بين الزوجين، وخلافاتٌ بين الأبناء والآباء، وبين أفراد المجتمع ... إلى آخره فإنه يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فقط، لا تحتاج لها شيئًا، سهلة.
والغريب -كما ذكر أهل الاختصاص، وهي لفتةٌ جميلةٌ- أن الدراسات التجريبية دلَّت على أن الإنسان الذي يغضب يكون المُنبه الانفعالي الذي عنده -الغضب- يؤدي إلى إبطاء موجات ألفا الكهربائية الدماغية العادية، والتي من المُفترض أنها تجعله يُفكر بطريقةٍ صحيحةٍ.
وهذه الذبذبات -كما يقال- متوسطةٌ في وضعها الطبيعي في التفكير، فإذا غضب انتقلت هذه الموجات إلى ظهور موجات اسمها: دلتا البطيئة، ويصير تفكيره العقلي بطيئًا، فلا يستطيع أن يفكر بطريقةٍ صحيحةٍ.
وهذه أشار إليها الدكتور: عبدالعزيز النغيمشي عن بعض الدراسات في هذا الموضوع.
لذلك يحتاج الإنسان إلى أن يُهيئ نفسه إلى أن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وهنا لفتةٌ حين قال هذا الصحابي: "وهل ترى بي من جنونٍ"؟!
أن الإنسان يتهيأ، وليست القضية جنونًا، فالقضية هنا انتصارٌ للنفس، وأمرٌ يستطيع الإنسان أن يُعالجه، فيكون مُتهيئًا لها، لكن الذي لا يكون مُتهيئًا أو لا يريد، وكأن هذا الموقف كان فيه شيءٌ من عدم الإرادة، فهو لا يريد ذلك، فلا شكَّ أنه لن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، ولو كانت قليلةً.
لذلك نحتاج إلى أن نُعود أنفسنا وغيرنا على مثل هذه القضايا.
وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
سؤال: كيف لنا أن نُدرب الناشئة على التَّفرقة بين كظم الغيظ والعفو عن المُخطئ، وبين الخوف والجُبن، خاصةً أن هذه المرحلة العمرية تنظر للتنازل عن بعض حقِّها على أنه من باب الانسحاب من المُواجهة؛ لغياب الحكمة غالبًا في هذه الفئة العمرية؟
الجواب: سؤالٌ جميلٌ، وأنا أتصور أن القضية لا يُنظر إليها بموقفٍ واحدٍ، ويُنظر إليها بشكلٍ شموليٍّ للشخصية، فالإنسان الحازم الودود هو حازمٌ في كونه يأخذ حقَّه، لكنه ودودٌ في نفس الوقت، فهو لينٌ يمكن أن يتنازل عن حقِّه ويعفو عن الخطأ، وتبقى شخصيته.
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فهو حينما يكظم الغيظ لا يعني ذلك أنه تنازل عن حقِّه -وكظم الغيظ هو ضبط هذا الانفعال- لكن يمكن أن يستمر ويأخذ حقَّه، ويبقى بعد ذلك إذا أراد أن يأخذ حقَّه فهو شرعيٌّ، فله أن يأخذ حقَّه، وإذا أراد أن يتنازل فهذه مراتب، وهي مرتبة الإحسان: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
وبعض أهل العلم ذكر أن هذه عبارةٌ عن مراحل: كاظمين غيظٍ، يكظم غيظه لكن لا يعفو، يأخذ حقَّه، لكن هناك أناسٌ: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، ووَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، هذا إحسانٌ، فهو يُحسن لمَن أخطأ في حقِّه.
وحينما أكظم غيظي لا يلزمني أن أُحسن إلى مَن أخطأ عليَّ، يمكن أن تكظم غيظك ولكن تأخذ حقَّك أو تعفو، ويمكن أن تكظم غيظك ولا تُحسن إلى مَن أخطأ فيك، لكن الذي يُحسن لمَن أخطأ فيه فهذه مرتبةٌ أعلى، والأمور بالنوايا.
فينبغي أَلَّا نتصور أن الإنسان ستذهب شخصيته من خلال بعض هذه القيم العظيمة جدًّا، والقضية تُنظر بالشمولية وبالشخصية ويعرف الإنسان.
والنبي قال عنه الله : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وهو رحيمٌ ودودٌ، واستغفر الرسول لمَن لم يستجب لأمره في غزوة أحد، وشاورهم عليه الصلاة والسلام في الأمر، وبقيت شخصيته عليه الصلاة والسلام.
وبهذه الصورة نحتوي الآخرين.
فهذا سؤالٌ جيدٌ؛ لأنه جزءٌ من الإشكالية عند البعض، يقول لك: هذا فيه إضعافٌ لشخصيتي حينما أتنازل وأعفو عن الخطأ!
أولًا: هناك فرقٌ بين كظم الغيظ والعفو عن الخطأ، فالعفو عن الخطأ مرتبةٌ أعلى، لكن لا يمكن أن يعفو الإنسان عن الخطأ إذا ما كان يكظم غيظه، فإذا كان الإنسان لا يكظم غيظه فهذا سيظلم نفسه، وسيظلم غيره.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه الترمذي (2191) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ"، وأحمد في "المسند" (11587)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان، وبقية رجاله ثقاتٌ، رجال الصحيح". |
---|---|
↑2 | أخرجه أبو داود (4784)، وأحمد في "المسند" (17985)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ". |
↑3 | أخرجه مسلم (2610). |
↑4 | أخرجه أبو داود (4777)، والترمذي (2493) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (6522). |
↑5 | أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2174). |
↑6 | أخرجه البخاري (6116). |
↑7 | أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (6399). |
↑8 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑9 | أخرجه ابن ماجه (4189)، وأحمد في "المسند" ت: شاكر (6114)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيحٌ". |
↑10 | أخرجه البزار في "مسنده" (7272)، وحسَّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3295). |
↑11 | أخرجه أحمد في "المسند" (23115)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3859). |
↑12 | أخرجه البخاري (4642). |
↑13 | أخرجه البخاري (3150)، ومسلم (1062). |
↑14 | أخرجه أبو داود (4782)، وأحمد في "المسند" (21348)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (694). |
↑15 | أخرجه أحمد في "المسند" (2556)، وقال مُحققوه: "حسنٌ لغيره". |