المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بعون الله وتوفيقه- اللقاء السابع والأربعون، وما زلنا نتحدث عن الانفعالات من الكتاب والسنة، وهي ضمن سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
وكنا قد فرغنا -بحمد الله وعونه وتوفيقه- من الحزن والاكتئاب في لقاءين سابقين، وفاتني ذكر نقطةٍ مهمةٍ نبَّهني أحد الإخوة الأفاضل إليها في نهاية اللقاء الماضي، وهي:
القرآن علاجٌ للحزن والاكتئاب
الرقية الشرعية، والاستشفاء والتداوي بالقرآن؛ فالله يقول: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، فالقرآن دواءٌ للأدوية العضوية، والأدوية المعنوية، فهذا القرآن هو شفاءٌ ورحمةٌ.
والإنسان لا يقرأ القرآن ويرقي نفسه به في حالة وجود مسٍّ أو شيءٍ من هذا القبيل فقط، بل إنه يقرأه ويستشفي به في الأمراض العضوية والنفسية أيضًا، فهذا الكتاب العظيم هو شفاءٌ من الله لهذه الأمراض؛ لذلك الحزن والاكتئاب -ومرض الاكتئاب خاصةً- يُطلب فيه الشفاء من خلال كتاب الله .
فهذا التنبيه مهمٌّ جدًّا، ولأي مرضٍ، ولأي شيءٍ سبقت الإشارة إليه، ويحتاج إلى تداوٍ؛ فكتاب الله خير ما يُتداوى به.
وربما تسقط هذه النقطة في بعض الأحيان سهوًا عند أهل الاختصاص ومَن لهم اهتمامٌ بهذا الجانب، وإن كنا قد ذكرنا في العلاجات الأولى في قضايا الحزن والاكتئاب: فضيلة التقوى والعمل الصالح، ... إلى آخره، لكن الكلام في التداوي بكتاب الله والرقية الشرعية، فلا بد من لفت النظر إليها فيما جاء به كتاب الله وسنة النبي والرقية الشرعية التي وردت، فإن هذا من الأمور التي يحتاج إلى التنبيه إليها، وهو من الأدوية والعلاجات المهمة؛ لما سبق، ولما سيأتي.
ولأهل العلم كلامٌ جميلٌ جدًّا في هذا الموضوع: كابن القيم -رحمه الله- حينما تحدث عن تجربته في قراءة سورة الفاتحة.
والحديث المشهور: حديث الرجل الذي لدغته عقرب[1]أخرجه أبو داود (3899)، وابن ماجه (3518)، وعند الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقاه (8281)، وقال: "هذا حديثٌ صحيح … Continue reading، وغير ذلك من الأمور.
فنحتاج أن نقف معه، وغير ذلك من الأمور في الجوانب العضوية، فكيف به في الجوانب النفسية وما يتعلق بالمس: مس العين، أو مس الجن، أو مس السحر، وما شابه ذلك.
تعريف العجلة
موضوعنا اليوم متعلقٌ بقضية العجلة والاستعجال، يقولون: شخصٌ عجولٌ.
وأسميناه: انفعال العجلة، وربما لا يطرق هذا الموضوع كثيرٌ من أهل التخصص.
ومن الذين صنَّفوها ضمن الانفعالات: الأستاذ الدكتور عبدالعزيز النغيمشي في سلسلته عن الدوافع والانفعالات، وعدَّها من أنواع الانفعالات.
والذي يتأمل العجلة يجد أنها من الانفعالات، وتتشابه مع الانفعالات كما سيأتي معنا، بإذن الله.
وهؤلاء الأعلام: كعبدالعزيز النغيمشي -وفقه الله-، وأيضًا لا ننسى ذكر مَن استفدنا منهم في الحلقة السابقة عن الحزن والاكتئاب؛ وهو الدكتور عبدالله الخاطر -رحمه الله تعالى- استشاري الطب النفسي في رسالته المهمة: "الحزن والاكتئاب"، فهو من الناس الذين جمعوا بين التخصص النفسي والجانب الشرعي.
والعجلة هي: السرعة، فالشخص العَجِل والعجول هو المستعجل، حتى يُقال: سُمي "شعبان" بالعجلان؛ لأن الناس يشعرون أنه سريع الانقضاء جدًّا.
وعندما نأتي إلى تعريف الانفعال، فإننا قد أشرنا إليه في الانفعالات، فقد أخذنا مثالًا في الغضب، وأخذنا مثالًا في الحزن.
وهو حالةٌ جسميةٌ ونفسيةٌ ثائرةٌ، فيها جانب التوتر، وحالةٌ من الهيجان أو الاهتياج العام.
فهذا كله عندما نفكر بالعجلة نجد أنها تتطابق مع هذا الجانب، ففيه تشابهٌ كبيرٌ؛ ولذلك صنَّف الدكتور النغيمشي -وفقه الله- العجلة ضمن الانفعالات.
وعندما نلحظ -مثلًا- بعض الانفعالات الواضحة التي سبق الكلام عنها، مثل: الغضب، نجد أن الشخص الغضوب غالبًا يكون عجولًا، فالعجلة ترتبط ببعض الانفعالات، مثل: قضية الشخص الغضوب، فالغضب يرتبط بالعجلة.
ولذلك فإن قضية العجلة كما دلَّت عليها الآيات -كما سيأتي معنا- هي أمرٌ فطريٌّ داخل الإنسان، فهي انفعالٌ فطريٌّ وأصليٌّ في الإنسان، فتجد مثلًا: واحدًا يقود سيارته، يقال: عجول، يُسرع، وشخصًا -مثلًا- يتخذ قراره بشكلٍ سريعٍ، حتى في قضايا الزواج تجده ربما استعجل في اتخاذ قرار الزواج، أو الوظيفة، وأي مطلوبٍ تجد أنه يُسرع في الحصول عليه، وأي مكروهٍ يستعجل في ردِّه، فتكون القضية فيها جانبٌ من الاستعجال الذي ربما أودى به إلى إشكالاتٍ عديدةٍ مع نفسه، ومع غيره من الناس.
فهذه القضية إما أن تكون في قضايا التفكير، أو القضايا المتعلقة بالجانب العقلي، يعني: يستعجل في قضايا مرتبطة بالتفكير؛ فهو يتخذ قراراتٍ، ويحكم على الأشخاص، ويتخذ خطةً معينةً، ويجعلها تدور في الذهن، ويتكون عنده الجانب العقلي أو المعرفي المرتبط بالعجلة، أو المرتبط بالقضايا الوجدانية، مثل: أن يكون عجولًا في حبه للآخرين، أو كرهه للآخرين، أو حتى في قضايا حركيةٍ، مثل: قيادة السيارة، أو شيء من هذا القبيل، أو مهارات في الحياة عمومًا.
فهناك أمرٌ طبيعيٌّ في هذا الانفعال، وأمرٌ غير طبيعيٍّ، وهناك أصلٌ في الإنسان، وهناك ما بعد الأصل، فهذه القضية نحتاج أن نقف معها.
مثلًا: قول الله : خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]، قال بعض أهل التفسير: "أي: خُلق عجولًا، يُبادر الأشياء ويستعجل بوقوعها"[2]"تفسير السعدي= تيسير الكريم الرحمن" (ص523)..
الآن هذا يدل على أن طبيعة النفس البشرية أنها عجولةٌ.
يقول الله واصفًا الإنسان: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ يعني: كما يدعو بالخير يدعو كذلك بالشر: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11].
قال بعض أهل التفسير: "وهذا من جهل الإنسان وعجلته، حيث يدعو على نفسه وأولاده بالشر عند الغضب"[3]"تفسير السعدي" (ص454)..
إذن من المهم جدًّا أن ندرك أن العجلة من طبيعة النفس البشرية، وأن الإنسان خُلق من عجلٍ، والله يقول أيضًا: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟
فالله ينهانا، ويبين أن الإنسان ينبغي له ألا يستعجل، فالجمع بين هذا واضحٌ جدًّا، مثل: قضية فطرة الإنسان في حب الشهوات، فالإنسان مفطورٌ على حب الشهوات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]، ثم بيَّن الله أنواع الشهوات، أو بعض أنواع الشهوات، وليس معنى أنه يُحب الشهوات أن يترك له الحرية في اتِّخاذ ما يشاء من الشهوات، بل لا بد أن يضبط نفسه.
نفس الكلام في موضوع العجلة: هو خُلق عجولًا، يعني: طبيعته أنه يعجل، لكن المطلوب منه أن ينضبط، ولعل هذا من قبيل الابتلاء والاختبار، يعني: حتى أكون أفضل من غيري، ولا يكون غيري أفضل مني، وكلنا مستوون في أننا عجولون في أصل خلقتنا وفطرتنا.
وقلنا: إن هذا الانفعال فطريٌّ، لكن محمدًا أحسن مني في ضبط هذه العجلة، فهو قادرٌ على أن يضبط، مثلما قلنا في قول النبي : ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب[4]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609)..
فالكل عنده قابليةٌ للغضب، والكل عنده انفعال الغضب موجودٌ، لكن مَن الذي يملك نفسه عند الغضب؟
محمدٌ قد ينجح، وخالدٌ لا ينجح، كذلك بالنسبة للعجلة، فيمكن أن نقول: هو الجمع بين قول الله : خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] وبين: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].
وهذا من الابتلاء؛ حتى يجعل الله للإنسان مساحةً ليُثبت قدرته على قمع الشهوة وترك العجلة.
وما أشد هذا الوصف الذي ذكره الله في قوله: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ [الإسراء:11]!
تصور إنسانًا يدعو على نفسه بالشر!
العجلة تأتي بهذا، ويمكن أن يكون الإنسان غضوبًا أو شيئًا آخر، لكن بالعجلة عمومًا، كما قلنا: العجلة قد تدخل مع الغضب؛ فيدعو على نفسه.
ولذلك قال الله : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس:11]، ستكون النتيجة: أنهم لن يبقى أحدٌ منهم، وهذا من رحمة الله .
حتى إن النبي بيَّن في الحديث الصحيح عند مسلمٍ: عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: اللهم إنما محمدٌ بشرٌ، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتَّخذتُ عندك عهدًا لن تُخلفنيه، فأيما مؤمنٍ آذيته، أو سببته، أو جلدته؛ فاجعلها له كفارةً وقُربةً تُقربه بها يوم القيامة[5]أخرجه مسلم (2601)..
هذا أيضًا يقف عنده البعض: أنه من قبيل الاستعجال الذي قد يُولد الخطأ في حق الآخرين، فالنبي هنا يتحلل من مثل هذه الأشياء.
من الكلام السابق يمكن أن نستنبط نقطتين أساسيتين في موضوع العجلة وانفعال العجلة:
النقطة الأولى: أن الإنسان عجولٌ فطريٌّ وجبليٌّ.
النقطة الثانية -وهي أهم النقطتين-: أن الإنسان عنده القدرة على ترك العجلة وضبط النفس.
هاتان قضيتان مهمتان:
الأولى واقعيةٌ معرفيةٌ، يعني: الإنسان عجولٌ.
والثانية هي التي عليها التربية، يعني: التربية ليس لها علاقةٌ بالنقطة الأولى؛ لأنها فطرةٌ، لكن الثانية هي التي لها علاقةٌ بالتربية: أن الإنسان يضبط غضبه، ويضبط حزنه؛ حتى لا يصل إلى مستوى الاكتئاب، وأن الإنسان يضبط فطرة الاستعجال لديه، أو العجلة لديه، فهذه هي التربية التي فيها تربية النفس، وتربية الأبناء، وتربية الآخرين على ألا يكونوا من العجولين.
أعطِ نفسك ثوانٍ
على الإنسان أن يُلزم نفسه بالكفِّ عن العجلة، ويستثمر ما أودعه الله فيه من الوسائل: السمع، والبصر، والفؤاد، كل هذه الأشياء تجعله يتأمل، يقول: يا أخي، أنا إذا استعجلت ... مع أن في بعض المرات ما تكون القضية إلا ثوانٍ، كما قال بعض الإخوان في لقاءٍ سابقٍ، ثوانٍ بسيطةٌ جدًّا.
ولذلك ينصح بعض التربويين والنفسيين الإنسان أن يُعطي نفسه ثوانٍ معدودةً، فإن قراره في هذه الثواني المعدودة -ثلاثٌ أو خمسٌ أو عشرٌ- سيختلف عما يمكن أن يتخذه في لحظة الانفعال، أيًّا كان غضبه، أو عجلته، أو ما شابه ذلك.
ونلحظ هذا في أنفسنا في لحظة الانفعال كيف نكون؟ ثم لو هدأنا قليلًا، تعوذنا بالله من الشيطان الرجيم، أو هدأنا، أو مارسنا أي ممارسةٍ إيجابيةٍ كيف تتغير مثل هذه الحالة؟
ولذلك ينبغي التعقل، والاستبصار، والنظر، والتفكير، واستخدام الوسائل التي أعطانا الله إياها، والتي من خلالها نتربى على ترك العجلة، وقمع شهوة العجلة التي فُطر الإنسان عليها.
تأثير العجلة على الإنسان
حينما نأتي لقضية العجلة، هذا الانفعال ما أثره على الإنسان وعلى صحته؟ خاصةً ونحن نتكلم عن الصحة النفسية والتربوية.
هناك اتِّجاهٌ ماديٌّ، واتِّجاهٌ أو مُنحى نفسيٌّ، الجانب المادي طبيعيٌّ جدًّا، فالإنسان لو استعجل -كما قلنا- في اختيار الزوجة فربما لا يختار الزوجة المناسبة؛ فيحصل طلاقٌ، ولو استعجل في تجارته، أو في مشروعٍ ما، وما درسه بطريقةٍ صحيحةٍ؛ فإنه قد يخسر، ولو استعجل في قيادة سيارته لحصل -لا سمح الله- حادثٌ، أو ما شابه ذلك، ... إلى آخره.
فلو استعجل الإنسان في القضايا المادية في الحياة -مثل: الطعام- فإن ذلك تترتب عليه خسارةٌ ماديةٌ، فلو استعجل في طهي الطعام لا يصلح، ولن يُؤكل، فهناك خسارةٌ ماديةٌ، ولعل الخسارة المادية يمكن أن تقف، قال الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، فعباد الرحمن من طبيعتهم التؤدة، حتى في مشيتهم، وهي قضيةٌ ملحوظةٌ، ماديةٌ، ملموسةٌ.
وكما يقول الله في وصية لقمان لابنه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19].
وهذه كلها قضايا تُدرك؛ ولذلك صدق النبي حينما قال في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلمٍ: إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه[6]أخرجه مسلم (2594)..
وفي حديث جرير بن عبدالله أيضًا عند مسلم: مَن يُحرم الرفق يُحرم الخير[7]أخرجه مسلم (2592).؛ ولذلك من الخير القضايا المادية الدنيوية.
وكذلك أيضًا النقطة الثانية، أو المنحى الثاني: القضايا المتعلقة بالجانب النفسي يفوت عليه، تفوت عليه الطمأنينة والراحة النفسية والاستقرار؛ لأن فيه تبعاتٍ: عندما استعجل تورط، وبدأ الهم والغم والقلق والضيق في بعض النقاط المتعلقة بهذا الجانب.
فغالبًا الشخص العجول يقول أهل الاختصاص: قلقٌ، منزعجٌ، صاحب حسرةٍ وأسفٍ وندمٍ، ويدخل فيه الانفعال السابق: الحزن؛ لأنه شيءٌ فعله فيحزن عليه، وربما تمادى به إلى أن يتطور ويصبح الحزن شديدًا، وهو ما أسميناه: الاكتئاب، فيصل إلى الاكتئاب.
كل هذا يكون الإنسان عُرضةً له من الناحية النفسية، كما أصبح عرضةً من الناحية المادية، فهناك آثارٌ ماديةٌ، وآثارٌ نفسيةٌ، فهو مرضٌ في الحقيقة، والعجلة فيها الندامة.
ولذلك لا بد حتى نُعوِّد أنفسنا الكفَّ عن العجلة لا بد أن نضبط هذا الانفعال الفطري المتأصل فينا، ونرجع ونقول: هذا من ابتلاء الله لنا في بناء شخصيتنا، وفي تربية شخصيتنا، ... إلى آخره.
ابن حبان يصف الإنسان العجول
يقول ابن حبان البستي -رحمه الله-: "العَجِل يقول قبل أن يعلم"، تجده مباشرةً يتكلم، حتى إن بعضهم يُفتي، وبعض الصحابة والسلف الصالح وهم أهل علمٍ، لكنهم أهل ورعٍ، فإذا جاء أحدٌ يستفتي حوَّل المستفتي إلى شخصٍ آخر، وربما دارت الفتوى إلى أن رجعت إلى الشخص الأول، أما نحن فنستعجل، وربما نريد أن نسمع حتى نقول له: يجوز، أو لا يجوز! يعني: ندخل أنفسنا، فيقول قبل أن يعلم، كما قال ابن حبان البستي -رحمه الله-: "ويُجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يُجرب، ويذمّ بعدما يحمد"، طيب، كيف تذم وقد حمدته؟! وكيف تذم وقد أثنيت؟! لأنه عجولٌ، عنده (الرادار) يعمل يمينًا ويسارًا باستمرارٍ، ما فيه شيءٌ، ما في ضابطٌ.
هذا وصفٌ جميلٌ لابن حبان صاحب كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"، وهو كتابٌ رائعٌ جدًّا، ومهمٌّ جدًّا في الجانب النفسي، وكذلك كتاب ابن حزم "مُداواة النفوس" من الكتب الرائعة جدًّا في تهذيب النفس، وغيرها من الكتب.
"ويعزم قبل أن يُفكر"، يعني: يتخذ قراره، "ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِل تصحبه الندامة" هذا الجانب النفسي هنا، "وتعتزله السلامة" بعيدةٌ عنه السلامة، "وكانت العرب تُكني العجلة: أم الندامات"[8]ما بين علامات التنصيص من كلام الإمام ابن حبان البستي -رحمه الله- كما في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص216)..
والعرب كانوا يقولون بالنسبة لهذا الداء، ولهذا المرض، ولهذا الانفعال: أنه أم الندامات، فيندم الإنسان، وهذا جانبٌ نفسيٌّ سلبيٌّ لا شكَّ.
يقول -رحمه الله-: "العجلة مُوكَّلٌ بها الندم"، يعني: مرتبطةٌ بالندم، "وما عَجِلَ أحدٌ إلا اكتسب ندامةً، واستفاد مذمَّةً"[9]"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص217).، فيذمه الآخرون لأنه عجولٌ، كله عجل، يأتي ليخطب فيقولون: رجلٌ مُصلٍّ لكنه عجولٌ، ويدخل في مشروعٍ فيقولون: الرجل حقيقةً أمينٌ، لكنه عجولٌ. وهكذا تكون القضية مذمةً عند الناس؛ "لأن الزلل" مربوطٌ مع العجلة، "الزلل مع العجلة، والإقدام على العمل بعد التأني فيه" هذا أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه، ولا يكون العجول محمودًا أبدًا.
هناك فرقٌ بين الذي يُقدم على العمل بعدما يتأنى ويحزم، أي نعم؛ ولذلك النفس حين لا تُضبط ويُترك لها العنان نبقى في دائنا هذا، وانفعالنا هذا، ونحن نناقش الجانب السلبي منه.
الندامة ثمرة العجلة
انتهينا -كما قلنا- من الطبيعي، لكن بقيت التربية على ضبطه، فإذا لم يُضبط هذا الانفعال سيكون بالنسبة لصاحبه مصدر ندمٍ وحسرةٍ، وربما يُولد له الاكتئاب والشعور بالذنب من الناحية السلبية، ليس الشعور بالذنب الإيجابي، كما قال الله في قصة قابيل وهابيل: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ [المائدة:30]، وقال في النهاية: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].
والإنسان الذي شغله ندمٌ، مع أن الواحد حين يشعر بالخطأ فهذا شعورٌ إيجابيٌّ، لكن عندما تكون حالته العجلة، ثم يحس أنه أخطأ، وأنه قصَّر، وأنه آذى الآخرين؛ يبدأ يشعر بالذنب، ويندم على ما حصل، ويعيش في دوَّامةٍ من الحسرة والندامة، وهذا لا شك أنه خلاف ما يُسمى بالصحة النفسية، وخلاف ما يُسمى بالاستقرار النفسي، وخلاف ما يُسمى بالراحة والطمأنينة النفسية التي هي مُبتغاي ومُبتغاك في هذه الحياة.
فثمرة العجلة الندامة كما قلنا؛ ولذلك لا بد من تعويد النفس على الكفِّ عن هذه العجلة، وحملها على التأني، والنبي يقول في الحديث الصحيح: التؤدة في كل شيءٍ خيرٌ إلا في عمل الآخرة[10]أخرجه أبو داود (4810)، والحاكم في "المستدرك" (213)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يُخرجاه"، وصححه … Continue reading.
والأصل في الإنسان أن يكون على تؤدةٍ إلا في أمرٍ فيه قُربةٌ إلى الله ، أما إذا لم يكن هناك أجرٌ موجودٌ فإنه يمضي في عمله؛ ولذلك نحتاج إلى هذا الأمر حتى نكسب الخيرات، وحتى لا نستعجل فتُصيبنا الندامات.
يقول بعض أهل الاختصاص: إن هذه العجلة تُسبب -كما قلنا- القلق، والارتباك، والنسيان، والخوف من المجهول؛ ولذلك صدق النبي كما في الحديث الذي تقدم: مَن يُحرم الرفق يُحرم الخير كله.
فمن الأشياء التي يُحرم منها: أنه لا تهدأ نفسه، ولا تطمئن، فيُصاب بهذا الارتباك، وهذا النسيان، وهذا القلق والخوف.
بعض هذه الانفعالات عندما تنظر إليها وتتأمل تجد مثلًا الغضب: إنجازه الذي قد يتصور الإنسان أنه إيجابيٌّ في لحظته فقط، ضرب المثال: غضب فأخذ حقَّه مثلًا، نقول كذا.
والعجول أنجز مهمةً في لحظتها، لكن دون النظر للعواقب المتعلقة بي من الناحية المادية، أو النفسية، أو المتعلقة بغيري، كذلك المتعلقة بالناحية المادية، أو الناحية النفسية.
سمات الشخص العجول
أخيرًا: نختم، وإذا كان هناك بعض الأسئلة ننتظرها فيما يتعلق بالعجول، وسمات شخصيته وصفاته، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، نحاول أن نتحدث في هذا الموضوع من خلال مجموعةٍ من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ومن خلالها نعرف العجول بِمَ يتصف من سماتٍ؟ في مقابل سمات الشخص غير العجول الذي يضبط هذا الانفعال، بِمَ يتصف من صفاتٍ؟
يقول النبي في حديث مسلمٍ: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يُحبهما الله، ما هما؟ الحلم والأناة[11]أخرجه مسلم (17)..
وحديث عائشة رضي الله عنها -وهو عند مسلمٍ أيضًا-: يا عائشة، إن الله رفيقٌ يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه[12]أخرجه مسلم (2593)..
فهنا الكلام عن الرفق، والرفق يُعطي الإنسان ما لا يُعطيه العنف.
وحديث ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله : ألا أُخبركم بمَن يحرم على النار، ومَن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريبٍ، هينٍ، لينٍ، سهلٍ رواه الترمذي وأحمد[13]أخرجه الترمذي (2488)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"، وأبو يعلى في "مسنده" (5053)، وصححه الألباني بمجموع طرقه وشواهده … Continue reading.
فالذي يحرم على النار: القريب، الهين، اللَّين، السهل، وهذه السمات التي وردت في الأحاديث الثلاثة هي: الحلم، الأناة، الرفق، الهين، اللين، السهل، القريب.
كل هذه السمات هي سمات شخصية مَن يضبط انفعال العجلة، وكل شخصٍ عجولٍ لا تجد عنده مثل هذه السمات في الأغلب الأعم؛ ولذلك مهمٌّ جدًّا أن نؤمن إيمانًا يقينيًّا: علميًّا ومعرفيًّا، وكذلك عمليًّا -وهذه نقطةٌ مهمةٌ جدًّا- أن الإنسان قابلٌ لتعديل سلوكه: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[14]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، و"الكبير" (929)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (903)، والخطيب … Continue reading.
وقبل ذلك يقول الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، فالإنسان قادرٌ على أن يُعدل سلوكه ويُغيره -وهذا محل الابتلاء-؛ ولذلك ربط التغير المجتمعي بتغيير الإنسان لنفسه، هذا يُغير، وهذا يُغير، ثم يتغير المجتمع التغير الإيجابي، وهذا هو المقصود، وإلا فمن الممكن أن يحصل تغيرٌ سلبيٌّ.
وكذلك: إنما العلم بالتعلم، فالشخص الجاهل الذي يقول: أنا ما تعلمت. سيبقى جاهلًا طالما أنه لا يسعى للعلم.
طيب، تعلم يا أخي، النبي يقول: إنما العلم بالتعلم.
وشخصٌ آخر قال: أنا ما عندي صبرٌ، أغضب سريعًا. نقول له: تحلَّم يا أخي، اضبط هذه النفس وجاهدها: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، درِّب نفسك، اجعل عندك مجالًا.
وكذا نقول للشخص العجول الذي -في الغالب- لا يكون حظه الرفق، فقد يكون حظه العنف.
وبعض الذين مارسوا اتِّجاه العنف: إما بالسلوكيات في الأسرة، أو حتى على مستوى الأمة في قضايا؛ تجد أن عندهم قضية العجلة فيما يتعلق بالعنف: التكفير، والتفجير، عنده اتجاهٌ مرتبطٌ بسمةٍ في الشخصية: كونه عجولًا، ولو لم يكن عجولًا لاستطاع أن يرد الشبهة التي تأتيه، ويذهب إلى أهل العلم ويسألهم.
كذلك لا تجد أنه حليمٌ، لا تجد أنه صاحب حلمٍ وأناةٍ وتُؤدةٍ، وإنما هو عجلٌ؛ ولذلك قد يغضب بسرعةٍ، وقد يحزن بسرعةٍ، وقد يتخذ قراراته بسرعةٍ.
أيضًا لا تجد هذا الشخص العجول هينًا، لينًا، سهلًا، قريبًا، ففي الغالب لا تكون هذه المواصفات عنده.
نتكلم عن شخصٍ هذه سمته، عنده شيءٌ من الانفعال بشكلٍ مستمرٍّ، وإلا فقد يحصل للإنسان أنه عجولٌ، لكنه طيب القلب، ومحبوبٌ، لكن مشكلته في العجلة كمثالٍ، وقد تكون هذه العجلة تحتاج إلى ترويضٍ؛ لذلك قد يكون هو ونحن نؤمن بأن الطريق هو تعديل وتغيير هذه السمة السلبية -أعني: العجلة- حتى تأخذ منحى السمة الإيجابية، ويكون مقابلها كل ما ذكرناه؛ فبدل أن نكون عجولين، يكون عندنا الرفق، وعندنا الأناة، وعندنا الحلم، وعندنا القرب من الناس، وعندنا الليونة، وغير ذلك، كل هذه الأشياء تكون موجودةً عندنا، وبإمكان الإنسان أن يردعها.
هنا تشتغل الطاقة، وتشتغل الإرادة الذاتية التي تُشغل ضبط الذات (self-control)، وهنا قضية التحكم، يعني: نحن الآن نجلس هنا، وحولنا آلاتٌ، ومن خلال ضغطة زرٍّ نتحكم فيها.
فالأولى بالإنسان أن يتحكم بنفسه؛ ولذلك هذا من أفضل العلاجات؛ لأننا مهما قلنا: فلانٌ سيُؤثر عليَّ في انفعال العجلة، قد يُعطيني نصيحةً، وقد أرى أنه قدوةٌ؛ سأتأثر به بلا شكٍّ.
لكن كل هذه الأمور لن تكون بقوة الإنسان، فعليه أن ينطلق من ذاته، ويضبط هذا الانفعال وغيره من الانفعالات التي ذكرناها سابقًا؛ ولذلك لا بد أن يتعود ويتدرب على ذلك، فمن غير المعقول أن يقف الإنسان وهو مستعجلٌ ويكون خارج التغطية! على قولهم: (out of control)، فلا يُعقل أنه لا يقدر على التفكير، فعنده مجالٌ للتفكير، الآن هو عَجِلٌ.
الرسول قال عن الرجل الذي كان غاضبًا وواقفًا: يجلس، طيب، بعضنا يقول: ما عندي مخٌّ أصلًا كي أفكر أني أجلس! هذه المشكلة فيك، أعطِ لنفسك مهلةً، واضغط على نفسك، ودرِّب نفسك، وأعطِ واجباتٍ لنفسك، وقل لها: قولي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أول ما تغضبي، وإذا كنتِ واقفةً اجلسي.
كذلك بالنسبة للعجلة قل لها: لا تعجلي، تمهلي قليلًا. حدِّث نفسك بهذا؛ حتى يكون الإنسان قادرًا على التعويد، أما أن نشعر أننا مسلوبو الإرادة، والشعور بأننا مسلوبو الإرادة هذا ألغى قضيةً أساسيةً فطرنا الله عليها، كما فطرنا على العجلة فطرنا على القدرة على ضبط النفس: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
فنحتاج من خلال مواقف الحياة وممارسات الحياة إلى أن نتعود على التروي، والأناة، والحلم، والصبر، وما شابه ذلك من أمورٍ؛ لنحقق في شخصياتنا نمط الشخصية المرغوب فيها، والتي تتصف بالصفات الرائعة: الرفق، والأناة، والحلم، والسهولة، وما شابه ذلك.
وفي الأخير: المنهج الإسلامي عزز هذه السمات في الشخصية الإيجابية، وفي المقابل لم يُعزز السمات السلبية التي منها العجلة.
الآن نخلي العجلة في كفةٍ، وقبلها سماتٌ كثيرةٌ ومصطلحاتٌ كثيرةٌ كما قلنا: الرفق، والحلم، وما شابه ذلك.
القضية الأولى: التحفيز بحب الله ورسوله
كقول النبي : إن فيك لخصلتين يُحبهما الله ورسوله، إذن هذا تحفيزٌ، والشرع جاء وقال: هل يوجد شيءٌ أفضل من أنك تكسب الحلم والأناة؟ وهذا ضد العجلة، لا شك أنه ضد العجلة، فلا يمكن للإنسان أن يكون حليمًا، ويتصف بالحلم والأناة، ويكون عجولًا؛ لأنها ضد العجلة.
حفَّزك النبي كي تضبط العجلة بأن تذكر أنك ستكون محبوبًا عند الله ورسوله .
فهذا حافزٌ أخرويٌّ كما سبق، وتكلمنا عن أنواع الحوافز، ومنها: الحافز الأخروي: ربط الإنسان بما عند الله ، ولو عودنا أنفسنا وربينا ذواتنا وأهلينا على أن يفكروا فيما عند الله، وفي لُقيا رسول الله ؛ لكان لمثل هذه المعاني أثرٌ كبيرٌ جدًّا، ومثل هذه التوجيهات لها أثرٌ كبيرٌ جدًّا على اكتساب مثل هذه الأخلاقيات والسلوكيات، وعندئذٍ يصبح هذا الانفعال -العجلة- مضبوطًا بصورته الإيجابية.
ثانيًا: التنفير
أيضًا التنفير، كما قال النبي في الحديث الآخر: ألا أُخبركم بمَن يحرم عليه النار؟ يحرم كل قريبٍ، هيِّنٍ، ليِّنٍ، سهلٍ[15]أخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق" (ص317)، (14)، واللفظ له، وأحمد في "المسند" (3938) بلفظ: «حرم على النار كلُّ هَيِّنٍ، … Continue reading.
إذن هناك: يُحبهما الله ورسوله، وهنا قال: الحرمان من النار، وهذا حافزٌ، لكن فيه تهديدٌ، وفيه ترهيبٌ من أن يكون فيه مثل هذه الصفات فيكون أقرب إلى العواقب التي تؤدي إلى نار جهنم؛ ولذلك فإن جانب العجلة والاستعجال يُولد مردوداتٍ سلبيةً بالنسبة للإنسان.
يقول ابن حبان -رحمه الله-: "العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة"، يعني: صاحب العجلة غالبًا يكون شخصًا حادًّا مُتعصبًا، وغير العجول هادئٌ، سهلٌ، سمحٌ.
يقول: "وصاحب العجلة إن أصاب فرصته" يعني: لو حقق الذي يريد بالعجلة "لم يكن محمودًا"؛ لكونه عجولًا، سيقال: عجولٌ، ولن يُحقق الذي يريد، وهو غير محمودٍ.
"وإن أخطأها" أخطأ فرصته "كان مذمومًا" يعني: هي الأخيرة كلها: حصلها، أو ما حصلها، هو مذمومٌ من وجه كونه عجولًا، وأنه لم يكن محمودًا، وأنه ما حصلها إلا بمشقةٍ.
"والعَجِل لا يسير إلا مناكبًا للقصد، منحرفًا عن الجادة، يلتمس ما هو أنكد وأوعر وأخفى مسارًا"[16]ما بين علامات التنصيص من كلام الإمام ابن حبان البستي، كما في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص217).، هذا وصفٌ جميلٌ لنفسية الشخص العجول.
ولذلك يجب أن نحرص على مثل هذه السمات التي هي مقابل العجلة ونؤكدها: الحلم، والأناة، والهون، واللين، والبساطة، والسهولة، والرفق، والتيسير.
وفي حديث عائشة -كما عند البخاري ومسلم-: ما خُيِّر رسول الله بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه[17]أخرجه البخاري (3560)، (6126)، ومسلم (2327)..
وفي البخاري ومسلم عن أنسٍ ، عن النبي قال: يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا[18]أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1732)، واللفظ للبخاري..
فينبغي أن تؤسس التربية مثل هذه السمات، ويكون لها أثرٌ على ضبط العجلة ابتداءً، هذه طبيعة المنهج الإسلامي، فالله يقول: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فالأصل في منهج الإسلام أنه دين يُسرٍ وسهولةٍ، وليس دين عجلةٍ، فيجعل الإنسان ليس على هذه الصفة.
فهذه كلها من الأشياء التي يمكن أن تُقنع الشخص وتُؤثر، يعني: الإنسان يُقنع نفسه، ويقنع الآخرين، وتؤثر في الشخص العجول.
اهتمام الإسلام بالرفق
الأمر الثاني: أن المنهج الإسلامي كما أن هذه طبيعته، أحاط واهتم بقضية الرفق، وأعطاها الجزاء الكبير المتميز كما أشرنا.
ونُذكِّر هنا بالحديث الذي سبق ذكره: إن الله رفيقٌ يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه.
فهذا الله يُعطيه، والرفق لا شكَّ أنه سيُعطي الإنسان ما لا يُعطيه العنف، وبلا شكٍّ هذا فرقٌ، وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح. هذه القضية الثانية.
القضية الأولى: منهج الإسلام منهج يُسرٍ وسهولةٍ، ودين يُسرٍ وسهولةٍ، والمفترض أنكم كذلك، ونحن قلنا: إن العجلة ضد ذلك.
القضية الثانية: أن الرفق أصبح محل الجزاء الأوفر في ديننا، فجاءت الإشارة والاهتمام بالرفق، ومنحت الشريعة صاحب الرفق الجزاء الكبير كما ذكرنا.
ويُعطي يعني: الله على الرفق ما لا يُعطي على العنف.
الأمر الثالث: أدبيات الشريعة جاءت ببيان شخصية الذي يرفق بالناس، فتجد أن خطابات الشريعة في هذا أكثر من القضية الثانية، فالقضية الثانية غالبًا إشاراتٌ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] هذا بيان طبيعة الإنسان، لكن ما يتعلق بالتربية والقيم والأخلاق منثورةٌ جدًّا، وفي الغالب الجانب الإيجابي الذي توسم به الشخصية هو الرفق أو العجلة؟ جانب الرفق بلا شكٍّ.
وكذلك التأني دون السرعة، هكذا الشخصية، يعني: لا أقول العبارة هنا بشكلٍ أكثر وضوحًا، قصدي من الكلام هنا التنبيه، وليس القصد من الكلام استقراء ما جاء في النصوص، أنا لا أذكر استقراءً، ليس عندي استقراءٌ في هذا الجانب، وربما ذكرت هذا الكلام بعبارةٍ ما دلت على المفهوم.
النقطة التي نقصدها هنا: أن الشريعة جاءت بوصف الشخصية من خلال ذكر الجانب الإيجابي دون الجانب السلبي، يعني: إبراز وبيان حقيقة الرفق كما ذكرنا في الأحاديث، وبيان حقيقة التأني: التؤدة في كل شيءٍ خيرٌ إلا في عمل الآخرة، وهذا الشخص هو الذي يستحق أن يكون المُنجز الناجح في الحياة.
هذا ما يسره الله حول قضية انفعال العجلة.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يُوفقنا وإياكم للخيرات، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يرزقنا وإياكم السعادة في الدنيا والآخرة.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه أبو داود (3899)، وابن ماجه (3518)، وعند الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقاه (8281)، وقال: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه". |
---|---|
↑2 | "تفسير السعدي= تيسير الكريم الرحمن" (ص523). |
↑3 | "تفسير السعدي" (ص454). |
↑4 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑5 | أخرجه مسلم (2601). |
↑6 | أخرجه مسلم (2594). |
↑7 | أخرجه مسلم (2592). |
↑8 | ما بين علامات التنصيص من كلام الإمام ابن حبان البستي -رحمه الله- كما في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص216). |
↑9 | "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص217). |
↑10 | أخرجه أبو داود (4810)، والحاكم في "المستدرك" (213)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يُخرجاه"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3009). |
↑11 | أخرجه مسلم (17). |
↑12 | أخرجه مسلم (2593). |
↑13 | أخرجه الترمذي (2488)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"، وأبو يعلى في "مسنده" (5053)، وصححه الألباني بمجموع طرقه وشواهده كما في "السلسلة الصحيحة" (938). |
↑14 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، و"الكبير" (929)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (903)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" ت: بشار (6/ 442)، وحسنه الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (342)، وفي "صحيح الجامع" (2328). |
↑15 | أخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق" (ص317)، (14)، واللفظ له، وأحمد في "المسند" (3938) بلفظ: «حرم على النار كلُّ هَيِّنٍ، ليِّنٍ، سهلٍ، قريبٍ من الناس»، وقال محققوه: "حسنٌ بشواهده، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ"، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3135). |
↑16 | ما بين علامات التنصيص من كلام الإمام ابن حبان البستي، كما في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص217). |
↑17 | أخرجه البخاري (3560)، (6126)، ومسلم (2327). |
↑18 | أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1732)، واللفظ للبخاري. |