المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بعونٍ من الله وتوفيقه- هو اللقاء الرابع من المجموعة التاسعة من سلسلة: "تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسنة".
ونحن في الحلقة السادسة نتحدث عن الأساليب التربوية، وأسلوب القصة، ومع القصص النبوي، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ما زلنا مع قصص الحبيب نستلهم بعض الدروس والفوائد من هديه عليه الصلاة والسلام القصصي، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم، ويُبارك لنا ولكم، وفينا وفيكم.
أما اليوم فلدينا مجموعةٌ من القصص:
تحريف بني إسرائيل لكتاب ربهم
أولها: قصةٌ رواها الإمام البيهقي: أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم، وكان الحقُّ يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقال: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم عليه فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، قال: لا، بل ابعثوا إلى فلانٍ -رجلٍ من علمائهم- فإن تابعكم فلن يختلف عليه بعدكم أحدٌ، فأرسلوا إليه فدعوه، فأخذ ورقةً فكتب فيها كتاب الله، ثم أدخلها في قرنٍ، ثم علَّقها في عنقه، ثم لبس عليها الثياب، ثم أتاهم، فعرضوا عليه الكتاب، فقالوا: تُؤمن بهذا؟ فأشار إلى صدره -يعني: الكتاب الذي في القرن- فقال: آمنتُ بهذا، وما لي لا أؤمن بهذا؟! فخلوا سبيله، هم ظنوا أنه الكتاب الذي معهم، احتال عليهم.
قال: وكان له أصحابٌ يغشَونَه -يعني: يأتونه-، فلما حضرته الوفاة أتوه، فلما نزعوا ثيابه وجدوا القرن في جوفه الكتاب، فقالوا: ألا ترون إلى قوله: "آمنتُ بهذا، وما لي لا أؤمن بهذا؟!" فإنما عنى بهذا هذا الكتاب الذي في القرن، قال: فاختلف بنو إسرائيل على بضعٍ وسبعين فرقة، خير مِلَلهم أصحاب أبي القرن[1]أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7183)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2694)..
الذي يهمنا من هذه القصة الدروس التربوية المتعلقة بهذه القصة وأمثالها:
أولًا: طبيعة بني إسرائيل
طبيعة بني إسرائيل لا تختلف قديمًا وحديثًا، خاصةً اليهود منهم: خُبْث اليهود، وتحريفهم للتوراة، هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فيهود اليوم هم أنفسهم يهود الأمس، فإدراك خُبث هؤلاء القوم حتى من قديم الزمان قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
هناك مَن يُساوم على أخلاقيات مثل هؤلاء، فالذي يأخذ من مصدرٍ صافي النَّبع، غير الذي يأخذ من مصدرٍ مُشوشٍ مُنحرفٍ، لا بد أن نُدرك أن هؤلاء قاموا بتحريف الأديان السماوية.
وهذه القصة الصحيحة دليلٌ على هذا التحريف، وعلى الهوى الذي يغلب مثل هؤلاء الناس، حتى لو أظهروا الديانة في حياتهم.
فعندما تنظر مثلًا إلى الكيان الصهيوني، وتبحث في تعليمهم ومدارسهم وجامعاتهم تجد شيئًا عجيبًا جدًّا عندهم: أنهم ينطلقون من الكتاب المُقدس، وهذا هو تفسير قوة اليهود من وجهٍ؛ لأنهم ينطلقون من انتماءٍ لهويتهم، مع أن الذي ينتمون إليه مُنحرفٌ، فكيف لو انتمى أهل الحق لحقِّهم؟! وهم لديهم الكتاب الذي فيه الصدق، وفيه العدل.
فينبغي أن ندرك حقيقة هؤلاء القوم، وندرك أهمية المصدر الصافي والمنبع النظيف الذي يضمن للإنسان أن يسلك سلوكًا سويًّا في هذه الحياة.
لذلك مَن ينطلق من مثل هذه العباءة: عباءة اليهود، وخبث اليهود، والطرائق التي عملوها في مثل هذه القصة، يعني: يتحايلون، ومَن وافقهم تركوه، ومَن عاداهم فعلوا به الأفاعيل.
وكان لا بد لهذا العالم من طريقةٍ يتخلص بها من هذا الموقف العصيب، ويخلص من خُبث هؤلاء القوم، ففكر في فكرةٍ عملها، وكانت فيها منجاةٌ له.
فهؤلاء القوم أصحاب الخُبث، الذين ينطلقون من مُقدماتٍ مُنحرفةٍ، وعقائد فاسدةٍ، هؤلاء سعيهم الحثيث في إفساد أمة محمدٍ ، يريدون أن يسعوا قدر ما يستطيعون في إفساد الناس؛ لأنهم أصحاب هوًى، وصاحب الهوى همُّه شهوته ورغبته، وهذا واضحٌ جدًّا في هذه القصة: اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلته أنفسهم، فهم ينطلقون في ممارساتهم في الحياة بأهوائهم وشهواتهم، وفرقٌ بين الذي ينطلق من شهواته وأهوائه، وبين الذي ينطلق من إرضاء الله .
ثانيًا: المنبع الصافي وأثره في تربية الأجيال
الأجيال ينبغي أن تُربى على المنبع الصافي، لا تُربى على ما ترغب، ولا على ما يرضاه أبوك ويُريده المجتمع، وإنما تُربى على ما يريده الله منها.
ونُخطئ كثيرًا عندما نقول: أهم شيءٍ أن تُرضي أبوك، أو تُرضي الناس! فإرضاء الناس غايةٌ لا تُدرك، وإذا كان إرضاء الأب فيه معصيةٌ، ومشكلةٌ، فهناك شيءٌ أعظم من الناس، وأعظم من الأب، وهو الله .
وهذا يُبين أهمية الانطلاق من المصدر الصافي والمنبع الصافي؛ لأنه هو الذي سيحفظني في هذه الحياة، أنطلق مما يُريده الله ، والله يريد منا الخير لنا، والخير للناس.
يعني: يكفي قول النبي : مَن التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس[2]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2311)..
السبب في ذلك هو: الفرق بين الذي يُرضي الخالق، والذي يُرضي المخلوق على حساب الخالق.
فما كان من عند رب العالمين فيه الثبوتية، وفيه الديمومة، وفيه الاستقرار، وفيه الشمولية. أما ما كان من عند البشر فهم يختلفون: مزاجي غير مزاجك، وأهوائي غير أهوائك، ورغباتي غير رغباتك، وتوجيه الأب اليوم قد يتغير غدًا، أو بعد أسبوعٍ، أو كذا.
فالتربية على الربط بالخالق غير التربية على الربط بالمخلوق، والأخذ من المعين الصافي، الذي يأخذ من الله ما يُسمّى: بالمنهج الرباني، غير الذي يأخذ من المنهج البشري.
لذلك نقول: ينبغي أن نعود في تربيتنا إلى الكتاب والسنة، وأن نحرص على أن نستقي منهجنا في بناء النفس وفي تربية النفس وتربية الآخرين من الكتاب والسنة.
الفرق في ذلك كبيرٌ وواضحٌ جدًّا، وانظر لقضية القيم كمثالٍ: مما يتميز به المنهج الإسلامي أن القيم ثابتةٌ، وليست مُتغيرةً، وليست نسبيةً، بينما القيم في المنهج الغربي نسبيةٌ، وخاضعةٌ للتصويت عليها، وخاضعةٌ لنظر الأغلبية، وخاضعةٌ للأهواء.
وكانت (تاتشر) رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تقول: ليس لدينا أصدقاء ثابتون، ولا أعداء ثابتون، وإنما لدينا مصالح ثابتةٌ.
فالبوصلة التي تُوجه القِيَم عندهم هي مصالحهم، فإذا كانت المصلحة تقتضي أن الصديق يكون عدوًّا، والعدو يكون صديقًا يفعلون ذلك.
لكن المنهج الإسلامي ليس عنده هذه القِيَم المُبعثرة، القيم النسبية، وإنما قِيَمه ثابتةٌ، فهو صادقٌ مع الصديق، وصادقٌ مع العدو، وأمينٌ مع الصديق، وأمينٌ مع المسلم، ومع الكافر، فالقِيَم ثابتةٌ.
لذلك نحتاج أن نُدرك أن قريشًا اطمأنت للنبي وسمّته: الصادق الأمين؛ لأنه كان صادقًا أمينًا عليه الصلاة والسلام، وهم كانوا يحتاجون للرجل الذي يُعطيهم الحقَّ والصواب، ولا يتلاعب بهم، وكذلك الذي يمكن أن يُسلمونه حقوقهم فيحفظها، ويكون أمينًا عليها.
فتنبغي العناية بهذا الأمر، فبضدها تتميز الأشياء: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].
ثالثًا: خطورة الانهزام النفسي
ويعجب الواحد: كيف أن بعض المسلمين لا يزال إلى الآن عنده الشعور بالهزيمة النفسية، فيأخذ من المناهج غير الإسلامية في قضايا أساسيةٍ، وقضايا أصولٍ، وقضايا مُنطلقاتٍ، وقضايا مُؤثرةٍ على الشخصية؟!
ولو أنك أردت أن تبحث عن بضاعته فيما يتعلق بكتاب الله وسنة النبي لا تجد عنده شيئًا في هذا الموضوع.
والسبب في ذلك: أنه تجب تربية الأطفال منذ نُعومة أظفارهم على الأخذ من كلام الله وكلام النبي ، وعلى الأخذ من المنهج الرباني؛ حتى لا تكون أجيالنا فيها شَبَهٌ من هؤلاء الخُبثاء وهؤلاء المُفسدين.
وهناك من المسلمين مَن يُشابه الكفَّار، وقد قال النبي مُحذِّرًا: لتتبعُنَّ سَنن مَن كان قبلكم، شِبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟[3]أخرجه البخاري (7320)، ومسلم (2669)..
وفي روايةٍ: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم مَن يأتي أمه علانيةً لكان في أمتي مَن يفعل ذلك[4]أخرجه الترمذي (3641)، والحاكم في "المستدرك" (444)، والطبراني في "المعجم الكبير" (62)، وحسنه الألباني في "السلسلة … Continue reading، إلى هذا المستوى من التقليد، حتى في الأمور السيئة جدًّا!
ستجد أن هناك أناسًا يتَّبعون مثل هؤلاء القوم، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا في الانبهار بهم، والأخذ من أناسٍ هذه سجيتهم، فهم ابتداءً ليس عندهم مصدرٌ ربانيٌّ، حرَّفوا المصدر الرباني، وهم يتلاعبون، وهذه أحابيلهم، وهدفهم هو إفساد المجتمعات، فكيف نثق بهم؟!
فبعض الناس حينما يسمع: قال (جون ديوي)، ذكر فلان، قال (فرانكل) في نظريته. من انبهاره ربما يكون مُستمعًا مُنجذبًا أكثر من كونه يستلهم معاني كتاب الله، أو سنة النبي ، ويستلهم منها ويستقرئ القضايا المتعلقة بالتربية وجوانبها.
ونُدرك هذا الجانب في مجال تخصصنا -للأسف الشديد-، مثل: المُؤلفات التي اتبعوا فيها حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى إن الأستاذ الدكتور مالك بدري -وهو أستاذ علم نفسٍ سودانيٍّ شهيرٍ، وفَّقه الله، وختم له بخيرٍ- سمَّاهم: علماء النفس في جحر الضب، كتب كتابةً رائعةً وسمَّاها: "علماء النفس في جحر الضب".
يقول أن ما ذكره النبي في الحديث: حذو القُذَّة بالقُذَّة، ولو دخلوا جُحر ضَبٍّ لدخلتموه، قال: عندنا نحن من علماء النفس المسلمين مَن هم في هذا الجُحْر!
وصدق، فهم في مثل هذا الجُحْر، فإلى الآن تجدهم على مدرسة (فرويد)، والمدرسة التحليلية، وتبحث عن شيءٍ من الاستلهام، وتخشى على بعضهم من أنه ما عنده الثقة بأن المرجعية: كتاب الله وسنة نبيه ؛ لذلك نُكرر في كل صلاةٍ وفي كل قراءةٍ للفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، فالمغضوب عليهم: اليهود، والضَّالون هم النصارى.
فاليهود ومَن شابههم لديهم العلم، لكن بدون عملٍ، والنصارى يعملون، لكن بلا علمٍ، إذن مَن كان منا نحن ليس على الطريق المستقيم سيكون مُشْبِهًا لليهود، أو مُشْبِهًا للنصارى.
وخُذْ على ذلك ما يتعلق بقضايا التفكير، وقضايا الاهتمامات، وقضايا الأولويات، والألبسة، وقضايا كثيرةٍ جدًّا، فتُصبح القضية غير سَوِيَّةٍ، وتحتاج إلى إعادة البوصلة لمجاريها.
رابعًا: مشروعية دفع الشر بالحيلة
الإنسان الذكي الذي يُمارس الحياة الاجتماعية بذكاءٍ يمكن أن يكون مثل هذا العالِم، والشرع يعذر المسلم إذا احتال على الباطل ليدفع عن نفسه الشَّر، فيحتال عليه بمثل حيلة هذا العالم الذي وضع في القرن كتاب الله ، وأشار إليه، فهو أشار إلى الذي يُؤمن به، وهو كتاب الله، فكَّر بحيلةٍ واستخدمها حتى يتخلص مما يضرُّه، أو يضرُّ المسلمين.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يُعوِّد نفسه على كيفية التخلص من المواقف المُحرجة، وهذا يُسمّونه: الذكاء، هذا جزءٌ من الذكاء، وهو الذكاء من خلال حلِّ المشكلات، والتَّعود على أساليب حل المشكلة: كيف يمكن أن نحلّ المشكلة والموقف المُعين؟ فيمكن أن نحلّ هذه القضية بطريقةٍ حكيمةٍ جدًّا، ليس من ورائها مفاسد كبيرةٌ، وهذا يتأتى من خلال التعويد منذ نعومة الأظفار على فكِّ العُقَد.
أقول: من الطرائق التعويد على فكِّ العُقَد، وإعطاء مشكلةٍ للطفل ومُناقشته: كيف تحلّها؟ ما رأيك؟ كيف نحلّها؟
إعطاء تركيبةٍ مُعينةٍ: كيف تقدر؟ كيف تستطيع أن تُركبها بطريقةٍ معينةٍ؟ حتى تستطيع أن تفكّ هذه، أو تُركبها بطريقةٍ صحيحةٍ حسب هذا الشكل، وما شابه ذلك.
هذا التعود يُنمِّي القُدرات العقلية والذهنية كما يقول أهل الاختصاص؛ ولذلك لا بد أن تكون الألعاب التي يُمارسها الأطفال فيها هذا الجانب، بدل أن تكون مجرد ترفيهٍ فقط، فلا بد أن يكون فيها الجانب المتعلق باستخدام العقل؛ حتى يستثمر هذا العقل مستقبلًا بمثل هذه الأشياء، فيسخر لخدمة الحق، ودفع الباطل.
خامسًا: إشكالية التعارض بين ما يُريده الله وهوى الإنسان
هؤلاء إشكاليتهم الهوى وما يتعلق به؛ ولذلك نؤكد: ما المنزع؟ وما المُنطلق الذي ننطلق منه في اختيار قراراتنا؟ خاصةً في أمور التربية، خاصةً في أمور بناء الأجيال، هل هي عبارةٌ عن قضايا هوًى؟ يعني: هل أرى ذلك؟ هل يستهويني هذا الأمر، أم أنه شيءٌ آخر؟
تظهر هذه القضية عندما يكون هناك تعارضٌ بين ما يريده الله منا وما تريده نفوسنا، ما يريده الله في تربية الأجيال، وما تريده نفوسنا، عندما يحصل هذا الصراع في الأسرة: الله أوجب علينا ذلك، والأب والأم مُقَصِّران في هذا الواجب، فإذا استخدمنا الهوى سنتنازل عن الواجب، ويتربى الأبناء على عدم احترام أمر الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
فهؤلاء تمردوا، فمَن علَّمهم التمرد في الأساس؟
فالصور المُتناقضة مشكلةٌ، هو عندما يرى نموذجًا أمامه: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، يقول: "خلاص يا أخي"، فيتعوَّد على ما يُريده الله.
وعندما قيل لأبي بكر : إن صاحبك يدَّعي أنه عُرِجَ به إلى السماء، وأُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى! قال: وقد قالها؟
فلو تصورتها أنت الآن من الناحية العقلية: هل هي مقبولةٌ، أو غير مقبولةٍ؟ فهل يُقبل عقلًا أنه في لحظاتٍ يتَّجه من مكة إلى المسجد الأقصى، ثم يُعرج به إلى السماء؟
غير مقبولٍ، لا يمكن أبدًا، لو أعمل العقل لقال: هذا لا يمكن!
لكن أبا بكر عنده تسليمٌ، فأبو بكر الصديق قال: وقد قالها؟ قالوا: نعم. قال: صدق[5]أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4458)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه".. انتهى الموضوع.
فما دام النبي قد قالها، فهو صادقٌ، هذا تسليمٌ تامٌّ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فهذا جانبٌ من محاربة الهوى.
فهل هذا موجودٌ في تنشئة المجتمع والأسرة والأبناء والطلاب؟ فينظر من خلال رضا الله ، ماذا يريد الله والنبي مني؟
هذه القضية مهمةٌ جدًّا، وإلا سيكون مكانها الهوى، هذا مثالٌ في الواجب.
كذلك هناك مثالٌ في المُحَرَّم؛ فالله لا يريد لهذا الأمر أن نفعله، ونحن نأتي بهذا الأمر ونفعله في البيت، ونُمارسه في البيت أمام أبنائنا!
وهذا من أشد الأشياء في تصوري، قد أكون مُصيبًا، وقد لا أكون مُصيبًا، خاصةً في البيئات التي تتلقى توجيهاتٍ صحيحةً من حيث المناهج التعليمية التي تُبين الحقَّ والباطل، ثم يرى النموذج اليومي مُخالفًا.
فهذه أثرها على الشخصية أشد من أثر بيئةٍ أخرى علمانيةٍ لا تدرس المناهج الإسلامية، وما يدرسه هو الذي يراه في بيته، حتى لو كان الذي في بيته غلطًا في غلطٍ.
وأنا لا أُبرر، أنا أُفسر الآن؛ لأن الشرخ والفارق كبيرٌ بين ما يتلقاه ويدرسه في "الأصول الثلاثة" وفي "التوحيد" وفي العقيدة منذ نعومة أظفاره، وبين ما يراه في بيته، فهو يرى المُعاكس له في بيته، وفي أسرته، وفي الإعلام، وفي غير ذلك؛ فيحصل صراعٌ داخليٌّ شديدٌ، وهذا الصراع يكون أثره أكبر، حتى لو أخذ مناهج مُنحرفةً، ووجد نفس هذا الانحراف في بيته، تشعر أنه نوعًا ما أخفّ قليلًا.
فهذا مما يُفسر بعض القضايا المتعلقة بجوانب الاضطراب عند بعض الشخصيات، يعني: عندما يتعرض إنسانٌ إلى صراعٍ شديدٍ، فهذا غير مَن لا يتعرض لمثل ذلك، فهناك ناسٌ يعيشون حياتهم بشكلٍ عامٍّ في استقرارٍ مدنيٍّ، وهم كُفَّارٌ؛ لأن هناك توافقًا وانسجامًا، بغض النظر عن كونه مُنفصلًا عن العقيدة، ومُنفصلًا عن العلاقة بالله، فهذا جانبٌ آخر لا شك أن له كيانًا، ولكني أتكلم عن جوانب أخرى.
فتحسّ أن حياته المدنية التنفيذية مُتوافقةٌ مع الجوانب النظرية التي تعلَّمها ودرسها، يتوافق هذا مع هذا، فالقِيَم التي أخذها -ولو كانت نسبيَّةً- ودرسها وقرأها وتعلمها في المدارس هي نفسها التي يُطبقها، وهذا يجعل شيئًا من الاستقرار في الحياة.
ولذلك كلما كانت الفجوة كبيرةً بين ما نتلقاه -ولو كان نظيفًا- وما نُمارسه كلما كان لهذا أثرٌ على بناء الشخصيات المُضطربة، وبناء الشخصيات غير السَّوية.
ولذلك من الخطير جدًّا في مثل هؤلاء أن ينشؤوا على الهوى، وبعض الأُسَر غير المسلمة عندهم مبادئ، وهذا مما يُفسر هذه القضية، يعني: هو قد يُخالف هواه، أو هوى غيره؛ لأن عنده مبدأً لا بد أن يتَّخذه في الأسرة، فعنده مبدأٌ لا بد أن يفعله في عمله، وفي وظيفته، وهذا المبدأ يجعله لا ينام كثيرًا، يجعله يُتْعِب ذاته، لا يُحقق الذي فيه مصدرٌ لهواه ورغباته وشهواته، هذا بحد ذاته يجعل الإنسان يُنتج، ومَن زرع حصد حتى لو كان الزارع كافرًا.
ولذلك ضمنت الشريعة للكافر الذي له إحسانٌ في هذه الدنيا للخلق أن الله يُجازيه في الدنيا بسعة الرزق، وبحبِّ الناس له، ودفع الضَّرر عنه، ... إلى آخره، لكنه يأتي يوم القيامة وليس له من ذلك من خَلَاقٍ ولا نصيبٍ.
سادسًا: التَّمايز بين طريق الحق وطرق الضلال
أخيرًا فيما يتعلق بهذه القصة: الطرق مختلفةٌ، ولا بد من معرفة صحيحها من سقيمها، وشاهد القصة عندما قال: فاختلف بنو إسرائيل على بضعٍ وسبعين فرقةً، خير مِلَلهم أصحاب أبي القرن.
فينبغي تمييز الطرق والمناهج والمصادر بعضها عن بعضٍ، وهنا النبي ميَّز وبيَّن أن هناك طرقًا لبني إسرائيل، وهذه الطرق مُنحرفةٌ ومُختلفةٌ، لكن طريق أبي القرن العالِم الذي مارس هذا الدور في تثبيت العقيدة والتوحيد هو الطريق الذي فيه النجاة.
لذلك لا نغترّ بكثرة الهالكين وقِلّة السالكين، فقد تكون الطرق جميلةً وجذَّابةً، ووراءها وسائل دعائيةٌ وإعلاميةٌ قويةٌ جدًّا، ولكن نهايتها الدمار، فالتحري مهمٌّ جدًّا.
والرسول هنا ميَّز طريقة "أبي القرن" ووصفها بالخير، وهذا موقفٌ بطوليٌّ عظيمٌ جدًّا، فقد استطاع بذكائه أن يحفظ عقيدته، بل أن يحفظ عقيدة مَن بعده حينما علموا وقت وفاته بالقرن الذي كان معه.
ولذلك نحن نقرأ هذه القصة وبيننا وبينها مئات السنين ونستفيد منها، ولا شك أن هذا من التمايز الذي ينبغي أن نكتشفه في حياتنا.
فالأصدقاء ليسوا واحدًا لأبنائنا، فينبغي أن نُميّز صديقًا عن صديقٍ، والمشاريع ليست واحدةً لأجيالنا، فهناك فرقٌ بين مشروعٍ ومشروعٍ.
والناس الذين يتلقى منهم أبناؤنا ليسوا شيئًا واحدًا، فلا بد أن نُفرق بين منبعٍ ومنبعٍ، ومصدرٍ ومصدرٍ، خاصةً في ظل تنوع المصادر واختلافها مع التقنية الحديثة.
قصةٌ أخرى
روى أحمد في "مسنده" عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : لما كانت الليلة التي أُسري بي فيها أتت عليَّ رائحةٌ طيبةٌ، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها. قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يومٍ إذ سقطت المِدْراة من يديها -الأداة التي تمشط بها- فقالت الماشطة: بسم الله. فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟.
يعني: أنت تقولين: بسم الله، تقصدين أبي فرعون؟
قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله هذا الذي أقصده، قالت: أُخبره بذلك؟ استغربت، فهذا شيءٌ جديدٌ بالنسبة لها، فقالت الماشطة: نعم، فأخبرته، فدعاها، فقال: يا فلانة، وإن لكِ ربًّا غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمر ببقرةٍ من نحاسٍ.
ليس المقصود بالبقرة هنا الحيوان، وإنما هي أداةٌ للتعذيب كانوا يُمارسونها.
فأمر ببقرةٍ من نحاسٍ فأُحميت، ثم أمر بها -يعني: الماشطة- أن تُلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة يعني: عندي طلبٌ، قال: وما حاجتكِ؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوبٍ واحدٍ وتدفننا.
سبحان الله العظيم! تبقى الأم أمًّا.
قال: ذلك لكِ علينا من الحق. قال: فأمر بأولادها فأُلقوا بين يديها واحدًا واحدًا، إلى أن انتهى ذلك إلى صبيٍّ لها مُرضعًا، وكأنها تقاعست من أجله يعني: ما توقفت من أجل الذين كانوا قبله، لكن عندما جاء الرضيع تقاعست من أجله.
قال: يا أُمَّه أنطقه الله اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. فاقتحمت، قال: قال ابن عباسٍ: تكلم أربعةٌ صغارٌ: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحب جُريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون[6]أخرجه أحمد في "المسند" (2821)، وحسنه مُحققوه، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند" حديث (2822): "إسناده صحيحٌ، … Continue reading.
هذه القصة فيها مجموعةٌ من الدروس والفوائد، لعلنا نقف عند بعضها:
مَن قوي إيمانه هان عليه البلاء
فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب تهون عنده المصائب والفتن والابتلاءات، وهنا لا توجد تسليةٌ في الابتلاءات والمحن والمصائب مثل قضية الإيمان، وكما جاء في الحديث في وصية النبي في أيام الهرج أن يتَّجه للعبادة، فقال: العبادة في الهرج كهجرةٌ إليَّ[7]أخرجه مسلم (2948)..
فتجب العناية بموضوع الإيمان، والعلاقة بالله ، والعناية بتربية الجيل على ذلك، والتعلق بالمبادئ والعقائد الثابتة حتى يستطيع في أَحْلَكِ الظروف ألَّا يتنازل عن عقيدته أبدًا بحالٍ من الأحوال، إلا إذا كانت له رخصةٌ شرعيةٌ، وهذا لا يتأتى أبدًا إلا إذا كان إيمانه قويًّا في القلب.
فنحتاج إلى العناية بمثل ذلك، وأثر الإيمان في ذلك، فيهون الإيذاء الجسمي عند طعم الإيمان، فهذا الرضيع نطق بما أراده الله : فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
فما الذي يجعل الإنسان يستشعر أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وعندئذٍ يُقدِّم الآخرة على الدنيا؟
لن يفعل ذلك مَن كان من أصحاب الهوى، إلا أن يكون من أصحاب الإيمان، فإن كان من أصحاب الإيمان سيتفوق في هذا الجانب.
فقضية الهوى خطيرةٌ، وأيضًا نُؤكد على خطورة قضية الإيمان وأهمية التربية الإيمانية.
فينبغي أن تكون التربية الإيمانية موجودةً معنا في الشارع، وموجودةً معنا ونحن نشرب الماء، وموجودةً معنا ونحن ندخل -أكرمكم الله- الخلاء للحاجة: أذكار الدخول والخروج، وفي الأكل مع الأبناء، وفي المبيت.
فيجب أن يتربى الجيل على التعلق بالله ، ويتربى على ما يُحبه الله ، وعلى طاعة الله من خلال التقنية، وعلى مُراقبة الله ، وهذا مهمٌّ جدًّا.
وفي أمريكا في الثمانينيات حصل انطفاءٌ للكهرباء في إحدى الولايات، لمدة ستِّ ساعات تقريبًا، سُجلت خمسة آلاف حالة سرقة، مع أن الوضع كان منضبطًا عندما كانت الأنوار، يعني: يمكن أن يكون الجانب القِيَمِي النسبي في الحضارة الغربية موجودًا، يعني: لا يسرق أحدٌ في الظاهر، لكن عندما ذهب الرقيب البشري بانطفاء الأنوار، ولا يوجد رقيبٌ ربانيٌّ؛ ظهرت النفوس على حقيقتها فسجلت خمسة آلاف حالة سرقة، وما يتعلق بهذا الجانب؛ لأنه الإيمان هنا، وهذا الفارق الكبير جدًّا؛ لأن هذا الذي سيحفظ الإنسان حينما يكون خاليًا بالله .
فالوازع الإيماني مهمٌّ جدًّا، وهو الذي يجعل الابن أو البنت أو الكبير أو الصغير حينما يفتح شاشة الجوال وينظر إلى شيءٍ لا يرضاه الله يقول: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [الحشر:16]، الذي سيجعله يقول هذا هو الإيمان، وتذكر أن عذاب الآخرة في مقابل عذاب الدنيا.
فالواحد منا لا يقوى على أن يتعب في التوتر والقلق والضيق والنكد الذي هو من آثار المعصية والذنب في الدنيا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، فكيف سيقوى في الآخرة؟!
هذا أقل المنطق؛ ولذلك الإنسان يسلك مسلك السعادة في هذه الحياة من خلال القيام بالأعمال الصالحة والإيمان بالله .
والذي يسلك هذا المسلك سيُكرمه الله كما أكرم ماشطة ابنة فرعون، فأولياء الله مَن رآهم ذكر الله -أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- هؤلاء مؤيدون من رب العالمين، فماذا يريد الواحد منا حينما يكون وليًّا لله ؟
بل إن الله يقول كما جاء في الحديث القدسي: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب[8]أخرجه البخاري (6502).، ولا يمكن للإنسان أن يكون وليًّا إذا لم يكن سالكًا للمسلك الذي يريده الله ، وهو مسلك الإيمان الحقيقي الذي يُحبه الله ويرضاه.
هذه المعاني يجب أن نزرعها في أبنائنا، ونزرعها في أنفسنا، لا بد أن ننظر إلى أساليبها ووسائلها لنُعززها فيهم.
اليوم هناك ضُمُورٌ حتى عند أهل التدين -نسأل الله أن يعفو عنا ويغفر لنا- عندنا ضمورٌ في الإيمان؛ لأن هذه القضايا قلبيةٌ، صحيحٌ أن الأشكال قد تكون دليلًا على اتباع سنةٍ وواجبٍ، لكن القضايا التي في القلب نحن بحاجةٍ إليها: ما وقر في القلب، ما اعتمل في النفس وفي القلب، أعمال القلوب، هذه القضايا نحن بحاجةٍ شديدةٍ إليها من خلال تدبر كتاب الله، والوقوف مع الآيات والوعد والوعيد، والنظر في علامات الساعة، وقراءة أحاديث الرقائق، تلك الأشياء التي تُرقق النفس والقلب.
كل واحدٍ منا يتعرض بين الفينة والأخرى للذهاب إلى المقبرة، وهذا عثمان بن عفان كان يبكي بكاءً شديدًا حينما يكون على القبر، فيُقال له: تُذكر الآخرة ولا تبكي كما تبكي وأنت على القبر! قال: "إن القبر أول منازل الآخرة"[9]أخرجه الترمذي (2308)، وابن ماجه (4267)، وأحمد في "المسند" (454)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الشيخ أحمد شاكر في … Continue reading، فهو يرى أن هذا هو الشيء الفظيع، العظيم، فيتحرك قلبه وتتحرك نفسه عند هذا الشيء.
فكيف بنفسياتنا؟ وكيف بقلوبنا حينما نقف على القبور؟ هل نكون كأن على رؤوسنا الطير كما كان الصحابة ؟ هل قلوبنا ونفوسنا تتحرك؟
فهذا كله من مؤشرات القلوب، وأثر الإيمان في هذا القلب قوةً وضعفًا.
فنحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه المعاني لمراجعة النفس واختبارها، وللمزيد من الارتقاء في الجانب الإيماني، والتأثير في الأجيال في الجانب الإيماني، فالله يُكرم أولياءه ويُعينهم .
تشابه الطُّغاة قديمًا وحديثًا
الفاجر الكافر الطاغية هو نفسه قديمًا وحديثًا، ما أسهل على فرعون ما فعل! أتى بهذه الأدوات، وأحمى هذا النحاس، وألقى البالغ وغير البالغ، والصغير والكبير، فليس في قلبه ذرة رحمةٍ، إلا ما كان من موافقته على ذاك الطلب، وهو لا يعني شيئًا في ظل هذا الطغيان وهذا الغيظ الذي في القلوب.
وهذا المشهد في وقتنا المعاصر أصبح واضحًا وبيِّنًا، لا نحتاج أن نتكلم عنه: قلوبٌ قاسيةٌ، قلوبٌ مجرمةٌ، قلوبٌ مُتحجرةٌ، لا ترقب في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمَّةً، فتُسقط على إخواننا القنابل والبراميل المُتفجرة، حسبنا الله ونعم الوكيل.
أتتني اليوم رسالةٌ من أحد الإخوة السوريين -أعرفه- عن أهله هناك، أرسل لي برسالة أهله، قال: هذا وصف الواقع الآن في هذه اللحظات والقنابل الروسية والأسدية تتساقط عليهم، أخزى الله أعداء الإسلام وأعوانهم.
فكان من العبارات التي لفتت نظري في الرسالة التي أتت من أرض الشام -أرض الرباط-: وكأنه يوم القيامة، تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت، وترى الناس سُكارى، وما هم بسُكارى.
يعني: الذي يصف الحدث يقول: أنا أُكلمك الآن بهذه الصورة، والذي أراه أمامي من هلع الناس وكأن الساعة قد قربت، كما وصف الله : تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2].
فالطغيان طغيانٌ، والطاغية يبقى طاغيةً، ولهم من مشكاة فرعون ما يُقربهم إلى هذه الفئة الخبيثة.
أسأل الله أن يُهلك كل طاغيةٍ فوق الأرض، وأن يحفظ إخواننا فوق الأرض وتحت الأرض.
فالجزاء من جنس العمل، وهذه المرأة رائحتها التي شمَّها النبي كانت طيبةً كما قال العلماء، فالله جعل رائحتها طيبةً، يشمها النبي حقيقةً وهو في الإسراء، في مقابل رائحة الشواء والتعذيب الذي حصل، والجزاء من جنس العمل.
والإنسان مهما تعب ومهما أُوذي في سبيل الله سيكون مآله خيرًا عظيمًا، ليس القياس بالمقياس الدنيوي: أنه قُتل ومات، أو أُصيب، أو أُهين، أو أُوذي، هذه كلها مقاييس دنيوية، ولكن المقياس بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام شمَّ رائحتها الزكية الطيبة.
تثبيت الله لعباده المؤمنين
وهذه قضيةٌ واضحةٌ جدًّا في القصة: كيف أن هذه الأم تنظر إلى أولادها واحدًا تلو الآخر يسقط، وهي لا تقول شيئًا، وتقاعست حينما أتى الرضيع، وثبَّتها الرضيع بتثبيت الله لها؟!
فنحن في أمس الحاجة إلى مَن يُثبتنا، وهو الله ، ومَن هم على طريق الله .
وابن القيم رحمه الله يقول: "كنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية- فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً"[10]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48)..
فنحتاج إلى مثل هذه القضايا، وكان النبي إذا حزبه أمرٌ صلَّى[11]أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703).، هذه أعظم مرتبةٍ: أن الإنسان حينما تأتيه الضغوط والأزمات يتجه إلى الله مباشرةً قبل كل شيءٍ، ثم يتجه بعد ذلك إلى مَن يُذكره بالله ، ولا شك أن كليهما طريقان سَلِيمان، لكن يجب أن يكون لجوء الإنسان إلى الله أولًا.
ونحن نلفت النظر إلى هذا في بعض الأحيان -إذا وفَّقنا الله وتذكرنا في الاستشارات- فنقول لمَن يستشير وهو يشعر بشيءٍ من الضيق ويحاول أن يُخرج نفسه من هذا الغم الذي هو فيه: أنت لجأتَ الآن لمستشارٍ بشرٍ من البشر، يُصيب ويُخطئ، ولم تلجأ إلى الله ! فلماذا لا تلجأ إلى الله ؟
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، فأظهر أنك مُضطرٌّ لله .
إذا انكسرتَ عند استشارة مَن تستشيره، وأعطيته التفصيلات، وأظهرت له كل ما يريد، فلماذا لا تضع بضاعتك بين يدي الله ؟!
لماذا لا نُعوّد الأجيال: قم صلِّ يا ولدي، توضأ وصلِّ ويقضي الله حاجتك، إن شاء الله تعالى؟!
اجعله يتعوَّد حتى يُدرك القضية تمامًا وهو صغيرٌ، ويتمرس على مثل هذه القضايا في حياته.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7183)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2694). |
---|---|
↑2 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2311). |
↑3 | أخرجه البخاري (7320)، ومسلم (2669). |
↑4 | أخرجه الترمذي (3641)، والحاكم في "المستدرك" (444)، والطبراني في "المعجم الكبير" (62)، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1348). |
↑5 | أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4458)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه". |
↑6 | أخرجه أحمد في "المسند" (2821)، وحسنه مُحققوه، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند" حديث (2822): "إسناده صحيحٌ، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (4772). |
↑7 | أخرجه مسلم (2948). |
↑8 | أخرجه البخاري (6502). |
↑9 | أخرجه الترمذي (2308)، وابن ماجه (4267)، وأحمد في "المسند" (454)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند" بالرقم السابق، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1684). |
↑10 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑11 | أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703). |