المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: سبق في اللقاء الماضي -بتوفيق الله وعونه- الإشارة إلى ما يتعلق بالانفعالات، وقدمنا مقدمةً، وسيكون اللقاء اليوم -بإذن الله - عن "ضبط الانفعالات".
وموضوع "ضبط الانفعالات" هو المقصود والمراد بالدرجة الأولى؛ لأنه لا توجد شخصيةٌ سَوِيَّةٌ إلا ولا بد أن تنفعل، لكن الكلام ليس عن وجود الانفعال؛ لأنه من غير الطبيعي أن يكون هناك شخصٌ لا ينفعل، لكن المشكلة إذا وُجِدَ الانفعال ولم يُضبط، هنا المحك الكبير في هذا الموضوع.
كظم الغيظ وأجره العظيم عند الله
عندما يقول الله : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، فالغيظ الآن يمكن أن يحصل عند كل واحدٍ منا، وليس من الشرف ولا من التصور الطبيعي ألا يغتاظ الإنسان، يعني: يتصور أنه يمكن أن يصل إلى مستوى من كمال الشخصية بحيث لا يغتاظ! لا، من الطبيعي جدًّا أن يحصل غيظٌ عند الإنسان، لكن الكلام عن ضبط هذا الانفعال، وكظم هذا الانفعال.
وسيأتي معنا لاحقًا في التطبيقات -إن شاء الله- في الأسابيع القادمة، فهناك منزلةٌ خاصةٌ للذي يكظم غيظَه وهو قادرٌ على أن يُنفذه: مَن كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفذه؛ دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيِّره الله من الحور العين ما شاء[1]أخرجه أبو داود (4777)، والترمذي (2493)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"، وابن ماجه (4186)، وأحمد في "المسند" (15637)، وقال … Continue reading، يعني: هو يستطيع أن يُنفذ غضبه وغيظه، يقدر كما يقولون أن يُنفذ غضبه، ويُطلق العَنان لنفسه، لكنه يكظم هذا الغيظ.
ولذلك: ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب[2]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609)..
وقضية الضبط التي نحتاج إليها داخلةٌ في قول الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
قضية الإرادة الذاتية: أن يملك الإنسان نفسه عند الانفعال، أيًّا كان هذا الانفعال: غضب، أو ما شابه ذلك.
ولذلك أيضًا من المُسلَّمات التي في النفس البشرية -ولا بد أن نُدركها- أن كل سلوكٍ عند الإنسان -أيًّا كان هذا السلوك- قابلٌ للتَّغيير والتعديل والتشكيل: إنما العلم بالتَّعلم، وإنما الحلم بالتَّحلم[3]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، و"المعجم الكبير" (929)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (903)، … Continue reading.
الحليم يُقابله غير الحليم، ونُسميه: غَضُوبًا، ما ملك نفسه بالنسبة للغيظ الذي لديه، لكن الحلم قيمةٌ عظيمةٌ، قيمةٌ إيجابيةٌ.
طيب، أنا لستُ حليمًا، فأي واحدٍ يستثيرني أتعامل معه: فإذا استثارني الابن مددتُ يدي عليه وضربته، وإذا استثارني الطالب مددتُ يدي عليه وضربته، وهكذا، حتى زميلي في العمل!
المطلوب: وإنما الحلم بالتحلم، فأنت تستطيع أن تكون حليمًا، كاظمًا للغيظ، ضابطًا لانفعالك إذا سلكتَ مسلك التحلم، فلا بد لك من تقوية الإرادة، ولا بد لك من ضبط الانفعال.
وهذا النجاح في التربية من خلال ما يتعلق بالانفعالات: هل أنا: خالد، محمد، إبراهيم، فلانة، ... إلى آخره، أب، ابن، هل أنا قادرٌ على أن أضبط انفعالي، أو غير قادرٍ؟
التربية الناجحة هي التي تستطيع أن تُساعد روَّادها وأعضاءها على ضبط هذا الانفعال.
التربية على ضبط الانفعال منذ الصغر
مرحلة الطفولة مرحلةٌ لا بد من استثمارها؛ لأننا بقدر قيامنا بالتربية منذ وقتٍ مُبكرٍ في مرحلة الطفولة على ما يتعلق بضبط الانفعال؛ بقدر ما نحصل على شخصياتٍ قادرةٍ على ضبط الانفعال، يعني: تصور طفلًا يغضب، طفلٌ بريءٌ -والمُحاسبة الشرعية ليست موجودةً هنا؛ لكونه غير بالغٍ- فأقول له: تعوَّذ بالله يا ولدي. أو إذا كان واقفًا أقول له: اجلس يا ولدي، اذكر الله. فأُعوِّده على سلوكٍ معينٍ يُمارسه حينما يغضب وهو طفلٌ صغيرٌ.
والطفل معروفٌ أن عنده قضية المُحاكاة والتقليد كما قلنا في دروسٍ سابقةٍ، فهو يُقلِّد بسرعةٍ، وحينما تُوجِّهه إلى هذا سيتعلم: أعوذ بالله.
وأذكر أحد الأشخاص الفُضلاء، وكان بالنسبة لي والله في موقف المُربي؛ لأنني كنتُ في موقفٍ يحتاج إلى نموذجٍ في ضبط الانفعال، فكنا في حالة توترٍ في هذا الموقف، فقال كلمةً عندما جاء دوره، وأنا لا أنسى هذا الموقف، وله سنواتٌ، ولا أنسى هذا الشخص، ولا أنسى مكان جلوسه إلى الآن، فحين جاء دوره قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" قبل أن يبدأ.
فهذه الكلمة كانت بردًا وسلامًا عليَّ وعلى الحاضرين، وتذكيرًا في هذا الهيجان، والنفسية مُتوترةٌ، والغضب والغيظ موجودان، فليس هناك مثل قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وأنا أجزم أنه تربى على هذا السلوك، وهو أولًا توفيقٌ من الله ، وقد يكون جانبًا جِبِلِّيًّا، وهذا واردٌ، وقد يكون جانبًا مكتسبًا، اكتسبه من خلال التربية.
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا منذ مرحلة الطفولة؛ فإننا نفتح أذهاننا عليها، حتى لو فرح الطفل وجاء شيءٌ يُفرحه، هذا انفعالٌ طبيعيٌّ: أنه سيفرح مثل الكبار الذين يفرحون.
ونرجع فنقول: ما نتصور أنه مثلًا لا يفرح، سيفرح، لكن لو فرح وبدأ يُؤذي غيره، ويكسر، ويفعل أشياء غير طيبةٍ، مثلما يحصل في بعض المناسبات، وفي مناسباتٍ رياضيةٍ، أو غيرها، وما شابه ذلك. هذه مشكلةٌ، لكن عندما يتعود منذ البداية أنه إذا فرح يقول: الحمد لله.
بل يتعود أنه إذا فرح يقوم ويسجد لله شكرًا، ويتعود على أقل تقدير ألا يُؤذي غيره، يحفظ حقَّ نفسه، ويحفظ حقَّ غيره، فيتمَرَّس ويتدرب على ضبط هذا الانفعال.
وبالنسبة للشباب ومرحلة الفتوة هذه تحتاج أكثر، صحيحٌ أنه إن تربَّى في مرحلة الطفولة سيُقبل على هذه المرحلة وهو مُتعوِّدٌ على ضبط الانفعال، وقد لا يستطيع أن يضبطه 100%، لكن يكون قد حصَّل شيئًا في سني عمره في ضبط الانفعال: رأى قدوةً مثلًا.
وإذا كان الأب غضوبًا فهذه مشكلةٌ، وتزداد المشكلة إذا كانت الأم غضوبةً، فكيف سيكون الأولاد؟! هل سيكونون حُلَمَاء؟!
ولذلك في بعض الأحيان تأتينا استشاراتٌ، ونسأل هذا السؤال، ونجد أن المشكلة الموجودة التي يشتكي منها الأب أو تشتكي منها الأم سببها أن كل إناءٍ بالذي فيه ينضح، فالمشكلة أتت من خلال التربية، من النموذج، فهم لا يضبطون انفعالاتهم، فكيف تريد من الولد أن يكون ضابطًا لانفعاله؟!
فلا بد أن تكون أنت ابتداءً قادرًا على ضبط هذا الانفعال.
خطواتٌ عمليةٌ في ضبط الانفعال
طيب، يقول البعض -ولا شك أن له الحق في أن يقول ذلك-: ما زالت القضية مُرتبطةً بتوجيهاتٍ عامَّةٍ.
بعض المُختصين يذكرون وسائل مُتعلقةً بضبط الانفعال، ولعلي أكتفي بهذه القضية من الناحية العملية، وهي مهمةٌ جدًّا، يعني: كيف نضبط انفعالاتنا؟
نحن الآن توصلنا إلى أن الإنسان الطبيعي لا بد أن ينفعل، ولا يوجد شخصٌ سَوِيٌّ لا ينفعل، فالذي لا ينفعل غير سَوِيٍّ.
والمطلوب عند الانفعال أن أضبط انفعالي، وأكون في مرحلة الوسط، لا إفراطَ، ولا تفريط، لا في اليمين، ولا في اليسار، وإنما في الوسط، فماذا نفعل؟
أنا الآن أريد أن أضبط انفعالي، أتتني لحظة فرحٍ، أو لحظة حزنٍ، أو لحظة غضبٍ، ... إلى آخره، وأريد أن أضبط انفعالي.
سنأخذ -إن شاء الله تعالى- في اللقاءات القادمة نماذج، ربما نأخذ ثلاثة نماذج خلال الأسابيع القادمة بأهم الأمور التي أراها مُنتشرةً من الناحية السلبية في فئات مُجتمعنا، وأُسرنا، وأحيائنا، ومجتمعاتنا عمومًا، وهي: قضية الغضب، وقضية الحزن، وقضية العجلة، وسنأخذ هذه النماذج من نماذج الانفعالات، ونحاول -إن شاء الله تعالى- أن نُطبق فيها تطبيقاتٍ تربويةً من خلال التوجيهات الإسلامية العظيمة التي جاءت في كتاب الله ، وسنة النبي ، والسلف الصالح.
كيف نضبط انفعالاتنا؟
نضبط انفعالاتنا بأربع خطواتٍ، وستظهر خطواتٌ أدقُّ في كلامٍ آخر، وخطوةٌ من هذه الخطوات الأربع ستكون فيها أيضًا أربع خطواتٍ:
أولًا: تصور المشكلة
الخطوة الأولى المهمة جدًّا حتى أضبط انفعالي، وأُساعد غيري أيضًا في أن يضبط انفعالاته: لا بد من تصورٍ صحيحٍ حول هذه النفس.
وما ذكرناه قبل قليلٍ هو من التصور الصحيح، شيءٌ مُشتركٌ، وبعض الناس حين تقول له: اضبط انفعالاتك. يقول: ما تُريدني أن أنفعل!
الانفعال طبيعيٌّ، لكن نُريدك أن تملك نفسك عند الانفعال، تضبط نفسك عند الانفعال؛ حتى لا تخرج هذه النفس عن طورها.
هذه قضيةٌ مشتركةٌ، لا يوجد أحدٌ من العقلاء لا يُدركها، لكن أنت تعرف نفسك: هل أنت غَضُوبٌ أو لا؟ هل أنت عجولٌ أو لا؟ هل تميل للاكتئاب والحزن؟ هل تفرح فرحًا مُفرطًا؟ ... إلى آخره.
لا بد أن تُقيم نفسك من حيث ما يتعلق بالانفعال، فلو تصورتُ أني لستُ غَضُوبًا، بالعكس أنا وضعي طبيعيٌّ؛ سأضبط انفعالي، فأنا أصلًا لا أشعر بمشكلةٍ.
فالنقطة الأولى هي: تصور المشكلة، تحديد المشكلة، معرفة أن هناك مشكلةً، والبعض لا يرى أن عنده مشكلةً، وهذه مشكلةٌ: إما في تصوره، أو في نفسه وهواه، يعني: هو يعرف، لكن لا يريد أن يعترف، أو أنه لا يعرف، فيحتاج مَن يُبصره، فتأتي الآية تُبَصِّره، ويأتي الحديث يُبَصِّره، ويأتي الموقف الاجتماعي يُبَصِّره، ويأتي الناصح يُبَصِّره، ... إلى آخره.
فلا بد أن يعرف أن عنده إشكاليةً في الانفعال، ويعرف نفسه؛ حتى يضبط انفعاله.
فهذه الأمور المُشتركة قلنا أنها أشياء معقولةٌ، لا أحد يُنكرها، يعني: وجود الانفعال، وأنه لا بد أن يكون موجودًا، لكن الكلام عني وعنك: هل نحن الموجودون كلنا سواسيةٌ؟ كلنا الآن صامتون، لكننا مختلفون، فلو وضعنا أنفسنا في ميزانٍ فإننا نتفاوت فيما يتعلق بالحلم، فقد تجد واحدًا منا من أحلم الناس، ونتمنى لو أنه تصدق علينا بجزءٍ من حلمه، بينما تجد آخر لو ذكرتَ موقفًا ضرب (الأمبير) عنده من الغيظ والغضب!
إذن أولًا لا بد أن تعرف أين أنت؟ ومَن أنت؟ لتُدرك أن عندك مشكلةً، أو ابنك عنده مشكلة في موضوع الانفعال، أو الطالب، أو الشخص المُقابل.
إذن الخطوة الأولى: المعرفة وتحديد القضية؛ حتى أستطيع أن أسلك مسلكًا جيدًا في ضبط الانفعالات.
ثانيًا: مهارات الضبط الذاتي
الخطوة الثانية: هناك شيءٌ يُسمونه: مهارات الضبط الذاتي، والتَّعود عليها (self-control)، هذه من المهارات الجميلة، وسنأتي إليها.
وهذه هي النقطة التي قلتُ لكم أنها ستتفرع إلى أربع نقاطٍ، وهي مهمةٌ جدًّا: كيف أضبط نفسي بنفسي، أفضل من أن يضبطني غيري؟
كثيرٌ منا يتأثر بالغير، ومشكلة الغير قد تُؤثر فيَّ عندما أكون معه، لكن عندما يكون بعيدًا عني قد يتغير الوضع؛ لذلك ليس هناك أجمل من أن تضبط نفسك بنفسك، وما أجمل أن نُعوِّد أجيالنا على الضبط الذاتي: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]! هذه قوة الإرادة الذاتية، وهي قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
ثالثًا: الابتعاد عن المُثيرات
الخطوة الثالثة في الأمور العامَّة في ضبط الانفعالات: أن يبتعد الإنسان عن المُثيرات بإرادته، وعن الأشخاص المُثيرين، وعن الأحوال المُثيرة، وهذا مهمٌّ جدًّا.
شخصٌ يعرف أنه لو ذهب إلى المكان الفلاني سيُستشاط غضبًا، فلا يذهب، أنت تملك القرار، مثلما تذهب إلى المسجد للصلاة، لا تذهب إلى شخصٍ لا تريد الذَّهاب إليه، نفس الكلام، فلا تذهب إلى مكانٍ يكون سببًا في غضبك وأنت تعرف، فأبعد المُثير، أي مُثيرٍ.
ولذلك على الذين يُربون تربيةً صحيحةً في الانفعالات ألَّا يُعرِّضوا الأجيال لمُثيراتٍ تُسبب لهم هذه المشكلات.
أنت تعرف أن ولدك عنده مشكلةٌ في قضية كذا، مثلًا: عنده خوفٌ، فهل أزيد خوفه بأن أُعطيه قصصًا مُعينةً، وأُبين له احتمالاتٍ معينةً قد تحصل؟! هو في الأساس رخوٌ في جانب القلق والتوتر من المستقبل، فكيف أزيده؟!
فلا بد من الابتعاد عن المُثيرات.
وعلى سبيل المثال: الوسائل الإعلامية: فلو ابتعدنا عن الانحرافات العقدية والانحرافات الأخلاقية الموجودة -للأسف الشديد-، وأخذنا فقط مثل هذا الاعتبار الذي نتكلم عنه فإننا في بعض الأحيان نقول: لماذا نُعَرِّض أبناءنا للمُشاهدات التي قد تزيد القاسي قسوةً، وتزيد الغَضُوبَ غضبًا، وتزيد الحزين حُزْنًا، وتزيد المُتهور تهورًا، وما شابه ذلك؟!
للأسف ليس هناك انتقاءٌ، فهو عالمٌ مفتوحٌ، وعقولٌ مفتوحةٌ، وأنفسٌ مفتوحةٌ.
ولذلك فإن التربية إذا لم تكن فيها تنقيةٌ، ومُراجعةٌ، وانتقاءٌ، وإغلاق قنواتٍ، وقبول قنواتٍ، ووضع معايير نفسيةٍ واجتماعيةٍ وتربويةٍ يرضاها الله؛ فإن حياة الأُسَر والمجتمعات لا تستقيم بحالٍ، فمهما فعلنا ومهما قلنا نُغالط أنفسنا إذا لم نُراجع مثل هذه القضية، ومنها ما يتعلق بقضية الانفعالات.
تنبيهٌ بخصوص خطوات ضبط الانفعالات
هذه الخطوات الأربع قد تكون عبارةً عن مُعطياتٍ عامَّةٍ لموضوع ضبط الانفعالات، لكن سنأتي بعد قليلٍ لمهارات الضبط الذاتي، فتكون أكثر وضوحًا، وستكون بمثابة منهجٍ عمليٍّ في نقاطٍ: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، وهذه يمكن أن تكون عبارةً عن أشياء ممزوجةٍ بعضها مع بعضٍ، لكن إبرازها مهمٌّ.
رابعًا: الانسحاب وتجنب مصدر الانفعال
الخطوة الرابعة: لو تفاجأ الإنسان بموقفٍ، ولم يحسب له حسابًا، ووجد المُثير؛ عليه أن ينسحب تدريجيًّا، هذا مهمٌّ جدًّا إلى أن يتعوَّد.
فإن رأى شخصًا بالنسبة له مصدر إزعاجٍ، فبمجرد أن يتكلم معه يعرف الذي سيقع بعد ذلك، فعليه أن ينسحب، ويخرج من المكان.
وهذه ليست انهزاميةً، وليست ضعفًا في النفس، لكن أنت تُدرك نفسك، وتعرف أن لديك مشكلةً انفعاليةً، وتريد أن تضبط الانفعالات، فهنا يكون الانسحاب إيجابيًّا، وهذا انتصارٌ على النفس.
والبعض يقول: لا، هذا يعني أني ضعيفٌ، أنا سأُريك ما أفعل!
فهذا انتصارٌ للهوى والنفس، وهو في الحقيقة انهزامٌ في بناء هذه الشخصية.
تفصيل مهارات الضبط الذاتي
سنقف في الدقائق المُتبقية عند المهارات التي أشرنا إليها في الخطوة الثانية، وهي: مهارات الضبط الذاتي، ضبط الإنسان نفسه بنفسه (self-control).
رقم واحدٍ هي رقم ثلاثةٍ التي ذُكرت سابقًا، وهي عبارةٌ عن هذا الكلام الذي أقوله مجموعًا من بعض الذين طرحوا مثل هذه القضايا واهتموا بها، فقد يكون جزءٌ منه مثلًا فيه تكرارٌ.
ضبط المثير
أول عمليةٍ مهمةٌ جدًّا، وهي: التَّدرج وضبط المُثير، نرجع إلى ضبط المُثير، فلا بد من ضبط المُثير، وهو الكلام الذي ذكرناه في النقطة رقم ثلاثة، لا بد أن تضبط المُثير أيًّا كان، سواءٌ كان مُثيرًا ذاتيًّا: تفكيرٌ، أو تعرُّضٌ وذهابٌ إلى شيءٍ معينٍ، أو مُثيرًا خارجيًّا: وسائل إعلامٍ، أصدقاء، ... إلى آخره، أي شيءٍ يُسبب لي انفعالًا، ما هو بمُتَّزنٍ: غضبٌ، غيظٌ، حزنٌ، فرحٌ، حبٌّ، خوفٌ، كلها لا بد أن تكون بعيدةً عن المُثير.
ويدخل في هذا أشياء عديدةٌ جدًّا، والقضية لها علاقةٌ بالجانب الانفعالي.
وفي برنامجٍ من البرامج -وهذه البرامج تتعاطى من خلال الأسواق- قلتُ لمجموعةٍ لها علاقةٌ بهذا البرنامج: مَن يعرف من نفسه أنه حينما يدخل هذه الأماكن لا يستطيع أن يملك بصره ونظره إلى الحرام فخيرٌ له ألا يُشارك؛ وهو مأجورٌ عند الله بتركه لهذا الأمر، وفي نفس الوقت نيَّته طيبةٌ يُؤجر عليها. فجاء أحد الطلاب وقال لي: أنا والله لا أملك نفسي.
ولو ما قلتُ هذا الكلام كان سيذهب، والمُثير موجودٌ؛ وهو رؤية النساء في الأسواق، وسيحصل عنده شيءٌ فيما يتعلق بالانفعال المُرتبط بانفعال الحب، أو ما شابه ذلك، أو المتعلق بالإثارة، وعندئذٍ تحصل مشاكل هي من الناحية السلبية أكثر من الناحية الإيجابية فيما يتعلق بالتعاطي مع هذه النفس.
أنا أعتبر هذا الرجل شجاعًا، وقد أثنيتُ عليه، وشكرتُه، بل إنني أذكره في مثل هذه اللقاءات، بغض النظر عن اسمه؛ لأنه صورةٌ من صور الانتصار على النفس، وهذا مهمٌّ جدًّا.
هذا كله مُتعلقٌ ببيان النقطة رقم واحدٍ، وهي المتعلقة بضبط المُثير؛ لأن الذي ينهزم عند ضبط المثير لن يضبط ذاته، ولا تنفع النقاط التي تأتي بعد قليلٍ، فلا بد من ضبط المُثير.
والبعض يقول: ولدي عنده الانفعال والغضب، ... إلى آخره، وهو جالسٌ يُشاهد أشياء في الإعلام تُساعده على مثل هذه القضايا، أو يلعب ألعابًا إلكترونيةً تجعله شخصًا عنيفًا، يعني: يتعامل بانفعالٍ مع أمرٍ ما، فيتولد عنده سلوكٌ عدوانيٌّ، وما شابه ذلك.
فالانفعالات لها ارتباطٌ بالسلوك الظاهري، لها ارتباطٌ بما يتعلق بأنواع السلوك.
مشكلةٌ مثل: الخوف، فلا بد أن نعرف: ماذا يرى؟ وماذا يسمع؟
وليس صحيحًا أن كل الروابط التي تأتيني تُناسب جميع الأجيال، وحكمة الإنسان تظهر في أن يُرسل لأبنائه ما يُناسبهم على حسب الشخصية، فقد يرى شيئًا سيكون مشكلةً بالنسبة إليه.
لذلك فالأطفال أو غيرهم ليسوا سواسيةً فيما يتعلق بما يرون من مآسي المسلمين، والقتل، والأجساد، والدماء، ومن الخطأ أن نتصور أنهم شيءٌ واحدٌ في هذا الجانب؛ لأنه قد يكون أحد الأبناء أو البنات عنده انفعال الخوف غير مُتَّزنٍ، غير مضبوطٍ، فربما يكون من الحكمة ألا تكون هناك رؤيةٌ لمثل هذه المشاهد التي قد تُولد مزيدًا من الخوف؛ حتى لو كانت النية طيبةً، وهنا ما يُسمَّى: بضبط المُثير.
المعايير الذاتية
الثاني: تحديد المعايير للنفس، وتُسمَّى: المعايير الذاتية.
فبعد أن تضبط المُثير أعطِ نفسك معايير، وذكرنا ضبط المثير، وأكَّدنا على قطع التفكير، فأنت لا تحتاج أن تُفكر في القضية، فإذا جاءك التفكير غيِّر مكانك، واشتغل بشيءٍ مُعينٍ، ولا تذهب إلى المكان الذي سيُولد لك مشكلةً، ولا ترَ المادة التي ستُثير انفعالك الذي يصعب أن تضبطه، هذا رقم واحدٍ.
رقم اثنين: أعطِ نفسك تعليماتٍ ذاتيةً، فإذا حصل موقف غضبٍ استعذ بالله، وقل: أعوذ بالله، فكلمة "أعوذ بالله" لا تأخذ شيئًا، لكنها تكليفٌ ذاتيٌّ.
وإذا كنتَ واقفًا اقعد، كلِّف نفسك بذلك، فهذا جزءٌ من التدريب، وسنأتي إليه في موضوع الغضب والتعليمات النبوية، فإن استطعتَ أن تقوم بنفسك فهذا هو الضبط الذاتي للنفس، وإلا فعلى الأقل ذكِّر غيرك، لكن دَرِّب نفسك، فإن لم تنجح في المرة الأولى ستنجح في المرة الثانية، وإن لم تنجح في المرة الثانية ستنجح في الثالثة.
فأعطِ لنفسك تعليماتٍ، فإذا كنتَ تعرف أن عندك انفعال الحزن شديدٌ، ويُرى على وجهك مثل هذا الجانب؛ فأعطِ لنفسك تعليمًا ذاتيًّا، فما الذي يصلح أن يكون تعليمًا ذاتيًّا هنا؟
إذا أقبلتَ على الناس تبتسم، فالابتسامة تكلفتها في العضلات أقلّ من تكلفة الحزن، فعدد العضلات التي تشتغل في الابتسامة أقلّ من عدد العضلات التي تشتغل في الحزن، في الاكتئاب والضيق كما قال الأطباء، ونحن على عكس ذلك، والأمر يحتاج أن تُعطي نفسك تعليمًا: ابتسم ولو ابتسامةٌ صفراء، ابتسم.
وفي بعض الأحيان عندما ندخل على مسؤولٍ أو مَن نحتاج إليه نبتسم له، فمن أين أتت البسمة؟
أتت من ذاتنا؛ لأننا بحاجةٍ إليه فابتسمنا له.
فنحتاج إلى نفس هذه التعليمات، بحيث نُعطي أنفسنا تعليماتٍ ذاتيةً تتناسب مع الانفعال الذي لا تضبطه.
فإن كان غضبًا قل: أعوذ بالله، وإن كان فرحًا قل: الحمد لله، وتصدق، واشكر الله، واسجد سجدة شكرٍ، ... إلى آخره.
خذ أي تعليماتٍ لنفسك لتُمارس نقيض الانفعال وعكسه.
دور الرسائل الإيجابية في ضبط الانفعال
الثالث: يقولون هنا: أَعْطِ لنفسك رسائل إيجابيةً، وكررها، وهذا ليس معناه: أن يقصَّ الواحد على نفسه، ويخدع نفسه ويقول: أنا كذا. وهو ليس كذلك.
وأنا لا أريد أن أدخل في الرسائل الإيجابية وما يتعلق بها، والكلام فيها وفي تطبيقاتها، لكن أتكلم عن أي أسلوبٍ تشجيعيٍّ لنفسك، شجِّع نفسك بأي رسالةٍ إيجابيةٍ، تقول لنفسك: أنا قادرٌ -بإذن الله- على أن أضبط انفعالي.
وتقول: أنا قادرٌ على أن أضبط انفعال الغضب لدي. وهو غَضُوبٌ، ولن يملك انفعاله.
وقد اتفقنا في المقدمات على أن أي سلوكٍ قابلٌ للتغيير والضبط، وأنه ليس مستحيلًا، المشكلة أن إرادتنا ليست قويةً.
إذن هو قادرٌ، فيضع رسالةً إيجابيةً، والبعض يرى أنها تُكتب، فيكتبها ويضعها في جوَّاله، ويضعها على (الآيباد)، وعلى سطح المكتب، ويضعها في غرفة النوم، ويُكررها.
وجربنا هذا مع عددٍ من حالات الإرشاد، أعني: الرسائل الإيجابية؛ لأنها تدفع الرسائل السلبية، وما يُسمونه: بالإيحاء الإيجابي في مقابل الإيحاء السلبي.
فجزءٌ من إشكالياتنا أن الشخص يتصور أنه لن يتغير: أنا لن أتغير، هذا إيحاءٌ سلبيٌّ، وهو يستطيع أن يتغير، لكنه أعطى لنفسه إيحاءً بأنه لن يتغير، فلن يتغير، سيبقى غَضُوبًا، سيبقى خائفًا بهذه الصورة.
فأَعْطِ لنفسك رسائل إيجابيةً وكررها، وبعضهم يرى أن تكررها باللسان، وتُقال أكثر من مرةٍ، وقد سألتُ بعض أهل الاختصاص في هذا الجانب من الناحية الشرعية، وناقشتُ أستاذنا الدكتور زيد النغيمشي، وأستاذنا الدكتور عبدالله السويفي في هذا الموضوع، وكانت إجابتهم أن الأصل في القضية الإباحة، وليس فيها شيءٌ، فهي عبارةٌ عن أمورٍ مُباحةٍ، ودلَّت التجربة على أنها نافعةٌ، فهناك حالاتٌ عالجتُها بهذه الطريقة، بتوفيق الله .
ويمكن أن نستأنس أيضًا ببعض الأمور التي جاءت في الشريعة، والتي فيها تكرارٌ: كالأذكار، وما شابه ذلك.
قوِّم نفسك
النقطة الرابعة والأخيرة: يقولون: حتى تكون ضابطًا لنفسك ضبطًا ذاتيًّا: قوِّم نفسك، وسجِّل إنجازك، قوِّم نفسك وسجِّل ما توصلتَ إليه، أيًّا كانت النتيجة.
فإن كنتَ حققتَ ما تريد أو جزءًا منه، وكان التقييم إيجابيًّا فالحمد لله، أنت وصلتَ إلى مستوًى جيدٍ، أما إذا كان التقييم غير ذلك وقد حققتَ 20% فقط فلك أن تعود مرةً ثانيةً وثالثةً حتى يُصبح هذا السلوك ذاتيًّا عندك.
وأنا أقول لكم: نحن نحتاج إلى هذه الممارسة بشكلٍ كبيرٍ، خاصةً مَن كان عنده شطحٌ في موضوع الانفعال كمثالٍ، وهذا الكلام يدخل في غير الانفعال، فلا بد أن يُعالج الإنسان نفسه بنفسه.
وأُشبه هذه القضية بشخصٍ مريضٍ يحتاج إلى الطبيب، فذهب وأخذ دواءً وشفاه الله، أو عنده مشكلةٌ في السِّمنة، أو في الأكل، واستخدم حِميةً، وأخذ توجيهاتٍ، وشفاه الله. فهل يمكن أن يعود إليه المرض أو لا؟ يمكن أن يعود إليه المرض، وهل يمكن أن ترجع إليه السِّمنة أو لا؟ يمكن أن ترجع إليه السمنة، لكن لو كان عنده سلوكٌ غذائيٌّ مُستمرٌّ يُحافظ به على بناء جسمه، هل سيحتاج إلى هذه القضية؟ لن يحتاج إلى هذه القضية.
وهذا هو الذي نقصده هنا بالضبط الذاتي: أن تضبط مُثيرك، أعطِ لنفسك واجباتٍ، وتكاليف، ومعايير، وانضبط فيها، هذه مهمة ضبط المُثير، ثم أعطِ لنفسك إيحاءاتٍ إيجابيةً ورسائل إيجابيةً مكان الإيحاءات السلبية؛ حتى تكسر أثر الإيحاءات السلبية، ثم قوِّم إنجازك، وعلى حسب هذا الإنجاز يكون المزيد والمزيد من التكرار.
هذه النقاط ذكرها أهلُ الاختصاص، ويمكن أن يُستفاد منها، فلو جرَّب كل واحدٍ منا فرصًا في حياته في التعامل مع هذه النقاط الأربع المتعلقة بضبط الذات، ومهارات الضبط الذاتي، والتي ذكرها مجموعةٌ من أهل الاختصاص، خاصةً في المدرسة السلوكية، وأشار إليها محمد محروس الشناوي رحمه الله في كتابه فيما يتعلق بالإرشاد؛ ستكون لذلك فائدةٌ ونفعٌ كبيرٌ جدًّا، بإذن الله ، وهي من المهارات والأساليب التي يحاول الإنسان أن يُوطِّن نفسه عليها.
مواجهة الظروف المعيشية الصعبة
س: كثيرٌ من الآباء حُرِموا من مثل هذه المحاضرات والنصائح الطيبة في الصِّغر، وفي الزمن الماضي قبل خمسٍ وعشرين سنةً إلى ثلاثين لم تُفَعَّل مثل هذه النقاط المهمة في حياة الأسرة، ولم يتعوَّدوا عليها، ومع هذه الظروف المعيشية الصعبة الآن، كيف نُعوِّد أنفسنا وأولادنا عليها؟
ج: في حقيقة الحال أن يكون هناك شيءٌ إيجابيٌّ فهذه نعمةٌ من الله ، جزاك الله خيرًا.
ولسنا الآن بصدد النظر في الفرق بين جيلنا والجيل السابق، والمقارنة بين ظروفنا والظروف السابقة.
والواقع اليوم من حيث التأليف، والدراسة، والتعليم به أشياء لم تكن موجودةً من قبل، لكن بركة التربية في السابق أحسن من بركة التربية اليوم، قد تكون كذلك، وليس هذا باطِّرادٍ، لكن التوفيق من الله ، ثم الإنسان وعقله وحكمته.
فمثل هذه اللقاءات والمحاضرات وغيرها تحتاجها الأسرة، وهناك مخزونٌ عند أهل الاختصاص، وفي الكتب شيءٌ مهولٌ جدًّا، وكل هذا تحتاجه الأسرة، ويحتاجه الأفراد، وهناك إشكاليةٌ عندنا في المجالات التربوية والنفسية نحتاج إلى نُصدرها للناس.
وإننا نتمنى أن تكون هناك مواقع وقنواتٌ تُساعد أكثر، وتكون مُختصَّةً، أو على الأقل قريبة من الاختصاص، أو يتم تقديم برامج قوية في هذا الجانب، فالحاجة إليها ماسَّة.
لذلك استعن بالله، حتى لو كانت الظروف المعيشية صعبةً الآن فليست مثل السابق، ويسهل الأمر حينما تصدق النية مع الله ، والإنسان يأخذ ما يستطيع من هذه الحياة.
أما أن تجعلنا الحياة المعيشية المتعلقة بالحياة المادية في قلقٍ طوال الوقت، وتجعلنا (نُفرمل)، يعني: هل يجوز أن تكون الحياة المعيشية المادية سببًا في سُوء أخلاقنا مع الناس؟! هل يُقبل هذا الكلام في تقصيرنا مع الله ؟! ويتعلل البعض قائلًا: والله بسبب المعيشة وما يتعلق بظروف الحياة الصعبة! لا بد أن نتعامل مع القضايا.
الظروف الصعبة مسارٌ من مسارات الحياة، ابتلاءٌ من الله يسير فيه الإنسان، لكن هناك مسارٌ آخر: مسار البناء، لا بد ألا ننساه.
والله لأن نكون فُقراء خيرًا لنا من أن تكون أجيالنا وأبناؤنا وأُسرنا في ضلالٍ من أمرها، وانحرافٍ من أمرها. فالفقير الشاكر، الذاكر لله ، المُطيع، الشاعر بالسعادة؛ خيرٌ من الغني الجاحد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو في السجن: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبُستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي لا تُفارقني"[4]نقل ذلك عنه تلميذه ابن القيم رحمه الله في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48).، ويقول: "إن حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ"[5]انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48)..
فنحن نحتاج إلى هذه النفسية التي لا تتذبذب بسبب الظروف المادية، ولا تضطرب، وتعلو فوق الظروف المادية.
هذه القضايا المتعلقة بالتربية على القيم وبناء الشخصيات، فإذا لم نُرَبِّ أبناءنا بطريقةٍ صحيحةٍ في الانفعالات وأمثالها، وفي بناء الشخصية، كيف سيُواجهون صعوبات الحياة المادية؟ لن يُواجهوها، وستكون لديهم إشكاليةٌ كبيرةٌ.
ولذلك من الحكمة ألا نضع عقباتٍ، ومن الحكمة أن نُعوِّد أنفسنا على هذه الظروف الصعبة، بل نفترض الأسوأ منها، فإخواننا في سوريا -فرَّج الله عنهم- هل كانوا قبل أربع سنواتٍ يتوقعون أن يصير هذا الذي حصل؟ بغض النظر عن مُعطياتٍ معينةٍ، فأنا أتكلم عن الظروف المادية، لكن تهون عند بعضهم الظروف المادية في مقابل جوانب أخرى يشكرون الله عليها، مثل: عودتهم إلى الله ، وما شابه ذلك.
فلا بد أن نعرف القضية ونُقَيِّمها، ونستثمرها، ونستفيد منها، ونستثمر أي كلمةٍ طيبةٍ، وما أجمل ما كان يفعله أحد السلف الصالح! فقد نُقِلَ عنه أنه كان إذا سمع سنةً طبَّقها ولو مرةً واحدةً.
ونحن ربما نُطبق في أمورنا المادية، لكننا نُفاوض في أمورنا الأُخروية: نفعل أو ما نفعل، ويقول البعض: الحمد لله أنا أحسن من غيري، كثَّر الله خيرنا، غيري ما يُصلي، وأنا أُصلي، غيري ما يُصلي في المسجد، وأنا أُصلي في المسجد.
هذا خطأٌ، هذا في المعيار النبوي خطأٌ؛ لأنه ينبغي أن ننظر إلى مَن هو خيرٌ منا، ولا ننظر إلى مَن هو أسفل منا في موضوع الدين.
ضبط الانفعال أثناء التربية
س: نحن والدان غضوبان، وعندما نغضب على ابنتنا الصغيرة نستخدم أسلوب الضرب، فإذا كانت أمها تضربها تلجأ إلى الأب، وكذلك العكس.
عندما رأيتُ هذا الشيء: أنني سريع الغضب؛ حاولتُ -ولله الحمد- أن أتحكم في انفعالاتي وضبط نفسي، واستخدمتُ مع ابنتي أسلوبًا جيدًا هو: الدعم المعنوي، والتحفيز، والتشجيع، حتى عندما أُعاقبها لا أُعاقبها بالضرب، وإنما بأسلوبٍ جيدٍ، بحيث يكون العقاب حرمانها من شيءٍ تُريده، ولقد رأيتُ هذا الشيء يُؤثر في ابنتي ويُغير نظرتها لوالدها: أنني أُوجهها إلى فعل الشيء الصحيح.
ج: جميلٌ، أنا أُوافق على هذا الأسلوب، وفَّقك الله ، هذا شيءٌ مُوَفَّقٌ، وهو نموذجٌ من نماذج ضبط الانفعال، إذا كان فعلًا غَضُوبًا، ويضبط انفعاله، ومع ذلك يُمارس هذا الأسلوب مع ابنته لحل المشكلة بالتَّحفيز والتَّشجيع، فنحتاج إلى مثل هذه الأساليب، ويجب أن ننتبه لها.
وهنا نقطةٌ مهمةٌ جدًّا: ليس من الصواب في الأسرة أن يلعب الأب لعبةً، والأم لعبةً ثانيةً، فيتوزَّعان: الحزم عند الأب، والود عند الأم، وفي بعض الأحيان هناك أُسَرٌ معكوسةٌ مررتُ عليها، جاءتني في الاستشارات: فالأم هي الحازمة، والأب عكسها، وهذا لا يصلح، فلا بد أن يكون الأب والأم ودودين، حازمين، فتنطبق الصفتان فيهما، وهذه مهمةٌ جدًّا؛ لأن التأثر يكون من خلال الشخصية، والشخصية لا يمكن أن تكون مُؤثرةً إلا إذا كانت ودودةً وحازمةً في آنٍ واحدٍ.
كيف نتعامل مع الطفل شديد الانفعال؟
س: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفَّقكم الله.
ضبط الانفعالات في المراحل العمرية المُتقدمة يحتاج إلى النقاط التي ذكرتها: إنما الحلم بالتَّحلم، لكن بالنسبة لمَن يكون في مرحلة الطفولة المُبكرة، وعمره سنتان، إذا كان شديد الانفعال في طلب حاجاته دون تعبٍ أو كللٍ، حتى مع عدم الاستجابة السريعة من والديه، فكيف يمكن أن تضبط هذه الانفعالات في مثل هذا العمر الصعب في الاستجابة؟
ج: من أفضل الأساليب في مثل هذا الموضوع: أسلوب الإهمال والإغفال والترك، والبعض منا إذا بدأ الطفل يصرخ يغضب ويهتم ويضيق صدره، ويكون الطفل هنا هو المُثير للغضب، أو المُثير للحزن، يعني: قد يكون عند والديه انفعال الغضب، أو انفعال الحزن: مسكينٌ، ما أدري ما أفعل؟ هل أستجيب له أم لا؟
لا، من أفضل الأساليب في التعامل مع مثل هذا الطفل أن تتركه، ولا تقلق كثيرًا في تعاملك مع الأطفال الصِّغار، واعلم أن شخصياتهم تُبنى شيئًا فشيئًا، لكن علينا أن نُحسن التعامل معهم، وبذلك سنحلّ إشكالاتهم.
وعندما يغضب الطفل لا تظن أنه إذا صار في المُراهقة سيكون هذا حاله، لا، إذا أجدتَ التعامل معه، فعليك أن تتركه يصيح، فإنه سيهدأ، جرِّب ذلك وستجد هذه القضية موجودةً.
لذلك فإن حُسن التعامل وطريقة التعامل هي التي تُسبب الانفعال عنده، فـ(الترمومتر) عند الطفل غير (الترمومتر) عند الكبار، والتعامل مع الطفل من أسهل ما يكون، لكننا قلبنا الأمر، يعني: من السهل أن ننهزم عند الأطفال، بينما الأطفال فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا لنُجيد طريقة التعامل، ومنها ما ذكرتُه، وهذا أسلوبٌ من الأساليب.
وهناك أساليب أخرى: كالتعزيز، أن يُصنع له جدولٌ ونجومٌ إذا لم يصرخ واستجاب.
يأتي واحدٌ فيقول: فعلتُ وما نفع. طيب، افعل شيئًا ثانيًا، ففي بعض الأحيان تكون عندك إشكالية أنك لا تستطيع أن تصبر عليه، فلا بد أن نُوجد أرضيةً أُسريةً تتحمل مثل هذه المُعطيات في الطفولة.
وأتصور أن الموضوع ليس صعبًا، بل هو سهلٌ مع الطفولة، فيُمكن أن تُعالج الأمر بالإهمال والإغفال، وعدم الالتفات إليه.
ضبط الانفعالات في زمنٍ قياسيٍّ
س: هل أستطيع ضبط الانفعالات في زمنٍ قياسيٍّ، خاصةً مع الشخص سريع الانفعال؟
ج: يعتمد ذلك على إرادة الإنسان، فهذا ممكنٌ، ولا يلزم أنه سينجح في ذلك ويضبط انفعالاته في زمنٍ قياسيٍّ، فليست القضية مُسابقةً، والبحث عن أفضل ضابطٍ للنفس، والمقياس العالمي في كذا، وما شابه ذلك.
الأمر قائمٌ على التَّعود بالطريقة التي ذكرناها أو بغيرها من الطرق التي تُساعد على ضبط الانفعالات، فهذا يُعتبر مكسبًا عندما تُلاحظ وجود تطورٍ.
وأنا أرى أن التدرج في التعامل مع النفس أفضل، أما الاستعجال والسرعة ومُسايرة النفس فإنها تحتاج مَن يسوسها بطريقةٍ سليمةٍ، فيمكن أن تحصل إرادةٌ قويةٌ.
خذ مثالًا: التدخين، وإن كان هذا سلوكًا، وليس انفعالًا، لكن بعض الناس عنده قُدرةٌ على قطع التدخين بسرعةٍ، وتجد أنه لا تحصل عنده إشكاليةٌ فيما يُسمَّى بالأعراض الانسحابية، لكن هناك ناسٌ لو قطع بسرعةٍ يرجع بسرعةٍ، ونفس الشيء بالنسبة (للرجيم)، فتحصل فيه إشكالاتٌ.
فالقضية مُرتبطةٌ بما يتعلق بالإنسان، وطبيعته، والظروف المناسبة، وأرى أن نستخدم التدرج شيئًا فشيئًا؛ حتى نأخذ النفس البشرية بطريقةٍ سليمةٍ.
دور الصلاة في ضبط النفس
س: هل المُحافظة على الصلوات الخمس تزيد من ضبط النفس؟
ج: لا شك أن ذلك من أعظم ما يجعل النفس هادئةً مُطمئنةً، ونقول: "أعوذ بالله" عند الغضب، ونقول: "الحمد لله" عند كذا: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وحينما تخلد النفس وتلجأ إلى ركنٍ شديدٍ، وتبث همومها وما يختلج في نفسها إلى الله .
وكلنا نحتاج إلى مَن نبث ما لدينا إليه، فإذا كان هذا مع الله فلا شكَّ أن ذلك سيُعينك ويُساعدك، وسيكون له أثرٌ في ضبط النفس -بإذن الله -: تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يعرفك في الشدة[6]أخرجه أحمد في "المسند" (2803)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ"، والحاكم في "المستدرك" (6303)، وصححه الألباني في "صحيح … Continue reading.
عنوان التواصل
س: هل يُمكن أن تُعلن عن حسابك في (تويتر)؟
ج: ليس من الناحية الدعائية، لكن إذا كان المقصود الفائدة والإجابة عما يتعلق بجانب الاستشارات؛ فإن الحساب في (تويتر) هو: (@saadik85)، وهناك هاتفٌ استشاريٌّ أسبوعيٌّ: كل ثلاثاء بين العصر والمغرب طيلة السنة، يعني: نفتح فقط في هذا الوقت: بين العصر والمغرب على رقم: (0537030401)، ويمكن أن يُعلن ويُنشر، لا إشكالَ في ذلك.
والله تعالى أعلم، والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | أخرجه أبو داود (4777)، والترمذي (2493)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"، وابن ماجه (4186)، وأحمد في "المسند" (15637)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (6518). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑3 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، و"المعجم الكبير" (929)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (903)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" ت: بشار (6/ 442)، وحسَّنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (342)، وفي "صحيح الجامع" (2328). |
↑4 | نقل ذلك عنه تلميذه ابن القيم رحمه الله في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑5 | انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑6 | أخرجه أحمد في "المسند" (2803)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ"، والحاكم في "المستدرك" (6303)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2961). |