المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فنحن في اللقاء الثاني والأربعين -بحمد الله وتوفيقه- من هذه السلسلة في التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة، والحلقة الرابعة من المجموعة الرابعة حول الانفعالات.
أردنا أن نستفيد من هذه الأيام المُباركة الفاضلة التي هي أعظم أيام السنة: أيام العشر من ذي الحجة، ونربط موضوع الانفعالات بها، فعنوان هذا اللقاء -بعد توفيق الله وعونه، وجزى الله خيرًا مَن أعاننا على تحضير شيءٍ من المادة، وأخص بالذكر الشيخ طارق جزاه الله خيرًا- حول "العبادات طريقٌ لتوظيف الانفعالات".
وكان اللقاء الأول: مقدمة للانفعالات.
واللقاء الثاني: ضبط الانفعالات.
واللقاء الثالث: صورٌ من الانفعالات بين السلب والإيجاب.
وهذا هو اللقاء الرابع، ونخصُّه بما يتعلق بالجانب العبادي.
ونحن في أعظم أيام السنة كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري: ما العمل في أيامٍ أفضل منها في هذه؟ قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرج يُخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيءٍ[1]أخرجه البخاري (969)..
الجانب الانفعالي جانبٌ وجدانيٌّ
الهدف من هذه القضية: ذكرنا بالنسبة للجانب الانفعالي أنه جانبٌ وجدانيٌّ، فكل نفسٍ بشريةٍ تتعرض لهذا الأمر، وطبيعة النفس البشرية أنها تنفعل، وبعض الناس يفهم الانفعال بأنه صورةٌ سلبيةٌ، فنقول: الانفعال ليس كله صورةً سلبيةً، فالانفعال جزءٌ وجوديٌّ، وأمرٌ طبيعيٌّ في النفس البشرية، ولكن الكلام فيما يتعلق بـ: لماذا أنفعل؟ وما سبب الانفعال؟ وأيضًا يرتبط بقضية ضبط الانفعال كما قلنا.
وهناك انفعالٌ إيجابيٌّ أشرنا إليه في اللقاء الماضي، وهناك صورٌ من الانفعالات ذكرناها من الكتاب والسنة حول هذه القضية، وهناك انفعالاتٌ سلبيةٌ.
لا بد أن نضع القضية بهذا الاعتبار؛ حتى نستطيع أن نفهم موضوع الانفعال مثلما يفهم بعض الناس المُراهقة.
فالبعض يأخذ المُراهقة على أنها اتجاهٌ سلبيٌّ، وحقيقة المُراهقة أنها عبارةٌ عن مرحلةٍ، وهذا ما أراه أنا وغيري من أهل الاختصاص، ومن الخطأ أن تُوصَم بأنها تُساوي الجانب السلبي.
وهكذا نقول بالنسبة للانفعالات، ففيها وضعٌ طبيعيٌّ وسَوِيٌّ، بل إنها إذا لم تكن موجودةً يُعتبر الإنسان غير سَوِيٍّ، إذا لم تكن لديه مثل هذه الانفعالات، ولو زادت عن مُستواها أصبحت انفعالاتٍ سلبيةً كما سيأتي.
فالانفعال جانبٌ وجدانيٌّ، ليس جانبًا عقليًّا، وليس جانبًا حركيًّا ظاهريًّا من حيث الأصل، فلا شكَّ أن له علاقةً بالتفكير، يعني: الواحد يُفكِّر في شيءٍ ما، وربما يغضب، ويحصل عنده الانفعال مثلًا، أو بداية الانفعال، وإذا غضب يمكن أن يتكلم بكلامٍ، ويفعل فعلًا؛ فيحصل الجانب الحركي، لكن الجانب الوجداني هو أصل الانفعالات؛ ولذلك هو قسمٌ من أقسام الجانب الوجداني الذي هو جزءٌ من أجزاء الشخصية: عقلٌ، وفيه جزء المعلومات والتفكير ... إلى آخره، ووجدانٌ، ومنها ما يتعلق بالقضايا القِيَمية والإيمانية، وقضايا الانفعالات، والجوانب المهارية والحركية، وهو حركاتنا وذهابنا وإيابنا.
هذا الأمر المُتعلق بالانفعال يُحْدِث اضطرابًا داخل النفس البشرية، اضطرابٌ داخليٌّ فسيولوجيٌّ مُرتبطٌ -كما قلنا سابقًا- بأحشاء الإنسان الداخلية.
وكان الرسول يغضب حتى يحمرَّ وجهه كما صحَّ: "فغضب رسول الله حتى احمرَّت وجنتاه، أو احمرَّ وجهه"[2]أخرجه البخاري (2436)، ومسلم (1722).، فهذا أمرٌ فطريٌّ طبيعيٌّ في الإنسان: أنه عندما يغضب يحصل هذا الأمر، لكن لماذا يغضب؟ وهل يضبط الغضب أو لا يضبطه؟ هذه قضيةٌ نحن حررناها في الفترات السابقة.
واليوم سنتكلم عن العبادة ودورها في هذا الجانب، وأنه من خلال العبادة نستطيع أن نُوظف الانفعالات بطريقةٍ صحيحةٍ.
توظيف الانفعالات من خلال العبادات
نحن في أيامٍ الأصل أن يحرص الواحد منا على أن يتقرب إلى الله بأنواع العبادات، نتكلم عن العبادات المحضة التي فيها قُربةٌ إلى الله بصورةٍ أكبر، كما نتكلم عن العبادات التي هي دون ذلك، أو بعد ذلك، يعني: حتى لو أخذنا بمُسمى العبادات: "اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"[3]"مجموع الفتاوى" (10/ 149).، والذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فندخل هذا الجانب، لكن تتألق القضية أكثر في جوانب مثل: الصيام، والصلاة، وفي جوانب أنواع العبادات: كعبادة الرجاء، والصبر، وما شابه ذلك.
فلذلك نريد أن نُدرك هذا الموضوع في الارتباط ما بين الانفعالات والعبادات، وأن العبادات مجالٌ لتوظيف الانفعالات بطريقةٍ سليمةٍ جدًّا.
يعني: سأُعطيكم مدخلًا بسيطًا حتى نُدرك الذي نُريده، والموضوع طويلٌ، وعلى أقل تقديرٍ سأذكر الشواهد التي أريد أن أُثَنِّي بها بعدما أذكر بعض القضايا المتعلقة بهذه العلاقة بين الأمرين، لكن إن لم نتمكن لضيق الوقت سنستفيد منها في لقاءاتٍ أخرى، فليس لها علاقةٌ بالانفعالات، وإن كان لها ارتباطٌ بالتربية الإيمانية والتربية العبادية، وسبق أن أشرنا إلى ذلك بتوفيق الله عندما تحدثنا عن موضوع النية في أول الدروس من هذه السلسلة بتوفيق الله .
يقول الله : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، ويقول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، في مقابل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124].
فلا شك أن وجود البيئة النفسية الهادئة الخاصَّة بالإنسان تُساعد على قضية الانفعال الطبيعي والانفعال المُتَّزن.
فلما قال: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ علمنا أن اطمئنان هذه النفس يُمثل بيئةً خصبةً للانفعالات الإيجابية: بيئة خصبة للغضب الإيجابي، وبيئة خصبة للحب الإيجابي، وبيئة خصبة للخوف الإيجابي.
وكذلك: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى إيمانٌ وعملٌ صالحٌ.
وهذه العشر من ذي الحجة فيها فرصةٌ عظيمةٌ جدًّا للتقرب إلى الله بأنواع العبادات التي يُتقرب بها إلى الله، فهي بيئةٌ خصبةٌ لقضية التربية على الانفعالات الإيجابية.
في مقابل ذلك -عكس ذلك-: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ستجد أن هذا الإنسان الذي لم يضبطه الإيمان والعمل الصالح والعبادة، وكان في بيئةٍ مُثيرةٍ للانفعالات؛ لا شيء يضبط غضبه، ولا شيء يضبط هواه، ويضبط انفعال الحب والفرح لديه، لا يوجد معيارٌ أو ميزانٌ؛ فلذلك الجانب العبادي والإيماني هو مرجعيةٌ للإنسان.
ولذلك أدعو نفسي أولًا -يعلم الله - وأدعو أحبتي أن يُراجعوا أُسرهم، أولًا: في أنفسنا ابتداءً، وفي الأُسَر، وفي كل مجالٍ، حتى في المساجد التي هي مجالٌ لعبادة الله ، نُراجع ما يتعلق بقضايا الإكساب والتربية على الجوانب الإيمانية.
اليوم مُجتمعاتنا الإسلامية -الأفراد والأُسَر- بأمس الحاجة لهذا الموضوع، وهذا سيضبط الجانب المُتعلق بقضايا الشهوات وعكسها، والنمو فيها، والجانب المُتعلق بالشبهات؛ لأن الإنسان إذا لجأ إلى الله سيصدق عليه قول الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فيُسلِّم أمره لله، فإذا عرف أن هذا حقٌّ التزم به، وإذا عرف أن هذا باطلٌ ابتعد عنه، فسيكون مُتجردًا لله، فلا يقبل شُبهاتٍ تُزعزعه، ويبتعد كذلك عن الشهوات التي تُسبب له القلق والاضطراب.
فلذلك نريد أن نفهم العبادات على أنها طريقٌ لتوظيف الانفعالات.
أمثلةٌ لتوظيف الانفعالات من خلال بعض الآيات
نأخذ بعض الآيات، وهي كثيرةٌ جدًّا، وبعضها طويلةٌ، لكن نأخذ منها الشاهد، وهي ليست مُرتَّبةً، حصل فيها تقديمٌ وتأخيرٌ بالنسبة لترتيب المصحف، فاعذرونا.
الاستعانة بالعبادة عند نزول البلاء
يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، هذه مقدمةٌ مُرتبطةٌ بالعبادة: عبادة الصبر، وعبادة الصلاة، قضيةٌ واضحةٌ.
ثم قال: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:154- 157].
فمجال الانفعال هنا هو الابتلاء: بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، هذه ستُؤثر في النفس البشرية، وستُوجد مشاعر مُعينةً في هذه النفس، فما الذي يضبطها؟ وكيف نُوظِّفها؟
ستُوظَّف من خلال منظومة العبادة التي بدأت بها الآيات ووضَّحتها، وبيَّنت في نهايتها: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، فهذا هو طريق الهداية؛ لأنهم سلكوا مسلك العبادة؛ بعبادة الصبر، وعبادة الصلاة.
لذلك كلما ربَّينا أنفسنا وأهلينا في قضية العبادات استطعنا أن نُفَرِّغ الطاقة التي تحصل بسبب الانفعالات في بيئة العبادة، فتكون موجودةً في بيئة العبادة، وبيئة العبادة هذه ستكون بيئةً ناضجةً تضبط القضية وتجعلها في مسارها الصحيح.
فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ حصل سبب الخوف، وبناءً عليه سيحصل انفعال الخوف، وحصل ابتلاءٌ: نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ فسيحصل شيءٌ من الأثر النفسي، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، كقول النبي : إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفُراقك يا إبراهيم لمحزونون[4]أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315)..
فهذا أمرٌ طبيعيٌّ، أما الذي لا يحزن لفقد ولده فهو شخصٌ غير سَوِيٍّ وغير طبيعيٍّ، فتأتي بيئة العبادة فتكون مُساعدةً على توظيف جانب الانفعالات.
نأخذ مثالًا آخر، ولعلنا نتجاوز بعض الأمثلة.
ربط العبادة بما عند الله
قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، هنا الكلام عن النتيجة والثَّمرة: مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، ضبط بالآخرة، حدود الدنيا ذهبت، وهذه من أعظم ما ترتبط به قضايا العبادات، فالإنسان حينما يعبد الله فليست قضيته هي الدنيا، وإنما قضيته هي ما عند الله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:134- 136].
فالإشارة هنا والذكر: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، هذا وصفٌ من مُواصفات هؤلاء الذين مدحهم الله وأثنى عليهم: كاظمين للغيظ، وعافين عن الناس.
والغيظ انفعالٌ، لكنهم يكظمونه لرغبتهم فيما عند الله ، فكان لعبادة الصبر هذه وما عند الله أثرٌ.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، جاءت عبادة الذكر هنا فأطفأت نار الفاحشة والمعصية التي يشعر بها الإنسان حينما يقترف ذنبًا، ويَلِجُ إلى مُحَرَّمٍ حرَّمه الله ، فتأتي العبادة وتذهب هذه القضية من خلال التوبة بذكر الله واستغفاره.
وقال سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:199، 200]، فحصل الآن الانفعال من خلال النَّزغ، وصار تفاعلٌ نفسيٌّ ووجدانيٌّ من الإنسان من خلال هذا النَّزغ، بأي صورةٍ من صور النَّزغ.
وبلا شكٍّ لا يتَّجه الإنسان إلى المعصية إلا وعنده رغبةٌ في هذه المعصية، وهذه الرغبة بحد ذاتها هي جزءٌ من المشاعر والانفعالات التي نقصدها مع مستوياتٍ مختلفةٍ.
ولا أريد أن أدخل في التفريق بين المشاعر والانفعالات، يعني: يضعها بعض أهل الاختصاص بدوائر معينةٍ، لكنها كلها تُؤدي إلى الجانب الوجداني.
فلا بد أن يُوظِّف الإنسان هذه القضية بحيث تكون في مسارها الصحيح في سدِّ باب الشيطان: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فالله مُطَّلعٌ: يسمع ويعلم ما يفعله هذا الإنسان لو اقترف ذنبًا واتَّبع نزغات الشيطان: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا، قال الله بعدها مُباشرةً: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
فهنا مسَّهم طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فلا شكَّ أن الذي يمسُّه طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ يحصل عنده من المشاعر والانفعالات التي تجعله في بعض الأحيان كما يُقال: خارج التغطية، فيكون في حالةٍ من الهيجان، وفي حالةٍ من الإثارة، لكن هذه القضية ستكون في مسارها الصحيح، وتعود الأمور إلى المسار الصحيح من خلال دور العبادة والطاعة وتذكر الله ، فالله مُبْصِرٌ لأعمال العباد.
الدفع بالتي هي أحسن
يقول الله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ والعداوة مُثيرةٌ للانفعال، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ستكون النتيجة: كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:33، 34]، من أين جاء؟ من المسلك الذي سلكه، وهو مسلكٌ عباديٌّ بالدفع بالتي هي أحسن، فيُحسن التعامل مع مَن أساء إليه، فتذهب القضية.
ثم يقول الله : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، هؤلاء الذين عندهم عبادة الصبر: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]؛ لأن هذه مَنقبةٌ لا يقوى عليها كل أحدٍ.
ثم قال الله : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]؛ لأن ما سبق إذا لم يحصل فهو نزغٌ من نزغات الشيطان، فيتعود الإنسان عبادة اللجوء إلى الله ، وذكر الله ، والاستعاذة بالله ، وتذكر أنه سميعٌ عليمٌ، فيرعوي ويرتدع عن اقتراف ما لا يرضاه الله .
رؤية الدنيا على حقيقتها
قال سبحانه: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36]، فينبغي أن نربط الآيات بحقائق الدين، وحقائق قيمة الدنيا في مقابل الآخرة، والربط بمآلات الأمور يوم القيامة، وبما عند الله من جنةٍ ومغفرةٍ.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني: هذا حدهم، فكل الذي عندنا الآن بين أيدينا، وفي جيوبنا، وفي أرصدتنا؛ هو متاع الحياة الدنيا، لكن: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ بدأت الآن الصور المتعلقة بالقضايا الإيمانية والعبادية، ومنها عبادة التوكل، وما شابه ذلك.
ثم قال الله : وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، أي: يتجاوزون ويحلُمون عمَّن ظلمهم[5]"تفسير القرطبي" (16/ 35)..
غضبوا لكنهم ضبطوا غضبهم؛ لأنهم أصحاب عبادةٍ، فالذي زكَّاهم وضبط انفعالاتهم هي العبادة: توكلهم على الله ، واجتنابهم للآثام والفواحش، فمن الطبيعي أنه يغضب، لكنه يغفر.
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إلى قوله : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:38-43]، يعني: هذه درجةٌ أعلى من درجة الانتصار للنفس، حتى لو كان له حقٌّ وكونه مظلومًا إلا أنه يصبر ويغفر؛ لأن هذه من عزائم الأمور، وهذا يدل على أن هؤلاء هم قلة من الناس.
وتجدون هؤلاء الناس هم أصحاب الانفعالات السَّوية المُنضبطة، يعني: يُخطئ في حقِّه الآخرون، ويظهر الحقُّ له ... إلى آخره. وتجد أنه يصفح عن الآخرين؛ لأنه يريد ما عند الله ، قلبه مُعلَّقٌ بالله . أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
ثم يقول الله : إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، معنى "هَلُوعًا" كما قال أهل التفسير: فسَّرتها الآيات التي بعدها مُباشرةً: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20، 21]، إذن هذا فيه جانبٌ من الانفعال: الجزع، والهلع، وما شابه ذلك.
ثم قال الله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:22]، استثنى الله المُصلين، وذكر أوصافهم: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:23-25] الزكاة.
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] العلاقة بالله والإيمان بيوم القيامة: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27] الخوف من عذاب الله : إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:28].
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المعارج:29] القضايا المُتعلقة بالقيم والأخلاق، ... إلى آخر الآيات وقول الله : وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34].
إذن العبادات هي مجالٌ وطريقٌ مهمٌّ جدًّا لتوظيف الانفعالات وضبطها وتسخيرها بطريقةٍ إيجابيةٍ.
ذكر الله عند الفرح
يقول الله : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر].
ولا شك أن السورة جاءت ببيان قُرب أجل النبي ، وهنا أنه عندما يحصل هذا الأمر أُمِرَ النبي أن يلجأ لتسبيح الله واستغفاره، والموطن موطن فرحٍ، يحمد الله عندما يدخل هؤلاء في دين الله أفواجًا.
ولذلك دخل النبي -بأبي هو وأمي- مكة مُتواضعًا، ومن شدة تواضعه كان مُطأطِئًا رأسه عليه الصلاة والسلام.
فهذه من القضايا التي نحتاج أن نقف عندها: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، فمَن الذي في لحظة الوجدان والمشاعر والانفعال المُتعلق بفرحٍ يُفرحه ينسب الأمر لله فيقول: سبحان الله وبحمده، أستغفره وأتوب إليه؟
ولذلك كان من أدعية الركوع والسجود هذا الدعاء كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها[6]أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه … Continue reading.
ولذلك أيضًا جاءت سنة سجود الشكر في قصة كعب بن مالك حين بُشِّر رضي الله عنه وأرضاه بتوبة الله عليه، فكان أول شيءٍ فكَّر فيه أن يشكر الله .
الإقبال على العبادة عند الضيق
يقول الله : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر:97]، فالواحد منا يتعرَّض أحيانًا إلى ضيقٍ في الصدر بسبب كلامٍ يقوله الآخرون، فهم يقولون كلامًا لا يرضاه الله .
فأمر اللهُ رسولَه : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:98، 99]، فهذه أعتبرها من الأمثلة الواضحة جدًّا في موضوع العبادات وتوظيفها في الانفعالات.
فضيق النبي أمرٌ طبيعيٌّ، قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6]، فهنا يوجد إيذاءٌ بسبب ما يقولون، فسُلِّيَ النبي من خلال هذه العبادات العظيمة: تسبيح الله والسجود له، وعبادة الله منهجٌ حياتيٌّ مُستمرٌّ حتى يأتيك اليقين.
وفي آياتٍ أخرى في آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173]، هنا جاءت قضية محاولة تخويف المؤمنين، وهم في وضع القتال، ماذا حصل لهؤلاء الناس؟ هل حصلت عندهم الخشية من هؤلاء الأعداء والخوف حتى اضطربوا؟ ماذا حصل لهم؟
ما بعدها يُوضِّح ما جرى: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ثم قال: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174].
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يحصل لهم شيءٌ، لم يكن لهذا التَّخويف من الأعداء أثرٌ، فهذا الانفعال يكاد يضمحل ويتلاشى.
كل هذا بتوفيقٍ من الله؛ لأنهم ناسٌ مربوطون بالله ، حريصون على الإيمان والعبادة، فزادهم إيمانًا، ولفظهم الذي قالوه في مثل هذه الأزمة هو: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173، 174].
ثم يقول الله مُباشرةً؛ لنعرف أين الخلل؟ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، هذه عبادة الخوف من الله .
وأختم بآيتين:
قال الله في موطن القتال أيضًا: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ لا تُصابوا بالهوان، واجهوا الأعداء، وتألَّموا: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أيها المؤمنون فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، إذن اشترك الطرفان في الألم، فهذا جانب المشاعر وجانب الوجدان، وما يتعلق بذلك، لكن: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104]، قال صاحب "فتح القدير": "تخافون من الله ما لا يخافون"[7]"فتح القدير" للشوكاني (1/ 589).، هذه عبادة الخوف، وهي قضيةٌ تخدم في المجال الذي نتحدث عنه.
وقال الله : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] أيضًا ابتلاءٌ في المال والنفس: مالٌ فقدته، خسرت في تجارةٍ، شخصٌ مرض مرضًا مُزْمِنًا، تُوفي لك إنسانٌ، ... إلى آخره، هذا ابتلاءٌ وعقبةٌ في الحياة، وتُؤثر في النفس، فيستحيل ألا تُؤثر أبدًا.
ونرجع ونقول: هذا شيءٌ طبيعيٌّ، لكن المشكلة عندما نصل إلى ما وصل إليه بعض الناس من وقوع اضطراباتٍ عندهم بسبب موضوع الأسهم على سبيل المثال، أو الذهب، إلى غير ذلك، ويصل بعضهم إلى الاكتئاب الشديد، ويتناول أدويةً لعلاج هذا الاكتئاب!
فهؤلاء لم يضبطوا انفعالاتهم؛ لأنهم لم يُعالجوا القضية بالعبادات: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، فهذا سيُؤذينا أيضًا، حيث نسمع مِن الناس مَن يسبُّون النبي والدِّين، ويُؤذون المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فما الحل؟
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، نرجع إلى عبادة الصبر وتقوى الله .
لذلك نقول: بالنسبة للأحداث التي تقع في الأمة اليوم -والخطاب لنفسي أولًا- مَن الذي زاد رصيده في تقوى الله ، في مقابل مَن انخفض رصيده؟
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ لأن هذا هو المعيار الذي جاء في نصوص الكتاب والسُّنة.
ضبط الانفعالات في سنة نبينا
نريد أن نُؤكد على هذا الأمر أكثر، مع وضوحه في الآيات السابقة وغيرها من الآيات: يقول النبي في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن معقل بن يسار : العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ[8]أخرجه مسلم (2948)..
فالعبادة وقت الفتن، ووقت القتل، ووقت اختلاط الأمور، واللجوء إلى الله ، يقول عن ذلك الرسول : كهجرةٍ إليَّ.
لذلك جاء في "سنن أبي داود" -وهو صحيحٌ-: كان النبي إذا حزبه أمرٌ صلَّى[9]أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2912)، وحسَّنه … Continue reading.
"إذا حزبه أمرٌ" إذا اشتد عليه أمرٌ، اشتدت عليه قضيةٌ؛ فزع إلى الصلاة، وهذا الانفعال حينما يحصل للإنسان تضيق عليه الأمور، وحينما يكون في فتنةٍ تأتي العبادة وتكون هي الطريق لتوظيف الانفعالات.
فما أجمل أن نُطبق ذلك في حياتنا يا أحبتي! فالكلام النظري سهلٌ جدًّا، لكن ما أجمل أن نُذكر أنفسنا به؛ حتى نجعله جزءًا من تربيتنا لأنفسنا وللآخرين؛ لنتمثل مثل هذه المعاني العظيمة!
نسأل الله أن يُوفقنا وإياكم.
وأخرج مسلمٌ عن أبي ذرٍّ : أن ناسًا من أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله، ذهب أهلُ الدُّثور بالأجور؛ يُصلون كما نُصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفضول أموالهم ...[10]أخرجه مسلم (1006).، يعني: يُصلون مثلما نُصلي.
وأهل الدُّثور هم أهل الأموال، وهؤلاء المُتحدِّثون فُقراء، جاءوا للنبي ، وما أتى بهم إلا الانفعال والتأثر الداخلي، وهي المشاعر الجيَّاشة التي عندهم، فبدأوا يُقارنون: هم يُصلون ونحن نُصلي، وهم يصومون ونحن نصوم، وهم يتصدَّقون بفضول أموالهم، ونحن ما عندنا أموالٌ!
فقال لهم النبي : أوليس قد جعل اللهُ لكم ما تصدَّقون؟ الآن التوجيه لتوظيف النفوس من خلال العبادات أيضًا، فالمال يُخرجه التاجرُ ويُريد به وجه الله : نِعْمَ المال الصالح مع الرجل الصالح كما جاء في الحديث[11]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (3210)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1190)، والبخاري في "الأدب المفرد" (299) بلفظ: نِعْمَ المال … Continue reading.
لكن التوجيه هنا قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقةً، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بمعروفٍ صدقةٌ، ونهيٌ عن منكرٍ صدقةٌ، وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ؟ أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ[12]أخرجه مسلم (1006)..
فتح الرسول لهؤلاء آفاقًا من العبادات، فسُلُّوا بذلك، وخفَّت عندهم وطأة الانفعال، فنسوا الآن أن عند هؤلاء فضول أعمالهم: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] من خلال أوجه العبادات، فانشطوا في العبادات حتى تستطيعوا أن تستثمروا هذه الحياة.
أيضًا في الحديث الآخر الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إن الله تعالى قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبْصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذَنَّه[13]أخرجه البخاري (6502). يعني: الله معك.
طيب، أنا أحتاج إلى الله حينما أكون في مثل هذه القضايا المُتعلقة بجانب الانفعالات، وسيكون الله معي حينما أكون مع الله : وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه.
إذن علينا أن نبحث عن العبادات، فأين نحن من الفرائض؟
ثم يقول: ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل، فحينما نعتني بالفرائض ونزيد عليها النوافل، وهي أظهر العبادات؛ فإن الله سيكون معنا، وعندئذٍ لا شك أن هذه النفس ستسير على مراد الله ، يكفي أن يكون الله : سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبْصِر به ...، فلا يسمع إلا ما يُرضي الله، ولا يُبْصِر إلا ما يُحبه الله، ولا يستخدم يدَه ولا رِجْلَه إلا فيما يُرضي الله، بل إنه إذا سأل الله أعطاه، وإذا سأل الله تعالى أن يُخفف عنه خفَّف عنه.
فهذه كلها مُراجعاتٌ في موقفنا من عبادة الله .
العبد يحيا بين الخوف والرَّجاء
وأختم بالحديث الذي رواه الترمذي -وهو حسنٌ صحيحٌ- عن أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي[14]أخرجه الترمذي (3540)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" … Continue reading، الله أكبر!
على ما كان فيك وكم فينا؟ وكم نتحمل من الأمور التي هي في أعناقنا مما لا يرضاه الله ، وأوزارًا لا يُحبها الله فينا؟ فتأتي هذه القضية من خلال العبادات، وعندئذٍ تهدأ النفس.
أذكر أحد الشباب اتَّصل بي، وعمره ستٌّ وعشرون، يقول: أريد أن أتخلص من وضعٍ. فقد هداه الله ، والحمد لله ربِّ العالمين، قال: لكنني كلما تذكرتُ ما فعلتُه سابقًا لا يهدأ لي بالٌ، وأريد أن أعفَّ نفسي ولا أستطيع؛ لأني أتذكر كلَّ ما فعلتُه سابقًا.
هذا الشاب أصله طيبٌ، لكن تعامله بهذه الصورة ليس صحيحًا؛ لأن هذا الرجل يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، فهو يحتاج إلى رفع منسوب الرجاء في الله ، والخوف موجودٌ وزائدٌ، ومن المهم أن يبقى، لكنه في مسارٍ يحتاج إلى تعديلٍ.
ولذلك شبَّه العلماء الإنسان في هذه الحياة تشبيهًا رائعًا جدًّا: فالإنسان في هذه الحياة موقفه مع الله مثل الطائر: رأسه محبة الله؛ لأن الإنسان ما فعل الصواب إلا محبةً لله، وما ترك المُنكر إلا محبةً لله ، وجناحاه: الخوف والرجاء، والجناحان يمكن أن يزيد جناحٌ منهما على الآخر، فيمكن أن يرتفع جناحٌ، وينخفض جناحٌ آخر في بعض الأوقات، فعلى الإنسان أن يُوازي بينهما، ويسير في هذه الحياة؛ حتى يسعد بطاعة الله ، وتكون نفسيته هادئةً بما يرضاه الله ، ويُعينه عليه.
قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عَنانَ السماء، ثم استغفرتني؛ غفرتُ لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُرَابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا؛ لأتيتُك بقُرَابها مغفرةً[15]أخرجه الترمذي (3540)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" … Continue reading.
أسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يُعيننا وإياكم على العبادات في هذه الأيام المُباركات وغيرها، ولكنها فرصةٌ عظيمةٌ: أن الله أبقى لهذه الأنفس وقتًا كي تُدرك هذه الأيام، ولا يدري الواحد منا أجلَه متى يكون؟ فلنستثمرها في زيادة العبادات.
ولا بد أن نلحظ في أنفسنا فرقًا بين وضعنا مع دخول هذه الأيام العشر، ووضعنا قبل ذلك، لعل الله أن يلطُف بحالنا.
أسأل الله أن يُبارك في الجميع، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ويفتح علينا وعليكم أبواب فضله ورحمته من أبواب العبادات، وأن يتقبَّل منا ومنكم.
والحمد لله ربِّ العالمين، ونُصلي ونُسلم على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
↑1 | أخرجه البخاري (969). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (2436)، ومسلم (1722). |
↑3 | "مجموع الفتاوى" (10/ 149). |
↑4 | أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315). |
↑5 | "تفسير القرطبي" (16/ 35). |
↑6 | أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأوَّل القرآن. |
↑7 | "فتح القدير" للشوكاني (1/ 589). |
↑8 | أخرجه مسلم (2948). |
↑9 | أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيفٌ"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2912)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703). |
↑10 | أخرجه مسلم (1006). |
↑11 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (3210)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1190)، والبخاري في "الأدب المفرد" (299) بلفظ: نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح، وصححه الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (299). |
↑12 | أخرجه مسلم (1006). |
↑13 | أخرجه البخاري (6502). |
↑14 | أخرجه الترمذي (3540)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4338). |
↑15 | أخرجه الترمذي (3540)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4338). |