المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمد الله وعونه وتوفيقه- هو اللقاء الثامن والأربعون حول: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، وهو الحلقة العاشرة من المجموعة الثالثة حول الانفعالات، وسيكون نقاشنا -إن شاء الله تعالى- حول انفعال القلق وما يتعلق به.
تعريف القلق وأعراضه ومظاهره
يُصنف انفعال القلق على أنه مرض العصر في هذا الزمان: مرض العصر النفسي، وكل واحدٍ منا لا يحتاج إلى دراساتٍ تُثبت ذلك، فكلٌّ منا مُحمَّلٌ بما يتعلق بمثل هذا الانفعال، ويجد نفسه يتمثل شيئًا من هذه القضية، وربما يجد حوله من أسرته، ومن أهله، ومن أقاربه ومَن يعرف مَن لديه القلق الشديد.
وقد ذكرنا سابقًا الفرق بين موضوع القلق، وموضوع الحزن أو الاكتئاب: فالقلق مرتبطٌ بشيءٍ سيأتي لاحقًا، فهو يقلق على حياته؛ فيبدأ في التفكير في الموت، الله المستعان، نسأل الله أن يُحسن لنا ولكم الخاتمة.
ويقلق على ما يملكه؛ فيخشى فواته، من مالٍ ودنيا، ويقلق على أبنائه، ويقلق على وظيفته، ويقلق على أمورٍ عديدةٍ جدًّا، ويقلق من أنه ربما يمرض، ... إلى آخر تلك الأشياء التي هي من محبوبات الإنسان؛ فيقلق خشية ألا تبقى عنده، أو أن يحلَّ عليها مكروهٌ، فهو يقلق من شيءٍ مرتبطٍ بالتفكير في المستقبل، بينما الحزن والاكتئاب مرتبطٌ بالشيء الذي مضى.
ولذلك أهل الاختصاص يتحدثون عن القلق من خلال بعض التعريفات، نكتفي بتعريفٍ واحدٍ: هو حالةٌ نفسيةٌ وفسيولوجيةٌ -يعني: مرتبطة بوظائف أعضاء الجسم- تتضافر فيها جوانب إدراكيةٌ عقليةٌ، وجوانب جسديةٌ وسلوكيةٌ، وهذا من مشكلات القلق: أنه يرتبط بهذه القضايا كلها، فيخلق شعورًا غير سارٍّ يرتبط عادةً بعدم الارتياح والخوف أو التردد.
هذه مشكلة القلق: أنه يُخالف المطلب البشري الذي ينشده كل واحدٍ منا: وهو الراحة النفسية، فهو يحدث لديه عدم ارتياحٍ، وعدم طُمأنينةٍ، وخوفٌ، وترددٌ.
وغالبًا يُصاحب هذا القلق توترٌ وتحفزٌ، فتشعر أنه يتحفز لشيءٍ معينٍ، ويترقب شيئًا معينًا، ويتحفز، ويتوتر، فماذا ستكون الحال التي سيصل إليها؟! يترقب الخبر الذي سيأتي، ... إلى آخره.
تأتي حالة ولادةٍ فتجده يقلق، ويأتي اختبار أبنائنا وطلابنا؛ فيحدث قلق الاختبار، أو مقابلة؛ فيحدث قلق المقابلة، فتجد لديه توترًا، ويصل الأمر إلى مستوى الخوف وعدم الارتياح، ... إلى آخر تلك الأمور.
وهذا وضعٌ غير سليمٍ، وغير مستقرٍّ، والأصل أن الإنسان يُوطن نفسه في هذه الحياة، وليس معنى هذا أنه لا يُفكر في المستقبل، ولكن يبني نفسه بطريقةٍ سليمةٍ، لا يصل لهذه المستويات من عدم الطمأنينة والراحة، والضيق، والتردد، والخوف، والتحفز، والتوتر، والاضطراب، فهذه القضايا ليست إيجابيةً.
ويبقى السرور والطمأنينة والارتياح مطلبٌ بشريٌّ لكل البشر: أن يرتاح الإنسان، ويكون مُطمئنًّا ومرتاحًا، هذه جزمًا لا تتأتى إلا ممن وفَّقه الله لأسباب الراحة في الدنيا والآخرة، وهم المؤمنون.
نكتفي بهذه القضية في التعريف والأعراض أو المظاهر؛ حتى لا نأخذ القضية بشكلٍ أكاديميٍّ، وندخل مباشرةً في عنوان اللقاء، والذي هو بعنوان: انفعال القلق، وكيف نتخلص منه؟
القلق وكيف نتخلص منه؟
هذا الذي يهم الكثير من الناس: كيف يستطيعون أن يتخلصوا من قضية انفعال القلق؟
أولى القضايا المتعلقة بهذا الموضوع: من خلال قول الله -وسبق أننا سنُكرر هذه الآية كثيرًا-: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أسأل الله أن يرزقني وإياكم الإيمان والعمل الصالح، وأن يُحيينا وإياكم حياةً طيبةً في الدنيا والآخرة.
النقطة الأولى: الإيمان والعمل الصالح
فهذه هي القضية الأساسية في القلق، ولا شك أن المؤمن الذي عنده إيمانٌ، وهو متعلِّقٌ بالله، ويلتمس ما لدى الله ، وينظر إلى ما عند الله ؛ هذا مستوى القلق عنده يكون أقل من الآخرين الذين تعلَّقوا بغير الله .
ولذلك أهم قضيةٍ نستفيد منها في النقطة الأولى: الجمع بين الإيمان كمُعتقدٍ ومبادئ وأسسٍ، وبين العمل الصالح، فهذا يجعل الإنسان يعيش حياةً سعيدةً، ويرتاح، ويطمئن، فهو قد ركن إلى ركنٍ شديدٍ وهو الله ، وقد اطمأنَّ إلى حاله ووضعه، فماذا سيكون؟
غيره قد توفاه الله قبل قليلٍ، أو أمس، أو ... إلى آخره، فهو مُقتنعٌ بأن الوفاة ستأتيه في الوقت الذي قدَّره الله ، انتهت القضية، فيعمل من أجل أن يُقبل على الله وهو عنه راضٍ .
وهكذا بالنسبة لقضية الأمراض: يتخذ الأسباب حتى لا يُصاب بمرضٍ؛ لأنه يعرف أن اتِّخاذ الأسباب من الأمور التي شرعها الله ، ويجعل تعلُّقه بالله ، ويُدرك أن المرض ابتلاءٌ من الله ، وعندئذٍ لا يقلق، فماذا سيكون حاله؟ وماذا سيتجه إليه أمره؟
فهذا الأمر لا يتأتى إلا بالإيمان والعمل الصالح؛ فيذهب ضيق الصدر، وشقاء الحياة، والهم، والغم، والقلق، وكل ما نتكلم عنه، ولا يكون هناك مجالٌ للخوف المُزعج الذي يجعل الإنسان قلقًا.
أُعطيكم مثالًا حصل اليوم عندي في الكلية: كنت في مكتبي، والباب الخارجي مفتوحٌ، وحصل عطاسٌ، وكان طالبٌ جالسًا في الخارج يُذاكر مقرر اللغة الإنجليزية، فسمع العطاس، فجاء فزعًا؛ لأن عنده إشكاليةً في بعض جوانب الشخصية، فعنده حالةٌ خاصةٌ نتابعها في الكلية، لكن الحاصل أنه ربط القضية: أنه سمع صوتًا مُفزعًا، فهو الآن مُقبلٌ على اختبارٍ وخوفٍ: بسم الله عليك يا أخي، أبدًا ما نالك إلا كل خيرٍ، مُحدثك وصاحبك وأستاذك عطس فقط، ليس إلا ذلك، لا تحتاج القضية إلى شيءٍ من العناء، وما شابه ذلك.
فهناك ناسٌ على قولهم (ترمومتر) حسَّاس، أي شيءٍ يحصل يقول لك: لا تكن أكلت هذا الشيء! الآن الله يستر! يقولون: إن فيه سرطانًا، أو مثلًا كذا! ويتصور أي مصيبةٍ موجودةٍ يمينًا أو يسارًا ربما تأتي، وأن هذا الألم ربما تكون وراءه مشكلةٌ ... إلى آخره، فيعيش جزءًا من القلق والخوف والذعر نحن في غنًى عنه، وهذا لا شك أنه عكس قضية السعادة والطمأنينة والراحة.
فالإيمان والعمل الصالح قد ارتكن صاحبه إلى ركنٍ شديدٍ، فهو مؤمنٌ بما عند الله ، وما قدَّره الله ، وبخبر الله ، وبأسماء الله وصفاته، وكذلك يعمل الصالحات؛ لأنه يعلم أن الموت يأتيه في أي لحظةٍ ويختم حياته، وهو يريد أن يختمها على عملٍ صالحٍ، فهو إيجابيٌّ في المعتقد، وإيجابيٌّ في السلوك والعمل بالأعمال الصالحة.
ولذلك مَن كان الإيمان مفقودًا عنده أو ضعيفًا تجد أرضيته خصبةً لانفعال القلق، يعني: ما عنده شيءٌ يرتكن إليه أصلًا، فهو يرتكن إلى قُدراته، أو يرتكن إلى بني البشر، وبنو البشر ضعافٌ، فإذا نسي الله تكون بيئته خصبةً لقضية القلق والتوتر والخوف.
فيحصل الانتحار -مثلًا- عند غير المسلمين بصورةٍ أكبر، والخوف من المستقبل لفئةٍ من الذين ينتحرون، وتنسد عنده الحياة، وقد يكون سببه الاكتئاب -كما ذكرنا في الاكتئاب سابقًا- وقد يكون شيءٌ في المستقبل، فتجد أنه يخلص من هذه القضية بهذه الصورة، ويبدأ في إخراج التوتر والخوف والقلق إما بتعاطي أشياء مُسيئة للعقل والجسم والصحة والنفسية، أو أنه يخلص من هذه الحياة نهائيًّا، فهذا الإنسان في هذه الحالة يجتمع عنده الخوف الخارجي والقلق الباطني كما يقولون، فتجد أنه واضحٌ جدًّا عليه القلق في مظهره، وواضحٌ عليه في داخل مخبره، فهو في حالةٍ من الاضطراب.
فعندما نقول: الإيمان والعمل الصالح، فليس معنى هذا الكلام أن صاحب الإيمان والعمل الصالح لا يقلق، وإنما هي مجموعةٌ من الوسائل، ومن أكبرها هذه الوسائل التي لا تُذكر -للأسف الشديد- لمّا تقرأ في كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" لـ(ديل كارنيجي) كمثال.
لكن عندما تقرأ للشيخ ابن سعدي -رحمه الله- في كتاب "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" تجد أنه ألَّف هذا الكتيب بعد أن قرأ كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" ثلاث مراتٍ، أو مرتين، وأُعجب به، فصاغه صياغةً إسلاميةً.
ولذلك فهذا أمرٌ قد وفِّقنا نحن إليه كمُعطى عقدي، وبقي الجانب التطبيقي المتعلق بهذا الأمر.
لذلك إذا شابه المسلم الكافر في نسيان الله وعدم الإيمان وترك العمل الصالح يُصبح غير مسلمٍ، أما إذا نقص هذا عنده فسيكون أرضًا خصبةً للقلق؛ بناءً على الفقد الذي عنده أو النقص بالنسبة لقضية الإيمان؛ لأن القلق واردٌ، ويحتاج إلى نفسٍ قويةٍ، ولن تكون النفس قويةً مهما أُوتي الإنسان من أسبابٍ إلا بتوفيق الله له، وعون الله الذي يتأتى من خلال الإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، هذا الجزاء: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ولذلك يختلف المؤمن عن غير المؤمن، والمسلم يختلف عن الكافر فيما يتعلق بهذا الموضوع، والله يقول: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، فهناك ألمٌ وحسرةٌ، وهذا في موضوع الشيء السابق كمثالٍ، وهكذا نقول في الشيء القادم: كالخوف وما يتعلق بالقلق، لكن ما الفرق؟ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104]، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104].
ولذلك نقول مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً وخامسةً وسادسةً وعاشرةً ... إلى آخره: تجب تربية النفس، وتربية الأسرة، وتربية الأجيال والأبناء على الإيمان والعمل الصالح؛ لأنه هو الحماية والوقاية، والبناء، والعلاج بالنسبة لهذه النفس البشرية.
ابن تيمية -رحمه الله- وطُمأنينة القلب
عندما يأتي مثل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو في السجن، وما أكثر ما سُجن -رحمه الله- وأُوذي! حتى من أناسٍ يحملون العلم في زمنه! وأحلوا دمه! ويقول: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي لا تُفارقني"[1]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48).، وقال: "إن حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ"[2]"الوابل الصيب" (ص48)..
هذه الطمأنينة والراحة لم تأتِ إلا من خلال الإيمان والعمل الصالح والتعلق بالله؛ ولذلك نجد تلميذه ابن القيم هذا العالم الرباني الذي ألَّف في الجوانب الإيمانية والسلوكية الرائعة، العظيمة، صاحب كتاب: "الفوائد"، وصاحب كتاب: "إغاثة اللهفان"، وصاحب كتاب: "زاد المعاد"، و"حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" يقصد الجنان، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الجنان.
ابن القيم كان يأتي ويرى أستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية يجلس يذكر الله من بعد صلاة الفجر إلى الضحى، فيقول له ويسأله: لم يفعل ذلك؟ وهكذا التلميذ النَّجيب المُتربي مع أستاذه المُربي، فكان ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي"[3]"الوابل الصيب" (ص42).، ومفهوم الغداء الآن: كبسة، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية وجبته وغداءه الذكر: ذكر الله تعالى؛ لأنه مؤمنٌ يقينًا بأن الذكر يُقوي البدن، وهذا سليمٌ.
وحديث النبي مع علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما دالٌّ على ذلك، حين طلبت فاطمةُ رضي الله عنها خادمًا، فأتى النبي إليهما، فقال: ألا أدلُّكما على ما هو خيرٌ لكما من خادمٍ؟ إذا أويتُما إلى فراشكما -أو أخذتما مضاجعكما- فكبِّرا ثلاثًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادمٍ[4]أخرجه البخاري (5361)، (6318)، ومسلم (2727)..
فاستدلَّ ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "الوابل الصيب" بذلك على أن الذكر كما أنه يُقوي الجانب المعنوي والنفسي؛ يُقوي أيضًا الجانب البدني الحسي[5]"الوابل الصيب" (ص77)..
النقطة الثانية: الإحسان إلى الخلق
من الأمور التي تساعد على التخلص من القلق وتخفيف حدته: الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل، والنبي يقول: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس[6]أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الكبير" (861)، والقضاعي في "مسنده" (129)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289)..
ولذلك يقول الله : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، والإحسان للناس قال الله فيه: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، ومن الأجر العظيم: عون الله له على زوال الهم والغم، وعلى زوال القلق والخوف الذي لديه، هذا مع استحضار نيته، ومع إدراك أن مثل هذه المعاني العظيمة هو بأمس الحاجة إليها.
النقطة الثالثة: علاقة القلق بالتفكير
بلا شكٍّ موضوع القلق له علاقةٌ بالتفكير، والإنسان إذا فكَّر وتمادى في التفكير، واسترسل في تفكيره المُرتبط بالمستقبل مثلًا، وهو قابلٌ للقلق؛ سيزداد قلقه.
ولذلك يُنصح بإشغال النفس، وهذه وسيلةٌ من الوسائل المهمة في هذا الجانب، ويكون إشغال النفس بأي عملٍ وأي علمٍ نافعٍ، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا بلا شكٍّ.
فلا بد من إشغال النفس بعملٍ نافعٍ وعلمٍ مفيدٍ، وكل واحدٍ منا يُجرب، إذا جاءه همٌّ يُشغل نفسه بشيءٍ: يتوضأ ويُصلي، أو يقرأ القرآن، أو يقضي حاجات البيت، أو يُمسك كتابًا، أو يُساعد الآخرين؛ سيجد أن حاله قد تغير عما كان عليه قبلُ حين كان يُفكر دون أن يشغل نفسه بشيءٍ، وسيجد جزمًا أنه ربما نسي ما كان يقلق من أجله، وهذا من طبيعة النفس البشرية.
ولذلك هذا الإشغال: إشغال وقت الإنسان، إشغال فراغ الإنسان، ممارسة الأعمال والعلوم النافعة؛ من الأشياء المناسبة جدًّا.
وهناك فرقٌ بين المؤمن وغير المؤمن، فهذا الكلام حتى الكافر يستفيد منه، فالكافر إذا كان عنده قلقٌ يُقال له: أشغل نفسك. لكن الفرق عند المؤمن أن لديه نيةً، فهو حينما يعمل عملًا يكون بالنسبة له عبادةً، فالكافر لا يذهب ويصلي كما يذهب المؤمن ويصلي مثلًا.
الشيء الثاني: المؤمن حينما يعمل عملًا ما فهو يحتسب الأجر عند الله ، كذلك العلم، فالعلم يحتسب فيه الأجر عند الله تعالى، ويطلب فيه علمًا شرعيًّا، أو علمًا دنيويًّا ينفع به نفسه في الدنيا والآخرة.
لذلك فإن إشغال النفس وسيلةٌ مهمةٌ جدًّا لتخفيف القلق، وتخفيف نسبة وحِدَّة القلق.
النقطة الرابعة: التعوُّذ بالله من الهم والحزن
النبي عليه الصلاة والسلام -بأبي هو وأمي- تعوَّذ من الهم والحزن، والهم هو الذي نتكلم عنه، هو القلق، هذا الذي نتكلم عنه هو الهم الذي تعوذ منه النبي .
فلما تعوذ النبي من الهم والحزن أراد أن يجعل هذا الإنسان يُفرغ جهده في الوقت الحاضر، وهذه هي الوسيلة الرابعة: أن يُفرغ جهده في الوقت الحاضر، فلا يشغل نفسه فتُصبح مشاعره وأحاسيسه وأفكاره تعيش في التاريخ السابق، فهو يسترجع ما مضى، وهناك ناسٌ عندهم إجادةٌ في هذا الأمر، فالواحد منهم يجلس دقائق وساعاتٍ وأيامًا يُفكر في كل ما سبق، فدائمًا نظرته للوراء، للخلف، وهذه إشكالية الحزن: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن[7]أخرجه البخاري (5425)..
وكذلك بالنسبة للمستقبل، فتجده يُفكر في المستقبل، طيب، أنت الآن على أي أساسٍ تُفكر وتضع احتمالاتٍ ربما لا تكون، وربما تكون؟!
طيب، أفضل شيءٍ: أشغل نفسك الآن، أعد لهذا الموقف ما يحتاج إليه من العمل والإيمان، ومن الاجتهاد، ومن الاشتغال بأي عملٍ نافعٍ وعلمٍ مفيدٍ.
إذن هنا لا بد أن يكون الإنسان ابن المرحلة الحاضرة، وهنا ثقافة إشغال الفراغ عندنا، وعند أبنائنا، وعند أسرنا.
وعمر بن الخطاب تعوَّذ من الشخص الذي يكون سَبَهْلَلًا[8]جاء في الأثر: "إِني لأكره أن أرى أحدكم سَبَهْلَلًا؛ لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرةٍ"، رُوِيَ من قول عمر كما … Continue reading، ومعنى "سَبَهْلَلًا" في اللغة: الشخص الذي لا هو في عمل الدنيا، ولا هو في عمل الآخرة، وتأتي أيضًا بمعنى: فارغًا[9]"تهذيب اللغة" (8/ 197)، و"غريب الحديث" لابن الجوزي (1/ 460)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 340)، و"لسان العرب" (11/ 324).، هذا تعوذ منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فيحتاج الإنسان إلى أن يكون ابن اللحظة الحاضرة، اللحظة الحاضرة أيش تستدعي منك؟
أن تستمع للمؤذن وتُردد الأذان، فلا تشغل نفسك بشيءٍ آخر، أو تستدعي منك أن تذهب للمسجد، أو تستدعي منك الآن أن تأخذ والدك إلى المكان الفلاني، أو تستدعي منك أن تُذاكر، أشغل نفسك بالوقت الحاضر، ولا تشغل نفسك بالموعد الذي سيكون بعد أسبوعين والخاص بالوالدة، فلا تشغل بالك بالشيء الذي سيكون في المستقبل، عندك لحظةٌ الآن، عندك اختبارٌ غدًا؛ ذاكر، عندك مقابلةٌ؛ استعد لها، عندك كتابٌ تريد أن تُنجزه؛ أنجزه، فهو ابن الفترة الحاضرة، وهذه القضية من القضايا المهمة التي نحتاجها.
ولذلك يقول النبي : احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان[10]أخرجه مسلم (2664)..
نستفيد من هذه القضية ثلاثة أمورٍ للإنجاز في اللحظة الحاضرة:
الأمر الأول: الحرص، كن حريصًا، صاحب همَّةٍ، وتوجُّهٍ، ورغبةٍ.
الأمر الثاني: الاستعانة بالله ؛ لأنه لا يمكن أن يستعين الإنسان وليس عنده حرصٌ أصلًا، ما عنده إقبالٌ على شيءٍ.
الأمر الثالث: عدم العجز، لا ينقاد للشيء، ولا يستسلم، يعمل؛ لذلك ينظر الإنسان إلى نفسه: لو أخذ بهذا الإجراء -أعني: الوسيلة الرابعة- يمكن أن يعرف كم إنجازاته، بينما لو اختبر نفسه في الوضع الذي لا يُنجز فيه، أو لا يُمارس هذه الوسيلة؛ يمكن أن يرى أنه ما أنجز شيئًا، ذهبت عليه ساعةٌ وساعتان بدون عملٍ، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ فيما يتعلق بأنشطة وقت الفراغ، وهي تُدمر الأجيال: ذكورًا وإناثًا.
فعندما نتكلم عن القلق نخص موضوعنا بغض النظر عن أنشطة وقت الفراغ! فمن أساليب التخلص من القلق: أن تشغل نفسك في اللحظة الحاضرة بما يكون خيرًا لك وخيرًا للآخرين.
النقطة الخامسة: ذكر الله
قال الله تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وصاحب القلق عنده توترٌ، وتحفزٌ، وخوفٌ، ... إلى آخر تلك المعاني التي ذكرناها في المظاهر، فذكر الله يجعل النفس تهدأ، وهذه قضيةٌ لا بد أن نؤمن بها، فهي عقيدةٌ بيَّنها الله ، وبقي أن نُمارسها، وأن نجتهد ونأخذ بأيدي غيرنا إلى ممارسة مثل هذه الأشياء.
وفي تصوري: أن القضية علاقةٌ عكسيةٌ ما بين القلق والذكر؛ يعني: (ترمومترين) متوازيين:
الأول: يُمثل اتِّجاه القلق.
والثاني: يُمثل اتِّجاه الذِّكْر.
فالقلق عند هذا الشخص "محمد" مرتفعٌ، فبدأ بمشروع الذكر، فكلما ارتفع الذكر نزل مستوى القلق.
وحالات المرضى -نسأل الله أن يُعافيهم ويشفيهم- عندما تكون عندهم مثل هذه المؤشرات التي تكون في المستشفيات، وفي العيادات، وفي العنايات المركزة؛ ترى هذه القضية كلما جاء الشيء الإيجابي الذي يخفض منسوب المرض يبدأ المؤشر في النزول شيئًا فشيئًا؛ لذلك لا بد من التعود على هذا الجانب، ولا يتعود عليه إلا الموفَّقون.
واليوم رأيتُ مشهدًا وأنا في طريقي للكلية في الصباح عند النفق، فمع ازدحام السيارات إذ بسيارةٍ فيها سائقٌ، وآخر جالسٌ في الخلف، وكان الجالس في الخلف يظهر عليه أنه إنسانٌ منظمٌ، وحين رأيتُ ما يقوم به حقرت نفسي؛ لأن الذي جاء في ظني أني قلت: لِمَ هذه الوقفة بهذه الصورة؟! لكن أدركت أن ما عنده من الخير أعظم مما عندنا، فقد كان فاتحًا مصحفًا ويقرأ في السيارة، وأتوقع أن عمره في السبعينيات، وهو من الذين امتنَّ الله عليهم في الدنيا ... إلخ.
لكنني في الحقيقة قليلًا ما أرى هذا الشيء، نعم هو موجودٌ هنا وهناك والحمد لله، لكن عندما تشاهد الجالس في السيارة يقرأ فهذا شيءٌ جميلٌ.
وقد رأيتُ ذات مرةٍ عند إحدى الإشارات طفلين صغيرين ليسا من العرب، وإنما من عائلةٍ أوروبيةٍ، وكانا خارجين من القنصلية الأمريكية، وعندما ركبا السيارة ربطا الحزام وأمسك كل واحدٍ منهما كتابًا وجعل يقرأ، وأعمارهم في الابتدائية، فدُهشتُ وقلتُ: متى يأتي اليوم الذي نرى فيه هذا موجودًا عندنا، وتكون هذه ثقافةً موجودةً؟!
فصاحب المصحف أعطى إشارةً عظيمةً جدًّا: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وحدثني ملازمٌ لأحد القُضاة -وهذا الملازم أصبح الآن قاضيًا- يقول: كنت ألازم هذا الشيخ. وأذكر اسم الشخصين، وأنا أعرف هذا الملازم الذي حدثني بهذا الأمر، أما القاضي فلا أعرفه، لكن أسمع عنه خيرًا، وقد رأيتُه، لكن ليس بيني وبينه علاقةٌ.
الحاصل أن هذا الملازم يقول عن هذا القاضي: أنه كان يوميًّا لا يأتي إلى المحكمة إلا ويُصلي ركعتين، يقول: فكنت أسأله: لماذا أنت حريصٌ على هاتين الركعتين؟! فقال ما معناه: نحن نحكم في دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، ونحتاج إلى توفيق الله لنا، فحينما نبدأ أول عملنا باللجوء إلى الله تنفتح لنا أبوابٌ كثيرةٌ جدًّا.
وقد جالستُ الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- في بعض اللقاءات في غداءٍ أو عشاءٍ، فكان لسانه لا يفتر عن ذكر الله حتى أثناء الطعام.
ولعل بعض الإخوة الذين كانوا يُتابعون برنامج "نور على الدرب" لاحظوا أنه كان يذكر الله بين السؤال والسؤال.
هؤلاء الناس وُفِّقوا لهذا الأمر، وعندي تصورٌ كبيرٌ جدًّا -وهذه الحقائق تدل عليه- أن الإنسان توجه ابتداءً إلى ما وجهه الله إليه: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
النقطة السادسة: إدراك نِعَم الله الظاهرة والباطنة
فالله قد أنعم علينا بنِعَمٍ كثيرةٍ، وهو لا يأتي منه إلا الخير، ومقادير الأمور بيد الله ، وحينما يُدرك الإنسان هذه القضايا والنِّعَم لا يزدري نعمة الله عليه، وجاء في الحديث: انظروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم[11]أخرجه مسلم (2963)..
فهذا الشخص الذي يُدرك ذلك يطمئن، ولا يشغل باله بالمستقبل في أمور الدنيا، لا يشغل باله، ولا يهتم، فالذي سيأتيه حتمًا سيأتيه؛ لذلك تجد عند بعض الأشخاص يقينًا بما يُقدره الله ، والذي يُقدره الله فيه الخير والبركة، والحمد لله.
وهناك من الناس مَن تجده ما فعل شيئًا، ويعيش القلق كأن الناس كلهم جثوا على صدره من شدة الضيق الذي هو فيه، لكن الذي يُدرك ما أعطاه الله ، وأن الرزق بيد الله ، وأن الله أعطاه خيرًا كثيرًا؛ هذا سيُخفف عليه، وسيرتاح، وسيطمئن، ولا يُفكر في عواقب الأمور، ولا يُفكر في الأمور؛ لأن الأمور بيد الله .
لذلك فإن تذكر نِعَم الله حلٌّ نفسيٌّ عظيمٌ جدًّا، وإيجاد المقياس الذي ذكره النبي وهو: أن ينظر الإنسان في أمور الدنيا إلى مَن هو أقلّ منه؛ حتى لا يزدري نعمة الله عليه، فتُصبح القضية فيها راحةٌ نفسيةٌ عظيمةٌ جدًّا.
النقطة السابعة: لا بد من التخلية
أي عاملٍ يُسبب الهموم والقلق نبتعد عنه، كما قلنا في السابق: أي عاملٍ يُسبب الحزن والاكتئاب نبتعد عنه، وبعض الشخصيات تجدها قلقةً في الأصل، وإذا جلستَ معها تجدها ما تعيش اللحظة الحاضرة، تعيش المستقبل، لكن تعيشه باضطرابٍ: لا أدري ما يصير معي، الله يُيسر، ما يصير في أمَّة محمدٍ؟ وما يصير في الدنيا؟ نسي الآيات، ونسي الأحاديث، ونسي سنن الله ، ونسي نِعَم الله .
فعلى الإنسان أن يبتعد عن مثل هؤلاء الناس، ويبتعد عن مثل هذه القضايا، وهو يبتعد ابتداءً من نفسه، يعني: لا بد من الإرادة القوية كما قلنا قبل قليلٍ، فيُجاهد نفسه في الابتعاد عن مثل هذا التفكير، ولا يستسلم لمثل هذه الخواطر.
ابن القيم -رحمه الله- له كلامٌ جميلٌ في قضية الخواطر ودفعها، فلا إشكالية إذا كانت الخاطرة إيجابيةً، أَنْعِم وأَكْرم، إذا كانت تجعلني في استقرارٍ وطمأنينةٍ، فهذه على الإنسان أن يسترسل فيها ويستمرئ فيها، فيقول -رحمه الله-: "دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرةً، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوةً، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمةً وهمَّةً، فإن لم تُدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضده صار عادةً؛ فيصعب عليك الانتقال عنها"[12]انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص31)..
وهذا من جميل كلام ابن القيم -رحمه الله- في التعامل مع النفس البشرية في الجوانب الإيجابية، بالعكس: أعطِ نفسك خواطر إيجابيةً، خذها، وتعمَّق فيها، وتُصبح فكرةً ومجالًا للتفكير، خَلِّ عندك إرادةً، أنتج عملًا، ثم سيُصبح عندك عادةً.
لكن الكلام في الجوانب السلبية المتعلقة بالمستقبل، والتي تُسبب لنا القلق، فابتعد عن هذه القضية تمامًا، ولا تُدمج نفسك مع الناس المُصابين بمثل هذا القلق، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وقد أعجبتني طريقة أحد الأشخاص، قال: أنا مع والدتي؛ لأن والده توفي -رحمه الله- يقول: لا أُعطيها خبرًا مُزعجًا، أو شيئًا تقلق منه في المستقبل؛ لأني أعرف أمي، ولا أريد أن أفعل فيها سوءًا أو شرًّا؛ فتتأثر. يقول: آتي لها بالأخبار السعيدة المُفرحة الطيبة التي تجعلها في حالةٍ طيبةٍ ومستقرةٍ.
وهذه لفتةٌ جميلةٌ جدًّا؛ لأننا قد نكون سببًا في قلق الآخرين، وقد نكون سببًا في قلق أبنائنا، فإذا كان الأب أو الأم في قلقٍ؛ تجد -في الغالب- أن الأبناء يخرجون مثلهم، أو بعض أبنائهم.
وكنتُ مرةً أتابع حالةً مع أحد الاستشاريين -استشاري الطب النفسي-، فكان الاستشاري يسأل الشخص: هل الأب عنده قلقٌ؟ قال: لا. قال: بالتأكيد الأم عندها قلقٌ؟ قال: نعم. فهذا الجانب يُؤثر في الأبناء.
لذلك ادمج نفسك مع الناس المُتفائلين، ومع الناس المُنجزين، ومع العمل الحاضر المباشر، فهذه قضيةٌ مهمةٌ، وابتعد عن مُسببات القلق.
ولذلك من المهم جدًّا -كما قلنا- التخلية، فهذا الكأس لا يمكن أن أشرب فيه الماء إذا كان مُتَّسِخًا، مع أن الماء الذي يُوضع فيه ماءٌ عذبٌ زُلالٌ، لكنه سيتسخ حينما يُوضع في الكأس المُتَّسخ، فمن الطبيعي أن أُنظفه ثم أصبُّ الماء فيه، هذا التنظيف هو التخلية، وصبُّ الماء هو التحلية: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256]، لا يصلح الإيمان بالله من دون الكفر بالطاغوت؛ ولذلك التخلية تسبق التحلية، كما قال العلماء: التخلية قبل التحلية، ومن ذلك فيما يتعلق بالقلق: ابتعد عن مواطن إثارة القلق، ومُسبباته.
النقطة الثامنة: اللجوء إلى الله بالدعاء
بعض الأدعية لها معانٍ عظيمةٌ جدًّا، كهذا الدعاء: يقول النبي كما في "صحيح مسلم": اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ[13]أخرجه مسلم (2720).، فحتى الموت سيأتي، فلعله -إن شاء الله- يكون راحةً من كل شرٍّ، فهذا فوَّض أمره لله، وسأل صلاح مُستقبله، أي: صلاح الديني والدنيوي: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي، وعندئذٍ لا مجال للخوف على المستقبل من الناحية الدينية، ومن الناحية الدنيوية لا خوف.
فالإلحاح على الله بالدعاء، والإكثار من مثل هذا الدعاء مطلبٌ؛ حتى يشعر الإنسان بالراحة النفسية والطمأنينة؛ فلا يقلق على مستقبله: لا مستقبل الوظائف، والمال، والزوجة، والأبناء، فالأمر بيد الله من قبل ومن بعد: أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، والدين كذلك الله هو الذي سيُصلحه لي، وعندئذٍ تكون الحياة زيادةً لي من كل خيرٍ، والموت راحةً لي من كل شرٍّ.
ويقول النبي -كما عند أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ-: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ، وأصلح شأني كله، لا إله إلا أنت[14]أخرجه أبو داود (5090)، وأحمد في "المسند" (20430)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ في المتابعات والشواهد"، والنسائي في … Continue reading.
النقطة التاسعة: افتراض أسوأ الاحتمالات
يقول الشخص الإيجابي: من المحتمل أن أُقبل، ومن المحتمل ألا أُقبل، فأسوأ الاحتمالات أني لا أُقبل. ومن المحتمل أن أربح أو أخسر، فأسوأ الاحتمالات أن أخسر. ومن المحتمل أن يُوافقوا على تزويجي، ومن المحتمل ألا يُوافقوا، فأسوأ الاحتمالات ألا يُوافقوا، وهكذا، وأكبر من ذلك كله: أن أستمر في الحياة أو أموت.
فافترض أسوأ الاحتمالات واعمل من خلاله، ووَطِّن نفسك على هذه القضية؛ حتى تلقى مثل هذه القضايا -ولو كانت مكروهةً- في المستقبل بنفسٍ طيبةٍ، فأنت تُوطن نفسك عليها.
المشكلة أن الإنسان القَلِق ليس مُستعدًّا لتوطين نفسه على ذلك، وكأنه يريد أن يدفع الموت فلا يأتيه، ويدفع الخسارة فلا تأتيه، ويدفع الخبر غير السَّار فلا يأتيه.
طيب، الأمر ليس بيدي، ولا بيدك، إذن وطِّن نفسك على أسوأ الاحتمالات، فإذا جاء تقول: الحمد لله على كل حالٍ، لعله خيرٌ. واعمل من أجل هذا الأمر؛ لأن الذي يُوطن نفسه في هذه القضية تكون عنده طمأنينةٌ، ويحتمل هذا الاحتمال الوارد، ثم يُحاول قدر ما يستطيع أن يدرس القضية بأكثر من خيارٍ، وإن كانت نقطتنا هنا بالدرجة الأولى مُرتبطةً بتوطين النفس: أن تُوطن هذه النفس بحيث يكون عندها شبه يقينٍ بأن هذا الأمر ربما يحصل، وأنه أمرٌ سيُقدره الله ، وليس لي إلا أن أُسلم.
فاحتمال أسوأ الاحتمالات من القضايا المهمة لراحة البال، وهناك فرقٌ بينها وبين القلق؛ فهذا يقول: أنا سأموت، أو أخسر! والثاني يقول: أخاف أن أخسر. فهذا وطَّن نفسه على أن الخسارة واردةٌ، ويمكن أن تحصل، وقد حصلت لغيره، لكن الثاني ما وطَّن نفسه، ولن يُوطن نفسه؛ لذلك تُصبح بالنسبة له صدمةً قويةً وشديدةً، والبعض لا يتحمل مثل هذه القضايا وما يتعلق بها، فتوطين النفس يكون بتوقع أسوأ الاحتمالات، وهذا شيءٌ مهمٌّ جدًّا.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا وإياكم من السعداء، ويُوفقنا وإياكم، ويُبعد عنا وعنكم وعن أهلنا وذرارينا ومَن نُحب هذه الأمور، وهذه الأمراض من قلقٍ وغيره، وأن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصةً لوجهه، وأن يكتبنا وإياكم من السعداء في الدنيا والآخرة.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
---|---|
↑2 | "الوابل الصيب" (ص48). |
↑3 | "الوابل الصيب" (ص42). |
↑4 | أخرجه البخاري (5361)، (6318)، ومسلم (2727). |
↑5 | "الوابل الصيب" (ص77). |
↑6 | أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الكبير" (861)، والقضاعي في "مسنده" (129)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289). |
↑7 | أخرجه البخاري (5425). |
↑8 | جاء في الأثر: "إِني لأكره أن أرى أحدكم سَبَهْلَلًا؛ لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرةٍ"، رُوِيَ من قول عمر كما في "مختار الصحاح" (ص142)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 340)، و"لسان العرب" (11/ 324)، و"تاج العروس" (29/ 174)، و"الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية" (5/ 1725). ورُوِيَ عن عبدالله بن مسعود بلفظ: "إِني لأكره أن أرى الرجلَ فارغًا، ليس في أمر دنيا، ولا آخرة"، كما في "المجالسة وجواهر العلم" (4/ 152)، (1326)، و"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (1/ 130). |
↑9 | "تهذيب اللغة" (8/ 197)، و"غريب الحديث" لابن الجوزي (1/ 460)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 340)، و"لسان العرب" (11/ 324). |
↑10 | أخرجه مسلم (2664). |
↑11 | أخرجه مسلم (2963). |
↑12 | انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص31). |
↑13 | أخرجه مسلم (2720). |
↑14 | أخرجه أبو داود (5090)، وأحمد في "المسند" (20430)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ في المتابعات والشواهد"، والنسائي في "السنن الكبرى" (10412)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3388). |